أمرنا الله سبحانه وتعالى بالوحدة وحثنا عليها فقال سبحانه : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا) [آل عمران :103]، ونهانا عن الفرقة فقال تعالى : (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران :105]، وبين لنا -سبحانه- أن أمر إقامة الدين وعدم الفرقة فيه، هو وصايا الأنبياء السابقين، وهو شرع الأمة الإسلامية الخاتمة التي تؤمن بجميع الأنبياء، فقال سبحانه : (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) [الشورى :13].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فيلزم الجماعة» [رواه أحمد والترمذي]، ونهى صلى الله عليه وسلم عن الفرقة فقال : «فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية» [رواه الحاكم في المستدرك].
وضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً لوحدة المسلمين فقال : «ترى المؤمنين في تراحمهم، وتوادهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو، تداعى لها سائر الجسد بالسهر والحمى» [رواه البخاري ومسلم].
وإذا نظرنا لواقع المسلمين وخاصة العرب منهم سنجد كل مقومات الوحدة والتكامل، فهم يشتركون في وحدة الدين، ووحدة الجنس البشري، ووحدة اللغة، ووحدة المصير، والوحدة الجغرافية، ووحدة التاريخ.
ولكننا في المقابل إذا نظرنا لمعوقات الوحدة بينهم فسنجدها كثيرة منها :
1- الكسل والسلبية : الكسل هو الميل إلى العجز عن أداء المهام، والرغبة في ترك الواجبات، وهو أحد عوائق الإنجاز والنجاح والتقدم، وهو ضد النشاط، وينبغي للمسلم أن ينفض الكسل عنه، ويحرص أن يكون نشيطًا، فالكسل خلق قبيح، ومرض شديد، وعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستعين بالله عليه، ونستعيذ بالله منه، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل» [رواه البخاري ومسلم].
ويتخلص الإنسان من هذا المرض المعطل، بذكر الله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك بأن يضع أمام عينه دائمًا ثمار النجاح، فمن كسل عن أداء واجباته عليه أن يتذكر فرحة النجاح والتفوق وتحقيق المستقبل الباهر، فإن ذلك ينشطه على إنجاز الأحلام مهما كانت صعبة.
والسلبية مرض خطير يصيب الإرادة البشرية، وينبع من عدم إدراك الإنسان لقيمته، ولاستخفافه بأثر كلمته، وخوفه من المواجهة، فالسلبي لا يظهر اتجاهه وينتظر التوجيه من غيره، والسلبي جبان لا يقوى على مواجهة الأمور، والسلبي غير متفاعل مع الأحداث فلا ينكر المنكر، ولا يشيد بالمعروف ويأمر به، ولا يؤيد الصلاح، ولا يعارض الفساد، فهو خامل لا أثر له.
وعندما تصاب أمة في أغلب شعوبها بالسلبية والكسل، فلا نستبعد ما وصلنا إليه من ضعف وفرقة، ولا نتساءل كثيرًا لماذا نحن هكذا ؟ فإن لم يكن غير الكسل والسلبية من معوقات لكفى، فما بالك وهناك أسباب أخرى كثيرة.
وتعالج السلبية، بالتوعية وإعلام الناس بقيمتهم، وإعلامهم أن كل الأجهزة والأنظمة وكل الكون ينتظر مشاركتهم، لأنهم أساس وجود هذه الأنظمة والأجهزة، وبزيادة الثقافة والتعليم، نسأل الله أن يعافي الأمة من هذين المرضين العضال.
2- سيادة عقلية الانطباع وعدم التوثيق : وهي ظاهرة تغذيها وسائل الإعلام في عصرنا الحديث، إلا من رحم ربك، مما يكون تلك العقلية المرفوضة مع ما نراه ونعرفه من أن أغلب الناس لا يتوثقون التوثق الذي تعلمناه حين نقل القرآن ونقلت السنة ونقل الفقه والعلم إلى من بعدنا، والتوثيق ثقافة يجب أن تشيع حتى نصل إلى العقلية العلمية ونخرج من عقلية الخرافة والانطباعات الهشة.
وقد علمنا الإسلام التوثيق في النقل فأكد الكتاب الكريم ذلك وأرشد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتباعه إليه ورباهم عليه، ثم أخذ المسلمون قضية التوثيق كجزء مهم من منهجهم العلمي في التعامل مع النصوص والتعامل مع الواقع والتعامل مع الحياة، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات :6] وفي قراءة حمزة والكسائي وخلف -المتواترة- فتثبتوا.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) [رواه البخاري ومسلم]، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم : (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) [البخاري ومسلم] ويقول أيضا في شأن الشهادة : (أرأيت الشمس فعلى مثلها فاشهد) [رواه البيهقي في الشعب] وينبه أصحابه إلى خطورة الكلمة التي تخرج عن هوى أو عن رأي شخصي يسيطر عليه الانطباع ومدى تأثير مثل هذه الكلمة على الناس، وعلى قلوبهم، وهو صلى الله عليه وآله وسلم الإنسان الكامل، والمثل الأعلى للبشرية كلها : (لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا فإني أحب أخرج إليكم وأنا سليم الصدر) [رواه أحمد والبيهقي في الكبرى].
ويقول صلى الله عليه وآله وسلم لبيان أمانة الكلمة : (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق) [أخرجه البخاري] وفي ذات السياق يأمرنا الإسلام كتابًا وسنة، بإحسان الظن بالناس، فيقول تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات :12]. وقد وبخ الله قومًا بسبب سوء الظن، فقال تعالى : (وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا) [الفتح :12].
3- عدم إدراك الواقع : وعدم إدراك الواقع شاع ليس فقط بين شعوب الأمة، بل بين نخبتها ومثقفيها، مما جعلهم يتخبطون في الآراء والأقوال تجاه أي ظاهرة أو معالجة مشكلة، أو بصدد التعامل مع أمر جديد، فهم لا يرون أن تغير الزمان والمكان يؤثر في الحال ويغير الأوضاع، وينسون أن المؤمن ينبغي أن يكون مدركا لشانه عالما بزمانه، فإن غياب إدراك تأثير أحد هذه المكونات الأساسية عن الذهن تسبب خللا، فما بلك لو غاب إدراك تأثير كل تلك المكونات
ولذا أرى أن واجب وقتنا هو بناء أداة لإدراك الواقع، وبتأمل الواقع نجد سمات أساسية واضحة تصل إلى ثلاثين سمة منها : التجاوز، والجوار، والنسبية، والتغير، والترقب، والتقاطع، والتطور، .... إلخ، وهذه السمات منها السلبي، ومنها الإيجابي، فينبغي أن ندرك أن المساحة السلبية في تلك السمات حتى نتمكن من تنحيتها بقدر الإمكان، أو تفاديها، وكذلك ندرك المساحة الإيجابية التي يمكن أن استعملها لتمكين ديني ومنهجي الذي أمرني الله به.
إدراك الواقع بعوالمه المختلفة جزء من أجزاء تجديد الخطاب الديني، ولابد علينا من تحديد معنى الواقع المعيش الذي نحياه ونتعامل معه، والواقع له عوالم أربعة : عالم الأشياء، عالم الأشخاص، عالم الأحداث، عالم الأفكار، ويمكن أن نضيف إليها كل يوم ما يتناسب مع استقراء الواقع، وتحليل مكوناته.
كما أنه لابد علينا أن ندرك أن هذه العوالم الأربعة في غاية التركب والتداخل، وليست منفصلة بأي صورة من الصور، مما يجعل من إدراك العلاقات البينية بين كل عالم فيها مع العوالم الأخرى جزء لا يتجزأ من فهم الواقع الفهم الدقيق الواضح، وأيضا لابد علينا أن ندرك أن هذه العوالم ليست ثابتة، ولذلك فلابد من تفهمها في تغيرها الدائم المستمر باعتبار أن هذا من سنن الله في كونه (كل يوم هو في شأن) [الرحمن : 29].
2- إن عالم الأشياء يحتاج إلى منهج في التعامل معه مرده إلى العلم التجريبي الذي حقق عند المسلمين وغير المسلمين نجاحا باهرا في تسخير الكون والاستفادة منه وتحصيل القوة في مجال الصحة والحياة اليومية والعلم … إلخ. نحو حياة أفضل، والعلم التجريبي يجب أن نتخذه في ظل مفاهيم واضحة وهي :
(أ) أنه ليس هناك حد للبحث العلمي من أي جهة كانت، فإن الأمر عام ومطلق في شأن تحصيل العلم، وذلك في آيتين حاسمتين الأولى تفيد العموم والأخرى تفيد الإطلاق قال تعالى : (قل سيروا في الأرض فانظروا) [النمل : 69]، فأمر بالسير على عمومه، وبالنظر على عمومه وقال تعالى : (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) [الزمر : 9]، فأطلق العلم ولم يحدد : يعلم ماذا ؟ هل يعلم الكونيات أو الشرعيات أو المفيد أو غير المفيد ؟
(ب) ومن المناسب أن ننبه أن العلم في لغة القرآن هو ذلك الذي يوصل إلى الله تعالى : (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [فاطر : 28]، والعلماء جمع عليم، وليس جمع عالم، فجمع عالم عالمون وجمع عليم علماء، مثل حكيم وحكماء، وخبير وخبراء، وفقيه وفقهاء، قال تعالى : (وفوق كل ذي علم عليم) [يوسف : 76].
(ج) لابد أن يلتزم التطبيق العلمي واستعمال العلم في الحياة بالأخلاق والأوامر والنواهي الربانية التي تريد للإنسان حياة سعيدة قوية تؤدي إلى التعمير ولا تؤدي إلى التدمير، تؤدي إلى حرية الإنسان والاختيار ولا تؤدي إلى سلب إرادته والإجبار، تؤدي إلى المساواة بين البشر ولا تؤدي إلى عبادة بعض البشر للبشر، وهيمنة الشمال على الجنوب، والقوي على الضعيف، فلا نتوصل بالاستنساخ أو الجينوم أو الهندسة الوراثية أو التدخل البيولوجي أو علوم الفضاء إلى الفساد الاجتماعي، أو الهيمنة التي تحصل المصالح لبعضهم على حساب الآخرين، أو تؤدي الخريطة الجينية إلى التسلط على الإرادة والتلاعب بالاختيار.
(د) لابد من التخلص من عقلية الخرافة، وهي العقلية التي لا تفرق بين المجالات المختلفة، ولا تقيم الدليل المناسب لإثبات القضية محل النظر، ولا تتبع منهجًا واضحًا محددًا من قبل في التعامل مع الحقائق، ولا تعتمد مصادر للمعرفة، وهذه العقلية الخرافية التي نريد أن نتخلص منها لابد أن يكون ذلك في مجال الحس، ومجال العقل، ومجال الشرع، فهذه المناهج المختلفة التي تدعو إلى الانتحار أو الانبهار أو الاجترار أو الانحسار أو الاغترار منهاج مرفوضة، فمنهج الانتحار الذي يؤدي إلى التكفير المؤدي في نهاية الطريق إلى التدمير والتفجير مرفوض، ومنهج الانبهار بالآخر والتعدي على مصادر الشرع من كل غير متخصص بين الإفراط والتفريط حتى يخرج علينا من ينكر الإجماع، أو يخرج عن مقتضيات اللغة، أو عن هوية الإسلام أو يحول الإسلام إلى لاهوت التحرر أو لاهوت العولمة.
ومنهج الانحسار الانعزالي الذي يؤدي إلى الفرار من الواقع الذي يشبه الفرار يوم الزحف منهج مرفوض أيضا، باعتبار أن مخالطة الناس والصبر عليهم خير عند الله من العزلة قال تعالى : (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) [يوسف : 18] وقال رسول الله صلى الله عليه سلم : (المسلم إذا كان مخالطا للناس ويصبر على آذاهم، خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على آذاهم) [رواه الترمذي، وابن ماجة].
أما منهج الاجترار فإنه يتمثل في التمسك بمسائل التراث تمسكا يحكي صورتها دون الوقوف عند مناهج التراث والتجريد أمامها حتى يمكن تطويرها إن احتاجت إلى تطوير أو الاستفادة بها حتى على حالها إن كانت تصلح لذلك.
فهو منهج (ماضوي) إن صح التعبير يريد بإصرار أن نتغاضى عن واقعنا، وأن نستمر في واقع قد تغيرت عليه الحياة، حتى رأينا كثيرًا من الناس يخرجون من دين الله أفواجا لظنهم أن هذا هو دين الله، وأن دين الله بذلك من طبيعته ألا يصلح لزماننا هذا، وهو وهم خاطئ ومخطئ، خاطئ لأنه مخالف للحق، ومخطئ لأنه مخالف للواقع.
أما منهج الاغترار فنراه عند كثير من خارج الدراسات الدينية الأكاديمية، الذين أقحموا أنفسهم في مجال الكلام في الشرع الشريف تشهيًا لإصلاح الدين بزعمهم، تارة أو للإدلاء بآرائهم التي يرونها مهمة تارة أخرى، وقد نراه أيضا عند الدراسين الدراسات الشرعية في مراحلها الأولى، مع ظن لا يتناسب مع ظن العلماء الراسخين في العلم؛ حيث يعتقدون أن لهم الحق في تجديد الدين غافلين عن قلة بضاعتهم الشرعية من ناحية، والمسافات الشاسعة بينهم وبين إدراك الواقع من ناحية أخرى، وهنا يجدر بنا أن ننبه على فارق مهم بين البحث (في) علم ما وبين الكلام (عن) ذات العلم، والفرق بين (في) و (عن) أن (في) تستلزم استكمال العملية التعليمية بعناصرها الخمسة : الطالب، والأستاذ، والكتاب، والمنهج، والجو العلمي، وهي عملية تهتم بالمعرفة وبالقيم وبتربية الملكات، وتحتاج لكي يبرز نتاجها في الواقع إلى التفرغ والتخصص والأدوات وطول الزمان، بالإضافة إلى الاستعدادات الفطرية من الذكاء باعتباره قوة ربط المعلومات والحرص على تلقي العلم الذي يمكن أن نسميه بالهمة، وبذل الجهد المستمر.
ولقد أشار الشافعي منذ القدم إلى هذا مما يبين أن المنهج العلمي لا يختلف في ذاته وإنما قد يتطور في صياغاته حيث قال :
أخي لن تنال العلم إلا بستة ** سأنبيك عن تأويلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة ** وإرشاد أستاذ وطول زمان
والبلغة تعني التفرغ لطلب العلم، وأن عنده ما يكفيه من الأرزاق، وهو المعني الذي قامت به الأوقاف الإسلامية عبر القرون، فكان من أهم جهاتها الصرف على التعليم، وعلى الصحة وعلى الأمن الداخلي.
وهذا النمط من الاغترار هو أخطر الأنماط؛ لأنه قد حصل شيئا من العلم الشرعي، إلا أنه لم تكتمل أدواته حتى يصل إلى مرتبة المجددين. (يتبع)