ما زلنا في حديث معاذ الذي سئل فيه عما يقربه للجنة ويبعده عن النار، وتكلمنا في إجابة النبي صلى الله عليه وسلم في المقالات السابقة حيث قال : «لقد سألتني عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه. تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت»
وفي هذا المقال نتكلم عن الجزء الثاني من إجابة السؤال، أو ما زاده النبي صلى الله عليه وسلم من أبواب الخير لإرشاد السائل، حيث قال : «ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل، قال ثم قرأ : ﴿تتجافى جنوبهم عن المضاجع.... حتى بلغ يعملون.
من عظيم رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالسائل أنه لا يكتفي بإجابته عما سئل، وإنما يزيد له في الإرشاد الدلالة على الخير، وعلى ما يحتاجه في الدين والدنيا، فعندما سئل صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر هل يتوضأ منه، فقال صلى الله عليه وسلم : «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» [رواه الترمذي في سننه، والحاكم في المستدرك] والسؤال كان عن الماء، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن حكم ميتة البحر لحاجتهم إليها، وإن لم تكن في السؤال.
وعلى هذا المنهج يجيب النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا معاذ رضي الله عنه، فبعد أن أخبره بأركان الإسلام التي إذا التزم بها دخل الجنة، أراد أن يخبره عن أبواب الخير، فقال صلى الله عليه وسلم : «ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة».
ونحن تكلمنا عن في صوم رمضان عن أحكام الصوم الفقهية، ولكن في هذا الجزء من الإجابة يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم عن الصوم وآثاره الإيمانية، كما أنه يتكلم عنه باعتبار النوافل كذلك وليس قاصرا على شهر رمضان.
فقال صلى الله عليه وسلم : «الصوم جنة» أي وقاية، يقي المسلم من الوقوع في الآثام، فيحقق التقوى، ولذا قال ربنا سبحانه وتعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة :183]، ومن معاني التقوى أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، والصوم من الأعمال التي تحدث تلك الوقاية، والبعد عن عذاب الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله تعالى؛ إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا» [رواه البخاري ومسلم]، وبعد الوجه عن النار كناية عن بعد العبد من عذاب الله، وقال صلى الله عليه وسلم : «الصيام جنه يستجن بها العبد من النار» [رواه أحمد في مسنده]
والصوم جنة أي وقاية وهذا ظاهر ففي الصوم إضعاف للشهوة، والعبد لا يقوى على معاصي الله في حالة تركه للطعام والشراب، والصوم له من المعاني والأسرار ما يحقق البعد عن معاصي الله، فمثلا يتأمل العبد في الصوم فيجده ترك للطعام والشراب وشهوة الزواج، وهذه الأشياء في غير الصوم حلال، وحرمت للصوم، فيلوم نفسه على أنه لم تصم عن المعاصي التي حرمها الله في الصوم وغيره، فيقوى بهذا الفهم على ترك المعاصي والخوف من الله مما يحدث التقوى والوقاية.
ثم يكمل النبي صلى الله عليه وسلم إرشاد معاذ لأبواب الخير، فيقول صلى الله عليه وسلم : «والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار»، وفي هذا الكلام النبوي المضيء بنور الوحي يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطيئة بالنار، وذلك لأنها تؤدي إليها إن لم يتب الإنسان، ويشبه الصدقة بالماء في قدرتها على إطفاء تلك الخطيئة.
والصدقة هي إعطاء المال أو نحوه ابتغاء وجه الله، فهي ما يعطى على وجه التقرب إلى الله تعالى، فهي من باب إعانة الضعيف، وإغاثة اللهيف، وإقدار العاجز، وتقويته على أداء ما افترض الله عليه من التوحيد والعبادات. وقد جاء في حديث عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم : «أيما مؤمن أطعم مؤمنا على جوع أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة، وأيما مؤمن سقى مؤمنا على ظمأ سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم ، وأيما مؤمن كسا مؤمنا على عري ، كساه الله من خضر الجنة» [رواه أحمد والترمذي].
والصدقة شكر لله تعالى على نعمه، وهي دليل لصحة إيمان مؤديها وتصديقه، ولهذا سميت صدقة، فهي صدقة بمعنى برهان الإيمان ولقد جاء ذلك المعنى في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبايع نفسه، فمعتقها أو موبقها» [رواه مسلم] والشاهد قوله صلى الله عليه وسلم : «والصدقة برهان» أي أن دليل عملي على التصديق، واختبار حقيقي لاعتقاد المؤمن بثواب الله في الآخرة.
وقد سماها الله في كتابه العزيز قرضا، فقال تعالى : ﴿مَن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة :245]. وقال سبحانه وتعالى : ﴿مَن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ [الحديد :11] وقال تعالى : ﴿إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾ [التغابن :17].
وعد ربنا الأمر بالصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس هو خير ما يتناجى به الناس، فقال تعالى : ﴿لاَ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء :114]
وقد ورد في فضل الصدقة أحاديث منها : ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «سبعة يظلهم الله تعالى في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، إمام عدل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه» [رواه البخاري ومسلم] والشاهد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» وفي هذا بيان لفضل الصدقة وأن تكون في السر، وأن تكون بعيدة عن حظ الدنيا والرياء وحب الظهور بين الناس.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى أيضا، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما تصدق أحد بصدقة من طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب-، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة تربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله» [رواه مسلم]
وللصدقة معنى أعم وأشمل من إعطاء المال ونحوه على وجه التقرب، وهذا المعنى الشامل يجعل الدين كله تصدق من العبد، وربما صدقة بهذا المعنى الشامل تعني الأجر، أي كل ما يثاب عليه المؤمن ويمن الله عليه به بالأجر فهو صدقة، ولذا فأطلق الشرع الشريف الصدقة على أغلب الدين، ولقد بين ذلك الإمام النووي حيث قال : «اعلم أن حقيقة الصدقة إعطاء المال ونحوه بقصد ثواب الآخرة، وقد يطلق على غير ذلك مما سنذكره إن شاء الله تعالى.
من ذلك حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى» [رواه مسلم] وعنه أيضا قال : قلت : «يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال : الإيمان بالله والجهاد في سبيله ، قلت : أي الرقاب أفضل ؟ قال أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا ، قلت : فإن لم أفعل ؟ قال : تعين صانعا أو تصنع لأخرق ، قلت : يا رسول الله . أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل ، قال : تكف شرك عن الناس ، فإنها صدقة منك على نفسك»[رواه البخاري ومسلم]
وعنه أيضا «أن ناسا قالوا : يا رسول الله : ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال : أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به، إن كل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة . قالوا : يا رسول الله : أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر [ رواه مسلم]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الاثنين صدقة، أو يعين الرجل في دابته فيحمله عليها أو يرفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة» [رواه البخاري ومسلم] وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل ، فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله ، وعزل حجرا عن طريق الناس أو شوكة أو عظما عن طريق الناس ، وأمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد الستين والثلاثمائة فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار» [رواه مسلم]
وعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل معروف صدقة» [رواه البخاري ومسلم بلفظه من رواية حذيفة] . وعن جابر أيضا رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، ولا يرزؤه إلا كان له صدقة» [رواه مسلم] . وفي رواية له : «فلا يغرس المسلم غرسا، فيأكل منه إنسان، ولا دابة، ولا طير، إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة» وفي رواية : «لا يغرس مسلم غرسا، ولا يزرع زرعا، فيأكل منه إنسان، ولا دابة، ولا شيء، إلا كانت له صدقة» [رواه البخاري ومسلم أيضا من رواية أنس] [المجموع للإمام النووي]
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار» ولعل فيما ذكر من فضل الصدقة ومعانيها، ما يوضح مكانتها في الإسلام، وكيف هي من أبواب الخير التي تطفئ الخطيئة.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : «وصلاة الرجل من جوف الليل، قال ثم قرأ : ﴿تتجافى جنوبهم عن المضاجع.... حتى بلغ يعملون» أي أن من أبواب الخير كذلك، صلاة الرجل أو المرأة طبعا في جوف الليل، أي في الوقت الفاضل من الليل ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم السائل بتلك الآية التي تصف الصالحين الذين يحافظون على قيام الليل حيث قرأ قوله تعالى : ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة :16 ، 17].
فما هي صلاة الليل ؟ ولم كانت من أبواب الخير ؟ وكيف يحافظ المسلم عليها حتى يرقى في درجات القرب ؟ إجابات هذه الأسئلة في المقال المقبل إن شاء الله تعالى، وذلك لضيق المقام في هذا المقال، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
استكمالا لشرح حديث معاذ رضي الله عنه، ذلك الحديث الذي جمع أبواب الخير، نكمل إجابة النبي صلى الله عليه وسلم عن الأعمال التي تقرب من الجنة، وتبعد عن النار، وكنا قد ذكرنا قوله صلى الله عليه وسلم : «تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» وكنا قد تكلمنا عن عبادة الله سبحانه، وإقامة الصلاة، وفي هذه المرة نتكلم عن الزكاة وما يليها.
قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «وتؤتي الزكاة» فيه إرشاد لمعاذ رضي الله تعالى عنه لأهميته الزكاة، وترتيبها بين الأركان بعد الصلاة، وكان ترتيب النبي صلى الله عليه وسلم لإيتاء الزكاة بعد إقامة الصلاة لموافقة ترتيب رب العزة في القرآن الكريم، فقد اقترنت الصلاة بالزكاة في ثمانية وعشرين موضعًا في القرآن الكريم فموقع الزكاة قرين لموقع الصلاة، ونذكر من هذه المواضع، قوله تعالى : ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [البقرة :3]. وقوله سبحانه : ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة :43]. وقوله سبحانه وتعالى : ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ﴾ [البقرة :83]. وقوله سبحانه : ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [البقرة :110].
وقوله عز وجل : ﴿وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِى البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾ [البقرة :177]. وقوله تعالى : ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة :277]. وقوله سبحانه : ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ [النساء :77]. وقوله سبحانه وتعالى : ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء :162].
والزكاة في اللغة تعني : النماء، والزيادة، والطهر، والصلاح، وصفوة الشيء, وما أخرجته من مالك لتطهره به، وقد استعملها القرآن الكريم بمعنى الإنفاق في سبيل الله من المال، ومعنى الصلاح قال الله تعالى : (فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا) [الكهف :81]. قال الفراء : أي صلاحا, وقال تعالى : وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا) أي ما صلح منكم (وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور :21] أي يصلح من يشاء.
وشرعا : اسم لمال مخصوص يؤخذ من مال مخصوص على وجه مخصوص يصرف لطائفة مخصوصة.
يعلمنا سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم هذه العبادة في ثلاثة أحاديث الأول قوله صلي الله عليه وسلم : « وَلاَ في أَقَلِّ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالاً مِنَ الذَّهَبِ شَىْءٌ ». [رواه الدارقطني] والثاني : ما حكته لنا السيدة عائشة رضي الله عنها أَنَّ النَّبِىَّ صلي الله عليه وسلم «كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَاراً فَصَاعِداً نِصْفَ دِينَارٍ وَمِنَ الأَرْبَعِينَ دِينَاراً دِينَاراً ». [رواه ابن ماجة].
والثالث ما رواه سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه حيث قال : « فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ.» [رواه البخاري].
نتعلم من الأحاديث فقه الزكاة وكيف نعبد الله بهذه العبادة العظيمة :
زكاة المال : إذا بلغ مال المسلم المدخر المقدار الذي يجب فيه الزكاة، ومر عليه سنة هجرية وجب إخراج الزكاة، ومقدار الزكاة 85 جراماً من الذهب فإن كان الجرام ثمنه 90 جنيها مصريا مثلا، فيكون المبلغ الذي إذا مر عليه الحول أخرج المسلم زكاته هو 7650 جنيها مصريا، وقيمة الزكاة التي يخرجها المسلم، إذا تحقق الشرطان (المقدار ومرور السنة الهجرية) ربع العشر أي نسبة 2.5% من هذا المبلغ.
زكاة الفطر : وهذه الزكاة لا يشترط فيها بلوغ مقدار معين من الثروة أو المال، وهي واجبة على كل فرد من المسلمين، يخرجها المسلم عن نفسه وعن من يتولى أمرهم من أبناء قصر وزوجات وأقارب تلزمه نفقتهم، ويخرج المسلم ما يساوي 2.5 كيلو ونصف من الأطعمة المهمة التي يحيى بها الناس وتصلح للتخزين كالأرز، والأفضل أن يخرج المسلم، قيمة هذه الأطعمة لما فيه النفع للفقير.
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد إيتاء الزكاة صوم رمضان، ورمضان شهر القرآن قال تعالى : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة :185]. وقد اختصه ربنا بأعظم ليلة، وهي ليلة القدر، قال تعالى : (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الدخان :3 : 6] وقال : (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ القَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ * لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ* سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ) [ القدر :1 : 5].
هذا عن فضل هذا الشهر الكريم، فما هو الصوم ؟ وما هي أحكامه ؟
الصوم والصيام مصدران معناهما لغة الإمساك، وشرعا : إمساك عن مقطر جميع النهار بنية مخصوصة من قابل للصوم من مسلم عاقل طاهر من حيض ونفاس.
شروط وجوبه:
1- الإسلام ـ 2- البلوغ ـ 3- العقل ـ 4- القدرة على الصوم فلا يجب الصوم على المتصف بأضداد ذلك.
أركان الصوم :
1- النية : بالقلب فإن كان الصوم فرضا كرمضان أو نذرا فلابد من إيقاع النية ليلا ويجب التعيين في صوم الفرض كرمضان، وأكمل نية صومه أن يقول الشخص «نويت صوم غد عن أداء فرض رمضان هذه السنة لله تعالى».
2- الإمساك : عن الأكل والشرب والجماع وتعمد القيء: سواء قل المأكول والمشروب عند التعمد، فإن أكل وشرب ناسيا أو جاهلا لم يفطر إن كان قريب عهد بالإسلام، أو نشأ بعيدا عن العلماء، وإلا أفطر، والجماع أيضا أما إذا جامع ناسيًا فكالأكل ناسيًا، وأما تعمد القيء فإن غلبه لم يبطل صومه.
3- الممسك : وهو الشخص الصائم (وعد الصائم ركنا في الصيام ولم يعد المصلي ركنا في الصلاة؛ لأن الصوم ليس له صورة في الخارج يحكم بها على الصائم بالصيام بخلاف الصلاة فإنها لها صورة في الخارج يحكم بها على المصلي أنه في الصلاة.
المفطرات : ويبطل الصوم بعشرة أشياء :
1- وصل الشيء عمدا إلى جوف : المنفتح أصالة أو عرضًا بواسطة الجرح كوصول عين من مأمومة إلى الرأس.
2- إدخال دواء في أحد السبيلين بحقنة أو غيرها.
3- القيء عمدا وإن تقين أنه لم يعد منه شيء إلى الجوف فإن لم يتعمده كأن غلبه مثلا لم يبطل صومه.
4- الوطء عمدا في الفرج ولو دبرا من آدمي أو غيره كبهيمة وإن لم ينزل ولا يفطر الصائم بالجماع ناسيا وإن كثر.
5- الإنزال وهو خروج المني الناشئ عن مس البشرة بدون حائل سواء كانت مباشرة محرمة في الأصل كالاستمناء، أو مباح كالاستمناء بيد الزوجة، ولا يفطر بخروجه بالاحتلام لأنه ليس من مباشرة.
6- الحيض : يقينا.
7- والولادة.
8- النفاس.
9- الجنون.
10- الردة : فمتى طرأ شيء منها في أثناء الصوم أبطله.
مستحباته :
ويستحب ثلاثة أشياء :
1- تعجيل الفطر : إن تحقق الصائم غروب الشمس، فإن شك فلا يعجل الفطر ويسن أن يفطر على تمر وإلا فماء.
2- تأخير السحور : ما لم يقع في شك، ولا يحصل السحور بقليل الأكل والشرب.
3- ترك الهجر : أي الفحش من الكلام الفاحش، فيصون الصائم لسانه عن الكذب والغيبة، ونحو ذلك كالشتم، وإن شتمه أحد فليقل مرتين أو ثلاثا إني صائم إما بلسانه كما قال النووي في الأذكار، أو بقلبه كما نقله الرافعي عن الأئمة واقتصر عليه.
4- ترك الشهوة التي لا تبطل الصوم كشم الرياحين ونحوها وترك نحو حجم كفصد.
5- اغتسال عن حدث أكبر ليكون على طهارة من أول صومه.
7- الإكثار من تلاوة القرآن ومدارسته.
8- الاعتكاف : لا سيما في العشر الأخيرة منه.
هذه جملة من الأحكام الفقهية للصوم، وهو الأمر الرابع بعد شهادة التوحيد، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في إجابة سؤال معاذ رضي الله عنه، وبعد الصوم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحج.
فقال صلى الله عليه وسلم : «وتحج البيت»، فالحج في اللغة هو مطلق القصد، وقيل هو القصد لمعظم.
أما الحج الذي نقصده فهو : قصد موضع مخصوص (وهو البيت الحرام وعرفة) في وقت مخصوص (وهو أشهر الحج) للقيام بأعمال مخصوصة وهي : (الوقوف بعرفة, والطواف, والسعي عند جمهور العلماء, بشرائط مخصوصة يأتي بيانها.
والحج فرض عين على كل مسلم ومسلمة بشروطه وهي : (العقل-البلوغ-الاستطاعة)، وهناك شرط خاص بالنساء وهو (عدم العدة) فلا يجوز للمعتدة أن تخرج للحج وهو أحد أركان الإسلام، أما بخصوص المحرم أو الزوج فلا يلزم المرأة ذلك في الحج، فإن وجدت نسوة ثقات (اثنتين فأكثر تأمن معهن على نفسها) كفى ذلك بدلا عن المحرم أو الزوج وهو ما ذهب إليه الشافعية والمالكية إن لم تجد المرأة المحرم، بل يجوز لها أن تخرج وحدها لأداء الفرض أو النذر إذا أمنت على نفسها ومالها.
وقد دل على فرضية الحج القرآن الكريم، والسنة النبوية، وإجماع المسلمين، فأما القرآن الكريم فيقول تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ) [آل عمران :97]. ومن السنة النبوية أحاديث كثيرة؛ منها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه : (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج، فحجوا، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) [رواه مسلم].
وقد أجمعت الأمة سلفًا وخلفًا، شرقًا وغربًا، على فرضية الحج وأنه أحد أركان الإسلام الخمسة، وأنه من المعلوم من الدين بالضرورة، وأنه منكره يكفر. وقد اختلفوا في وجوب الحج هل هو على الفور أو على التراخي ؟ فذهب الجمهور إلى أن الحج يجب على الفور (بمعنى فور الاستطاعة) وهو الأولى، وذهب الشافعية والإمام محمد بن الحسن إلى أنه يجب على التراخي، ذلك بالنسبة لحكمه، أما فضله فكثير نبينه فيما يلي :
فضل الحج :
يقول الله تعالى : (وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ)، وقد كثرت النصوص النبوية الشريفة في فضل الحج وعظيم ثوابه، نذكر من ذلك على سبيل المثال، ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) [رواه مسلم] .
وكذلك ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة, وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة) [رواه مسلم، والنسائي] ، وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (الحجاج والعمار وفد الله, إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم) [ابن ماجة والبيهقي في الشعب] وعنه أيضا : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي الأعمال أفضل ؟ فقال : إيمان بالله ورسوله, قيل : ثم ماذا ؟ قال : جهاد في سبيل الله, قيل : ثم ماذا ؟ قال : حج مبرور) [البخاري ومسلم].
وللحج أحكام، وهيئات وغير ذلك من الأمور الفقهية التي ليس هذا مقام ذكرها لطولها، وبهذا يكون الجزء الأول من إجابة النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤال سيدنا معاذ رضي الله عنه تمت، وبقي باقي أجزاء الإجابة في مقالات قادمة. [يتبع]
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حي فينا بسنته الشريفة، فما هي السنة ؟ وما حقيقتها ودلالتها ؟ وما مدى حجيتها ؟ السنة في اللغة: هي السيرة المتبعة, والطريقة المسلوكة, وهي الأنموذج الذي يحتذى والمثال الذي يقتدى. وتطلق هذه الكلمة أيضا بمعنى البيان حيث يقال سن الأمر أي بينه, وأيضا بمعنى ابتداء الأمر.
ويختلف مدلول السنة بين علماء الشريعة الإسلامية تبعا لنوع العلم الذي يتناول تعريفها، فقد كان تعريف السنة موضع اهتمام علوم الشريعة الإسلامية وخاصة، علم الحديث، وعلم الأصول، وعلم الفقه، وعلم العقيدة.
فعلماء الحديث يرون أن معنى السنة واسع يشمل: كل قول أو فعل أو إقرار، حقيقة أو حكمًا، وسيرة وصفة خَلقية وخُلقية حتى الحركات والسكنات في اليقظة والمنام، قبل البعثة وبعدها.
وعلماء الأصول يرون أنها ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قول أو فعل أو تقرير.
وعلماء الفقه يطلقون السنة ويريدون بها المندوب، أي غير الفريضة من الأعمال التي طلبها الشارع، إلا أنهم يفرقون بين المندوب والسنة، أن المندوب يشمل ما ندب إليه الشارع سواء ثبت في السنة أو من استقراء أصول الشريعة.
وعلماء العقيدة يطلقون السنة عند علماء العقيدة على هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أصول الدين, وما كان عليه من العلم والعمل والهدى, وقد تطلق السنة أيضا بمعنى الدين كله.
ونحن في مقامنا هذا إذ نتكلم عن السنة، نقصد بها ما قصده علماء الحديث من المفهوم الشامل لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهي تسجيل دقيق (يشبه تصوير الفيديو في عصرنا الحديث) لحياة النبي وكلامه وطريقته في الأداء وكل شيء، ووصف جلسته أو سيره أثناء الكلام، وهو ما وضع له علماء الحديث قواعد في النقل، وأثَّر على تصنيف أقسام الحديث في علم المصطلح فأنشأ ما يعرف «بالحديث المسلسل».
ثانيا: مدى حجية السنة النبوية:
يعتقد المسلمون أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب الله، والبعْدية هنا في الفضل، أما في الاحتجاج فحجية السنة كحجية الكتاب، وإفادة العلم بأن ذلك صدر من الشارع طالما أنه قد تواتر، أما الآحاد فله حجية التشريع إن صح ولم يعارض المتواتر من السنة والقرآن وأصول الشريعة، ولكنه مع ذلك يفيد الظن ولقد دل القرآن الكريم، والسنة النبوية نفسها، والإجماع على أن السنة مصدر أساسي في التشريع الإسلامي.
ففي القرآن الكريم كثير من الآيات التي تؤكد على حجية سنة النبي r في التشريع، ولعدم إطالة الكلام نكتفي بذكر بعض هذه الآيات، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل :44]، وفي هذه الآية دليل على أن السنة النبوية وحي من الله تعالى، وقد سماها ربنا الذكر، وطالما أن السنة النبوية هي الذكر الذي أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم؛ ليبين للناس ما نزل إليهم فإنه قد حفظها كما أخبر - سبحانه - بذلك في قوله - تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون﴾ [الحجر :9]، وفيها دليل على حفظها بما ألهم الله أتباعه من توثيقها وابتكار العلوم التي حفظتها إلى يومنا هذا.
ومن الآيات التي تؤكد على حجية السنة كذلك قوله - سبحانه: ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء :80] ، وقوله سبحانه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ﴾ [الحشر :7]، ومنها قوله - عز وجل: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُّبِينًا﴾ [الأحزاب :36]. وقوله تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء :65].
وقوله تعالى : ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [النور :51]، وقوله - تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم :3 ،4]
فدلت تلك الآيات على حجية كلام النبي وفعله، وضرورة الالتزام به، لأنه صدر من الوحي، ونفس المشكاة التي صدر منها القرآن الكريم.
كما دلت الأحاديث النبوية على حجيتها من ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» [رواه أحمد في مسنده]. فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم على أن ما يقوله من السنة هو مثل القرآن في الاحتجاج به، ويؤكد ذلك المعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله » [رواه أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والترمذي في سننه واللفظ له]. فينعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الصورة التي تريد هدم الدين بحجة التمسك بالقرآن وحده، ويحذر من هذا المسلك منذ بداية الأمر.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا : يا رسول الله، ومن يأبى ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى » [رواه البخاري في صحيحه]، وقريب من ذلك المعنى ما روي عن حسان بن عطية قال: «كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن» [رواه أبو داود في مراسيله، وابن المبارك في الزهد].
كما دل الإجماع على حجية السنة، فقد أجمعت الأمة على حجية السنة، وتتبعنا آثار السلف ابتداء من عهد الخلفاء الراشدين فمن بعدهم، ولا يعلم مخالف في ذلك من المسلمين على الإطلاق. وفي سلم الوصول: «الإجماع العملي من عهد الرسول إلى يومنا هذا على اعتبار السنة دليلا تستمد منه الأحكام، فإن المسلمين في جميع العصور استدلوا على الأحكام الشرعية بما صح من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يختلفوا في وجوب العمل بما ورد في السنة» [سلم الوصول ص 261].
مما سبق يتبين وجوب الاحتجاج بالسنة والعمل بها، فالمستغني عنها هو مستغنٍ في الحقيقة عن القرآن، وأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طاعة لله وعصيانه عصيان لله تعالى، وأن العصمة من الانحراف والضلال إنما يتحقق بالتمسك بالقرآن والسنة جميعاً.
وليست السنة مصدرا للتشريع فحسب، بل هي منظومة أخلاقية، ومنهاج للوصول إلى رب العالمين، يرشدنا فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أفضل الطرق، وأحبها إلى ربنا في تحقيق سعادة الدارين، ومعنا في هذه المقالة حديث جامع هو حديث معاذ رضي الله عنه.
فعن معاذ رضي الله عنه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير، فقلت : يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار ؟ قال : لقد سألتني عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه. تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل، قال ثم قرأ : ﴿تتجافى جنوبهم عن المضاجع.... حتى بلغ يعملون﴾، ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر كله، وعموده، وذروة سنامه ؟ قلت : بلى يا رسول الله. قال : رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قلت : بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه، قال : كف عليك هذا، فقلت : يا نبي الله، وإنا المؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» [رواه أحمد في مسند، والترمذي في سننه، والحاكم في المستدرك] وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.
فالحديث يبدأ بأن معاذ رضي الله عنه انتظر تهيئة الوقت للسؤال، فانتهز فرصة سيره مع النبي وقربه منه، وعدم انشغال النبي صلى الله عليه وسلم بشيء عن الإجابة، وفي هذا السلوك تأديب لمن أراد أن يسأل العلماء أن يتخير الوقت المناسب لسؤالهم.
ثم سأل معاذ سؤاله الذي اتسم بسمات عظيمة، الأولى : أنه سؤال موجز ومختصر. الثانية : أنه سؤال عن قضايا مهمة وعملية. الثالثة : أنه سؤال جامع، وتلخص ذلك في قوله للنبي صلى الله عليه وسلم : « أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار ؟».
ثم يجيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بتقديم مهم، وهو إعلام السائل مدى أهميته سؤاله وعظمته، فهو عظيم من حيث الغاية، ومن حيث أن السؤال يدل على فهم غرض السائل من حقيقة التكليف والوجود، وهي عبادة الله بالأعمال الصالحة، فهذه هي العظمة، لأنها مقصود الله من خلقه وهي العبادة، قال تعالى : ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات :56]. فهذه هي جهة التعظيم، يردف النبي صلى الله عليه وصف الأمر المسئول عنه بالعظمة، بأنه مع تلك العظمة فإنه يسير، فيقول صلى الله عليه وسلم : « قال : لقد سألتني عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه».
وليس في وصفه بالعظمة تناقض مع وصفه باليسير، لأنه قيد اليسر بتيسير الله له، ولأن الله يسر على العباد عبادته، وأن جهة العظمة في أنه يمثل غاية الخلق وهي عبادة الله سبحانه وتعالى، وجهة اليسر في توفيق الله وتيسيره لعباده الذين صدقوا في رغبتهم في السير إليه، ولقد جمعت العظمة واليسر في قوله تعالى : ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة :5]، فإياك نعبد هذه المقصود من الخلق، وهي أعظم قضايا الكون، وإياك نستعين هي التيسير على من يسر الله عليه طريقه، فهو يسير لأن نهايته الجنة، والجنة هي القرار المكين، والظل الظليل، ورضا رب العالمين، فيهون في سبيلها أي شيء، ويتيسر الصعب في سبيل الوصول إليها، فلو علم الإنسان ما أعده له ربه في الجنة لهان عليه الأمر، واستلذ العبادة، لأن رضا الله وجنته نصب عينه.
ثم بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما وصفه له المسئول عنه بالعظمة واليسر، بدأ بإعلامه بالأعمال التي تدخله الجنة، وتبعده عن النار، فأجمل في بداية إجابته تلك الأعمال في أركان الإسلام الخمسة، فقال صلى الله عليه وسلم : «تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» فبدأ بعبادة الله سبحانه وتعالى، وهي اعتقاد وحدانيته في التأثير، والتوجه إليه بكل ما شرعه من الأعمال الظاهرة والباطنة، فيتوجه الموحد لربه بالتوكل، والإنابة، والحب، والإخلاص لربه سبحانه وتعالى، كما يتوجه إليه بالصلاة والزكاة، والصيام والحج، فعبادة الله يتحقق كمالها بإقامة الدين كله.
ثم أعلمه بفضل الصلاة التي هي معراج المؤمن إلى ربه، وهي الحوار الرباني الإنساني الذي يعقده المسلم مرات كثيرة مع ربه في اليوم الليلة؛ هذا الحوار الذي يتمثل في أم الكتاب كما أخبر بذلك ربنا سبحانه وتعالى على لسانه رسوله صلى الله عليه وسلم، حيث قال صلى الله عليه وسلم : «قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد : ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ قال الله تعالى : حمدني عبدي، وإذا قال : ﴿الرحمن الرحيم﴾ قال الله تعالى : أثنى علي عبدي، وإذا قال : ﴿مالك يوم الدين﴾ قال : مجدني عبدي، وقال مرة : فوض إلي عبدي، فإذا قال : ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ قال هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال : ﴿اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت المغضوب عليهم ولا الضالين﴾ قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» [رواه مسلم في صحيحه].
لذا استحقت الصلاة أن تكون الركن الثاني بعد الشهادة لله سبحانه وتعالى بالوحدانية، وإفراده سبحانه وتعالى بالعبادة، فهي تعبر عن الاتصال الإنساني الإلهي اليومي الذي، يقوم به الإنسان مستعينا، عابدا، مستأنسا بربه، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يجد راحة قلبه وهدوء باله فيها، فكان يقول صلى الله عليه وسلم : «وجعلت قرة عيني في الصلاة» [رواه أحمد في مسنده، والحاكم في المستدرك]، وكان يقول صلى الله عليه وسلم لبلال : «أقم الصلاة أرحنا بها» [رواه أبو داود] هذا باختصار شديد عن الصلاة، وفضلها والتي ذكرها النبي صلى الله عليه في إجابة سؤال معاذ بعد عبادة الله، وفي المقال التالي سنتكلم عن الزكاة، والصيام، والحج، وما بقي من الحديث، رزقنا الله عبادة حقا، وذكره دائما آمين (يتبع)
ذكرنا في المقال السابق أن الإيمان بالوحي من أهم السمات التي تفرق بين المسلم وغيره في العصر الحديث، ورأينا كيف سعى الفلاسفة والمفكرون من أبناء الحضارة الغربية لإنكار قضية الألوهية والوحي، وعلمنا شدة العلاقة بينهما، وفي هذه المرة نرى مدى تأثير هذا المنحى الفلسفي على ثقافتنا العربية والإسلامية.
لقد حاول بعض مثقفينا -ممن ذهب إليهم واعتمدهم مصادر لمعرفته- أن يدعو المسلمين إلى إعادة النظر في قضية الإيمان بالوحي إلا أن المسلمين نظروا إلى وحيهم وإلى كتابهم فوجدوه منزها عن التحريف، ونظروا إلى أوامر الله ونواهيه فوجدوها خالية من الكهنوت وعبادة المخلوقين، ونظروا إلى الإسلام في جملته فوجدوه دينا يدعو إلى السعادة الأبدية في الدنيا والآخر، فلم يزدد المسلم بإعادة النظر إلا إيمانا بالوحي.
واضطرب فريق آخر فتكلم كلاما لا معنى له ينكر في أوله الوحي ويثبته في آخره فلا تعلم ماذا يريد أن يقول، ولا حل لعلاج ذلك الاضطراب في فكر المسلمين وأحوالهم إلا بالرجوع إلى منابع الوحي الصافي ونجدد الإيمان به.
فالمسلم يعلم أن الله سبحانه وتعالى أوحى لأنبيائه ورسله عبر التاريخ بالتوحيد وأمرهم فيها بالبلاغ وأمرهم بعمارة الأرض وأمرهم بتربية الإنسان وأمرهم بأن يتفاعلوا مع تلك الأكوان وأمرهم فيها بكل خير لهم وجعل لكل منهم شرعة ومنهاجا.
اصطفى الله من عباده الأنبياء وخصهم بالوحي قال تعالى : ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى :51]، فكان الوحي الإلهي للأنبياء على ثلاثة أشكال الأول : أن يوحي إليهم بإيصال الكلمات والأوامر والنواهي مباشرة إلى قلوبهم وقد يكون ذلك بالرؤيا أيضا فهذا الشكل هو كلام الله لنبيه مباشرة.
الثاني : أن يكلم الله نبيه من وراء حجاب كما كان حال موسى عليه السلام.
والثالث : أن يرسل ملك الوحي وهو جبريل عليه السلام إلى أنبيائه فيوحي إليهم ما يشاء من شرائع سبحانه.
وقد ذكر ابن كثير هذه الأشكال فقال : «هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الله عز وجل، وهو أنه تبارك وتعالى تارة يقذف في روع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل، كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
«إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا الطلب». وقوله تعالى ﴿أو من وراء حجاب﴾ كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام فإنه سأل الرؤية بعد التكليم فحجب عنها، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لجابر بن عبد الله رضي الله عنه : «ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحا» كذا جاء في الحديث، وكان قد قتل يوم أحد، ولكن هذا في عالم البرزخ، والآية إنما هي في الدار الدنيا وقوله عز وجل : ﴿أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء﴾ كما ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» [تفسير ابن كثير 4/122].
وقد أكرم الله نبيه بأشكال الوحي الثلاثة فكلمه مباشرة، فإن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول، قالت : عائشة رضي الله عنها ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا» [رواه البخاري ومسلم]
وكلمه من وراء حجاب ليلة الإسراء والمعراج : ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى* أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى﴾ [ النجم :1 : 16].
وكان جبريل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل يعرفه الصحابة وهو دحية الكلبي، وكان دحية من سراة الناس جميلا في وجه نظيفا في ثوبه كان دحية شديد بياض الثوب شديد جمال الوجه، فمن هو هذا الصحابي الذي كان يأتي جبريل عليه السلام في صورته ؟ هو دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة الكلبي القضاعي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر صاحب الروم، روى الأحاديث ورُويَ عنه. شهد اليرموك وكان على كردوس أي كتيبة وسكن المزة قرب دمشق . قال ابن سعد: أسلم دحية قبل بدر ولم يشهدها، وكان يشبَّه بجبريل، فعن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: يأتيني جبريل في صورة دحية. قال رجل لعوانة بن الحكم : أجمل الناس جرير بن عبدالله البجلي فقال: بل أجمل الناس من نزل جبريل على صورته - يعني دحية. بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة خمس إلى قيصر الروم. مات في المزة قرب دمشق ودفن فيها.
وكان جبريل يأتي في صورة رجل لا يعرفه أحد إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أركان الإسلام والإيمان المشهور.
ولقد هيأ الله نبيه للقاء الوحي وأعده لذلك، فأول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، ثم حبب الله إليه التعبد في الخلوة الليالي ذات العدد، ثم أذن الله له بأن يلقى أمين الوحي جبريل عليه السلام، تروي السيدة عائشة ذلك فتقول :
«كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يلحق بغار حراء فيتحنث فيه -قال والتحنث التعبد الليالي ذوات العدد- قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود بمثلها، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال : اقرأ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنا بقارئ. قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال : أقرأ. قلت : ما أنا بقارئ. فأخذني، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ. قلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال : ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم﴾ الآيات إلى قوله ﴿علم الإنسان ما لم يعلم﴾
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره، حتى دخل على خديجة، فقال : زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، قال لخديجة : أي خديجة ما لي ؟ لقد خشيت على نفسي ؟ فأخبرها الخبر. قالت خديجة : كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل -وهو ابن عم خديجة أخي أبيها- وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت خديجة يا ابن عم اسمع من بن أخيك، قال ورقة يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى، ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا -ذكر حرفا- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مخرجيّ هم؟ قال ورقة : نعم. لم يأت رجل بما جئت به إلا أوذي وإن يدركني يومك حيا أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم» [رواه البخاري ومسلم].
كانت هذه بداية الوحي مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك تنوعت صور الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم كما بينا ذلك.
فالوحي هو القضية التي بيننا وبينهم، فهو القضية الفاصلة التي ينبغي أن نؤمن بها جميعا حق الإيمان، فلا سبيل للإيمان بالإسلام بغير الإيمان بالوحي، فمجرد المعرفة بأن الإسلام يدعو للإيمان بالوحي لا تسمى إيمانا، فالإيمان هو التصديق والإذعان والتسليم.
فالإيمان بالوحي يجعل المؤمن به إنسانا حضاريا سواء أكان عالما أو متعلما، سواء أكان قارئا أم أميا، يجري الله الحكمة على لسانه من تلك البسائط الإلهية، لأنه آمن بما أراد الله أن يؤمن به وصدق فعرق الحقيقة على وجهها، فكان بذلك الإنسان الذي أراده الله.
والإيمان بخاتمة الوحي على خاتم الأنبياء أساس الإيمان بقضية الوحي الكلية، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بدعا من الرسل، بل كل واحدا في مسيرة إخوانه الأنبياء الأكرمين، قال تعالى : ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الأحقاف :9]. وقال سبحانه : ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا* وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء :163، 164].
وقد أدرك شيخ الإسلام مصطفى صبري تلك القضية فألف كتابا ماتعا كبيرا وسماه [موقف العقل والعلم والعالم من دين رب العالمين وعباده المرسلين] فأوضح في الكتب الكثير من الأمور المختلطة عند الناس اليوم، تناول الوحي الشريف من مختلف الوجهات.
ونقصد بالإيمان بالوحي الإيمان بأن الله أنزل كتبا وشرائع للبشر تبين لهم طريقه وأحكامه، وجعل فيها صلاحهم ونجاتهم في الدارين.
فالكتب السماوية هي مظهر عناية الله بالبشرية، ومظهر ربوبية الله لخلقه، فربنا أنزل إلينا كتبًا، وأمر رسله بتبليغ تلك الكتب، وعلى المسلم أن يؤمن بالكتب السماوية إجمالاً؛ بمعنى أنه يعتقد أن الله أنزل كتبًا سماوية على الناس تعرفهم به سبحانه، وتعلمهم كيف يعبدونه، فربنا سبحانه وتعالى أنزل القرآن على سيدنا محمد –صلى الله عليه وسلم-، وأنزل من قبله كتباً كما قال تعالى : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} ([1])
كما يجب على المسلم كذلك أن يؤمن بما جاء في الشرع الشريف من أخبار عنها، فيؤمن أن الله أنزل على إبراهيم عليه السلام صحفًا، كما قال تعالى : {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } ([2])، وقال سبحانه : {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} ([3])، وقال تعالى : {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} ([4]).
ونؤمن كذلك أن الله أنزل على موسى الألواح وأنزل عليه التوراة، قال تعالى : {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } ([5])، وقال تعالى : { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} ([6])، وقال سبحانه : { وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} ([7]).
ونؤمن كذلك أن الله أنزل على داود عليه السلام الزبور، قال تعالى : {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} ([8])، وقال سبحانه : {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا } ([9]).
ونؤمن بأن الله أنزل على عيسى بن مريم عليه السلام الإنجيل، قال سبحانه : {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} ([10])، وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ } ([11]). (يتبع)
اشتدت الحاجة في ذلك العصر للعودة إلى المصادر الأولى، والأسس التي قام عليها دين الله، اشتدت الحاجة إلى أن نعلم أبنائنا تلك الأسس وأن الإيمان بها يحقق سعادة الدارين، فنحن معنا كنز مخفيُّ عرفناه من آبائنا وتلقيناه من أساتذتنا وشيوخنا وتربينا عليه حتى صار مألوفا في قلوبنا واضحا في أذهاننا إلا أن الألفة قد أخفت رونقه وأخفت أهميته، فلم نعد نتكلم فيه وإن كنا في أحوج الحاجة إلى كثرة الكلام فيه مرة بعد أخرى.
من الأسس التي تميز المسلم عن غيره أنه يؤمن بالوحي، وسمات العصر الحديث تخلو من الإيمان بالوحي، فحدث الافتراق الكبير بين ثقافة المسلمين وغيرهم، وأصبح اللقاء والتفاهم صعبا، وذلك لغياب المشترك أو أرضية التفاهم، فالمسلم لا يتصور أرضية عوراء تنظر إلى الوحي باعتباره خرافة أو أفيون أو أنه علاقة شخصية لا يجوز لها أن تخرج في حياة البشر وتؤثر فيها.
فهم يريدون جعل النسبية المطلقة هي السائدة فلا معيار ولا ميزان وذلك لإنكار الوحي، ولذا فقد تميز العصر بشعور عام من النسبية، وأن الحق يمكن أن يتعدد، والمسلمون يرون أن الحقَّ لا يمكن أن يتعدد، وأن الحق واحد، وهذه النسبية أثَّرت في الآداب، والفنون، والسياسة، والاجتماع، وسائر أنشطة الحياة، والإيمانُ بالمطلق كان سمة العصور الماضية في كل الأرض حتى سُمِّي بعصر الإيمان faith age.
ولقد بدأت المسألةُ مع "هيجل"، حيث حاول أن يوجِدَ حلاًّ لبعض المشكلات الفلسفية التي تنشأ بالأساس في ذهن الإنسان عند تخليه عن الوحي أو إنكاره له، وتدرج ما قاله "هيجل" إلى هذا الشعور بالنسبية التي تحكم في التصرفات والسلوك، وملخص فلسفة "هيجل": أن الله موجود، والكون موجود، والحداثة التي يدعون إليها تعني الاهتمام بهذا الكون، إذن هناك طرح يقضي على الخلاف، ويجعل رأينا واحدًا وهو أن نجعل الله حلاً في هذا الكون، فيصبح الكون هو الله، والله هو الكون، وهذا يعني أن الماديين على صواب لأنهم لا يرون إلا الكون، ثم جاء ماركس فأخذ فكرة الجدلية من هذه الفلسفة وأنزلها على الاقتصاد والدولة.
ثم قال نيتشه: إن الله ليس هناك - يعني ليس خارج الكون - واعتبر أن الله الذي يدعو له هيجل مات؛ لأنه ليس موجودًا، فوافق هيجل في عدم وجود الله خارج الكون، ثم قال إذن فهو ليس موجودًا، والهدف وراء ذلك أن الوحي أيضًا ليس له حقيقة إذا كان صاحب الوحي مات، فيصبح الوحي والرسالات أسطورة كبيرة، ويكون ليس هناك إلا هذا الكون، وهذا يشير لأمر عجيب، وهو ما يميز العقل أو ما يُسمَّى سمات العقل.
فنلاحظ مدى الارتباط بين تنحية الألوهية وإنكار الوحي، فالغاية الأساسية هي إنكار الوحي للخروج من التكليف والالتزام بالشرع، وأقوى السبل لإنكار الوحي هو إنكار الألوهية، ولقد أثر إنكار الألوهية على مختلف نواحي الحياة، ففي مجال الطب، فلم يعد الطبيب يدرس المريض دراسة كلية، ولم يعد يعالج أسباب المرض، بل اهتم بالقضاء على أعراضه، ولم يعد يراعي أحوال البيئة، ولكنه نزعه انتزاعا منها، وأذهبه إلى المعمل، وتقلص الاعتماد على ما خلقه الله في هذه الطبيعة من غذاء ودواء، ثم اكتشف علماء الطب هذا المعنى، فحاولوا أن يبحثوا عن فنون العلاج في هيئة أخرى سميت بالطب البديل، وشعبت إلى نحو ثلاثين بندًا، وبدأت المدارس والأفكار والآراء تختلف حول ذلك؛ لأنها لم تنتظم في رؤية كلية واحدة، فكثير ممن دخل إلى فنون العلاج دخلها من باب المادة وكثير ممن دخل من باب المادة دون أن يسيطر القلب على العقل، ولا العقل على السلوك لم يجد لها فائدة مثل ما في الطب الحديث من فوائد مادية مبشرة، وكأن فنون العلاج قد فقدت شرطها.
فالمسألة أكبر من أن تحل من غير عودة العقيدة، فترى نظامًا يعتمد الإبر الصينية، وترى نظاما آخر يتهمها بالدجل، وعلى كل حال، فعندما استعمالها الصينيون استعملوها من خلال نظام متكامل، ليس من الحكمة أن ينزع منه، ثم نبحث عن النتائج مع فقدان الشروط.
ولقد أثرت هذه الرؤية عندما فقد من منظومة التفكير قضية الألوهية في مجال الاقتصاد الذي أصبح مجالا للزيادة الكمية ابتداء من تعريف المشكلة الاقتصادية بأنها كثرة الحاجات بإزاء قلة وسائل الإشباع النسبية، حيث سنرى في مشكلات في تحديد معنى الحاجة، ومعنى الندرة، ومعنى النسبية، مما يترتب عليه جعل علم الاقتصاد قيميا يحتاج إلى القيم، ويمكن وصفه بالإسلامي أو البروتستاني أو الشيوعي كما فعل بعضهم، وكلما نزعت قضية الألوهية من مجال من المجالات رأيناه يغلق على نفسه، ويسير في اتجاه واحد، ويقطع ما بين الإنسان وما بين تراثه الإيماني، في حين أن الله سبحانه وتعالى قد خلق بعض العلامات حتى يدلنا بها على حقائق بسيطة أغفلها الكثيرون، ومنها الدائرة، فمن سار في اتجاه واحد فإنه يخرج عن حد الدائرة دون أن يشعر.
لقد أخطأت العلمانية خطأ فادحا عندما نحت قضية الإله، بدعوى أن ذلك سيؤدي إلى حرية الاعتقاد من ناحية، وسيؤدي إلى عدم تنازع أصحاب الأديان المختلفة من ناحية أخرى، وتوصلت إلى هذه النتيجة بناء على التعصب بين أهل الأديان، والحرب المستمرة التي وقعت بين المذاهب المختلفة في الدين الواحد، أو بين أتباع ديانتين لأسباب عقائدية غلفت بالسياسة، أو غلفت السياسة بها.
وكان يمكن الدعوى إلى الحفاظ على تراث الإنسانية، والحفاظ على عصور الإيمان بشكل يمنع هذا التعصب، ويرفع ذلك النزاع بما يشبه دعوى الحوار في عصرنا هذا، ولكن العلمانية لم تكن قادرة على ذلك، وحذفت ذلك الصراع والنزاع، وحذفت معه قضية الألوهية، ولما لم تستطع أن تحذفها بتمامها من قلوب الناس ومن سلوكهم قامت بتحنيتها إلى الهامش، وجعلت ذلك أساسًا من أسس نظرة العلمانية للكون والإنسان والحياة.
ولما نحيت قضية الألوهية نحيت الشعبة الثانية من شعب الإيمان، وهي الإيمان بالرسل الكرام، هذه التنحية التي ترددت بين الإنكار المطلق للوحي، وبين تهميش الشرع أي شرع من حياة الناس العامة، وجعل الإيمان بالوحي مسألة شخصية لا يسأل الفرد عنها، ولا يحاسب عليها حتى اعتبروا ذلك جزءا لا يتجزأ من الحرية.
وإنكار الوحي لا يستلزم إنكار الإله، بل إنه يكون حينئذ إلهًا ساكتًا خلق الدنيا وخلق فيها الإنسان، وترك الإنسان لهواه يقدر مصالحه بنفسه، ويدرك مضار تصرفاته ومنافعها عن طريق اللذة والألم، فيما يسمى بالدين الطبيعي الذي دعا إليه الموسوعيون في القرن الثامن عشر حتى قامت الثورة الفرنسية، مع فولتير وجان جاك روسو، وديدورو وأمثالهم.
وطبقا لما أورده الإمام البيهقي في كتابه الجامع لشعب الإيمان، فإنه يتكلم عن شعبة الإيمان الثانية، وهي الإيمان بالرسل الكرام منذ آدم -عليه السلام- الذي هو أول البشر، والذي علمه الله الأسماء كلها، فكان هذا العلم، هو اتصال بين اتصال بين الإله الخالق، وبين الإنسان المخلوق، وكان هذا العلم هو أول وحي يؤسس معرفة الإنسان، ويكون مصدرا لهذه المعرفة، تضاف إلى معرفته بالكون المحيط، ومن المعرفتين : المعرفة بالوحي، والمعرفة بالكون، تتكون المعرفة الصحيحة الكاملة، التي تهدف إلى عبادة الله، وعمارة الكون، وتزكية النفس، إلى خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
والإسلام جعل مصدر المعارف الإنسانية من خلال قراءتين، أن القراءة الأولى في الوجود والثانية في الوحي، وأنهما قد صدرا عن الله، الأولى من عالم الخلق، والثانية من عالم الأمر { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } ([1])، وعلى هذا فلا نهاية لإدراك الكون؛ حيث إنه يمثل الحقيقة، لأنه من عند الله، ولا نهاية لإدراك الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تنتهي عجائبه، ولا يَخلَق من كثرة الرد»([2])، وأيضًا لا تعارض بينهما حيث إن كلاًّ من عند الله، وهذا التأسيس يتأكد في قوله تعالى على صفة الإطلاق: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} ([3]).
وفي نفس السياق تأتي قضية القراءتين، وهو أن هناك قراءة للقرآن، وقراءة للأكوان، تشير إليها آيات سورة العلق، وهي أول ما نزل، حيث كرر الله فيها الأمر بالقراءة، وعلَّق الأولى على الخلق والثانية على الوحي، فقال تعالى : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } ([4])، والقلم إشارة إلى الوحي، كقوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}([5])، نرى هنا أنه بدأ بالخلق وثنَّى بالوحي، وكأن الإنسان لابد عليه أن يطلع العالم وما حوله ليكون قادرًا على فهم الوحي، وكذلك لابد عليه من إدراك الوحي إدراكًا صحيحًا من أجل أن يغيِّر واقعه نحو التغيير الصحيح؛ ولذلك نرى أن الخلق والأمر يتكاملان في دائرة واحدة يصح أن نبدأ من أي نقطة منها فنصل إلى تمامها، ونرى قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ } ([6]) فيه إشارة إلى تلك الدائرة.
فمن ترك علم الأكوان وصل بعقله إلى عقلية الخرافة، ولا يستقيم له أبدًا فهم الوحي، ومن ترك علم القرآن أو ترك الوحي بجملته فإنه لا يقل في انتمائه إلى العقلية الخرافية عن ذلك الأول.
فالعقلية الخرافية عرجاء تسير على قدم واحد، أو عوراء ترى بعين واحدة، فهي ناقصة على كل حال، والعقلية العلمية هي تلك التي استوفت معرفتها من الأكوان، ومن الوحي، ومن هنا نعرف أي جريمة يرتكبها ذلك الذي ينحي الشعبة الثانية من شعب الإيمان، وهي الإيمان برسل الله سبحانه وتعالى، ومن هنا أيضا نفهم مراد الله من قوله في القرآن الكريم : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) ([7]).
ونلاحظ هنا أيضا أن الله سبحانه وتعالى وهو يبين لنا الحقائق ويأمرنا بالإيمان بالله وبرسله، فإنه ينبهنا أيضا على حرية الفكر وحرية العقيدة واختيار الإنسان، فيرحل الحساب على هذا النوع من أنواع الإباء والكفر إلى الآخرة، ولا يجعله مجالا للنزاع والخصام في الدنيا، وهو الأمر الذي افتقده كثير من أتباع الأديان وافتقدته العلمانية وهي تنحي الدين كوسيلة للوصول إلى السلام الاجتماعي، فالله يقرر سوء إنكار الحقائق، ويصف الأشياء بأسمائها، وأن ذلك هو الكفر الحقيقي، ولكنه يجعل جزاء ذلك يوم القيامة، أما في الدنيا، فإنه يقول لنا : (لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ) ([8])، ويقول : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ([9]).
ويقول سبحانه وتعالى : (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ) ([10]).
ولأن بعضهم يظن أن لازم الكلام تبعا للكلام نفسه، فيظن أننا عندما نصف هذا بالكفر حقًا، أن النزاع والخصام لازم على ذلك، والأمر ليس كذلك، بل أمرنا الله سبحانه وتعالى بالتعايش، وهذا الظن والخلط بين المذهب ولازم المذهب، وبين الكلام ولازم الكلام نراه على ألسنة المتطرفين، كما نراه على ألسنة كثير من العلمانيين والكاتبين، ولذلك فإن كلا من الطرفين يتصور النزاع، فالمتطرف يتصوره وينفذه، والعلماني يتصوره وينكر من أجل تصوره هذا، وخوفا من النزاع والصراع الدين كله، والحقيقة أن تصورهم هذا هو الباطل، وأن استلزامهم غير دقيق، جاء من أنهم اعتادوا القراءة العابرة، لا القراءة المتأنية التي يعلمها الأزهر في مناهجه كمنهج لفهم النصوص الشرعية.
ولقد أبرز ذلك الخلاف الثقافي بين العلماني والمثقف المسلم قيمة الوحي، فالمسلم يعتز بالوحي الذي شرفه الله به، ويفخر به، وينطلق منه للحياة، ويعلم أنه سبب في رقي البشرية الأخلاقي والاجتماعي وفي كل المجالات. (يتبع)
([1]) من الآية 54 من سورة الأعراف.
([2]) أخرجه الترمذي في كتاب «فضائل القرآن» باب «ما جاء في فضل القرآن» حديث (2906)، والدارمي في كتاب «فضائل القرآن» باب «فضل من قرأ القرآن» حديث (3332) من حديث علي بن أبي طالب t.
([4]) الآيات 1: 4 من سورة العلق.
([6]) الآيات 1: 3 من سورة الرحمن.
([7])الآية 150 من سورة النساء .
([8])الآية 256 من سورة البقرة .
تكلمنا في المقال السابق عن طلوع الشمس من مغربها كعلامة عظيمة ينغلق معها باب التوبة، ونكمل الحديث عن باقي علامات القيامة في هذا المقال، حيث بقي لنا من العلامات الخسوفات الثلاثة وخروج النار.
سابعا : الخسوفات الثلاثة :
الخسوفات الثلاثة هي العلامة السابعة من العلامات الكبرى ليوم القيامة، وقد صرحت بها السنة النبوية المطهرة في أكثر من حديث، من ذلك حديث حذيفة بن أسيد -رضي الله عنه- وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر الساعة فقال : ما تذاكرون ؟ قلنا : نذكر الساعة، قال : إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آَيات وذكر منها : ثلاثة خسوف : خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب» [رواه مسلم] .
ومنها حديث أم سلمة - رضي الله عنها - قالت : «سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون بعدي خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف في جزيرة العرب، قلت: يا رسول الله أيخسف بالأرض وفيها الصالحون ؟ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أكثر أهلها الخبث» [ذكره أبو بكر الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال روى الطبراني بعضه].
والخسوفات الثلاثة المذكورة في الأحاديث النبوية، لم يأت بها نص في القرآن، وإنما ذكرت في السنة النبوية، وقد يختلط على بعض الناس تحقق هذه العلامة بسبب كثرة الخسوف الذي يحدث في أيامنا هذه، ولكن ربما تكون تلك الخسوفات يسيرة وهينة بالنسبة للخسوفات الموعود بها، فهي ستكون علامة واضحة، وخسوفات عظيمة، ولقد ذكر هذا المعنى الحافظ ابن حجر حيث قال : «وقد وجد الخسف في مواضع، ولكن يحتمل أن يكون المراد بالخسوف الثلاثة قدرا زائدا على ما وجد، كأن يكون أعظم منه مكانا أو قدرا» [فتح الباري].
على أية حال على المؤمن أن يعتقد أنه من ضمن العلامات العظيمة التي تسبق يوم القيامة حدوث تلك الخسوفات الثلاثة، وعليه أن يخشى عذاب ربه دائما، ويرجو رحمته، عسى الله أن يخرجنا من حال لا يرضاه إلى حال يرضاه.
والعلامة الثامنة والأخيرة من علامات يوم القيامة، وهي تلك النار التي تخرج فتحشر الناس إلى أرض المحشر.
ثامنا : النار التي تحشر الناس :
وهي آخر العلامات الكبرى، وأولى آيات قيام الساعة، وهي نار تخرج من اليمن تسوق من تبقى على الأرض من شرار الناس إلى أرض المحشر، وقد وردت الأحاديث الشريفة تدل وتؤكد تلك العلامة العظيمة.
منها حديث حذيفة بن أسيد في ذكر أشراط الساعة وآخره قوله صلى الله عليه وسلم : «وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم» [رواه مسلم] وفي رواية : «نار تخرج من قعرة عدن ترحل الناس» [رواه مسلم] .
وحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ستخرج نار من حضرموت أو من بحر حضرموت قبل يوم القيامة تحشر الناس» [رواه أحمد في مسنده والترمذي في سننه] .
ومنها حديث أنس -رضي الله عنه- : أن عبد الله بن سلام لما أسلم سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مسائل ومنها : «ما أول أشراط الساعة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب» [رواه البخاري].
وقد يقع للمطلع على تلك النصوص تعارض بين ظاهرها، فقد يسأل سائل كيف تكون النار آخر علامات الساعة، وهي في نفس الوقت أول أشراط الساعة في الحديث الذي رواه البخاري، والجواب عن ذلك : بأنها تؤذن بقيام الساعة فهي أول قبل بدء أهوال يوم القيامة حيث ينهار الكون العلوي والسفلي بعدها بما ذكر في القرآن الكريم، من انشقاق السماء، ومن تكويرها، ومن جمع النجوم، واحتراق البحار، وهد الجبال، قال تعالى : (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ) [الانشقاق :1 : 4].
وقال سبحانه : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا العِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ) [ التكوير :1 : 14]
وفي شأن الجبال قال سبحانه وتعالى : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا) [الكهف :47]. ويقول سبحانه : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلاَ أَمْتًا) [طه :105 : 107]. ويقول تعالى : (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الجِبَالُ سَيْرًا) [الطور :9 : 10]
فتكون النار التي تخرج من اليمن تسوق الناس إلى أرض المحشر هي بداية ظهور ذلك الدمار الذي يلحق بالكون والذي يحدث على شرار أهل الأرض، وهم الذين تقوم عليهم الساعة.
وقد وردت أحاديث صحيحة بأن الأرض التي يحشر الناس فيها، والتي تسوقهم النار إليها هي أرض الشام، ولعل من حكم كون الشام هي أرض المحشر، أنها الأرض التي سيسكنها المؤمنون أتباع المهدي وعيسى عليهما السلام، وأنها بقعة دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها بالبركة، فقال : «اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا» [رواه البخاري].
ووردت الأحاديث في عد فضائل الشام والحث على السكنى بها، كما أنها مهبط الأنبياء ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشار القرآن أن الشام أرض مباركة، قال تعالى : (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَتِى بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ) [الأنبياء :81] وكانت الأرض المباركة التي تتحدث عنها الآية هي أرض الشام أو جزء منها. وقال تعالى عن بني إسرائيل : (وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَتِى بَارَكْنَا فِيهَا) [الأعراف :137]، وذكر ربنا عن إسراء نبيه إلى بيت المقدس ببلاد الشام، فقال تعالى : (سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الإسراء :1].
ومما ورد في فضلها من أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان تحدث عن فتن ستقع، فقال له ابن حوالة: لي يا رسول الله. أي : اختر لي إن أدركني ذلك. فقال له صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «عليك بالشام، فإنها خيرة الله من أرضه، تجتتبي إليها خيرته من عباده. ثم قال: إن الله توكل أو تكفل لي بالشام وأهله» [رواه أبو داود والحاكم في مستدركه]
ومن الأحاديث التي أشارت إلى كون الشام هي أرض المحشر حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إنكم محشورون رجالا وركبانا، وتجرون على وجوهكم ها هنا، وأومأ بيده إلى الشام» [رواه الحاكم في المستدرك].
واختلف العلماء في : متى يحشر الناس ؟ فذهب بعض العلماء كالبيهقي والغزالي وغيرهما إلى أن هذا الحشر ليس في الدنيا وإنما هو في الآخرة عند الخروج من القبور.
وذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الحشر يكون في الدنيا قبل البعث فيحشر الناس أحياء إلى الشام، وأما الحشر بعد البعث فهو على هيئة مخالفة عن ذلك الحشر قبل القيامة.
وقد وردت أحادث تبين أن الحشر قبل قيام الساعة ليس هو نفس الحشر بعد البعث، حيث توجد مظاهر الحياة من البعير والطعام وغير ذلك، وكل هذه المظاهر لن تكون موجودة بعد البعث، من ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين راهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا» [رواه البخاري ومسلم].
وبهذا التفصيل تتضح العلامة الثامنة والأخيرة وهي خروج نار من اليمن تسوق الناس إلى محشرهم.
ولعلنا ببيان علاما الساعة قد أكدنا على قضية الإيمان بالغيب، وأكدنا على أهمية يوم القيامة وعظم شأنه، فسبقه بكل هذه العلامات العظيمة يدل على أنه شأن عظيم، فهو يوم الفصل بين العباد، وهو يوم الجزاء، وهو يوم البعث، وهو يوم التغابن، ويوم الصاخة، ويوم النشور، ويوم الحسرة.
وكذلك في حديثنا عن يوم علامات الساعة تأكيد على حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمته، واهتمامه بما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم، واهتمامه بإخبارهم بما يفيدهم من أنباء الغيب، سواء أكان ذلك الغيب في الماضي أم في المستقبل، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال : (قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم مقاماً، فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حَفِظَ ذلك مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ) [رواه البخاري].
ويؤكد ذلك على يقين المسلم بالله وبرسوله وبوعده، فقد ظهر من العلامات الصغرى الكثير مما أخبر به المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وبالكيفية التي أخبر بها، والمؤمن عندما يرى ذلك يقول صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيزداد إيمانا.
كما أنه لا ينبغي أن يترتب على الإيمان بالساعة وبقربها ترك أعمالنا التي أقامنا الله فيها في الدين، فإن ذلك عصيان لله، وهروب من المسئولية، ويحذرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك فيقول : «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل» [رواه أحمد في مسنده، وعبد بن حميد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد].
فعلى الرغم من تأكده أن عمله هذا لا فائدة حسية منه؛ لأن الكون كله سوف يدمر وليست بما فيه تلك الفسيلة التي تحتاج إلى زمن طويل للإنبات بالرغم من ذلك هو مطالب بأداء عمله.
فالمؤمن لا يعطل الإنتاج، ولا يتوقف عن العمل لعمارة الأرض وصالحها، ولا ينتظر مجيء المهدي عليه السلام، ولا سيدنا عيسى عليه السلام، ولا أي شيء حتى يطيع الله ويطبق أوامره فيما قدر عليه، فالله أمره بعبادته، فيعبده حتى آخر لحظة في حياته، والله أمره بتزكية نفسه، فيزكي نفسه ويهذبها ما دام حيا، والله أمره بعمارة الكون وإتقان العمل الذي أقامه فيه، فليؤد عمله، ويتقنه لله حتى آخر لحظة في حياته.
هذا هو المؤمن الذي يَعلم ويتعلم ويُعلم ويعتقد ويعمل ويبني الحضارة، إنه المؤمن الذي أراده الله، وأرسل من أجله الرسل، وأنزل له الشرائع، وجعل اليوم الآخر للإحسان إليه، كما أنه لمعاقبة العصاة كذلك.
تعلمنا في النصوص التي أوردنا في موضوع علامات الساعة وأشراطها، الملاحظة، فإن كل أمر عظيم تسبقه علامات في الغالب، وتعلمنا منها التخيل الخلاق، الذي يترتب عليه السؤال المفيد، كما حدث لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يستمعون لتلك العلامات، فقارنوا بين حالهم والحال في ذلك الزمن، فمنهم من سأل : وأين العرب يومئذ يا رسول الله ؟ ومنهم من سأل : كيف نصلي في أيام بقاء الدجال في أيامه التي تختلف فيها نواميس الكون فيكون اليوم بمقدار سنة. ومن سأل النبي صلى الله عليه وسلم كيف النجاة، وإلى أرض تنصحني بها يا رسول الله في اقتراب الفتن ؟
أسئلة كثيرة دلت على يقينهم بالأحداث، ودلت على خيالهم الخلاق الذي يؤصل لحلول في الأزمات، فهم يعلمون أنهم الأمر سيكون أزمة ففكروا في الحلول وإقامة الدين وعمارة الأرض رغم كل هذه الأزمات التي أخبرهم بها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
ولعلنا بعرضنا لعلامات الساعة نساهم في تكوين عقلية المؤمن السليمة، ونفسيته المستقرة، مما يترتب عليه السلوك الحضاري القويم، فلا ينبغي أن نقف عند القصص والأخبار للتسلية والاندهاش فحسب، بل ينبغي أن نؤخذ العبرة، ونضع خطط الإصلاح للنفس والمجتمع، ونلجأ إلى الله، ونسأله أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وهذا ما أراده الله من قص القصص في كتابه المجيد، قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِى الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف :111] فالقصص للتفكر والتدبر، قال تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم : (فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف :176].
رزقنا الله العبرة والتفكر والتدبر، وما يترتب على ذلك من صلاح الأعمال، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تكلمنا في مقالات سابقة عن أربع من علامات القيامة الكبرى، ونذكر في هذه المرة العلامة الخامسة وهي الدخان الذي يظهر في آخر الزمان، وخروج الشمس من مغربها.
خامسا : ظهور الدخان :
لقد أشار القرآن الكريم إلى هذه العلامة في سورة سميت بالدخان قال تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) [الدخان :10].
وصرحت السنة المطهرة بأن ظهور الدخان من العلامات التي تسبق يوم القيامة، ففي حديث حذيفة بن أسيد قال : «اطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر الساعة فقال : ما تذاكرون ؟ قلنا : نذكر الساعة، قال : إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آَيات فذكر الدخان والدجال والدابة ... » [رواه مسلم].
وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه : «بادروا بالأعمال ستا : طلوع الشمس من مغربها أو الدخان أو الدجال أو الدابة أو خاصة أحدكم أو أمر العامة» [رواه مسلم].
وما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «إن ربكم أنذركم ثلاثا : الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية : الدابة، والثالثة: الدجال» [رواه الطبراني].
هذا مما ورد في شأن علامة الدخان الذي يغشى الناس قبل يوم القيامة من آثار نبوية، ولقد تكلم العلماء في هذا الدخان وهل ظهر أم لم يظهر بعد ؟
فذهب بعض العلماء إلى أن الدخان قد ظهر في عهد النبي صلى الله عليه وآله، وذلك عندما أصيبت قريش يالشدة والجوع، وذلك لما دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يستجيبوا له، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان، وكان يرى هذا القول سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وقد استدل هؤلاء بما جاء في حديث مسروق بن الأجدع قال : (كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود فأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الرحمن، إن قاصا يقص ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام " فقال عبد الله، وجلس وهو غضبان: «يا أيها الناس اتقوا الله، من علم منكم شيئا فليقل بما يعلم، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم، فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم : الله أعلم، فإن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: «قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ»، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدبارا قال لهم : «اللهم سبع كسبع يوسف»، قال : فأخذتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة من الجوعِ، وينظر إلى السماء أحدهم فيرى كهيئة الدخان» [رواه الترمذي وابن حبان]. وقال ابن مسعود أيضا : «خمس قد مضين : اللزام والروم والبطشة والقمر والدخان) [رواه البخاري ومسلم].
وذهب كثير من العلماء إلى أن الدخان من الآيات التي لم تظهر بعد وسيقع قرب القيامة، وهو ما قال به علي بن أبي طالب، وابن عباس وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهم وغيرهم، وكثير من التابعين.
وقد رجح الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هذا، مستدلا بالأحاديث التي سبق ذكرها، وبغيرها من الأحاديث، وأيضًا بما أخرجه ابن جرير وغيره عن عبد الله بن أبي مليكة قال : غدوت على ابن عباس -رضي الله عنهما- ذات يوم فقال : «ما نمت البارحة حتى أصبحت، قلت : لم ؟ قال : قالوا : طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق، فما نمت حتى أصبحت».
قال ابن كثير -رحمه الله- بعد ذكره لهذا الأثر : «وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما حبر وترجمان القرآن، وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرها التي أوردوها مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة مع أنه ظاهر القرآن» [تفسير ابن كثير].
والأرجح الجمع بين القولين، وهو ما ذهب إليه بعض العلماء، كالطبري، والنووي، والقرطبي، فذهبوا إلى أنهما دخانان، ظهر أحدهما، وبقي الآخر الذي سيقع في آخر الزمان، فأما الآية الأولى التي ظهرت فهي ما كانت قريش تراه كهيئة الدخان، وهذا الدخان غير الدخان الحقيقي الذي يكون عند ظهور الآيات التي هي من أشراط الساعة.
قال الطبري - رحمه الله - : «وبعد فإنه غير منكر أن يكون أحل بالكفار الذين توعدهم بهذا الوعيد ما توعدهم، ويكون محلا فيما يستأنف بعد بآخرين دخانا على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا كذلك ؛ لأن الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تظاهرت بأن ذلك كائن، فإنه قد كان ما روى عنه عبد الله بن مسعود، فكلا الخبرين اللذين رويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح».
وقال النووي رحمه الله تعالى : «ويحتمل أنهما دخانان للجمع بين هذه الآثار» [شرح مسلم للنووي].
ونقل ذلك القول عن ابن مسعود أيضًا، قال القرطبي : «قال مجاهد : كان ابن مسعود يقول : «هما دخانان قد مضى أحدهما، والذي بقي يملأ ما بين السماء والأرض ولا يجد المؤمن إلا كالزكمة، وأما الكافر فتثقب مسامعه» [تفسير القرطبي].
ويجب على المسلم تجاه هذه العلامة أن يؤمن بأن هناك دخان يظهر للناس، وأن هذا الدخان يحدث قبل يوم القيامة كعلامة على قرب وقوعها.
وبما ذكر نكون قد بينا تلك العلامة، وفيما يلي نبين علامة طلوع الشمس من مغربها، وهي العلامة السادسة.
سادسا : طلوع الشمس من مغربها :
والعلامة السادسة طلوع الشمس من مغربها وقد أشار القرآن الكريم إلى تلك العلامة فقال تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) .
كما أكدت السنة النبوية عليها في أكثر من حديث منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمن الناس أجمعون، فذلك حيث لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا» [رواه البخاري ومسلم].
ومنها حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» [رواه مسلم]
ومنها كذلك حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله فتح بابا قبل المغرب، عرضه سبعون عاما للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه». [رواه أحمد في مسنده، وابن ماجه في سننه، والطبراني في الأوسط]
ومنها حديث عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر ومعاوية رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه وكفي الناس العمل» [رواه أحمد في مسنده، والطبراني في الأوسط] .
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم : «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا وذكر منها طلوع الشمس من مغربها» [رواه مسلم].
وعن أبي ذر رضي الله عنه : «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما : أتدرون أين تذهب هذه الشمس ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك، حتى يقال لها : ارتفعي ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة، ولا تزال كذلك حتى يقال لها : ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش، فيقال لها : ارتفعي اصبحي طالعة من مغربك، فتصبح طالعة من مغربها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتدرون متى ذاكم ؟ ذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا» [رواه أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه]
ومنها حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : «حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لم أنسه بعد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها . . . » [رواه أحمد في مسنده، وابن أبي شيبة في مصنفه].
وطلوع الشمس من مغربها علامة عظيمة؛ وذلك لانغلاق باب التوبة بحدوثها، وعن حكمة ذلك، فقد ذكر القرطبي بيان حكمته، فقال «قال العلماء : وإنما لا ينفع نفسا إيمانها عند طلوع الشمس من مغربها؛ لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس، وتفتر كل قوة من قوى البدن، فيصير الناس كلهم لإيقانهم بدنو القيامة في حال من حضره الموت في انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم وبطلانها من أبدانهم، فمن تاب في مثل هذه الحالة لم تقبل توبته كما لا تقبل توبة من حضره الموت».
ويقول الحافظ ابن حجر بعد ذكره لأحاديث طلوع الشمس من مغربها : « فهذه آثار يشد بعضها بعضا متفقة على أن الشمس إذا طلعت من المغرب؛ أُغلق باب التوبة، ولم يفتح بعد ذلك، وأن ذلك لا يختص بيوم الطلوع، بل يمتد إلى يوم القيامة» [فتح الباري]
وأما بشأن ترتيب علامات القيامة، فالحديث الذي يذكر أن أول الآيات هو طلوع الشمس من مغربها يوهم بأن ذلك سيكون قبل الدجال، والصحيح أن خروج الشمس من مغربها أول الآيات العظيمة التي يبدأ العالم العلوي بالتغير معها، وما يتبع ذلك من طي السماء واشتعال البحار، ولقد أشار الحافظ ابن حجر إلى هذا المعنى فقال : «الذي يترجح من مجموع الأخبار أن خروج الدجال أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في معظم الأرض، وينتهي ذلك بموت عيسى ابن مريم، وأن طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي، وينتهي ذلك بقيام الساعة، ولعل خروج الدابة يقع في ذلك اليوم الذي تطلع فيه الشمس من المغرب» [فتح الباري].
والذي يجب على المؤمن أن يعتقده بشأن هذه العلامة، أن الله يجعل الشمس تشرق من الغرب بدلا من الشرق على خلاف ما اعتاده الناس كعلامة لبداية تغير مظاهر الكون، وإعلاما باقتراب يوم القيامة، وإغلاق باب التوبة.
نسأل الله أن يتوب علينا ويرحمنا، ونتكلم فيما يلي عن العلامة السابعة وهي الخسوفات الثلاثة.
ذكرنا في المقالة السابقة ما ورد في القرآن الكريم عن يأجوج ومأجوج، وفي هذه المرة نتكلم عن ذكر السنة النبوية لهم وما يفعلونه بعد خروجهم، كما سنذكر علامة أخرى من علامات الساعة وهي خروج الدابة التي تكلم الناس.
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث تذكر يأجوج ومأجوج وقرب خروجهم، ومنها : ما روته زينب بنت جحش رضي الله عنها : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل يوما فزعا يقول : لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش : فقلت يا رسول الله أفنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم، إذا كثر الخبث) [أخرجه البخاري ومسلم].
ومن حديث النواس بن سمعان الذي تكرر ذكره، وفيه : (حديث النواس بن سمعان، وفيه : (إذ أوحى الله إلى عيسى أني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون : لقد كان بهذه مرة ماء، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب إلى الله عيسى وأصحابه، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ) [رواه مسلم].
وفي رواية أخرى بعد قوله : (لقد كان بهذه مرة ماء) زيادة : (يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر، وهو جبل بيت المقدس، فيقولون لقد قتلنا من في الأرض، هلم فلنقتل من في السماء فيرمون بنشابهم إلى السماء، فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما، وفي رواية بن حجر فإني قد أنزلت عبادا لي لا يدي لأحد بقتالهم) [رواه مسلم].
ومن ذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه، (لما كان ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم لقي إبراهيم وموسى وعيسى - عليهم السلام - فتذاكروا الساعة إلى أن قال : فردوا الحديث إلى عيسى ، فذكر قتل الدجال ثم قال : ثم يرجع الناس إلى بلادهم فيستقبلهم يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون لا يمرون بماء إلا شربوه ولا بشيء إلا أفسدوه . يجأرون إلي فأدعو الله فيميتهم فتجوى الأرض من ريحهم ، فيجأرون إلي فأدعو الله فيرسل السماء بالماء فيحملهم فيقذف بأجسامهم في البحر) [رواه ابن ماجه في سننه، والحاكم في المستدرك].
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه : (ويخرجون على الناس فيستقون المياه ويفر الناس منهم فيرمون سهامهم في السماء فترجع مخضبة بالدماء فيقولون : قهرنا أهل الأرض وغلبنا من في السماء قوة وعلوا ، قال : فيبعث الله عز وجل عليهم نغفا في أقفائهم ، قال : فيهلكهم ، والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتبطر وتشكر شكرا وتسكر سكرا من لحومهم) [رواه الحاكم في المستدرك].
فما ذكرنا من آيات القرآن، وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، يزيد من يقيننا بظهور يأجوج ومأجوج، وبأنهم كانوا في الزمن الماضي، وخروجهم في المستقبل علامة من علامات القيامة الكبرى، وأنهم الآن في السد، الذي صنعه لهم ذو القرنين -كما مر- ويدل على بقاء السد، وعدم دكه ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في السد قال : (يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يخرقونه قال الذي عليهم : ارجعوا فستخرقونه غدا ، قال : فيعيده الله عز وجل كأشد ما كان حتى إذا بلغوا مدتهم وأراد الله تعالى أن يبعثهم على الناس قال الذي عليهم : ارجعوا فستخرقونه غدا إن شاء الله تعالى واستثنى ، قال : فيرجعون وهو كهيئته حين تركوه فيخرقونه ويخرجون على الناس ، فيستقون المياه ويفر الناس منهم) [رواه الترمذي في سننه، والحاكم في المستدرك].
قال الحافظ ابن حجر : (قال ابن العربي -رحمه الله- : في هذا الحديث ثلاث آيات : الأولى : أن الله منحهم أن يوالوا الحفر ليلا ونهارا ، والثانية : منعهم أن يحاولوا الرقي على السد بسلم أو آلة فلم يلهمهم ذلك ولا علمهم إياه، الثالثة : أنه صدهم عن أن يقولوا : إن شاء الله حتى يجيء الوقت المحدد) [فتح الباري].
هذا ما يجب معرفته والإيمان به من خبر يأجوج ومأجوج، حيث دل عليه قرآن ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ومع العلامة الرابعة، وهي خروج دابة الأرض تكلم الناس.
رابعا : خروج الدابة تكلم الناس :
يؤمن المسلمون بأن من علامات يوم القيامة خروج دابة تكلم الناس بلغتهم، والدابة في اللغة كل ما يدب على الأرض، ولقد اقتصر استعمالها على الحيوانات، وقد ذكر ربنا سبحانه وتعالى خروج الدابة في كتابه فقال : (وَإِذَا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ) [النمل :82].
وخروجها علامة خطيرة، وذلك لانغلاق باب قبول التوبة والإيمان بظهورها، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق، حيث قال : (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرًا، طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض) [رواه مسلم].
هيئة الدابة :
ورغم أن الحديث عن هيئة ليس من أساس الاعتقاد في باب الإيمان بالغيب أو علامات الساعة، إلا أننا نذكره لتميم الفائدة، فقد اختلف العلماء في هيئة الدابة، وذهبوا إلى عدة أقوال:
القول الأول : أنها فصيل ناقة صالح، قال القرطبي : (أولى الأقوال أنها فصيل ناقة صالح وهو أصحها، والله أعلم) ، واستدل بحديث أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عن حذيفة قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة فقال : «لها ثلاث خرجات من الدهر، فتخرج في أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية - يعني مكة - ثم تكمن زمنا طويلا، ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك فيفشو ذكرها في البادية، ويدخل ذكرها القرية، يعني مكة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة خيرها وأكرمها على الله المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام تنفض رأسها عن التراب فتركض الناس منها شتى ومعا، وتثبت عصابة من المؤمنين عرفوا أنهم لم يعجزوا الله فبدأت بهم، فجلت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري، وولت في الأرض لا يدركها طالب ولا ينجو منها هارب حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه، فتقول : يا فلان : الآن تصلي !؟ فتقبل عليه فتسمه في وجهه، ثم ينطلق ويشترك الناس في الأموال، ويصطحبون في الأمصار يعرف المؤمن من الكافر، حتى إن المؤمن يقول يا كافر أقضني حقي وحتى إن الكافر يقول يا مؤمن أقضني حقي» [رواه الطيالسي في مسنده]
وفي الحديث أنها ترغو، والرغاء للإبل. قال القرطبي: «وقد قيل إن الدابة التي تخرج هي الفصيل الذي كان لناقة صالح عليه السلام، فلما قتلت الناقة هرب الفصيل بنفسه فانفتح له الحجر فدخل فيه ثم انطبق عليه، فهو فيه إلى وقت خروجه، حتى يخرج بإذن الله تعالى» [التذكرة]
القول الثاني : أنها دابة جمعت من خلق كل حيوان.
القول الثالث : أنها إنسان متكلم يناظر أهل البدع والكفر ويجادلهم حتى يتبين الصادق من الكاذب فيحيا من حيَّ عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، وهو قول بعيد ليس عليه دليل، بل جاءت الأدلة بخلافه.
القول الرابع : أنها الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعتها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة.
القول الخامس : أنها دابة مزغبة شعراء ذات قوائم، طولها ستون ذراعا، ويقال : إنها الجساسة المذكورة في حديث تميم الداري رضي الله عنه والذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها، وسميت بالجساسة ؛ لأنها تجس الأخبار للدجال.
وكما اختلف العلماء في حقيقة الدابة وهيئتها، اختلفوا كذلك في موطن خروجها في مكان خروج الدابة إلى عدة أقوال :
قال القرطبي : « واختلف من أي موضع تخرج، فقال عبدالله بن عمر: تخرج من جبل الصفا بمكة؛ يتصدع فتخرج منه. قال عبدالله ابن عمرو نحوه وقال: لو شئت أن أضع قدمي على موضع خروجها لفعلت وروي في خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الأرض تنشق عن الدابة وعيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون من ناحية المسعى، وإنها تخرج من الصفا فتسم بين عيني المؤمن هو مؤمن سمة كأنها كوكب دري وتسم بين عيني الكافر نكتة سوداء كافر) وذكر في الخبر أنها ذات وبر وريش؛ ذكره المهدوي. وعن ابن عباس أنها تخرج من شعب فتمس رأسها السحاب ورجلاها في الأرض لم تخرجا، وتخرج ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام.
وعن حذيفة: تخرج ثلاث خرجات؛ خرجة في بعض البوادي ثم تكمن، وخرجة في القرى يتقاتل فيها الأمراء حتى تكثر الدماء، وخرجة من أعظم المساجد وأكرمها وأشرفها وأفضلها الزمخشري: تخرج من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد؛ فقوم يهربون، وقوم يقفون نظارة. وروي عن قتادة أنها تخرج في تهامة.
وروي أنها تخرج من مسجد الكوفة من حيث فار تنور نوح عليه السلام. وقيل: من أرض الطائف؛ قال أبو قبيل: ضرب عبدالله بن عمرو أرض الطائف برجله وقال: من هنا تخرج الدابة التي تكلم الناس وقيل: من بعض أودية تهامة؛ قال ابن عباس وقيل: من صخرة من شعب أجياد؛ قال عبدالله بن عمرو. وقيل: من بحر سدوم؛ قال وهب بن منبه. ذكر هذه الأقوال الثلاثة الأخيرة الماوردي في كتابه. وذكر البغوي أبو القاسم عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز قال: حدثنا علي بن الجعد عن فضيل بن مرزوق الرقاشي الأغر - وسئل عنه يحيى بن معين فقال ثقة - عن عطية العوفي عن ابن عمر قال تخرج الدابة من صدع في الكعبة كجري الفرس ثلاثة أيام لا يخرج ثلثها) [تفسير القرطبي].
ويمكن أن نجمل الأقوال السابقة في قولين :
الأول : أنها تخرج من جبل الصفا أو من المسجد الحرام بمكة المكرمة.
الثاني : أن لها خرجات، الأولى من أقصى البادية، ثم تختفي، ثم تخرج من بعض أودية تهامة، ويصدق عليها أنه من وراء مكة، وفي المرة الأخيرة تخرج من مكة. وعلى هذا القول يمكن جمع الأقوال المختلفة في ذلك.
ماذا تفعل الدابة بعد خروجها ؟
بعد أن تعرفنا على هيئة الدابة، ومكان خروجها، بقي لنا أن نعرف ماذا تفعل هذه الدابة مع الناس عند خروجها قبل يوم القيامة، فقد ورد في الأحاديث أنها تسم الناس المؤمن والكافر. قال ابن كثير : «وعن ابن عباس : تكلمهم، تجرحهم، يعني تكتب على جبين الكافر كافر، وعلى جبين المؤمن مؤمن، ومنه تخاطبهم، وتخرجهم، وهذا القول ينتظم من مذهبين وهو قوي حسن جامع، والله تعالى أعلم» [تفسير ابن كثير]
فعملها يتخلص في أنها دابة تكلم الناس، وأنها تسم المؤمن بعلامة وتجلو وجهه حتى ينير. وأنها تسم الكافر بعلامة قيل : هي خطم الأنف. قال ابن الأثير : يعني تصيبه فتجعل له أثرا مثل أثر الخطام.
والذي يجب على المؤمن في هذا الشأن أن يؤمن بخروج مخلوق من مخلوقات الله يكلم الناس، وأن هذا الخروج علامة على اقتراب الساعة، نسأل الله أن يرزقنا النجاة من الفتن، وحسن الخاتمة.
ونذكر في المقال المقبل العلامة الخامسة وهي الدخان الذي يكون في آخر الزمان. (يتبع)
استكمالا للحديث عن علامة نزول سيدنا عيسى عليه السلام في آخر الزمان كإحدى علامات القيامة، وبعد أن ذكرنا حديثين في هذا الشأن نذكر أحاديث أخرى، ومنها ما رواه أبو هريرة –رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم ؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه : رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، عليه ثوبان ممصران، كأن رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلل، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال، ثم تقع الأمنة على الأرض، حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم، فيمكث أربعين سنة، ثم يتوفى، ويصلي عليه المسلمون) [رواه ابن حبان، وأصله في البخاري ومسلم].
وقد أورد الحافظ ابن كثير –رحمه الله- هذه الأحاديث وعقبها بقوله : (فهذه أحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة وابن مسعود، وعثمان بن أبي العاص، والنواس بن سمعان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومجمع بن جارية، وأبي سريحة حذيفة بن أسيد رضي الله عنهم، وفيها دلالة على صفة نزوله ومكانه، وأنه بالشام، بل بدمشق عند المنارة الشرقية، وأن ذلك يكون عند الإقامة لصلاة الصبح، وقد بنيت في هذه الأعصار في سنة إحدى وأربعين وسبع مئة منارة للجامع الأموي بيضاء من حجارة منحوتة عرضا عن المنارة التي هدمت بسبب الحريق المنسوب إلى صنيع النصارى .... إلى أن قال (وقويت الظنون أنها هي التي ينزل عليها المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام) [تفسير ابن كثير]
فمكان نزول سيدنا عيسى عليه السلام على منارة شرق دمشق ورجح ابن كثير أنها منارة الجامع الأموي -كما مر- وسوف يشهد زمان بقاء سيدنا عيسى عليه السلام على الأرض أحداث عظام، منها قتل الدجال، وقتال اليهود وهلاكهم، وهلاك يأجوج ومأجوج.
وسوف نبين تلك الأحاديث تفصيلا :
1- قتل الدجال، وقتال اليهود وهزيمتهم :
يخرج الدجال بعد ظهور المهدي، وقبل نزول سيدنا عيسى عليه السلام، ويفتن الناس، وقد سبق الحديث عنه، ثم يبعث الله سيدنا عيسى عليه السلام، فينزل على منارة بيضاء شرق دمشق، في وقت صلاة الصبح، فيصلي مع المسلمين خلف المهدي –كما مر- ثم يحارب الدجال ويقتله، ويقاتل المسلمون اليهود وهم أتباع الدجال يومئذ، فيهرب اليهود خلف الأحجار والأشجار، فيخبر عنهم كل شيء إلا نوع من الشجر يسمى الغرقد، وقد دل على تلك الأحداث أحاديث كثيرة، منها ما في حديث أبي أمامة الطويل الذي يصف الدجال : (فقالت أم شريك بنت أبي العكر يا رسول الله فأين العرب يومئذ ؟ قال هم يومئذ قليل، وجلهم ببيت المقدس، وإمامهم رجل صالح، فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح، إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم الصبح، فرجع ذلك الإمام ينكص يمشي القهقرى ليتقدم عيسى، فيضع عيسى يده بين كتفيه، ثم يقول له : تقدم فصل، فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم، فإذا انصرف قال عيسى : افتحوا الباب، فيفتحون ووراءه الدجال، معه سبعون ألف يهودي، كلهم ذو سيف محلى وساج، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، وينطلق هاربا، فيقول عيسى عليه السلام : إن لي فيك ضربة لن تسبقني بها، فيدركه عند باب لد الشرقي، فيقتله، فيهزم الله اليهود، فلا يبقى شيء مما خلق الله عز وجل ليتوارى به يهودي إلا أنطق ذلك الشيء، لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة إلا الغرقدة، فإنها من شجرهم لا تنطق، إلا قال : يا عبد الله المسلم هذا يهودي فتعال اقتله) [رواه ابن ماجه في سننه].
2- هلاك يأجوج ومأجوج :
خروج يأجوج ومأجوج علامة مستقلة من علامات يوم القيامة سوف نتكلم عنها بالتفصيل، وما نريد ذكره هنا أنهم من المفسدين في الأرض وأن هلاكهم سيكون في زمن سيدنا عيسى عليه السلام بعد نزوله، ويكون هلاكهم بسبب دعاءه عليه السلام ودعاء أتباعه من المسلمين، وصح ذلك من حديث النواس بن سمعان، وفيه :
(ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم، فيقولون : لقد كان بهذه مرة ماء، ويحصر نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار، فيرغب نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى، كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة، ثم يقال للأرض أنبتي ثمرتك، وردي بركتك، فيومئذ كل العصابة من الرمانة، ويستظلون بقحفها، ويبارك في الرسل، حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك، إذ بعث الله ريحا طيبا، فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن ومسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة) [رواه مسلم].
موت عيسى عليه السلام ودفنه :
يموت سيدنا عيسى عليه السلام بين المسلمين، ويدفنه المسلمون في روضة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث بقي موضع قبر، فقد روى الترمذي عن عبد الله بن سلام عن أبيه عن جده قال : (مكتوب في التوراة صفة محمد وصفة عيسى بن مريم يدفن معه، قال : فقال أبو مودود : وقد بقي في البيت موضع قبر).
وموته عليه السلام بداية فساد الأرض، وقبض المسلمين، حتى تأتي باقي علامات الساعة على أشرار الناس، نسأل الله أن يحفظنا وينجينا.
وبهذا نكون قد فصلنا القول في بيان علامة نزول سيدنا عيسى عليه السلام، وقد وصلنا إلى العلامة الثالثة وهي خروج يأجوج ومأجوج.
ثالثا : خروج يأجوج ومأجوج :
معنى يأجوج ومأجوج :
اختلف اللغويين في تفسير معنى يأجوج ومأجوج، وذلك للاختلاف في أصل الكلمتين، فقيل : هما اسمان أعجميان منعا من الصرف للعلمية والعجمة، وعليه فليس لهما اشتقاق.
وقيل : بل هما عربيان، وعلى هذا القول اختلف في اشتقاقهما، فقيل : من أجيج النار وهو التهابها، وقيل : من الأجاج وهو الماء الشديد الملوحة، وقيل : من الأج وهو سرعة العدو، وقيل : من الأجة بالتشديد وهي الاختلاط والاضطراب .
وقرأ جمهور القراء ياجوج وماجوج بدون همز، وأما قراءة عاصم فهي بالهمزة الساكنة فيهما. ويبدو أن جميع ما ذكر في اشتقاقهما مناسب لحالهم، ويؤيد الاشتقاق من ماج قوله تعالى : (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) [الكهف :99] . وذلك حين يخرجون من السد.
من هم يأجوج ومأجوج ؟
يأجوج ومأجوج من بني آدم من نسل يافث بن نوح، وهو أبو الترك، قال الحافظ ابن حجر : (ويأجوج ومأجوج قبيلتان من ولد يافث بن نوح، روى بن مردويه والحاكم من حديث حذيفة مرفوعا : (يأجوج أمة، ومأجوج أمة، كل أمة أربعمائة ألف رجل، لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف رجل من صلبه، كلهم قد حمل السلاح، لا يمرون على شيء إذا خرجوا إلا أكلوه ويأكلون من مات منهم) [فتح الباري]
فهما من ولد آدم وحواء، ويؤيد ذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل يوم القيامة : يا آدم ، يقول : لبيك ربنا وسعديك ، فينادى بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار ، قال : يا رب ، وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف ( أراه قال ) تسعمائة وتسعة وتسعين ، فحينئذ تضع الحامل حملها ، ويشيب الوليد ، (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) . فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد، ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبرنا، ثم قال : ثلث أهل الجنة، فكبرنا، ثم قال : شطر أهل الجنة فكبرنا) [رواه البخاري ومسلم].
وبداية ذكر يأجوج ومأجوج في القرآن كان في سورة الكهف، في قصة ذلك الملك الصالح الذي سماه القرآن ذا القرنين، فهيا بنا نعرف شيئا من قصته.
لقد كان هناك ملك صالح يدعى بذي القرنين، وقيل إنه قوروش الفارسي، وليس كما اشتهر أنه إسكندر المقدوني، وذلك لأن الإسكندر لم يكن موحدًا، وإنما كان من المشركين، وهذا الرجل الصالح فتح الله عليه البلاد، وحكم فيها بالعدل كما أراه الله سبحانه وتعالى.
فبدأ ذو القرنين فتوحاته بجيشه في الأرض، متجها إلى الغرب، حتى وصل للمكان الذي تبدو فيه الشمس كأنها تغيب من وراءه. وربما يكون هذا المكان هو شاطئ المحيط الأطلسي، حيث كان يظن الناس ألا يابسة وراءه. فألهمه الله – أو أوحى إليه- أنه مالك أمر القوم الذين يسكنون هذه الديار، فإما أن يعذهم أو أن يحسن إليهم.
فرأى ذو القرنين أن يعاقب المعتدين الظالمين في الدنيا، ثم حسابهم على الله يوم القيامة. أما من آمن، فسيكرمه ويحسن إليه.
وبعد أن انتهى ذو القرنين من أمر الغرب، توجه للشرق. فوصل لأول منطقة تطلع عليها الشمس. وكانت أرضًا مكشوفة لا أشجار فيها ولا مرتفات تحجب الشمس عن أهلها. فحكم ذو القرنين في المشرق بنفس حكمه في المغرب، ثم انطلق حتى وصل إلى قوم يعيشون بين جبلين أو سدّين بينهما فجوة، فلما وجدوه ملكا قويًا طلبوا منه أن يساعدهم في صد يأجوج ومأجوج بأن يبني لهم سدا لهذه الفجوة، مقابل خراج من المال يدفعونه له، فوافق ذو القرنين على بناء السد، لكنه زهد في مالهم، واكتفى بطلب مساعدتهم في العمل على بناء السد وردم الفجوة بين الجبلين.
استخدم ذو القرنين وسيلة هندسية مميزة لبناء السّد. فقام أولا بجمع قطع الحديد ووضعها في الفتحة حتى تساوى الركام مع قمتي الجبلين. ثم أوقد النار على الحديد، وسكب عليه نحاسا مذابا ليلتحم وتشتد صلابته. فسدّت الفجوة، وانقطع الطريق على يأجوج ومأجوج، فلم يتمكنوا من هدم السّد ولا تسوّره. وأمن القوم الضعفاء من شرّهم.
بعد أن انتهى ذو القرنين، نظر للسّد، وحمد الله على نعمته، وردّ الفضل والتوفيق في هذا العمل لله سبحانه وتعالى، فلم تأخذه العزة، ولم يسكن الغرور قلبه.
فيأجوج ومأجوج قوم مفسدون في الأرض استغاث جيرانهم منهم، وطلبوا من ذي القرنين مساعدتهم في عزلهم عنهم، فاستجاب لهم بما ذكرنا، ومن علامات يوم القيامة أن يفتح عليهم السد ويخرجون من عزلتهم ويسعون في الأرض فسادًا.
وقد ورد ذكر يأجوج ومأجوج في القرآن في موضع آخر، قال تعالى : (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) [الكهف : 93 : 98].
وفي موضع أخير، قال سبحانه : (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ) [الأنبياء : 96، 97]
فهذه هي المواضع التي تحدثت عن يأجوج ومأجوج في القرآن، وفيها إشارة واضحة لخروجهم، وأن هذا الخروج من علامات يوم القيامة، وفي لقاءنا المقبل نتكلم عن ذكر السنة الشريفة لهم. (يتبع)
ما زلنا في فتنة الدجال، وقد وصلنا إلى آخر مسألة في الحديث عنها، وهي هل الدجال هو ابن صياد الذي أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يبلغ الحلم ؟
اختلف العلماء في تلك المسألة، وذلك لما روي من أحاديث صحيحة في هذا المعنى فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط قبل ابن صياد حتى وجده يلعب مع الصبيان عند أطم بني مغالة، وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم، فلم يشعر حتى ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره بيده، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن صياد : (أتشهد أني رسول الله ؟ فنظر إليه ابن صياد، فقال : أشهد أنك رسول الأميين، فقال ابن صياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتشهد أني رسول الله ؟ فرفضه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (آمنت بالله وبرسله)، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ماذا ترى ؟ قال ابن صياد : يأتيني صادق وكاذب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : خلط عليك الأمر، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني خبأت لك خبيئا، فقال ابن صياد : هو الدخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : اخسأ فلن تعدو قدرك. فقال عمر بن الخطاب : ذرني يا رسول الله أن أضرب عنقه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن يكنه فلن تسلط عليه، وإن لا يكنه فلا خير لك في قتله) [رواه البخاري ومسلم].
وقال سالم بن عبد الله : سمعت عبد الله بن عمر يقول : انطلق بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بن كعب الأنصاري إلى النخل التي فيها ابن صياد حتى إذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل طفق يتقي بجذوع النخل وهو يختل أن يسمع من ابن صياد شيئا قبل أن يراه ابن صياد، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على فراش في قطيفة له فيها زمزمة، فرأت أم ابن صياد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتقي بجذوع، فقالت لابن صياد : يا صاف ( وهو اسم ابن صياد ) هذا محمد، فثار ابن صياد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو تركته بين. [رواه البخاري ومسلم]
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : (خرجنا حجاجا أو عمارا ومعنا ابن صياد، قال : فنزلنا منزلا، فتفرق الناس وبقيت أنا وهو. فاستوحشت منه وحشة شديدة مما يقال عليه، قال : وجاء بمتاعه فوضعه مع متاعي، فقلت : إن الحر شديد، فلو وضعته تحت تلك الشجرة. قال : ففعل، قال : فرفعت لنا غنم، فانطلق فجاء بعس فقال : اشرب أبا سعيد ! فقلت : إن الحر شديد واللبن حار، ما بي إلا أني أكره أن أشرب عن يده - أو قال آخذ عن يده - فقال : أبا سعيد ! لقد هممت أن آخذ حبلا فأعلقه بشجرة ثم أختنق مما يقول لي الناس، يا أبا سعيد : من خفي عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي عليكم معشر الأنصار، ألست من أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو عقيم لا يولد له، وقد تركت ولدي بالمدينة ؟ أو ليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يدخل المدينة ولا مكة، وقد أقبلت من المدينة، وأنا أريد مكة ؟. قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : حتى كدت أن أعذره، ثم قال : أما والله إني لأعرف مولده وأين هو الآن. قال : قلت له : تبا لك سائر اليوم) [رواه مسلم].
والصحيح أن ابن صياد قد يكون من الدجاجلة ولكن ليس هو الدجال الأكبر، وذلك لحديث تميم الداري السابق فيه أن الدجال الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان غير ابن صياد، فابن صياد أدركه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لم يبلغ الحلم، وتميم لقي رجلاً كبيرا، عظيم الخلق، مسجونا في جزيرة من جزائر البحر موثقا بالحديد يستفهم عن خبر النبي صلى الله عليه وسلم هل خرج أو لا، فالجمع بينهما بعيد.
قال النووي : (قال العلماء : وقصته مشكلة وأمره مشتبه في أنه هل هو المسيح الدجال المشهور أم غيره، ولا شك في أنه دجال من الدجاجلة. قال العلماء : وظاهر الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوصف إليه بأنه المسيح الدجال ولا غيره، وإنما أوحي إليه بصفات الدجال، وكان في ابن صياد قرائن محتملة، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقطع بأنه الدجال ولا غيره، ولهذا قال لعمر رضي الله عنه : إن يكن هو فلن تستطيع قتله.
وأما احتجاجه هو بأنه مسلم والدجال كافر، وبأنه لا يولد للدجال وقد ولد له هو، وأنه لا يدخل مكة والمدينة وأن ابن صياد دخل المدينة وهو متوجه إلى مكة، فلا دلالة له فيه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن صفاته وقت فتنته وخروجه في الأرض، ومن اشتباه قصته وكونه أحد الدجاجلة الكذابين قوله للنبي صلى الله عليه وسلم : أتشهد أني رسول الله ؟ ودعواه أنه يأتيه صادق وكاذب، وأنه يرى عرشا فوق الماء، وأنه لا يكره أن يكون هو الدجال، وأنه يعرف موضعه، وقوله : إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو الآن، وانتفاخه حتى ملأ السكة، وأما إظهاره الإسلام وحجه وجهاده وإقلاعه عما كان عليه فليس بصريح في أنه غير الدجال) [شرح مسلم للنووي].
وبهذا نكون قد علمنا علامة ظهور الدجال وفتنته، واختلاف العلماء في حقيقته. وفيما يلي نتكلم عن العلامة الثانية من العلامات الكبرى.
ثانيا : نزول سيدنا عيسى عليه السلام :
أشار القرآن الكريم إلى نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان في أكثر من موضع، منها قوله تعالى : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِى إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلائِكَةً فِى الأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) [الزخرف : 57 : 61].
قال القرطبي في تفسير قوله (وإنه لعلم للساعة) : (وقال ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وقتادة أيضا :إنه خروج عيسى -عليه السلام- وذلك من أعلام الساعة؛ لأن الله ينزله من السماء قبيل قيام الساعة، كما أن خروج الدجال من أعلام الساعة، وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وقتادة ومالك بن دينار والضحاك : (وإنه لعلم للساعة) بفتح العين واللام أي أمارة) [تفسير القرطبي] وقد روى ذلك المعنى عن ابن عباس –رضي الله عنه- الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في المستدرك.
ومن المواضع التي أشار فيها القرآن الكريم إلى نزول سيدنا عيسى عليه السلام، قوله تعالى : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) [النساء :157 : 159].
يقول ابن كثير : (ولا شك أن هذا هو الصحيح ؛ لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك، وإنما شبه لهم، فقتلوا الشبه وهم لا يتبينون ذلك، فأخبر الله أنه رفعه إليه، وأنه باق حي، وأنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة التي سنوردها إن شاء الله قريبا، فيقتل مسيح الضلالة، ويكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، يعني : لا يقبلها من أحد من أهل الأديان، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم؛ ولهذا قال (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته) أي قبل موت عيسى عليه السلام الذي زعم اليهود ومن وافقهم من النصارى أنه قتل وصلب، ويوم القيامة يكون عليهم (كلاهما) أي بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء، وبعد نزوله إلى الأرض) [تفسير ابن كثير].
وجاء في التصريح بنزوله الأحاديث المتواترة، وقد ذكرت في الحديث عن الدجال جزءا من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه، وباقي ذلك الحديث يشير إلى نزول عيسى عليه السلام، ففيه قال : (ثم يدعو (أي الدجال) رجلا ممتلئا شبابا، فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين، رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل، ويتهلل وجهه يضحك، فبينما هو كذلك، إذ بعث الله المسيح ابن مريم عليه السلام، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لد، فيقتله، ثم يأتي عيسى ابن مريم قوما قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم : إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم، فيقولون : لقد كان بهذه مرة ماء، ويحصر نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار، فيرغب نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى، كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة، ثم يقال للأرض أنبتي ثمرتك، وردي بركتك، فيومئذ كل العصابة من الرمانة، ويستظلون بقحفها، ويبارك في الرسل، حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك، إذ بعث الله ريحا طيبا، فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن ومسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة) [رواه مسلم].
ومن تلك الأحاديث ما رواه أبو هريرة –رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال : (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، لا يقبلها من كافر، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها) [رواه البخاري].
وما رواه جابر بن عبد الله –رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال : (" لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة "، قال : " فينزل عيسى ابن مريم عليه السلام فيقول أميرهم : تعال صل لنا، فيقول : لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله لهذه الأمة) [رواه مسلم]. (يتبع)