أرسل الله - سبحانه وتعالى - محمدًا نبيًّا ورسولاً للعالمين، وأوحى إليه القرآن الكريم الذي هو كلام الله تعالى، وفسَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقواله وأفعاله وتقريره لِمَا كان يحدث حوله في عصره، وتكوَّن من كل ذلك ما عُرِفَ بالسنة المشرفة، فالسنة هي مجموعة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته - ويعتقد المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره نبيًّا معصومٌ من الخطأ، وأن كل ما صدر منه من أقوال أو أفعال أو تقريرات حق يجب إتباعه.
ومن أجل ذلك اهتمَّ الصحابة بنقل القرآن الكريم اهتمامًا بالغًا، باعتباره المصدر الأول للتشريع، كما اهتموا بنقل سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، واهتمت الأمة بعدهم بذلك النقل حتى أنشأوا علومًا خاصة بتوثيق النص القرآني؛ كتابة، وقراءة، كعلم القراءات، ورسم المصحف، والتجويد، وأنشأوا علوما أخرى لتوثيق النص النبوي؛ كعلم الجرح والتعديل، وعلم الرجال، وأنشأوا ثالثة لفهم القرآن والسنة؛ كعلوم التفسير، والفقه، وأصوله، وأنشأوا علومًا خادمة كالنحو والصرف والعَروض.
وكان للصحابة رضي الله عنهم عناية شديدة في رواية الحديث ونقله. وكان نقل الحديث النبوي يعتمد على النقل الشفهي في أغلبه،ومن ثم وضع الصحابة بعض الضوابط لقبول الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم وإن لم تدون في عصرهم ومن تلك الضوابط:
1- الاحتياط في قبول الأخبار: كان أول من احتاط في قبول الأخبار أبا بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد روي عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال: «جاءت الجدة إلى أبي بكر، رضي الله عنه، تسأله ميراثها فقال لها أبو بكر ما لك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة، فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، » (أورده الإمام أحمد في مسنده) ، فكانت رؤية أبي بكر رضي الله عنه، هي التثبت في الأخبار والتحري، لا سدّ باب الرواية مطلقًا.
2- التوقف في خبر الواحد والتثبت من نقله: وبذلك الضابط تمسك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعن أبي سعيد الخدري قـال: «كنت جالسًا في مجلس الأنصار، فأتانا أبو موسى فزعًا أو مذعورًا. قلنا: ما شأنك؟ قال: إن عمر أرسل إلي أن آتيه، فأتيت بابه فسلمت ثلاثًا فلم يرد علي، فرجعتُ. فقال: ما منعك أن أتينا؟ فقلت: إني أتيتك فَسَلَّمْتُ على بابك ثلاثًا، فلم يردوا علي، فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا استأذن أحدكم ثلاثًا، فلم يُؤذن له فليرجع، فقال عمر: أقم عليه البينة وإلا أوجعتُك. فقال أُبَيُّ بن كعب: لا يقوم معه إلا أصغر القوم. قال أبو سعيد: قلت: أنا أصغر القوم. قال: فاذهب به» (صحيح مسلم).
فرأى عمر رضي الله عنه، أن يتأكد عنده خبر أبي موسى بقول صحابي آخر، فهذا دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد، وفي ذلك حث على تكثير طرق الحديث لكي يترقى من درجة الظن إلى درجة العلم؛ إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوَهَم وذلك نادر على ثقتين.
3- اللقيا والسماع: فرحل جابر بن عبد الله الأنصاري مسيرة شهر إلى عبد الله بن أُنَيْس في حديث واحد (البخاري).
4-عرض الأحاديث على القرآن الكريم: ومن ذلك أن بعض الصحابة رضي الله عنهم، قد رد بعض الأحاديث؛ لأنها في نظرهم تخالف كتاب الله تعالى، من ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الميت يُعَذَّب ببكاء أهله عليه"، وفهم رضي الله عنه، أنه عام وأن التعذيب بسبب بكاء الأهل على الميت، فأنكرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ذلك الفهم، واحتجت بقوله تعالى ﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الأنعام :164].
5- عرض السنة على السنة: وذلك فيما ظاهره التعارض بين الأحاديث، من ذلك ما ورد في اختلاف الصحابة رضي الله عنهم، فيما يوجب الغسل، فذكروا ما ورد عن عائشة رضي الله عنها، حيث قالت: "إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم. (أدرجه الإمام أحمد في مسنده) وكان قد احتج بعضهم بما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنما الماء من الماء» (صحيح مسلم)
6- عرض السنة على القياس: ومن ذلك ما روي عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الوضوء مما مست النار ولو من ثَوْرِ أَقِطٍ»، قال: فقال ابن عباس: يا أبا هريرة أنتوضأ من الدهن؟ أنتوضأ من الحميم؟ (أورده الترمذي في سننه). فتلك الضوابط التي سبق إيرادها إنما تشير إلى مدى اهتمام الصحابة رضي الله عنهم برواية الحديث والعناية به وصيانته.