هناك احتياج دائم في كل جماعة إلى منظومة من القواعد الضابطة لسلوك الأفراد داخلها، فتتمتع حيالهم بسلطان الأمر والنهي المصحوب دوماً بجزاء يوقَّع جراء المخالفة، وهي منظومة قاعدية ضاغطة على الإرادة الفردية لصالح ضرورات جمعية تحددها أولويات كل جماعة حسب أوضاعها الفلسفية والخلقية والدينية، فضلاً عن موجبات مصالحها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فتتحرك الإرادة الفردية داخل إطار هذه المنظومة من دون إمكان المجاوزة، لذا كانت فكرة النظام العام بقواعدها الآمرة الناهية حداً لسلطان الإرادة في إبرام العقود والاتفاقات، فالاتفاق المخالف للنظام العام أو الآداب يكون باطلاً ولو لم يكن فيه خروج على قاعدة قانونية معينة أو نص تشريعي معين.
ويرتكز النظام العام في الإسلام على أصلين ثابتين، هما: الربانية والإنسانية، ونقصد بـ«الربانية» التوجه والقصد، فالإسلام يجعل توجه الإنسان في غايته النهائية حسن الصلة بالله تعالى، وعدم الخروج عن شرعه، فيجعل الله هو منتهى المقصود لكل البشر، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) [النجم:42] فجميع الغايات والأهداف الإنسانية والاجتماعية العظمى لا تعدو في حقيقتها أن تكون خادمة للهدف الأسمى، وهو تلمس رضاء الله وحسن مثوبته، وللربانية بعد آخر، هو قضية المصدر والمنهج، فالمنهج رباني خالص لكون مصدره وحي الله تعالى المنزل على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا ترجع المنظومة الإسلامية في كل مصادرها إلى كلام الله المحفوظ دون تحريف أو تبديل، وهو ما يعني أن الحاكمية إنما هي لله تعالى، فلا مشرع سواه، وهو الآمر الناهي، المحلل المحرم، المكلف الملزم، فالمجتهد والقانوني الإسلامي هو من يتمكن من الكشف عن حكم الله في المسائل المختلفة وفقاً لمنهج وقواعد منضبطة، وليس هو من يسن ويشرع القوانين ابتداء دون ضوابط.
أما الإنسانية فنقصد بها أن الإسلام رسالة ربانية من جهة الغاية والقصد، وإنسانية من جهة أنها مطلوبة من جماعة البشر، فالإنسان هو المعني بهذه الرسالة، ولذا كان هدف هذه الرسالة هو الحفاظ عليه، واتضح ذلك من خلال تكريم الله تعالى للإنسان وتسخير الكون له، وذلك بغية تحقيق سعادته في الدنيا، وفوزه بالنعيم المقيم في الآخرة.
واهتم المسلمون بالإنسان فجعلوا مقاصد الشريعة التي خاطبته -والتي يخاطب بها الناس أجمعون وتتجاوز الزمان والمكان في جميع الأحوال- خمسة، وهي:
1- حفظ النفس حتى تكون حية قابلة للخطاب.
2- حفظ العقل وعدم الاعتداء عليه بأي تسلط أو إكراه، بل هناك حفاظ عليه في أساسه، وحفاظ عليه في منهج تفكيره، وحفاظ عليه في حريته وإبداعه، حتى في مسائل الإيمان، قال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة:256]، وقال سبحانه: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون:6]، وقال تعالى: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف:29]، بالإضافة إلى حفظه بتحريم كل مسكر ومفتر، قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [البقرة:219]. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر». (أحمد وأبو داود).
3- حفظ الدين، فإن الله يحب المتقين والصابرين والمتوكلين والمحسنين، ولا يحب المفسدين، ولا المتكبرين والخائنين، وهي مبادئ وأسس دستور الإنسان الحضاري.
4- حفظ كرامة الإنسان التي سميت في تراثنا بـ«العرض»، ولقد أحيط بسياج كبير من الضمانات، فحرمت الاحتجاز القسري، والاعتقال العشوائي، والتعذيب للمتهم، وحرمت السب والقذف والاتهام المفتقد للدليل، وحرمت التفرقة العنصرية بجميع أشكالها، وغير ذلك كثير من حفظ حقوق الإنسان في كرامته.
5- حفظ المال في موارده، فلا تكون إلا من حلال وفي مخارجه فلا تكون إلا في خير.
وترتيب هذه الأسس الخمسة: (النفس، العقل، الدين، النسل، المال) هو ترتيب منطقي، وله اعتبار حيث إنه يجب المحافظة أولاً على النفس التي تقوم بها الأفعال، ثم على العقل الذي به التكليف، ثم نحافظ على الدين الذي به العبادة، وقوام العالم، ثم نحافظ بعد ذلك على ما يترتب على حفظ الذات، والعقل، والدين، وهو: المحافظة على النسل الناتج من الإنسان، وما يتعلق أو ما يندرج تحت هذا العنوان الكلي، من المحافظة على العرض، وحقوق الإنسان وكرامته، ثم بعد ذلك نحافظ على قضية الملك، وهي التي بها عمارة الدنيا عند تداولها، ذلك المال الذي إذا ما تدوول فإنه يمثل عصباً من مقومات الحياة.
وهذا النظام العام للإسلام مؤداه أن هذا الدين هو خطاب الله سبحانه وتعالى للبشر، أمر بأوامر، ونهي عن نواهٍ، هذه الأوامر والنواهي مقصدها هو: أن يحافظوا على أنفسهم، وعلى عقولهم في تلك النفوس، وأن يحافظوا كذلك على صلتهم بربهم، تحقيقاً للمقصد الأول من وجود البشرية متمثلة في النفس والعقل وهو: (العبادة) ثم أمرهم بعد ذلك أن يحافظوا على نسلهم، وحقوقهم، وعمارة الأرض، وهو الذي يحقق العمارة والعبادة، والعمارة من خلال تلك العبادة هي التي تقوم بها الدنيا، وتقوم بها الآخرة أيضاً.
وفكرة النظام العام تؤكد لنا أن الإسلام ليس فقط ديناً يختص به من أسلم وآمن بالله ورسوله، ولكنه أيضاً دولة تحافظ على الناس، وتحافظ لهم أيضاً على المقاصد الخمسة، التي منها الدين الذي أباح الله سبحانه وتعالى قبول التعدد فيه داخل هذا النطاق، أو تحت هذه المظلة، فأباح لأهل الكتاب أن يمكثوا بيننا، وأن يصبحوا مواطنين معنا في دولتنا الواحدة، ولغتنا الواحدة، وحضارتنا الواحدة، وآمالنا وآلامنا الواحدة، هذا هو نظام الإسلام كما بينه صلى الله عليه وسلم، وكما نقله إلينا أصحابه وتابعوهم من السلف الصالح رضي الله عنهم وأرضاهم.