لقد حكم النساء بعض الأقطار الإسلامية في أزمنة مختلفة، وإن كانت لم تلقب امرأة في الإسلام باللقب «الخليفة»، ولكونها لقبت بألقاب دون ذلك منها : السلطانة، والملكة، والحرة وخاتون.
ويذكر التاريخ الإسلامي أن هناك أكثر من خمسين امرأة حكمن الأقطار الإسلامية على مر التاريخ بداية من ست الملك إحدى ملكات الفاطميين بمصر، والتي حكمت في بداية القرن الخامس الهجري؛ مروراً بالملكة أسماء والملكة أروى اللتين حكمتا صنعاء في نهاية القرن الخامس الهجري، وزينب النفزاوية في الأندلس، والسلطانة رضية التي تولت الحكم بدلهي في منتصف القرن السابع الهجري، وشجرة الدر التي تولت حكم مصر في القرن السابع كذلك، وعائشة الحرة في الأندلس، وست العرب، وست العجم، وست الوزراء، والشريفة الفاطمية، والغالية الوهابية، والخاتون ختلع تاركان، والخاتون بادشاه، وغزالة الشبيبة، وغيرهن كثير([1]).
فالمرأة في الإسلام كالرجل في أصل التكليف، وأصل الحقوق والواجبات وأن الاختلاف الذي بينهما في ظاهر الحقوق والواجبات من قبيل الوظائف والخصائص، وليس من قبيل تمييز نوع على آخر، فلا يعد اختلاف الوظائف والخصائص انتقاصًا لنوع.
فالمرأة تمتاز بخصائص فكرية وعاطفية وفسيولوجية، وتقوم بوظائف تناسب طبيعتها وتكوينها، فهي الزوجة التي تحمل الحياة، وهي الأم التي تربي المولود وترضعه وتحنو عليه، وهذه الوظائف تتناسب مع خصائصها الفكرية والعاطفية والفسيولوجية، في توافق مبهر مع طبيعة الحقوق التي تتميز بها، والواجبات التي تلزم بها في منظومة متكاملة، تبرز تميز كل نوع عن الآخر، كما تجعله متكاملا معه، مندمجا، ومكونًا معه أولى لبنات المجتمع وهي الأسرة.
ورغم وضوح الصورة إلا أن هناك عدة شبهات تثار دائما حول المرأة، وأن الإسلام يمارس ضدها أنواعًا من التمييز لصالح الرجل، فما هي أهم تلك الشبهات وكيف يرد الإسلام عنها ؟
سوف نجمل الحديث عن أهم تلك الشبهات التي تثار حول وضع المرأة في الإسلام والتي تتمثل في شبهة ظلم المرأة في الميراث، وشبهة انتقاص المرأة في نظام تعدد الزوجات، وشبهة حول نظام الطلاق في الإسلام.
أولا : شبهة ظلم المرأة في الميراث :
من هذه الشبه قضية عدم المساواة في الميراث كدليل على تحيز المسلمين ضد المرأة، وتبين أن التحيز ضد المرأة في قضية الميراث وهم ناتج من تعميم قاعدة ظنوها عامة، وهي تتعلق بحالات خاصة، وهي قاعدة أن للذكر مثل حظ الأنثيين، والتي أخذت من قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) [النساء :11] لأن هذه القاعدة تعلقت بأربع حالات فقط في نظام الميراث الإسلامي الذي هو نظام متكامل.
وباستقراء تلك مسائل الميراث وجدنا أن الحالات التي ترث المرأة مثل الرجل أكثر من عشرة حالات، والحالات التي ترث المرأة أكثر من الرجل تزيد على أربعة عشرة حالة، والحالات التي ترث المرأة ولا يرث الرجل خمس حالات، وفي المقابل أربع حالات يرث الرجل ضعف نصيب المرأة.
ونظام الميراث يعمل أيضًا مع نظم أخرى كنظام النفقة التي أوجبها الإسلام في جميع اتجاهاتها على الرجل، ويعمل أيضًا في ظل استقلال الذمة المالية للمرأة، مما يبرأه من شبهة التحيز في الذهن الغربي.
ثانيا : شبهة حول تعدد الزوجات :
ومن الشبهات كذلك أن في تعدد الزوجات انتقاص لمكانة المرأة وإهدار لحقوقها، ومن باب تصحيح المفاهيم وإرساء الحقائق يجب علينا أن نعلم أن الإسلام جاء بالحد من تعدد الزوجات ولم يأت بتعدد الزوجات كما يظن الآخرون، فعن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « اختر منهن أربعا »([2]). من هذا الحديث يظهر لنا أن الإسلام نص على الحد من كثرة عدد الزوجات، وفي المقابل لم يرد أمر لمن تزوج واحدة بأن يتزوج أخرى؛ وذلك لأن تعدد الزوجات ليس مقصودًا لذاته، وإنما يكون تزوج الرجل مرة أخرى لأسباب ومصالح عامة.
ولم يرد تعدد الزوجات في القرآن الكريم بمعزل عن أسبابه، فالله عز وجل قال : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ([3]) فالذين فسروا الآية الكريمة بشكل مغلوط، يفسرونها بمعزل عن السبب الرئيس الذي أُنْزِلَت لأجله، وهو وجود اليتامى والأرامل؛ إذ إن التعدد ورد مقرونا باليتامى؛ حيث قاموا بانتزاع قوله تعالى: { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } دون القول السابق، والذي صيغ بأسلوب الشرط {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} وكذلك دون القول اللاحق، والذي يقيد تلك الإباحة بالعدل حيث قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} .
فمن ذهب إلى القرآن الكريم لا يجد دعوة مفتوحة صريحة للتعدد دون تلك القيود التي أشرنا إليها، ومن ذهب إلى السنة فسيجد أن الإسلام نهى عن التعدد بأكثر من أربع نساء، وشتان بين أن يكون الإسلام أمر بالتعدد حتى أربع نساء، وبين أن يكون نهى عن الجمع بين أكثر من أربع نساء.
ونظام تعدّد الزوجات كان شائعًا قبل الإسلام بين العرب، وكذلك بين اليهود والفرس، والتاريخ يحدّثنا عن الملوك والسلاطين بأنّهم كانوا يبنون بيوتًا كبيرة تسع أحيانًا لأكثر من ألف شخص لسكن نسائهم من الحرائر والجواري.
وفي شريعة اليهود وفي قوانينهم - حتى الآن- يبيحون تعدد الزوجات، ولا يجرؤ أحد أن يهاجمهم في عقيدتهم ودينهم وشرعهم.
والغريب أن الذين يحاربون نظام الإسلام في السماح للرجل بالزواج مرة أخرى -في ظروف معينة ولمصالح تفيد المجتمع ككل- يعانون من تفكك أسري، وانتشار الفاحشة، وإباحة تعدد العشيقات بلا عدد ولا حد، تلك العشيقة التي لا تتمتع بحقوق الزوجة، وما يترتب عليه من سلبيات اجتماعية كتفشي معنى الخيانة الزوجية والانحراف الأخلاقي، كما لا يتم الاعتراف بها وبأولادها. فهي وحدها التي تتحمل ثمن أجرة الإجهاض أو تعيش غير متزوجة (الأم العازبة) لترعى طفلها غير الشرعي.
التعدد المباح في الغرب هو التعدد في غير إطار، وهو التعدد الذي لا يكفل للمرأة أي حق، بل يستعبدها الرجل، ويقيم معها علاقة غير رسمية ويسلب زهرة حياتها، ثم يرمي بها خارج قلبه وحياته.
هل هذا هو النموذج الذي أراد دعاة تحرير المرأة وحماية حقوقها تطبيقه في مجتمعاتنا وبلادنا، والله تعالى يقول على لسان موسى عليه السلام : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بَالَّذِى هُوَ خَيْرٌ) [البقرة :61].
ثالثا : شبهة الطلاق وإنهاء العلاقة الزوجية :
وشبهة أخرى تتعلق بقضية الطلاق، فإن من المفاهيم الشائعة عن الإسلام أن الرجل وحده هو الذي يملك حق إنهاء العلاقة الزوجية، وهو وحده صاحب قرار الطلاق، وأن المرأة لا تملك هذا الحق، والحقيقة أن الأمر ليس كذلك.
إن التشريع الإسلامي في نظامه الفريد أعطى المرأة حق إنهاء العلاقة الزوجية كما أعطى للرجل ذلك، وجعل لإنهاء العلاقة الزوجية من قبل المرأة عدة أشكال؛ فللمرأة الحق في أن تشترط على زوجها أن تكون العصمة بيدها -بمعنى أن أمر الطلاق لها فتطلق نفسها وقت ما تشاء- وفي هذه الحالة تطلق المرأة نفسها وتستحق جميع حقوقها، وكأن الزوج هو الذي طلقها، فلا ينقص من حقها شيء، ولها كذلك أن تطلب التفريق بينها وبين زوجها للضرر، إذا لحقها منه ضرر بالغ فيفرق بينهما القاضي دون حاجة لطلاق الزوج كما في مذهب الإمام مالك، وتستحق كذلك جميع حقوقها دون أي نقصان. ولها كذلك أن تختلع، وفي هذه الحالة فقط تنفصل المرأة عن الرجل، ولكنها تتنازل عن حقوقها لعدم وجود سبب لإنهاء العلاقة الزوجية؛ فليس من العدل حينئذ تغريم الرجل بالمستحقات، وهو متمسك بالعشرة بينهما.
وقد دل على صور تخيير المرأة في قرار الانفصال نصوص كثيرة منها، ما روي عن ابن عباس : «أن زوج بريرة كان عبدًا يقال له مغيث : كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعباس يا عباس ألا تعجب من حب مغيث ببريرة ومن بغض بريرة مغيثا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«لو أرجعته ؟ قالت : «يا رسول الله أتأمرني؟ قال: «إنما أنا أشفع» قالت : فلا حاجة لي فيه»([4])، وذلك لما علمت أن كلامه ليس أمرًا، وإنما هو مشورة تخيرت تركه، حيث كان من حقها تركه بعد أن أصبحت حرة.
وجاءت امرأة ثابت ابن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : «يا رسول الله، ما أنقم على ثابث في دين ولا خلق إلا أني لا أحبه، فقال صلى الله عليه وسلم : فتردين عليه حديقته ؟ فقالت: نعم، فردت عليه حديقته وأمره ففارقها »([5]). هذا في إيضاح موجز لمسألة احترام إرادة المرأة إذا أرادت فراق زوجها. ولعل الصورة قد اتضحت بهذا البيان اليسير.
ويبدو أن المجتمع الغربي لم يكتف بإخراج الكنيسة والدين من حياته ونظامه واستبدال ذلك بالعلمانية، بل يسعى لإخراج الدول العربية والإسلامية من دينهم وإخراج الدين من حياتهم وتشريعاتهم ونظامهم، يحاول إلزامنا بأشياء تتعارض مع شرعنا تحت غطاء الشرعية الدولية، أو الأمم المتحدة أو غير ذلك من مسميات هم يعرفون أنها لا قيمة لها إلا على الضعفاء، فهذا الكيان الصهيوني ينال الدعم والتعاطف من كل الغرب وهو يضرب بكل قرارات الأمم المتحدة التي تخصه عرض الحائظ، ولا يوقع على الاتفاقيات التي تحقق السلام والأمن في المنطقة.
لعله قد آن الأوان أن ينتقي المسلمون من قرارات الشرعية الدولية ما يتوافق مع شريعتهم ونظامهم ومجتمعاتهم، فقد أعد الغرب اتفاقية تسمى «اتفاقية القضاء على التمييز بكل أشكاله ضد المرأة» وظل الغرب يستدرج الدول العربية والإسلامية للتوقيع على هذه الاتفاقية، وبالفعل وقعت الدول العربية والإسلامية على هذه الاتفاقية سنة 1979، وتوقيع الاتفاقية لم يكن هدفا في ذاته، وإنما الهدف فيما يترتب على هذا التوقيع من ضرورة تفاعل كل أجهزة الدول الموقعة مع الاتفاقية، فيقوم الإعلام بدوره بالإشادة بتلك المبادئ ومحاولة تغيير سلوك الناس تجاهها.
وكان من الممكن أن يدعو علماء الإسلام إلى تبني هذه الاتفاقية، فنحن مع كل رفق بالمرأة، ومع كل وصية بالمرأة اتباعا لهدي رسولنا الكريم، ولكن عنوان الاتفاقية لا علاقة له بالأهداف التي تسعى إليها الاتفاقية.
فهذه الاتفاقية التي تعرف (بالسيداو) تهدف لإعطاء المرأة الحرية الجنسية، وكأن الحرية الجنسية حق للرجل ومن ثم يراد تعميمه، فالحرية الجنسية والتي يفهم المسلمون منها معنى الزنا الذي هو من الكبائر، سواء فعل ذلك رجل أو امرأة، والشرع لم يفرق في حجم ذلك الجرم وعقوبته على أساس النوع، فأي حرية جنسية تراد للمرأة ؟
تلك الاتفاقية تنعى على الوظائف النمطية للمرأة، وإذا سألتهم ما تقصدون من الوظائف النمطية ؟ يتضح أنها وظائف : الحمل، والولادة، ورعاية الطفولة، تلك الوظائف التي ظلت وسام شرف تحمله المرأة عبر العصور، مما جعلها صاحبة الفضل في إعداد الشعوب، ومدح الشعراء ذلك فيها، فهذا أمير الشعراء يقول :
الأم مدرسة إذا أعددتها |
** |
أعددت شعبا طيب الأعراق |
إن تلك الاتفاقية للتسوية بين الذكر والأنثى في النمط الشكلي، وفي نمط الأزياء، وكذلك ما فتح للمرأة من رياضات العنف التي لا تناسب طبعها كحمل الأثقال وغيره، بل تم تجاوز ذلك كله، حينما سمحوا بزواج المثلين، في إشارة لتضييع تميز كل نوع عن الآخر، فعقولهم وقوانينهم قبلت أن تتزوج المرأة المرأة، والذي يعني قيام المرأة بوظائف الرجل الاجتماعية وحتى الجنسية، مما يعد مسخًا مقيتًا لصورة المرأة التي خلقها الله عليها، وكأنهم يستجيبون للشيطان كما حكى عنه القرآن قوله : {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا } ([6])، والحمد لله رب العالمين حيث أظهروا مفهوم المساواة الذي يطالبوننا به، مما يوجب على أبناء ثقافتنا وحضارتنا أن يكفوا عن اتباع أهوائهم والسير وراء شهواتهم وترديد كلامهم دون فهم أبعاده.
إن ما حدث من إقرار لتلك الاتفاقية والتوقيع بالالتزام مرتين، وما حدث في مؤتمر السكان، ومؤتمر بكين، ومؤتمر بكين يؤدي إلى إعاقة المسلمين في تقديم نموذجهم الحضاري، ويؤدي إلى مسخ المجتمع المسلم على الهيئة التي مسخ بها المجتمع الغربي إلا من رحم الله.
فينبغي أن تكون مرجعية المسلم دائما وأبدًا هي شريعته الغراء ونظامه الإسلامي الفريد الذي به يواجه العالم، وبه يصلح الفساد، وبه ينشر كلمة الحق في العالمين، ويعمر الأرض، رزقنا الله الفهم الصحيح والعمل الصالح آمين.
([1]) راجع كتابنا : المرأة في الحضارة الإسلامية بين نصوص الشرع وتراث الفقه والواقع المعيش.
([2]) رواه أحمد في المسند ج2 ، ص 13، وابن ماجه في سننه ج 1 ، ص 628.
([4]) أخرجه البخاري في صحيحه، ج5 ص 2023، وأبو داود في سننه، ج2 ص 207، والنسائي في سننه، ج8 ص 245.