يعد كتاب "النبأ العظيم ... نظرات جديدة في القرآن" المرجع الرئيسي للتعرف على الآراء العلمية للشيخ محمد عبد الله دراز في قضية الإعجاز القرآني، والكتاب ككل هو تجربة فريدة في هذا المجال المهم لما يشمله من آراء فكرية وعلمية بديعة وسباقة أظلها بأسلوب سهل ماتع يصل إلى قلب القارئ وعقله بيسر وانسيابية، وهي التي يؤكدها المؤلف، رحمه الله تعالى، في المقدمة فيصف كتابه أنه "حديث يبدأ من نقطة الصفر، فلا يتطلب من قارئه انضواءه تحت راية معينة، ولا اعتناقًا لمذهب معين، ولا يفترض فيه تخصصا في ثقافة معينة، ولا حصولاً على مؤهل معين، وإنما يناشد القارئ فقط أن يعود بنفسه صحيفة بيضاء، إلا من فطرة سليمة ورغبة صادقة في الوصول إلى الحق". وقد مكث الشيخ دراز في تأليفه لهذا الكتاب ما يزيد على ثلاثين عاما حيث بدأه منذ اشتغاله بالتدريس بالقسم العالي بالأزهر، إلا أن انشغاله برسالة الدكتوراه وسفره إلى فرنسا للحصول عليها ثم انشغاله بالتدريس في جامعة الأزهر وجامعة القاهرة بعد عودته حال دون إتمام هذا الكتاب سوى قبل موته بشهور قلائل حيث أتمه في مارس سنة 1957م، وهذا يعكس أن آراء الشيخ في هذا الكتاب هي رحلة حياة علمية كاملة بدأها من المهد إلى اللحد قدم فيها خلاصة آرائه المتفردة في مجال الإعجاز القرآني.
وقد قسم كتابه إلى محورين أساسيين، اختص المحور الأول بالرد على شبهة أن القرآن ليس بوحي سماوي، وقد أفرد الشيخ دراز ما يزيد عن مائة صفحة للتحدث عن هذه القضية وإثبات خرافتها من الناحية العقلية البحتة وساق في ذلك العديد من الأدلة القرآنية والأدلة من كتب السير والتاريخ والاكتشافات الحديثة في العلوم التجريبية. أما المحور الثاني فتناول فيه الإعجاز اللغوي والبياني للقرآن والذي يعد خير دليل علي أنه وحي وليس بكلام بشر، فكان هذا المحور تطبيقًا عمليًّا للمحور الأول، فتكلم عن الإعجاز اللغوي وما يكتنفه من شبهات دحضها بالأدلة العقلية قبل النقلية.
إلا أن أميز ما جاء به في نطاق الإعجاز اللغوي هو ما أطلق عليه "القشرة السطحية للفظ القرآن"، فألفاظ القران لها من الاتساق والائتلاف ما يولد في النفس عند سماعها نوعا من السعادة والراحة ربما تشبه بعض آثار الموسيقى الجميلة أو الشعر المنمق إلا أنها ليس فيها ما في أنغام الموسيقى أو أوزان الشعر، فالقطعة الموسيقية أو القصيدة الشعرية يصاحبها الملل عند تكرار سماعها أما اللفظ القرآني مع استمرار ترتيله لما يزيد عن ألف وأربعمائة سنة لم يصاحبه أي ضجر أو فتور من جماله وسحره، ولعل ذلك يوضح لماذا قارنت العرب بين القرآن وبين الشعر ولم تقارن بينه وبين الفنون الأخرى كالخطابة مثلا، وذلك لأنها لم تجد في خيالها سوى الشعر الذي ربما يقابل بعض إعجاز القرآن اللفظي، إلا أنها وعند عقد المقارنة وجدت أنه ليس بشعر، فوصفوه بالسحر لأنه جمع –كما قال الشيخ في كتابه- "بين طرفي الإطلاق والتقييد في حد وسط: فكان له من النثر جلاله وروعته، ومن الشعر جماله ومتعته".
أما عن الإعجاز البياني، فأوضح الشيخ انه يتألف من مستويات عدة في كتاب الله، فهناك الإعجاز على مستوى الآية ثم مجموعة الآيات ثم مستوى السورة قصيرة كانت أم طويلة ثم مجموعة السور المتعاقبة ثم القرآن كله كوحدة عضوية متكاملة مجملة، إلا أن أفضل ما ساقه الشيخ في مجال الإعجاز البياني كان تحت عنوان "الأسلوب القرآني ملتقى نهايات الفضيلة البيانية"، فأهم ما يميز القرآن من الناحية البديعية هو جمعه للأطراف البيانية المتباعدة في نقطة وسط وهو أمر يعجز عنه البشر، وتناول في هذه النقطة ثلاث قضايا رئيسية: الأولى هي القصد في اللفظ والوفاء بحق المعنى، فالكاتب خلال كتابته يعاني من صراع داخلي بين إيجاز لفظه في أقل عدد من الكلمات لإظهار مهارته اللغوية وبين رغبته في توضيح رؤيته بأسلوب دقيق مفصل، ولكن القرآن نجح في عرض أدق المعاني بأوجز الألفاظ.
وهناك قضية خطاب العامة وخطاب الخاصة، فإذا قام المؤلف بتوجيه خطابه للفئة المثقفة لَحَصَر قُرّاءَه في فئة واحدة، ولو تَبسط بأسلوبه لمخاطبة العوام لفقد الفئة المثقفة التي تمثل نخبة المجتمعات البشرية، ولكن القرآن جمع بين الخطابين العام والخاص في صورة واحدة مستحيلة الوجود سوى أن تكون من صنع الله عز وجل. والقضية الثالثة هي إقناع العقل وإمتاع العاطفة، فالقارئ دائمًا ما يبحث عن المعرفة لإشباع عقله والإحساس لإشباع وجدانه، وفي العادة يفضل الكاتب أحد الجانبين على الآخر، أما القرآن فجمع بينهما على مستوى الآية الواحدة، وساق الدكتور دراز العديد من الآيات التي يضيق المجال لذكرها لتدعيم كل قضية من هذه القضايا الثلاث، ولو قارنا بين هذا الكتاب وكتاب الأديب البارع مصطفى صادق الرافعي "إعجاز القرآن" لتبين لنا الجدة ولعرفنا مدى إلهام الله لشيخنا لإبراز بعض خصائص كتابه الكريم.
وفي نهاية كتابه قام بوضع نموذج رشيد لطلاب العلم لدراسة النسق القرآني وتحليله، تبعه بتطبيق عملي له على سورة البقرة ليكون خير معين للطلبة في فهمه واستيعابه. ورغم تنوع مؤلفات الشيخ دراز إلا أن كتابه النبأ العظيم سيظل علامة مميزة في هذا المجال الحيوي والذي إذا لم يشتمل على أي مؤلفات أخرى غيره لكفاه لغزارة ما به من حقائق و وآراء فذة لا نظير لها.