هذا أصل من أصول الفقه الإسلامي والقضاء وهو أصل أيضا من أصول العدالة والإنصاف، وهذا قول الإمام الشافعي بعد تأمل الشريعة من ناحية والحياة من ناحية أخرى، وللأسف فإن كثيرا من الناس خرجت عن هذه القاعدة فحادت عن مقتضى العدالة وأخذ الساكت بجريرة غيره وطالبوا المفترى عليه أن يتكلم وإلا صح الافتراء وثبت الاتهام، ولابد أن نعود في تأصيل ثقافتنا إلى مقتضيات العدل قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل : 9] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة : 8].
1- فالإنسان إما أن يصدر منه قول أو فعل يحكي عنه أو لا يصدر عنه لا قول ولا فعل فينسب إليه، أما الحكاية عنه فتعتريها العوارض البشرية؛ ولذلك فقد تكون حقاً وقد تكون باطلة، فإذا كانت دقيقة وصادقة فلا إشكال. وعلى هذا تكون الشهادة لله قال تعالى : (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ) [الطلاق : 2] وإقامة الشهادة تستلزم الصدق فيها ومحاولة عدم الوقوع في العوارض البشرية، والعوارض البشرية هي، السهو : وهو إذا ذَكّره أحد تذكر، والنسيان : وهو إذا ذكره أحد لا يتذكر. والغفلة : وهي حالة يخلط فيها الناقل بين الأحداث والخطأ ويتمثل في الفهم غير الصحيح للقول أو الفعل وقد يأتي هذا الخطأ من التحمل أو من الحمل أو من الأداء، وأخطاء التحمل تتعلق بسماع جزء من الكلام أو بالخطأ في دلالة الألفاظ على معانيها أو نحو ذلك، وأخطاء الحمل تأتي من الجهل بالحقيقة والمجاز أو بحمل المشترك على معنى غير مراد للمتكلم أو عدم فهم النقل في اللغة أو التفريق بين المترادفات أو الجمع بين المتفرقات أو نزع الكلام من سياقه وسباقه ولحاقه أو الخطأ في التعميم وعدم مراعاة الشروط المقيدة للإطلاق وأخطاء الأداء تتمثل في العبارة التي يؤديها الناقل حيث لا تكون منطبقة على ما تحمل أو ما يريد لعجز في القدرة اللغولة أو لاستهانة بها.
ومن العوارض البشرية الكذب : وهو خطأ متعمد عن سوء نية، ولذلك فهو خطيئة ويكون لحقد أو تدبير سيء أو خجل أو نحو ذلك ومنها أيضا الذهول : ويكون عن عدم تركيز الأمر وقلة العناية به، ويكون عن دهشة من أمر طارئ. ومن العوارض البشرية الإكراه من الغير سواء أكان أدبياً أو مادياً وكل هذه العوارض التي تعتري الإنسان تجعل الأصل أنه لا ينسب لساكت قول، فالناقل قد يقع في شيء من العوارض البشرية، فإذا سكت المنقول عنه لا ينسب له قول ذلك القائل ولا بد من التحري ومن هنا اخترع المسلمون علوم التوثيق في جانب القرآن وضبطوا المسألة غاية الضبط ليس فقط على مستوى الآية أو الكلمة أو الشكلة، بل على مستوى الأداء الصوتي وفي جانب السنة أبدوا أكثر من عشرين علما لضبط الرواية، والنبي صلى الله عليه وسلم يحذر من هذا فيقول : « من كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار » [متفق عليه] وفي جانب العلوم المختلفة أوجدوا أسانيد الدفاتر أي الكتب في العلوم جميعا ونراهم في جانب القضاء يؤكدون على العدالة والضبط في الشاهد، فليس كل أحد تقبل شهادته، بل لابد من حالة نأمن فيها تقليل العوارض البشرية وضبط النقل متمثلا بالحديث النبوي الشريف فعن ابن عباس قال : « سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة. قال : هل ترى الشمس ؟ قال : نعم. قال : على مثلها فاشهد » [البيهقي في الشعب].
2- أما إذا لم يكن قد صدر عنه القول أو الفعل أصلا فهو أشد من الحالة الأولى، ولا يكلف قطعا برد كل بهتان عليه ويذكر الإمام السخاوي في الضوء اللامع أبياتا عن شيخه يلخص فيها تلك الحالة :
كم من لئيم مشى بالزور ينقله ** لا يتقي الله لا يخشى من العار
يود لو أنه للمرء يهلكه ** ولم ينله سوى إثم وأوزار
فإن سمعت كلاما فيك جاوزه ** وخل قائله في غيه ساري
فما تبالي السما يوما إذا نبحت ** كل الكلاب وحق الواحد الباري
وقد وقعت ببيت نظمه درر ** قد صاغه حاذق في نظمه داري
لو كل كلب عوى ألقمته حجرا ** لأصبح الصخر مثقالا بدينار
3- وعلى الرغم من تقرر هذه القاعدة في الشرع نقلا وشهادة وقضاء وعلماً فإن الشرع استثنى منها شأن كل قاعدة ما يستوجب الاستثناء لغرض صحيح أخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « البكر تستأمر فتستحي فتسكت. قال : سكاتها إذنها » [أحمد والبخاري] فأيام ما كانت الناس تستحي وكان الحياء خلقا كريماً كانت البنت تخجل عندما يتقدم لها خاطب فإذا سألها أبوها استحت فقدر الشرع هذا الحياء والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : « الحياء خير كله » [المسند المستخرج على صحيح مسلم، ومسند الشهاب] فاكتفى بصمتها عن إذنها، وهي أيضا إذا كرهته أو رفضته لا تخجل من إبداء رأيها والجهر به، ومن هنا جاء في الثقافة الشائعة (السكوت علامة الرضا) وهو علامة قاصرة على البكر التي تستحي فتعميم هذه العلامة ليس بسديد.
4- هل لنا أن نواصل أصولاً لحياتنا الثقافية نرجع إليها جميعا وتكون بمثابة الدستور أو بمثابة ميثاق الشرف الثقافي أو إننا سنظل هكذا في متاهة حوار الطرشان نسير من غير أصول نسعى في حياتنا الثقافية على غير هدى.
كتب المفكر العربي الأستاذ الكبير زكي نجيب محمود مقالة تحت عنوان (لك الله يا علوم الإنسان) نعى فيها على من يحاول أو يؤصل بنظرة إيمانية للدخول في دراسة العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهي النظرة التي شاعت في الحقيقة في مدرسة إسلامية المعرفة، أو التأصيل الإسلامي للمعرفة، وشاعت أيضا وبصورة مختلفة بعد كتابات (ماكس فيبر) حول الأخلاق البروتوستانتية ثم في كتابات كثيرة في الاقتصاد باعتباره من علوم الإنسان من مدخل قيمي، أي أن القيم تسيطر عليه. وبغض النظر عن موقفنا من فكر الراحل العلامة زكي نجيب محمود ومساحات الاشتراك والاختلاف معه ومع مراحل تفكيره وعطائه بدأ من تسمية كتابه (خرافة الميتافيزيقيا) وانتهاء بتغيير اسمه إلى (موقف من الميتافيزيقيا) أو المقالات التي كتبها في الأهرام في نهاية حياته مدافعا عن الثقافة العربية. بغض النظر عن ذلك فقد سمحت لنفسي أن أستعير عنوان مقاله مع تغيير الموضوع من علوم الإنسان إلى حقوق الإنسان، ولعل هذا المقال يكون استمراراً لمقالي السابق (إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
1- يشغل العلام الغربي نفسه منذ فترة ليست بالقصيرة بمسألة حقوق الإنسان، فمنذ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر من الأمم المتحدة سنة 1947 وحتى اليوم وهناك اهتمام عالمي بهذه المسألة، وصدرت وثائق ومعاهدات واتفاقات حول هذه المسألة بخلاف عشرات الآلاف من الدراسات بلغات الدنيا المختلفة، ونشأت هيئات وجمعيات غير حكومية وحكومية لرعاية حقوق الإنسان وحفظ كرامته، ولقد اهتم المسلمون ومما قالوه ونفذوه في حضارتهم (الإنسان قبل البنيان) و (تربية الساجد قبل بناء المساجد) ولذلك اهتموا أن تذهب الرعاية إلى الإنسان وأن تزيين البنيان يأتي في المرتبة الثانية بعد اكتفاء الإنسان والقيام بجميع شئونه وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا) [أحمد والبخاري والترمذي] فيمكن للمسلم وقد كلف بخمس صلوات في اليوم والليلة أن يصلي حيثما أدركته الصلاة في أي مكان في الأرض، بل إن اتصال الإنسان بهذه الأرض التي يسجد عليها لله لم يقتصر على ذلك بل امتد إلى استعمال ترابها في التيمم الذي هو بديل عن الماء إذا فقده المصلي، فالماء به الاغتسال والوضوء، فإن فقدناه استعملنا الأرض بديلا عنه، وكأنه يشير إلى البداية والنهاية أما البداية (وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء : 30] وأما النهاية (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) [طه : 55].
2- واهتم المسلمون بالإنسان فجعلوا مقاصد الشريعة التي خاطبته والتي يخاطب بها الناس أجمعون وتتجاوز الزمان والمكان في جميع الأحوال خمسة، حفظ النفس : حتى تقوم حية قابلة للخطاب. وحفظ العقل : وعدم الاعتداء عليه بأي تسلط أو إكراه، بل هناك حفظ عليه في أساسه، وحفظ عليه في منهج تفكيره، وحفظ عليه في حريته وإبداعه حتى في مسائل الإيمان قال تعالى : (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ) [البقرة : 256] و (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : 6] و (فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : 29] بالإضافة إلى حفظه بتحريم كل مسكر ومفتر قال تعالى : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [البقرة : 219] وعن أم سلمة رضي الله عنها : (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر) [أحمد وأبو داود]. وحفظ الدين : فإن الله يحب المتقين والصابرين والمتوكلين والمحسنين ولا يحب المفسدين ولا المتكبرين والخائنين ويحب ولا يحب دستور الإنسان الحضاري. وحفظ كرامة الإنسان : التي سميت في تراثنا بالعرض، ولقد أحيط بسياج كبير من الضمانات حرمت الاحتجاز القسري والاعتقال العشوائي والتعذيب للمتهم، وحرمت السب والقذف والاتهام المسبل عن الدليل، وحرمت التفرقة العنصرية بكافة أشكالها وغير ذلك كثير من حفظ حقوق الإنسان في كرامته. واهتم المسلمون بحفظ ملك الإنسان وحرمة الاعتداء على ماله واغتصاب حقه وجعل هذا من الكبائر التي تهدم الاجتماع البشري. ومن كل هذا بنيت الحضارة الإسلامية على مؤسسة القضاء.
4- وحقوق الإنسان التي نقشت على جدران الأمم المتحدة في مدخلها ـ والتي نرجو من الله أن لا تكون قد نقشت على الحجر ثم حرموها البشر ـ وافق عليها المسلمون في العصر الحديث كما وافقوا على كل دعوة إلى الخير وعلى كل اتفاق على الرشد، كما وافقوا كذلك على إلغاء الرق ورأوا فيها مشتركا يمكن أن يتفق عليه الناس ويعيشوا فيما بينهم بسلام. ولكن من غير تأسيس نظري أو فلسفي ومن غير نظام واضح المعالم رأينا من يحشر حقوقاً مدعاة للإنسان لم يتفق عليها البشر، والحقوق المعتبرة الملزمة هي الحقوق التي يتفق عليها البشر أما ما لم يتفق عليه البشر فإنه لا عبرة فيه، وها ما زال يمثل ثقافة سائدة عند من اخترعه أو وافق عليه، وهذه الحجة يجب ألا تغيب في ظل ارتفاع الأصوات والضجيج والغوغائية التي أصبحت هي السمة الغالبة في الناس بعد أن تأخر التفكير عن النشاط كما يقول (رينيه جونو) المفكر والفيلسوف الفرنسي وهو يتأمل في تدهور الحالة الفكرية لعموم العالم أين (مونيسيكو ولوك وسبنسر وفولتير وجان جاك رسول وهيوم) فقد كانوا يتكلمون بشيء قابل للبحث والمناقشة وعرضوا أفكارهم بطريقة لافتة للنظر مع رفضنا لكثير مما ذهبوا إليه، ولكن يبدو أن عدوا عاقلاً خير ألف مرة من صديق جاهل.
5- من أين سرت لحقوق الإنسان قضية الشذوذ الجنسي ؟ من الذي جعل الشذوذ المقرف المخالف لكل دين على وجه الأرض عرفته البشرية، ذلك الشذوذ المسبب لدخول الإنسان في حياته حجيما لا يستيطع الفكاك منه، ونارا لا يستطيع أن يخرج منها، فيصاب بالاكتئاب والأمراض ؟ من الذي دسه وسط حقوق الإنسان ؟ ما نظريته أو فلسفته ؟ إنها محض غوغائية وصوت عال متشنج يقول (اتركوا الإنسان في حياته الشخصية هو حر فيها) وهل هو حر في الانتحجار ؟ وهل هو حر في ممارسة الخيانة العظمى ضد دولته ووطنه ومجتمعه ؟ وهل هو حر في تناول المخدرات وممارسة الدعارة والقتل للملل والقتل للمرض والقتل بالاتفاق ؟ إلى آخر هذه القائمة التي أباحها بعضهم في مجتمعاتهم. فهل إباحة بعض الناس لهذا الهراء يدخله في حقوق الإنسان التي يجب عليه أن يلتزم بها العالم كله ؟ إن أول شروط حقوق الإنسان أن يكون متفقاً عليها.
6- ومصيبة أخرى وهي عقوبة الإعدام التي يراد نفيها وإلغاءها، وهي تحتاج منا إلى نظر، وتأتي حيث إن الإعدام بضماناته ووضعه هو حق من حقوق الإنسان؛ حيث إن فلسفة العقوبة بنيت على ردع المجرم والقضاء على الجريمة والضمانات والشروط الموضوعة تكفي لتحقيق ذلك، ونظرية القصاص في الشريعة الإسلامية التي تمكن من العفو من أهل القتيل، فنشأ القصاص لتهدئة بالهم وإصلاح ذات البين أكثر تطوراً من الناحية الإنسانية من عقوبة الإعدام التي نمارسها اليوم، ففرصة العفو وفرصة التعويض المادي المسمى بالدية تضفي إنسانية أعلى من العقوبة المجردة. أما إلغاء الإعدام بالكلية كما ينادي به الصوت العالي غير المؤسس على نظر صحيح، ولا حتى فلسفة واضحة إنما هو اعتداء في نهايته على حقوق الإنسان.
نسأل الله ألا تكون حقوق الإنسان مشجبا يعلن عليه كل أحد ثقافته وشهواته وأموره الشخصية فحقوق الإنسان أمر مهم وخطير، ولا بد أن ننزله من الحجر إلى البشر، وأن نسعى فيما اتفقنا عليه بدلا من المهاترات التي لا تقبل عقلا ولا قلبا.
جاء الدين وحث على الحياء باعتباره خلقاً محموداً على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع حتى شاع الذم بعبارة (قليل الحيا) في الاستعمال اليومي، مع حذف همزة الحياء؛ لأن العرب تقصر كل ممدود ولا تمد بالضرورة كل مقصور، وفي الحديث النبوي الشريف عندما عاتب أحدهم آخاه على كثرة حيائه قال له النبي صلى الله عليه وسلم : (الحياء خير كله) [رواه مسلم] وقال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) [رواه البخاري] وكان الحياء ينشئ ثقافة سائدة تمنع من الانحراف وتضبط إيقاع العمل على المستوى الشخصي والمستوى الجماعي، وانعدام الحياء يوصلنا إلى فقد المعيار الذي به التقويم والذي به القبول والرد والذي به التحسين والتقبيح، وفقد المعيار هذا يؤدي إلى ما يشبه الفوضى وهي الحالة التي إذا استمرت لا يصل الإنسان إلى غايته، ويضيع الاجتماع البشري وتسقط الحضارات في نهاية المطاف حيث لا ضابط ولا رابط.
1- وعلى ذلك فمن العبارات الشائعة وهي خطأ قولهم (لا حياء في الدين) ويقصدون أن الإنسان يجب عليه أن يسأل في كل شيء دون خجل يصده عن التعلم فلا يخجل من عدم معرفته ولا يخجل أن يعرف كل شيء في جميع المجالات، فليس هناك حدود للمعرفة والعبارة الصحيحة التي حرفت من أصلها إلى هذه العبارة الجديدة الخاطئة هي (لا حرج في الدين) وهناك فارق كبير بينهما فصحيح أنه لا حرج في الدين، فإن اليسر يغلب العسر ، ومن طبق الدين لا يجد فيه ضيقاً ولا تضيقاً فقد قال الله تعالى : (فإن مع العسر يسراً * إن المعسر يسرا) [الشرح : 5،6] وفي الحديث الشريف : ( أنه صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا أخذ أيسرهما) [رواه مسلم]. والقاعدة الفقهية الأم (المشقة تجلب التيسير) ، فالتيسير من أصل الدين، وهو يشتمل على الرفق في المعاملة يقول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه) [رواه مسلم] ويشتمل التيسير على الرحمة يقول صلى الله عليه وسلم : (الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) [رواه أحمد وأبو داود] ويشتمل على رفع الضرر، حيث يقول صلى الله عليه وسلم : (لا ضرر ولا ضرار) [ابن ماجة والبيهقي] ويشتمل على الاستمرار في العمل وفي الحديث (كان عمله صلى الله عليه وسلم ديمة) [متفق عليه].
2- والحياء خلق يمنع صاحبه المتخلق به من الفحش في القول والعمل ولذلك فإنه ضد بعض معاني الشفافية التي يدعو إليها بعضهم في عصرنا هذا، والشفافية قد تعني الصراحة في القول والصدق في العمل وهو خلق محمود بلا شك، وقد تعنى التبجح بالفاحشة وإظهار المعاصي والفجور بدعوى الحرية التي تساوي حينئذ التفلت والعبث، ولقد نهينا عن هذا التبجح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه) [متفق عليه] فالمهاجر يتبجح بالمعصية، إنه يريد أن تشيع فعلته في الناس حتى يكونوا مثله ويكونوا في الفاحشة سواء قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [النور :19] ولقد ابتلينا بهذا الصنف من الناس الذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
3- والحياء المذكور في القرآن جاء على ثلاثة أنحاء الأول : ما أسند إلى الله تعالى قال سبحانه : (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً) [البقرة : 26].وذلك أن هذا ليس بحال الحياء؛ لأنه مجال تعليم كما سبق والحياء إنما هو خلق يمنع صاحبه من السوء وإظهار المعصية وحب إشاعة الفحشاء ولا علاقة له بالخجل من السؤال في العلم وطلب التعلم؛ لأن العلم وطلبه من الحق قال تعالى : (والله لا يستحي من الحق) [الأحزاب : 53] والثاني : حياء منسوباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنه قوله تعالى (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فيستحي منكم) [الأحزاب : 53] وهو حياء من كمال خُلقه ورحمته بأتباعه؛ حيث يقول لهم (أنا لكم بمنزلة الوالد). [أبو داود وابن أبي شيبة]. والثالث جاء منسوباً إلى النساء العفيفات اللائي تربين في بيوت النبوة (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) [القصص : 25]
4- وأثر الدعوة إلى قلة الحياء نراها في التصرفات الدولية، حيث يحتل المحتل الأراضي ويسلب الخيرات ويسرق الوثائق والمستندات التاريخية ويعذب السجناء ويلتقط لهم الصور أثناء التعذيب حتى يبعثها لأهله مفتخراً بنفسه أن عذب البشر. وخسة أخلاقه حيث ذهب الحياء وتكذب الأجهزة والدول جهاراً نهاراً بدعوى أسلحة الدمار الشامل والكامل ثم يتبين أنه لا دمار ولا عمار ويستمر الكذب والبهتان ومخالفة الواقع دون حياء، فصدق الأنبياء إذا لم تستح فاصنع ما شئت.
فإننا كنا معتمدين على أن الحياء يمنع صاحبه من إظهار السوء وإن ظهر يمنعه من الاستمرار فيه وإن تكرر يمنعه من البقاء عليه أو الاستهانة بمن حوله بشأنه ولكن قلة الحياء مكنت هؤلاء من ذلك كله.
5- وقلة الحياء نراها أيضا في أولئك الذين حرفوا كلام الله سبحانه وتعالى، ولا يزال التحريف والتخريف مستمراً يقول الله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة : 75] ويقول تعالى : (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ) [المائدة : 13].
فعلاج قلة الحياء العفو والصفح والإحسان والصبر على ما ابتلانا الله به ويقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ )[المائدة : 41 ، 42]
فقلة الحياء شائعة في المنافقين الذين قالوا : أمنوا بأفواهم وتأبى قلوبهم، وشائعة في الكافرين الذين تبجحوا بالكفر أيضا وعلاج هؤلاء أيضا هو الإعراض قال تعالى يؤكد ذلك المعنى (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) [الفرقان : 63]
6- ومن قلة الحياء على مستوى المجتمع أن يطلب الرئاسة أسافل الناس بعد كل ما قدموه من فاحشة وسمعة سيئة ويصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم في علامات فساد الزمان وأهله (يأتي على الناس سنوات جدعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيهم الرويبضة. قيل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : وما الرويبضة ؟ قال الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) [أحمد وابن ماجة والحاكم].
أعلم أحدهم ناقشته في إحدى الهيئات العلمية فترك المناقشة وقال لأحد الجالسين المبعوثين إلى الولايات المتحدة للدراسة على سبيل التفاخر بقلة الحياء وسوء الدين واستهتاراً لكل قيمة وخلق كريم (يا فلان بعد اللقاء سأعطيك عناوين دور الرذيلة في الولايات المتحدة فهي في حقيبتي) ونسي المسكين أن الرذيلة ممنوعة في الولايات المتحدة التي يتشدق بذكرها ونسي المسكين أن قلة الحياء لا ينتج منها خير ولا تزيد صاحبها إلا خساسة ودناءة وانحطاطاً عند الله وعند الناس هذا نموذج من يطلب الرئاسة عملاً بالديمقراطية وأمثال هؤلاء الذباب كثير.
7- ويبدو إن المخرج من قلة الحياء هو التربية المستدامة والإصرار عليها وإرجاع القيم التي تمنع التفلت وجعل تلك الآية دستوراً للتربية.
التفكير نعمة ربانية وهبها الله للإنسان، ومن شُكر النعمة أن نتحدث بها قال الله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى : 11]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) [أحمد والترمذي]، وقال في شأن قصر الصلاة ـ ثم صارت مقولته قاعدة مستمرة ـ : (صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)[أحمد ومسلم وأبو داود]. والدليل على أن التفكير نعمة أننا قد أُمرنا به في حياتنا كلها وفي القرآن (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) [النحل : 44]، فربط بين الالتزام بالأوامر والنواهي في العقيدة والشريعة والأخلاق، وبين التفكر الذي هو الأساس في الفهم.
1- والفكر ترتيب أمور معلومة يتوصل الإنسان بها إلى مجهول. والأمور المعلومة تكون في صورة جملة مفيدة، يضم الفكر جملة مع جملة ويربط بينها ويخرج بنتيجة منهما، وكل جملة مفيدة قد تخبر عن واقع وقد تعبر عن طلب، والتفكير المستقيم يبدأ من البحث في الجملة التي تخبر عن واقع ويأخذ في التأكد من صحتها وإلا اتجه الفكر إلى الخرافة فلا يكون مستقيماً.وكل جملة مفيدة لها مجال، وكل مجال له طريقة في إثباته، ودليل يبرهن على صحته ومعيار للقبول والرد بشأنه.
2- فهناك أمور تعود إلى الحس والتجريب مثل : جملة النار محرقة، الشمس مشرقة، ودليل هذه الأمور يكون بإدراك الحس أو بالخبر المتواتر الموثوق به، وهناك أمور أخرى تعود إلى العقل مثل حقائق الرياضيات وهناك أمور تعود إلى النقل مثل أحكام اللغة وأحكام الشريعة، وكل ذلك يحتاج إلى منهج من التجربة والملاحظة والاستنتاج وتكرار ذلك مرات حتى تستقر في الذهن حقيقتها وتكون صالحة للاستعمال، ويسمي المناطقة الجملة المفيدة (بالنسبة التامة) وتُعَرف بأنها إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه فإذا كانت الجملة عادية حسية أضافوا عبارة (بناء على التكرار) وإذا كانت نقلية قالوا : (بناء على وضع الواضع) وإذا كانت عقلية قالوا : (غير معتمدة على تكرار ولا وضع واضع).
3- ومن صور الانحراف عن التفكير المستقيم أن نبحث عن دليل لمسألة عقلية في النقل، أو عن مسألة حسية في العقل، أو عن مسألة نقلية في الحس، والذي يضبط كل ذلك هو العلم، والعلم في التعريف العربي لا يقتصر على المعنى المترجم لكلمة Science الذي قصر العلم على التجريب فقط؛ وإنما يعني القدر التعييني من المعرفة، وبذلك فهو يفرق بين القطعي والظني ويعلم حدود كل واحد منهما. والخلط بين القطعي والظني من مظاهر التفكير المعوج والخلط بين مجال الحس والعقل والنقل وعدم التمييز بينها من مظاهر التفكير المعوج والسير خبط عشواء من غير اتضاح كيفية الاستفادة من كل المجالات؛ لأنها تمثل الواقع المعيش من مظاهر التفكير المعوج واحتقار مجال على حساب مجال آخر من مظاهر التفكير المعوج.
4- والتفكير المعوج يؤدي بنا إلى الغثائية، ويؤدي بنا إلى عقلية الخرافة وإلى منهج الكذب باعتباره هو مخالفة الواقع أو هو مخالفة الواقع والاعتقاد، ولذلك أُطلق الكذب في لغة قريش على الخطأ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في يوم فتح مكة : « كذب سعد » عندما قال سعد بن عبادة : اليوم يوم الملحمة. فقال صلى الله عليه وسلم : « بل اليوم يوم الرحمة » وكذب هنا بمعنى أخطأ فيما قال، فعزله النبي صلى الله عليه وسلم من القيادة، وعين ابنه قيساً مكانه. إن التفكير المعوج يجعل الناس تعيش في أوهام، وإذا شاع هذا التفكير اختلت الأمور وكان ذلك أكبر عائق أمام التنمية البشرية وأمام الإبداع الإنساني وأمام التقدم والأخذ بزمام الأمور، وأمام العلم وأمام تحصيل القوة، وإذا كان كذلك فشلت كل محاولات الإصلاح وشاعت الغوغائية والعشوائية.
5- وإذا ما قارنا حالنا مع الفكر المستقيم والفكر المعوج مع حال أسلافنا؛ حيث بنيت الحضارة ونفعت الإنسان في كل مكان؛ لوجدنا أنهم قد تنبوا الفكر المستقيم وحاربوا بكل قوة الفكر المعوج، وإذا ما قارنا حالنا في ذلك مع حال الحضارة الغربية وجدناهم أيضا قد حاربوا الفكر المعوج ورفضوه، ومن مظاهر رفضه قضية التخصص والمرجعية، فقد آمنوا بالتخصص وآمنوا بالمرجعية ولم تعد شخصية (أبو العريف) التي شاعت في الثقافة الشعبية شخصية محببة أو طريفة، بل هي شخصية غاية في التخلف والانحطاط ويمثل الكذب عندهم ـ سواء عند السلف أو عند الغرب ـ قيمة سلبية يُحاسب عليها من يرتكبها على جميع المستويات ويكون الكذب جريمة إذا ما صدر من مسئول أو متصدر لخدمة الناس.
6- وتحت فكرة احترام المرجعية تم التفريق بين الحقائق والآراء، فليس هناك وجهات نظر في الأمور التي تحتاج إلى تجربة وحس، وجهات النظر تكون في معالجة رعاية شئون الأمة، وتكون في مجال يحتمل الآراء، سواء من أهل التخصص أو كان من عموم الناظرين والكاتبين، ولابد أن يؤسس الرأي حتى يكون محترماً على الفكر المستقيم، ولابد أن يتغيا أيضا النفع والصالح العام، فإذا خرج عن الفكر المستقيم أو تغيا الشر والفساد، فهو مردود على صاحبه مهجور يجب اجتنابه.
يبدو أن هذه الحقائق البسيطة المتفق عليها يصعب على كثير من الناس اتباعها، ولا يستطيعون إلا أن يسيروا في نزقهم الفكري وتكبرهم المهني بصورة بشعة تفقد مصداقية الكلمة وينهار معها أسلوب الخطاب.
7- إن الإصرار على اتباع التفكير المعوج الغثائي والتدخل في التخصصات المختلفة بصورة تجمع بين الجهل وبين الكبر، يجب أن تحارب بصورة منتظمة ابتداء من مناهج التعليم وانتهاء بالإعلام حتى نعود إلى الأمل في تغيير حالنا (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [الرعد : 11] ويجب أن نعلم جميعا أن الفقه الإسلامي علم من العلوم عرّفه العلماء بأنه : « العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، وهو علم له مسائله وله مناهجه وله أدواته وله مساقاته الدراسية، وله مدارسه الفكرية، وله علومه المساعدة، وله فوائده ونتائجه، وأنه ليس سبيلا يرده كل من أراد أو فكر دون اعتماد على ذلك العلم، هو علم لا يعرف العنصرية ولا يريدها، فكل ذكر أو أنثى وكل أبيض أو أسود له أن يخوض طريق ذلك العلم، ولكن لا يجوز له بأي حال من الأحوال أن يتعدى حدوده وأن يقول فيه ما ليس له أن يقول، ليس من الليبرالية أن تعترض على علم الكيمياء فيما توصل إليه بمناهجه وأدواته، وليس من الليبرالية أن تتدخل في الطب وتعرض أراء الناس فيه، بل هذا من عقلية الرُّكة والخرافة التي تجر العلم إلى الانطباعات والرغبات والشهوات ووجهات النظر، وليس هذا بحاله، والفقه علم من العلوم من تعامل معه بهذه الطريقة استجلب للعارف بالحقيقة الضحك الممتزج بالبكاء، فإن شر البلية ما يضحك قال تعالى : (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف : 33] وهذه الأخيرة من المهمات العظام (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) واشتد تحذير الله لنا من هذا الطريق المهلك حيث يقول : (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته) [يونس : 17]
هذه هي الآية التاسعة من سورة الحجر في القرآن الكريم، وهي وعد من الله الذي أنزله بأن يحفظه، ولم يكن في مقدور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولا أحد من البشر من بعده أن ينفذ هذا الوعد. ولكن الواقع الذي نعيشه يؤكد أن الوعد قد تم، ويزداد الإعجاز عبر الزمان من كل جهة؛ فإن القرآن لم يحفظ في الخزانات بعيداً عن الناس، بل حفظه الأطفال بالملايين في كل مكان، وزاد من الإعجاز أن حفظه من لم يتعلم العربية ولم يعرف فيها كلمة واحدة.
وقد تعرض القرآن الكريم لمحاولات التحريف فلم تفلح، ولمحاولات الترجمة الخاطئة السيئة النية فلم تؤثر فيه، ولمحاولة الطباعة المحرفة، فبقي كما هو، ولمحاولة تقليده ومحاكاته بسيء الكلام وركيكه فلم يزحزح عن مكانته، بل إن كل ذلك أكد معجزته الباقية عبر الزمان، وأعلى من شأنه في صدور الناس، وكان كل ذلك بالرغم مما اشتمل عليه من العدوان والطغيان سبباً في تمسك المؤمنين به، وباباً جديداً للدعوة إلى الله ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وبدلا من إبادة المسلمين التي أرادها مشركو مكة ومن بعدهم الفرس والروم ومن بعدهم الفرنجة والتتار ومن بعدهم الاستعمار والتعصب في الشرق والغرب بدلاً من ذلك انتشر الإسلام وأصبح عدد المسلمين أكبر أتباع دين طبقاً لموسوعة جينز للأرقام القياسية، وهم يقدرون الآن بمليار وثلاثمائة مليون نسمة، وأحب أن أروي شيئا من هذه الرحلة القرآنية :
1- نزل القرآن بلغة العرب، وظل محتفظاً بلغته إلى يومنا هذه، وهذا الاحتفاظ جعله مرجعاً لكل من حاول أن يترجمه إلى لغة أخرى، ولقد ترجم منذ العصور الأولى خاصة ما ورد منه في رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأكاسرة والقياصرة؛ حيث وردت بعض الآيات في هذه الرسائل فترجمت إلى لغات المرسل إليه أثناء تلاوتها عليهم، والآن ترجم القرآن إلى أكثر من مائة وثلاثين لغة بعضها ترجم مرة واحدة وبعضها ترجم أكثر من مائتين وخمسين ترجمة كما هو الحال في اللغة الإنجليزية مثلا، وكثير منها ترجم مرات عديدة، وفي كل الأحوال يبقى النص القرآني هو المرجع، فالترجمة قد تكون سيئة النية وقد تكون من نص آخر غير العربية (كترجمة شوراكي إلى الفرنسية والترجمة إلى الأسبانية ..... إلخ) وقد تكون من شخص يجهل إحدى اللغتين أو اللغة المترجم إليها، وقد تكون ترجمة مذهبية أو طائفية أو شارحة لرأي المترجم. وفي كل الأحوال قد تكون مفككة وركيكة التركيب وقد تكون بليغة راقية الأسلوب، ولكن يبقى الأصل العربي ليرفع النزاع ويمثل الإسلام تمثيلاً حقيقياً من تحريف أو تخريف، وهذه مزية تفرد بها القرآن عن سائر الكتب المقدسة.
2- نقل القرآن بالأسانيد المتصلة المتكاثرة التي بلغت حد التواتر الإسنادي والجملي، ولقد أورد ابن الجزري في كتابه (النشر في القراءات العشر) أكثر من ألف سند من عصره (القرن التاسع الهجري) إلى القراء العشرة وهم قد نقلوا القرآن ممثلين عن مدن بأكملها كلها يقرأ كما كانوا يقرأون، وهذا ما يسمى بالتواتر الجملي؛ فلأن الناس جميعا يقرأون القرآن في مدينة معينة بهذه الطريقة وبهذا الأداء فكان هؤلاء القراء مجرد مندوبين عنهم وممثلين لقراءتهم وحافظين لطريقتهم في التلاوة وارتضاهم أهل كل مدينة لما رأوا فيهم مزيد الاهتمام وتمام العلم، فشهدوا لهم جميعا بذلك، فهناك ابن كثير (القارئ وليس المفسر) في مكة، وهناك نافع وأبو جعفر في المدينة المنورة، وهناك عاصم والكسائي وحمزة في الكوفة، ويعقوب وأبو عمرو بن العلاء في البصرة، وابن عامر في الشام، وخلف في بغداد وهؤلاء العشرة يرون قرآنا واحداً وطريقة كل واحد في القراءة تفسر القرآن تفسيراً يجعله واسعاً قادراً على أن يكون مصدراً للهداية إلى يوم الدين مع تغير الأحوال وتطور العصور.
والقرآن ما زال بين أيدينا قرآنا واحداً، وامتلأت كتب التاريخ والأخبار بمن قرأه قراءة خاطئة أو تعمد تحريفه، وظل القرآن كما هو لا يتزحزح ولا يتغير ولا توجد فيه نسخ كثيرة، ولا يحتار المسلم بين نسخة وأخرى ولا يحتاج إلى أن يتخير منها عدة نسخ، بل هو قرآن واحد من طنجة إلى جاكرتا ومن غانا إلى فرغانة. وكان جديراً بعد كل هذا أن يتغير لكنه لم يكن كذلك، إنه محفوظ في الواقع المعيش، ويحلو لبعض الناس أن تحشر هذه المخالفات من كتب التاريخ وهي مذكورة لتبين للناس أجمعين وفي كل العالم أن هذا الكلام من الحجارة التي ألقيت على القرآن أثناء مسيرته لم تؤثر فيه، وأنه تعرض لكثير من الضجيج ولكثير من الهجمات، فكان جبلاً شامخاً بحث، ليس من حول المسلمين وقوتهم؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا الله، بل بحفظ الله له كما وعد سبحانه.
3- ثم رأينا تقريبا كل مائتي عام من يقوم فيحاول محاكاة القرآن تكبراً أو مدعياً للنبوة أو الألوهية أو سافراً أو مفسداً في الأرض أو غير ذلك، فرأينا مسيلمة يحاول أن يحاكي جرس القرآن في كلمات هي أقرب إلى المزحة منها إلى الهداية، وكذلك سجاح وهي امرأة ادعت النبوة وأسقطت من فوقها شيئا من الصلاة، وجاءت محاولة أبي العلاء المعري في كتابه الفصول والغايات وإن صدقت الرواية فإنه يكون النزق اللغوي الذي يغري صاحبه بمثل هذه المحاولة، ويروى أن الناس قالت له : لما لا نجد عليه طلاوة كما نجدها في القرآن. قال : اقرأوه أربعمائة سنة في المحاريب تجدوا له طلاوة. (وكأن طلاوة القرآن جاءت من إلف الناس لا من جرسه الذاتي الداخلي) ونسي أبو العلاء إن صح عنه هذا أن القرآن كان عليه طلاوة وله حلاوة حينما أُنزل وليس بعد أربعمائة عام حتى قال الوليد بن المغيرة وهو لم يؤمن ولم يسلم : (إن له لطلاوة وإن عليه لحلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما هو يقول هذا بشر). وكتاب (الفصول والغايات) مطبوع مرتين موجود بالأسواق يمكن لأي شخص أن يقرآه وسيعلم حينئذ ما معنى القرآن وما معنى كلام الله وما الفرق بين كلام الله وكلام البشر، وأن هذا القرآن ما كان في مقدور أحد أن يفتريه من دون الله.
وعند ابن المقفع الأديب المشهور مترجم كليلة ودمنة كتاب حاول فيه أيضا ذلك وهو (الدرة البهية) وهو مطبوع أيضا وإن كان أصغر حجماً بكثير من (الفصول والغايات) وهو إن صح ما قيل في شأنه فإنه دلالة أخرى على ذلك.
وهناك كتاب (البيان) وكتاب (الأقدس) عند البهائيين، وهناك محاولة هزلية من بيرم التونسي نراها في مجموعته الكاملة التي نشرت بالهيئة المصرية العامة للكتاب، وقد أعلن بيرم التونسي التوبة وصدقت توبته من هذه المحاولة الهزلية التي سخر فيها من حزب الوفد ومن سعد زغلول بما يشبه جرس القرآن وكان رحمه الله يقول : ( لا أجعل في حل من يروي عني ما قلته) ثم ألف في هذه التوبة أغنية نداني لبيته لحد باب بيته التي غنتها أم كلثوم يتكلم فيها عن رجوعه وتوبته إلى الله بعد إسرافه على نفسه.
4- وعلى شبكة المعلومات الدولية نرى أنيس سورس وهو مسيحي من فلسطين غادرها سنة 1976 قد ألف شذرات أسماها (الفرقان الحق) وجعله في 77 سورة واختار أسماء لها تشبه أسماء سور القرآن تبدأ بسورة الفاتحة وحملها العقائد اليهودية والمسيحية وطبع كتابه في دار نشر أومجا 2000 بأمريكا، ويباع كتابه هذا بعشرين دولاراً أمريكياً. وهو دليل آخر على عظمة القرآن بصورة قاطعة، فالفرق بين فرقان سورس الذي يعلن أنه من عند نفسه وبين القرآن الكريم كالفرق بين المخلوق والخال. وإذا قرأت هذا المؤلف فمرة تضحك، ومرة تحصل لك كآبة، وعلى كل حال تجده مفككاً ويحزن المرء أن يضيع عمره في هذا الهراء. مقارنة بسيطة بين هذا الكلام وبين القرآن تعلي من مكانة القرآن في نفسك وتعرف أنه من عند الله فعلا، وتتم كلمة الله في حفظه على مر العصور، إن حفظة القرآن وتوفيق الله لهم في علوم القرآن وأسانيدها ليس من عملهم بل من إرادة الله.
5- إن العشرين سنة القادمة هي سنين القرآن والدراسات القرآنية فهو كتاب هداية لمن أراد أن يجعله كذلك، وهو يتضام ويغلق أمام من أراد العبث به أو معه. قال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِياًّ لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : 44] وقال سبحانه (وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً) [الإسراء : 82] فهو هدى للمتقين وحجة على المفسدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
هذا عنوان مؤتمر دُعيت إليه لإلقاء المحاضرة الافتتاحية فيه بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة في الأسبوع الماضي، ونظمته جهات ثلاث تعاونت على عقده وهي : برنامج حوار الحضارات بالكلية تحت رعاية عميدها الفاضل الدكتور كمال المنوفي ورئاسة الدكتورة نادية مصطفى ومنسق البرنامج د. سيف عبد الفتاح، والمعهد العالمي للفكر الإسلامي تحت رئاسة د. عبد الحميد أبو سليمان، والبنك الإسلامي للتنمية في جدة التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي.ومن كثرة المؤتمرات واللقاءات وآلاف وملايين البحوث والأوراق المكدسة على الأرفف منذ سنوات زادت على المائة عام ذهبت إلى المؤتمر بطريقة عادية فقد تعودنا الذهاب والكلام والانصراف.
وتسلمت الأبحاث، وألقيت كلمتي الافتتاحية وانصرفت، وأخذت في تقليب الأبحاث كالمعتاد وفوجئت أن من حق الأساتذة المشاركين أن أنبه إلى أبحاثهم حيث شعرت أن الأمر هذه المرة مختلف، وأنه عسى أن يكون ذلك هو الضوء الذي ينير أو هو أول الخيط الذي يتبع.
شارك في المؤتمر وفي كتابة الأبحاث نحو خمسين عالماً من مصر والسعودية وماليزيا وأمريكا والمغرب والأردن وإيران في تخصصات مختلفة من السياسة والاقتصاد والتربية والاجتماع والشريعة والإعلام والهندسة واللغة والفلسفة، ومن الأبحاث المقدمة وكلها جديرة بالقراءة والمتابعة واستخلاص منهج للعمل منها أتكلم عن ثلاثة فقط لضيق المقام :
1- بحث الدكتور رفعت العوضي تحت عنوان [القيم الإسلامية الحاكمة لتنمية المجتمع] وهو أستاذ الاقتصاد في جامعة الأزهر. وجعل أول هذه القيم هي قيمة الحرية : الحرية في العقيدة، والحرية في السياسة، والحرية في الاقتصاد. ويرى أن هذه القيمة في محاورها الثلاثة تلك هي أول الطريق للتنمية الشاملة؛ فإن الإنسان الحر هو الذي ستصدر منه التنمية، ويكون مهيئاً لعملية الاستخلاف وإعمار الأرض. والقيمة الثانية هي الإعمار : وهو مبني على مدى وضوح علاقة الإنسان بالكون والحياة ومبني على مدى التفاؤل والتشاؤم في مجال الاقتصاد ومبني على توظيف ذلك في الواقع. والقيمة الثالثة قيمة الصلاح الاقتصادي التي تلتزم به الدولة، وهي لابد أن تتخلق بأخلاق في إدارة ماليتها وتتخلق بأخلاق أخرى في حماية الحافز عند الأفراد. ثم القيمة الرابعة، قيمة الصلاح الاقتصادي التي يلتزم بها الأفراد. الخامسة : الصلاح الاقتصادي الذي بها الغني. والسادسة الصلاح الاقتصادي الذي يلتزم بها الفقير. السابعة ثقافة المقاومة، ويتكلم فيها عن وجوب تربية أفراد المجتمع على مقاومة الخطر الخارجي أيا كان شكله، وأن الهروب من المواجهة لن ينجي الهارب، ولن ينجي وطنه، وأن التسليم بأي نوع من المطالب ولو جزئياً يؤدي إلى ضياع الهمة ويؤدي بالحتم إلى قبول ما هو أسوأ لغير مصلحة الوطن، وأن ثقافة المقاومة من شأن مؤسسات كثيرة فهي مسئولية جماعية.
2- والبحث الثاني بحث الدكتور سعيد إسماعيل تحت عنوان : [ازدواجية التعليم وأثرها على ثقافة الأمة] وهو أستاذ التربية بكلية التربية بجامعة عين شمس، وبجانب المتعة التأريخية للبحث في دراسته لقضية ازدواجية التعليم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وأنواع هذه الازدواجية وسلبياتها وأسبابها وطرق التخلص من هذه الازدواجية ودرجاتها؛ فإنه نبه على أمر لابد أن نكرر التأكيد عليه وهو قضية الاهتمام باللغة العربية الفصيحة ووظائفها في حياة الأمة، وكيفية استثمار إمكاناتها في التطور للوفاء بالحاجات الحضارية المتجددة وتنميتها لإرساء وحدة الأمة الفكرية وتطويرها وإشاعتها في الحياة العامة وسيلة للتفكير، ووضح لذلك مقترحات جديرة بالنظر والتنفيذ وهو من كبار خبراء التربية في مصر والعالم العربي والإسلامي.
3- ويأتي البحث الثالث للدكتور عمار علي حسن تحت عنوان [الطرق الصوفية وعملية التنمية في العالم الإسلامي] وهو باحث في العلوم السياسية فكتابته في الموضوع ليست من الداخل، بل نظر خارجي يدرس ويحلل ويتوقع ويتكلم بحرية الناقد الذي يحسب ما للشيء وما عليه، ونخرج من بحثه إلى أن التاريخ يؤكد أنه تحول إلى مؤسسة مؤثرة وأن الرهان عليه من قبل الأمريكان بعد أحداث 11 سبتمبر محل نظر، فالتصوف في صورته النقية والفاعلة قد يكون المخرج الحقيقي للأمة وهو منفذ يمكن منه التربية واسترجاع الهمة المفقودة ومعنى الجهاد الواسع الذي يشمل جهاد النفس والعمل الصالح والعمار ونبه البحث على دور الزوايا وعلاقتها بالعلم والثقافة السائدة التي نحتاج إليها للخروج من الأزمة.
4- تميزت الأبحاث بالدخول في الموضوع مباشرة وبوضوح مقترحات قابلة للتطبيق وبرامج عمل واضحة في ذاتها وفي أهدافه وفي النموذج التي تنطلق منه، وعلى الطرف الآخر من هذا المجهود المشكور. أرى أن الثقافة السائدة الآن في مجتمعاتنا بعد هذه المرحلة الطويلة خلال القرنين الماضيين قد وصلت إلى حالة من الأزمة كما عبر عنها عنوان المؤتمر، وأن التنمية المبتغاة التي ندعو إليها تحتاج إلى الخروج من تلك الأزمة، وإلا فإن التنمية أيضا في أزمة وأشبه هذه الثقافة المأزومة بسيارة قد غرزت في رمل أو وحل وأن إخراج هذه السيارة من الوحل ليس هو كل شيء فإننا عندما أردنا أن نخرجها وجدناها مكبلة بالكوابح، وعند فك هذه الكوابح وجدناها قد صدأت في أجزائها وعندما جلونا الصدأ عنها وجدناها معطلة تحتاج إلى إصلاح فني وعندما أصلحناها وجدناها من غير وقود، فلما اجتهدنا فوجئنا بالوقود اكتشفنا أنه لا يوجد سائق لها، وعندما أوجدنا السائق بالتي واللتيا لم يكن يعرف الطريق فسار بنا في متاهة، وكلما رأى شيئاً ظنه هو الطريق الصحيح فسار فيه ثم رجع فضاع الوقت، وأظلم الليل فازدادت المتاهة وازداد الإجهاد به وبنا... فهل من مخرج معقول ؟ هذه الأزمات نمارسها سوياً الآن فهناك منا من هو في مرحلة الغرز ومنا من هو في مرحلة الكوابح ومنا من هو في مرحلة الصدأ، ومنا من هو في مرحلة العطل، ومنا من هو في مرحلة فقد السائق أو فقد الطريق أو الإجهاد المزري.
5- هذه محاولة للوصف وليس تشاؤماً محبطاً، بل دعوة إلى أن نلملم شعثنا ونفكر بأصالة، خارجين عن التقليد لغيرنا أو بسحب الماضي في حياتنا، وألا نخرج عن هويتنا، وهذا ممكن حتى الآن، ونخاف إن استمرت الأزمة ولم تؤخذ بجدية أكبر أن نصل إلى مرحلة لا نجد فيها السائق ولا حتى السيارة من أساسه وحينئذ فإن الأزمة ستصير كارثة بكل المقاييس، وحتى ننبه إلى نقاط واضحة فإنه لابد من مراجعة مناهج التعليم الأساسي والعالي ومراجعة قومية لا تقتصر على اتجاه ولا تتبع مناهج الغير بل تنطلق من رؤيتنا التي لابد أن تصاغ في صورة واضحة أيضا. نحن شعب يؤمن أن الإنسان مخلوق لخالق، وأنه يكلف في هذه الحياة الدنيا وأن هناك يوما آخر نعود فيه إلى ربنا، وأن الإنسان مكرم ومحترم وليس مجرد جزء من الكون أو مادة تجري عليه الأحداث بعبثية، وأن الأمر صادر عن حكيم سبحانه. ونحن شعب نؤمن بالحرية والتعددية وأن البحث العلمي لا نهاية له ولا حد له ولا سقف يحده. ولكن نستعمل منتجات العلم في العمارة لا في الفساد، وأننا ندعو إلى الإبداع لا إلى الهتر، وأننا نحترم الأسلاف ونرى أنهم قاموا بواجب عصرهم، كما يجب علينا أن نقوم بواجب عصرنا، وأننا نحترم الأسرة، ونحترم الجماعة في جمعيتها وأعني بذلك كله الشعب المصري بكل طوائفه المسلمين والمسيحيين، بل إن هذا النموذج هو نموذج العرب جميعا كذلك.
6- وبعد مراجعة مناهج التعليم يجب تحويل مشروع الثقافة إلى مطلب قومي يشترك الإعلام بكل مكوناته فيه، وهذا يحتاج إلى جهد وعمل غير تقليدي وطاقة غير عادية، بل يحتاج على العمل بالليل والنهار. إلا أن الوضع النفسي لشعبنا عبر التاريخ يسمح بالأمل والاعتماد على أن استثارة هذا عند جمهور الرأي العام يلقى قبولاً ونشاطاً وحراكاً.
7- وأرى أن حركة البعثات العلمية يجب أن ترجع مرة أخرى خاصة إلى البلاد الجادة، وأخص جامعة الأزهر شيء كبير من إرجاع البعثات التي أرجعت لنا رجالا من وزن الإمام عبد الحليم محمود أو محمد الفحام أو محمود حمدي زقزوق وأستاذه محمد البهي ورئيس الجامعة أحمد الطيب والأسبق عبد اللطيف بدوي رحم الله من انتقل وبارك فيمن يسعى لصالح البلاد والعباد إنه نعم المولى ونعم النصير.
1- في معاجم اللغة تحليل لطيف لتلك الحشرة التي تعلمنا الصبر إذا أردنا أن نتعلمه، وهي حشرة الذباب؛ حيث إنها سميت بذلك لأن هذا النوع كلما ذبه الإنسان عنه وأبعده فإنه يعود إليه. ولا يدرك الذباب أنه غير مرغوب فيه، وأنه قد أُبعد منذ لحظات في محاولة لطرده، بل قد تكون المحاولة لقتله أيضا، وهذه الصفة تجعل منه حشرة رذيلة، وهذه الرذالة تعني أنها لا تدرك شأنها وعلاقة الآخرين بها، ولما كانت لا تدرك ضعفها ولا رغبة الآخرين في إبعادها بل وإبادتها فإنها تتصرف تصرفا غبيا، وعدم الإدراك مع الغباء يدل على أنها منعدمة الشعور والإحساس مع شيء من البلادة.
2- وتحدث ربنا عن الذباب في كتابه الكريم ضارباً به المثل حيث جمع بين الضعف وهذه الصفات التي تجعل المقابل له ضعيفا أيضا من شدة إصراره على العود وعدم اهتمامه بشعور الآخرين، كما أنه عندما يسلب منا شيئاً من طعامنا أو شرابنا، بل من دمنا إن كان من نوع مصاص الدماء فإننا لا نستطيع أن نصل إلى استرداد حقوقنا منه سواء أخذها وطار أو جعلناه تحت أيدينا وقتلناه فإننا في جميع الحالات لا نقدر على رد حقوقنا، فالمصيبة قد حلت بتسلطه علينا وسلبه منا ما استطاع أن يسلب، ويحكى أن بعض الخلفاء سأل الشافعي رضي الله عنه : لأي سبب خُلق الذباب ؟ فقال : مذلة للملوك. وكانت ألحت عليه ذبابة، فقال الشافعي : سألني ولم يكن عندي جواب فاستنبطته من الهيئة الحاصلة.
3- وتحدث ربنا على الجانب القدري في تسليط هذه الحشرة على الإنسان، وأنه على الرغم من ضعفها وقلة حيلتها وصغر جسمها إلا أن من دون الله لا يقدر أن يخلقها، بل هي مخلوق لله، بهذه الصفات التي جعلتها كثيرة منتشرة بالرغم من كل أنواع المقاومة التي عرفها الإنسان ابتداء من (المنشة) و(المرزبة) وانتهاء بالمبيدات الحشرية المنتشرة في العالم، وما بذلته الصين للقضاء على الذباب والعصافير المسلطة على المحاصيل الزراعية. ومن أشهر الحملات التي شنت للقضاء على الذباب تلك التي نظمها الأمريكيون قبل الحرب العالمية الأولى؛ حيث كانوا يخصصون خمس دقائق في اليوم لقتل الذباب واصطياده. وهكذا كانت تدق الأجراس وصفارات الإنذار كل يوم في الساعة الواحدة إلا خمس دقائق زوالاً، فيخرج الجميع لأداء هذا الواجب طيلة خمس دقائق يعودون بعدها إلى أعمالهم. وكانت تعرف هذه العملية في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، باليوم الوطني للذباب.
يقول ربنا سبحانه وتعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج : 73].
4- ولما كان هذا النوع من المخلوقات التي تبين قدرة الله ويضرب الله بها الأمثال للناس لعلهم يتفكرون لما كان هذا النوع شائعا، أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكما يدل على عالمية الإسلام، وأنه لكل زمان ومكان، ولكل الأشخاص في جميع الأحوال وأنه دين الرحمة والعفو، وأنه دين اليسر والتيسير والرفق، وأنه دين حياة؛ حيث قال فيما أخرجه البخاري في صحيحه : ( إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِى إِنَاءِ أَحَدِكُمْ ، فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ، ثُمَّ لْيَطْرَحْهُ ، فَإِنَّ فِى أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً وَفِى الآخَرِ دَاءً ) والأصل عند وقوع ميتة في أكل أو شرب أن هذا الطعام ينجس فلابد من إلقائه وعدم أكله؛ لأن أكل النجس حرام، هذا هو الحكم الأصلي، واستثنى منه هنا الذباب لأنه بشيوعه وعموم البلوى به، ورأفة بالفقراء في دول الجفاف أو بالبدو أو حين الكوارث والحروب أو المجاعات؛ لأنه لوقع الذباب في إناء واحد منهم ولم يكن الحكم جواز أكل ذلك لوجب عليه أن يهدر الأكل الذي هو في أشد الحاجة إليه، فكان وراء هذا الحديث الذي يأنف منه كثير من الناس حكماً رحيماً بآخرين، وهذا أساس لهم لفهم النصوص الشرعية، فالحديث ليس فيه إلا توجيهاً يخفف عن من ابتلى بشيء من ذلك، أما أنا فأنا ائنف أن أغمس الذباب في أكلي ولا أفعله؛ لأن هذا ليس أمراً شرعياً جاء به الشرع وألزمني به، بل هو رخصة ورحمة تثبت ما ذكرناه.
وكثير من الناس لا يفرق بين المستويين، مستوى الرخصة التي تناسب عالمية الإسلام، ومستوى الواجب اللازم أو المندوب المطلوب لإقامة حياة أكثر سعادة، وهؤلاء على ثلاثة أقسام : قسم حول هذا إلى ذاك ودعا إليه شريعة، وقسم أنكر فمنهم من رفض أن يكون هذا حديثاً، وقسم اعترض على الإسلام في ذاته.
وقواعد فهم الشريعة مهمة للغاية في هذا المقام، فهي لا تجعل هناك إرهاباً فكرياً عند سماع ما تأباه النفوس أو تعافه الثقافات، بل الشأن حينئذ التفكر والتدبر والسؤال وليعلم من ينكر هذا أنه لم يرتكب إثما بسؤاله فقد علمنا سيد البشر صلى الله عليه وسلم أنه كان يعاف بعض الطعام ولا يحبه ويترك غيره يأكله.
فأبى أن يأكل الضب فعن ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : « دَخَلْتُ أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ مَيْمُونَةَ فَأُتِىَ بِضَبٍّ مَحْنُوذٍ فَأَهْوَى إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ فَقَالَ بَعْضُ النِّسْوَةِ اللاَّتِى فِى بَيْتِ مَيْمُونَةَ أَخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ . فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ فَقُلْتُ أَحَرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « لاَ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِى فَأَجِدُنِى أَعَافُهُ » . قَالَ خَالِدٌ فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ . [متفق عليه]، وأبى أن يأكل الأرنب لمجرد إشاعة حولها وهي أنها تحيض، فعن عبد الله بن عمرو : « َإِنَّ رَجُلاً جَاءَ بِأَرْنَبٍ قَدْ صَادَهَا فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو مَا تَقُولُ قَالَ قَدْ جِىءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا جَالِسٌ فَلَمْ يَأْكُلْهَا وَلَمْ يَنْهَ عَنْ أَكْلِهَا وَزَعَمَ أَنَّهَا تَحِيضُ » [رواه أبو داود].
وذكرني الذباب أيضاً بفريق من الناس يعيش بيننا لم يجد له أسوة إلا في الذباب بهذه الصفات المذكورة فإذا شعر أحد من الناس في نفسه أنه كذلك فالنصيحة له أن يتدارك نفسه وأن يخرج من هذه القدوة السيئة والتأسي المنحرف، وليرجع إلى البشر وإلى أسوتهم الحسنى ولينتمي إليهم بشعوره ووجدانه ويزيد من مساحة الحب في قلبه بدلاً من الحقد والكبر والاضطراب وإن كان شعور الذبابيين بذلك لن يأتي إلا بأمر الله وهدايته؛ لأن المفترض أنه بليد الحس والشعور، اللهم لا تجعلنا منهم وقنا شرهم.
5- ومن صفات الذباب أيضاً أنه يقف على كل شيء، على الأقذار وعلى الطعام وعلى الأجسام، على السائل والجامد، لا يبالي أين وقف، ولا من أين يأخذ ما يأخذ، ومن مثال ذلك أننا نراه يلتف حول الجيد ويلتف حول الرديء ويمكن مع كثرته لا نعرف على ماذا يقف على حلوى أو قمامة ؟ ولذلك في عالم الإنسان لم تكن الكثرة أبدا مقياساً للحق، فكم رأينا باطلاً قد التف الناس حوله التفاف الذباب على القمامة، وكم رأينا حقا قد خلا من أي تبع قال تعالى : ﴿ قُل لاَّ يَسْتَوِي الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبِيثِ ﴾ [المائدة : 100].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « عُرِضَتْ عَلَىَّ الأُمَمُ فَرَأَيْتُ النَّبِىَّ وَمَعَهُ الرُّهَيْطُ وَالنَّبِىَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلاَنِ وَالنَّبِىَّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ». [رواه مسلم]. فالحق حق ولو لم يتبعه أحد، والباطل باطل ولو اتبعه الناس أجمعون.إن هذه القاعدة البسيطة أصبحت عند كثيرين محل نظر ومناقشة على الرغم من أنها قاعدة غاية في الخطورة وهدمها يخفي وراءه الشيء الكثير.
6- ويذكرني الذباب بالفرق بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى؛ حيث نجد في حضارتنا وموروثنا هذه الأداة التي ندفع بها الذباب مصنوعة من شعر الخيل، والدفع بها إما أن يبعدها وهو الغالب، وإما أن يقتلها ولا يكون ذلك إلا إذا كانت الحشرة تريبة وفي موضع معين. في حين أن الأداة التي عند الآخرين صنعت من بلاستيك ـ وقد شاعت فينا لما تركنا فلسفة حضارتنا وأنها كانت حضارة رحيمة بالإنسان والأكوان ـ وهذه الأداة الأخرى تقتل مباشرة، وأداتنا عند القتل لا تحطم الجسد وهذه تحطم الجسد تحطيما شديداً، وأظن الأمر على بساطته يحتاج إلى مراجعة شاملة.
7- ويذكرني الذباب بعيونه المركبة التي ترى من كل اتجاه بأنه ليس مثالاً للمؤمن الذي أمر بغض البصر وعدم التدخل في شئون الآخرين وعدم التلصص عليهم قال تعالى : ﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور : 30] وقال سبحانه : ﴿ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ﴾ [ق : 45] وقال جل شأنه : ﴿ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ﴾ [النساء : 80].
عندما نتأمل فيما يحبه الله وفيما لا يحبه نعرف منظومة القيم التي تمثل مطلق الأخلاق البشرية الحميدة، التي بها عمارة الأرض والتي بها معيار الحكم على الأشياء والأفعال بالحسن والقبح، والتي بها حياة العدل، وحيث افتقد البشر ذلك المعيار فإن النكد والبلاء يحل بنا حتى مع حسن النوايا فليس بحسن النية وحده يتم المقصود.
1- قال تعالى : (وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ) [البقرة : 190].(وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) [البقرة : 205] (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ) [المائدة 64] (وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ) [البقرة : 276] (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران : 140] (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) [البقرة : 36] (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) [الإسراء 37 ، 38] (لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْتَكْبِرِينَ) [النحل : 23] (وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً) [النساء : 107] (وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ) [الأنعام : 141] (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ) [القصص : 76] (لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً) [النساء : 148].
2- ثلاث عشرة صفة لا يحبها الله، إذا ابتعد الإنسان عنها كان عبداً ربانياً، وصلح بسلوكه الاجتماع البشري، وحسنت علاقته مع ربه ومع نفسه ومع الناس، بل مع الكون كله وهو يسير في طاعة الله طوعاً أو كرهاً. (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) [الرعد : 15]. (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت : 11].
3- وأول صفة هي صفة العدوان، وينهى عنها الله بنهي صريح مباشر، صار كالقاعدة المطردة [ولا تعتدوا] فالعدوان يفسد نفس الإنسان، ويولد هذه النفسية التي نراها عند الطغاة عبر التاريخ، غباوة في التصرف، وسوء تقدير للأمور وبلاء في النتيجة، مهما زين الطاغية المعتدي بكلامه أفعاله، وبرر هذه الأفعال فما دامت في نطاق العدوان كانت عدوانا، ونرى ما يحدث بالعراق وفلسطين من دماء تراق وطغيان لم يشهد التاريخ مثله، فقنبلة واحدة تهلك العشرات، وطلقة جوية واحدة تهلك المئات، فليتكلم كل البشر في تبرير ذلك إلا أن الحقيقة الباقية هي [إن الله لا يحب المعتدين]؛ ولذلك تتم المؤاخذة من المعتدين في الدنيا، ثم يرجعون إلى الله فيوفيهم حسابهم، والتبري من صفة العدوان يجب أن يتخلق به الإنسان على مستواه الشخصي وفي تربيته لأبنائه وعلى مستوى المجتمع، بل على مستوى الدول والعلاقات بينها.
4- ولذلك فإن الله لا يحب الفساد ولا المفسدين، والفساد ينتج من العدوان، كما أنه لا يحب الظالمين والظلم هو التصرف في ملك الغير بدون إذنه، والعدوان فيه تصرف في ملك الغير بدون إذنه، ونتيجة الفساد والظلم ـ وهو مشتق من مادة الظلام التي هو ضد النور ـ وعاقبتها هي مخالفة مراد الله من خلقه فليبارز الله بالمعصية من أراد حرب (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف : 21].
5- والمعتدي الذي لا يرتدع فيه صفات كلها يكرهها الله ولا يحبها : الكفر (وهو ستر القلب عن استماع موعظة الخالق، بدرجات الستر المختلفة التي تنتهي بإنكاره أو إنكار وحيه)، والإثم (أي طلب الإثم وعدم الاهتمام بأنه إثم ما دام ينفذ ما يريد؛ لأنه يفهم أن الحياة الدنيا نهاية علمه وغاية أمله (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) [الروم : 7] ولا يهتم بأمر الله فهو مختال بنفسه فخور بفعله مستكبر في نفسه، مستكبر في الأرض بغير الحق، فشأن الإنسان الضعف، ولذلك أمر بالحلم والأناة وليس بالكبر الذي يعمي بصيرته فلا يرى سوى نفسه ورأيه ولا يرى الواقع على ما هو عليه، ولا يرى المستقبل بعقل راجح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد قيس : (إن فيك لخصلتين يحبهما الله : الحلم، والأناة) [رواه مسلم].
6- ومجموعة الإسراف في الأكل والشرب وهما عنوان الترف والانشغال بالدنيا بجميع شهواتها (فذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون) [الحجر : 4]. والإسراف في القتل (فلا يسرف في القتل) [الإسراء : 33]. والإسراف في الإنفاق (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً) [الفرقان : 67]. والإسراف في الذنوب من غير توبة (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر : 53]
7- ومجموعة الصفات السابقة تولد صفتين مذمومتين هما : الفرح القاصر، والجهر بالسوء، والفرح الذي هو السرور مطلوب لا شيء فيه، وإنما الفرح بالطغيان والعدوان وإهلاك الحرث والنسل، فرح قاصر على نفس الإنسان لا يفرح سواه به (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) [البقرة : 204 ، 205] (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي القُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ) [القصص : 76).
أما الجهر بالسوء فهو أمر ذميم في التربية وفي المجتمع وفي العلاقات الدولية وفي الحكم بين الناس؛ حيث يتحول المنكر إلى معروف يرضاه الكافة وتشيع الفاحشة والبذاءة في الناس، ويتحول المعروف إلى منكر ويختل الميزان ويختلط الأمر حتى على الحكماء، ولا يبقى للناس أصولاً يرجعون إليها في تعاملاتهم. وقد بين النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ذلك في سنته الشريفة فعن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها قالت : (بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم إِذِ اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَأَذِنَ لَهُ فَقَالَ السَّامُ يا محمد فقال : النبي صلى الله عليه وسلم وعليك. فقالت عائشة : فهممت أن أتكلم فعلمت كراهية النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فسكت. ثم دخل آخر فقال: السام عليك. فقال : وعليك. فهممت أن أتكلم فعلمت كراهية النبي صلى الله عليه وسلم لذلك. ثم دخل الثالث فقال : السام عليك. فلم أصبر حتى قلت : وعليك السام وغضب الله ولعنته إخوان القردة والخنازير أتحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يحيه الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش قالوا قولا فرددنا عليهم إن اليهود قوم حسد وهم لا يحسدونا على شيء كما يحسدونا على السلام وعلى آمين » . [رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي واللفظ لابن خزيمة].أما من ظُلم فإن الجهر بالسوء منه نوع من أنواع القصاص الذي به الحياة فهو ليس سيئاً بالحقيقة إنما سمي بذلك لصورته فقط (وجزاء سيئة سيئة مثلها) والعقاب الرادع عن الجريمة ليس سيئة إلا في الصورة دون الحقيقة.
وجماع ذلك كله قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل : 90].
الحب شعور إنساني عظيم، يدل على الحياة، كما يدل على الإنسانية، وهو أحد مشتقات الرحمة وآثارها، فالرحيم هو الذي يحب، ومن أحب دل على أنه رحيم، والحب عطاء، والحب كرم، والحب حالة فريدة؛ ولذا قالوا : من أحب لا يكره، وإذا فُقد الحب دل ذلك على فقد الرحمة، وإذا فُقدت الرحمة فلا تسأل بعد ذلك عن مدى الفساد في الأرض، ومدى الظلم المنتشر ومدى التدهور المستمر.
1- إلا أن الحب في الإسلام تعدى كونه شعوراً وأحاسيس إلى كونه فريضة وواجباً، وتعدى الحب بمعناه الفردي بين الرجل والمرأة إلى معناه الشامل الذي يجعله مقياساً للحياة، وأساساً للسلوك، ومفتاحاً للأخلاق، فالحب للحياة بأشيائها وأحداثها وأشخاصها ومبادئها أمر مقرر في القرآن الكريم، ولكن بعد تحويله إلى طاقة فاعلة للخير والحق والقوة والتعمير.
2- ولنبدأ بما يحبه الله، وما لا يحبه وهي مجموعة من الآيات التي ترسم دستور الحب الحقيقي غير المزيف؛ حيث يختلط الحب حينئذ بالشهوة والرغبة ويختلط حينئذ بالمصلحة الخاصة المشبوهة في حين أن الحب الحقيقي شفاف، دائم، قد يشتمل على الشهوة دون فساد، وقد يشتمل على المصلحة دون أنانية، وقد يشتمل على الغاية دون خيانة، إنه حب اشتقنا إليه.
فيقرر القرآن حب الأشياء ولا يجعلها دليلا على الخير دائما يقول الله تعالى : (وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة : 216]، ويقول سبحانه : (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص : 56]، ويقول في حب المبادئ : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبـُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النور :22]
3- فما يحب الله ؟ قال الله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يحب التَّوَّابِينَ وَيحب المُتَطَهِّرِينَ) [ البقرة : 222]. وقال سبحانه : (بلى من أوفى واتقى فَإِنَّ اللَّهَ يحب المُتَّقِينَ) [ آل عمران : 76]. (وأحسنوا إِنَّ اللَّهَ يحب المُحْسِنِينَ) [ البقرة : 195]. (وما ضعفوا وما استكانوا وَاللَّهُ يحب الصَّابِرِينَ) [ آل عمران : 146]. (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ) [ المائدة : 42] (فإذا عزمت فتوكل على الله إِنَّ اللَّهَ يحب المُتَوَكِّلِينَ) [ آل عمران : 159]. وقال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفاًّ كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ) [الصف : 4].
4- فهذه ثمان صفات أخبر القرآن الكريم بأن الله يحبها في عباده، فهو يحب من عبده إذا أخطأ أن يرجع عن خطئه، حتى لو تكرر الخطأ أو الخطيئة، فهو يقبل التوبة من عبادة ويعفو عن كثير، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) [رواه أحمد والترمذي وصححه الحاكم في المستدرك]. والتوبة فلسفة كبيرة في عدم اليأس وفي وجوب أن نجدد حياتنا وننظر إلى المستقبل، وأن لا نستثقل حمل الماضي، وإن كان ولابد أن نتعلم منه دروساً لمستقبلنا، لكن لا نقف عنده في إحباط ويأس، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. التوبة فيها رقابة ذاتية تعلمنا التصحيح وتعلمنا التوخي والحذر في قابل الأيام، وهي من الصفات المحبوبة فلنجلعها ركناً من أركان الحب.
5- والله يحب أيضا المتطهرين في ظاهرهم وباطنهم، فإن كانت التوبة من قبيل الطهر الباطني، فإن النظافة من الطهر الظاهر، والنظافة في الجسد والثياب والأثاث والمكان جزء لا يتجزأ وركن ركين في عبادة الله عند المسلمين (أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة : 125]، ولنجعل الركن الثاني هو التطهر، وهو معنى يمكن أن يتحول إلى إجراءات محددة في حياتنا على مستوى الأمة وعلى مستوى الجماعة، وعلى مستوى الفرد.
6- فإذا اتصف الواحد منا بالتوبة والطهر فإنه يتصف بالتقوى وهي الخوف الناتج من الحب وليس الناتج عن الخشية، فالتقي هو الذي يخاف أن يغضب حبيبه، وهو الذي يخاف على حبيبه، وهو الذي يمتنع عن كل ما يؤذيه ويسارع في هواه
لو كنت حقا حبه لأطعته ** إن المحب لمن يحب مطيع
7- وإذا كان التقي يبدأ بنفسه، فإن المحسن يتعدى إحسانه لغيره، ولذلك أحب الله المحسنين، وثواب الفعل المتعدي نفعه إلى غيره أكبر وأحسن من الفعل الذي قد يكون قاصراً. إن هذا يدل على نسق مفتوح، مفتوح على الناس، مفتوح على العالم، مفتوح على الآخر، فهذا ركن رابع من أركان الحب.
8- فإذا فعلنا ذلك فلابد من الصبر والمثابرة والاستمرار فإن (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) [متفق عليه] والصبر صفة تتحول إلى ملكة راسخة في النفس، والله يحب الصابرين أي أنه لا يحب الحائر المتردد الذي يبدأ العمل ثم يتركه، وهو الركن الخامس من الحب.
9- والعدل أساس الملك، ولذا فإن الله يحب العدل ويأمر به ويرشدنا إلى أنه قيمة مطلقة لا تتغير ولا تتبدل كما يراها بعض من عبد المصالح وأخرج الله من حياته، فأصبح بذلك ظالماً والله لا يحب الظالمين بل يحب المقسطين هل هذه الحقيقة أصبحت لدى بعض البشر محل نظر أو مناقشة ؟ يبدو من تصرفاتهم أنها أصبحت كذلك، فعلى هؤلاء أن يدركوا أن الحب قد فقد أحد أركانه إذا فقد العدل ولا حقيقة للشيء بدون ركنه.
10- فإذا أضل الناس أو قدر الله عليهم حرمانهم من نعمة الحب ودخلوا في غيره من الكراهية فعلينا ألا ننساق إليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تكونوا إمعة تقولون : إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا) [رواه الترمذي والطبراني في الكبير].
11- إن هذه الصفات هي التي تعد ناشر الخير والسلام، تعد المجاهد في سبيل الله : الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر الذي يريد أن يمنع الشر ويرفع الطغيان والعدوان، وحينئذ لا نجد المفسد الذي يدعي الإصلاح، ولا المرجف الذي يدعي الإسلام قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) [البقرة : 204، 205]. ولا نجد من يلبس الحق بالباطل قال سبحانه : (لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيـلاً) [الأحزاب : 60، 61].
(والترجمة الدقيقة لكلمة [Terrorism] هي كلمة [الإرجاف] في العربية، واسم الفاعل مرجف وجمعها المرجفون، وليس الإرهاب الذي هو بمعنى قوة الردع وليس الإفساد في الأرض، وهذا بالمناسبة من قبيل تحرير المصطلح)
هذا جانب من الحب وله جوانب أخرى.
السيرة النبوية كاشفة عن خصائص المصطفى صلى الله عليه وسلم
من أهم ما ميز السيرة النبوية أنها كشفت عن عظمة المصطفى وخصائصه الفريدة التي انتقلت إلى خصائص الأمة والرسالة ذاتها، ومن هذه الخصائص :
أولا : حفظ الكتاب الذي أرسل به :
قال الله تعالى : ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر :9]
إن هذه الآية وعد من الله الذي أنزل القرآن والوحي بأن يحفظه، والواقع الذي نعيشه يؤكد أن الوعد قد تم، ويزداد الإعجاز عبر الزمان من كل جهة؛ فإن القرآن لم يحفظ في الخزانات بعيدًا عن الناس، بل حفظه الأطفال بالملايين في كل مكان، وزاد من الإعجاز أن حفظه من لم يتعلم العربية ولم يعرف فيها كلمة واحدة.
وقد تعرض القرآن الكريم لمحاولات التحريف فلم تفلح، ولمحاولات الترجمة الخاطئة السيئة النية فلم تؤثر فيه، ولمحاولة الطباعة المحرفة، فبقي كما هو، ولمحاولة تقليده ومحاكاته بسيئ الكلام وركيكه فلم يزحزح عن مكانته، بل إن كل ذلك أكد معجزته الباقية عبر الزمان، وأعلى من شأنه في صدور الناس، وكان كل ذلك بالرغم مما اشتمل عليه من العدوان والطغيان سببًا في تمسك المؤمنين به، وبابًا جديدًا للدعوة إلى الله ودخول الناس في دين الله أفواجًا، وبدلا من إبادة المسلمين التي أرادها مشركو مكة، ومن بعدهم الفرس والروم، ومن بعدهم الفرنجة والتتار، ومن بعدهم الاستعمار والتعصب في الشرق والغرب، بدلاً من ذلك انتشر الإسلام وأصبح عدد المسلمين أكبر أتباع دين طبقًا لموسوعة جينز للأرقام القياسية، وهم يقدرون الآن بمليار وثلاثمائة مليون نسمة.
فقد نزل القرآن بلغة العرب، وظل محتفظًا بلغته إلى يومنا هذا، وهذا الاحتفاظ جعله مرجعًا لكل من حاول أن يترجمه إلى لغة أخرى، ولقد ترجم منذ العصور الأولى خاصة ما ورد منه في رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأكاسرة والقياصرة؛ حيث وردت بعض الآيات في هذه الرسائل فترجمت إلى لغات المرسل إليه أثناء تلاوتها عليهم، والآن ترجم القرآن إلى أكثر من مائة وثلاثين لغة، بعضها ترجم مرة واحدة، وبعضها ترجم أكثر من مائتين وخمسين ترجمة كما هو الحال في اللغة الإنجليزية مثلا، وكثير منها ترجم مرات عديدة، وفي كل الأحوال يبقى النص القرآني هو المرجع.
والترجمة قد تكون سيئة النية وقد تكون من نص آخر غير العربية (كترجمة شوراكي إلى الفرنسية والترجمة إلى الأسبانية ..... إلخ) وقد تكون من شخص يجهل إحدى اللغتين أو اللغة المترجم إليها، وقد تكون ترجمة مذهبية أو طائفية أو شارحة لرأي المترجم. وفي كل الأحوال قد تكون مفككة وركيكة التركيب، وقد تكون بليغة راقية الأسلوب، ولكن يبقى الأصل العربي ليرفع النزاع ويمثل الإسلام تمثيلاً حقيقيًّا من تحريف أو تخريف، وهذه مزية تفرد بها القرآن عن سائر الكتب المقدسة.
فقد نقل القرآن بالأسانيد المتصلة المتكاثرة التي بلغت حد التواتر الإسنادي والجملي، ولقد أورد ابن الجزري في كتابه (النشر في القراءات العشر) أكثر من ألف سند من عصره (القرن التاسع الهجري) إلى القراء العشرة وهم قد نقلوا القرآن ممثلين عن مدن بأكملها كلها يقرأ كما كانوا يقرءون، وهذا ما يسمى بالتواتر الجملي؛ فلأن الناس جميعا يقرءون القرآن في مدينة معينة بهذه الطريقة وبهذا الأداء فكان هؤلاء القراء مجرد مندوبين عنهم وممثلين لقراءتهم، وحافظين لطريقتهم في التلاوة، وارتضاهم أهل كل مدينة لما رأوا فيهم مزيد الاهتمام وتمام العلم، فشهدوا لهم جميعا بذلك، فهناك ابن كثير (القارئ وليس المفسر) في مكة، وهناك نافع وأبو جعفر في المدينة المنورة، وهناك عاصم والكسائي وحمزة في الكوفة، ويعقوب وأبو عمرو بن العلاء في البصرة، وابن عامر في الشام، وخلف في بغداد وهؤلاء العشرة يروُون قرآنا واحدًا وطريقة كل واحد في القراءة تفسر القرآن تفسيرًا يجعله واسعًا قادرًا على أن يكون مصدرًا للهداية إلى يوم الدين مع تغير الأحوال وتطور العصور.
واهتم نقلة كتاب الله سواء عن طريق الكتاب أو التلقي بأدق معايير التوثيق في الأرض، والتي ابتكرها المسلمون أنفسهم، فاهتموا بالنقل على مستوى اللفظ والشكل والحركة، والأداء الصوتي في صورة أعجزت وبهرت كل من اطلع على كيفية نقل القرآن الكريم، وقد أنشأ المسلمون العلوم وابتكروها حتى في طريقة قراءة القرآن وبرزت علوم القراءات والتجويد لأداء ذلك الغرض.
والقرآن ما زال بين أيدينا قرآنا واحدًا، وامتلأت كتب التاريخ والأخبار بمن قرأه قراءة خاطئة أو تعمد تحريفه، وظل القرآن كما هو لا يتزحزح ولا يتغير ولا توجد فيه نسخ كثيرة، ولا يحتار المسلم بين نسخة وأخرى ولا يحتاج إلى أن يتخير منها عدة نسخ، بل هو قرآن واحد من طنجة إلى جاكرتا ومن غانا إلى فرغانة. وكان جديرًا بعد كل هذا أن يتغير لكنه لم يكن كذلك، إنه محفوظ في الواقع المعيش، ويحلو لبعض الناس أن تحشر هذه المخالفات من كتب التاريخ وهي مذكورة لتبين للناس أجمعين وفي كل العالم أن هذا الكلام من الحجارة التي ألقيت على القرآن أثناء مسيرته لم تؤثر فيه، وأنه تعرض لكثير من الضجيج ولكثير من الهجمات، فكان جبلاً شامخًا، ليس من حول المسلمين وقوتهم؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، بل بحفظ الله له كما وعد سبحانه.
ثانيا : تخليد ذكره صلى الله عليه وسلم:
قال الله تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح :4]، وفي هذه الآية وعد آخر برفع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وتخليده في العالمين، ولقد شهد الواقع -وما زال يشهد كل يوم- بتخليد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فليس هناك نبي، ولا شخص، ولا شيء من مخلوقات الله يذكر في أنحاء الأرض كافة مثل النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إخوانه من أنبياء الله العظماء كعيسى عليه السلام والذي عبده بعض الناس، واعتقدوا أن الله حل فيه، أو أنه أقنوم من أقانيم الإله يدعونه ابن الله، حتى هؤلاء لا يذكرون عيسى أو يسوع بالشكل الذي يذكر المسلمون به نبي الله محمدًا صلى الله عليه وسلم.
فرسول الله يذكر في اليوم والليلة في كل وقت في الآذان في جميع أنحاء الأرض، وهي ما نستطيع أن نطلق عليها ديمومة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس هناك وقت في اليوم أو الليلة إلا وهناك ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم إما في الآذان أو الإقامة أو الصلاة.
فهذا تخليد لذكره الشريف في العالمين، ولا يستطيع أحد أن يوقف ذلك الذكر حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لأن الوعد من الله، ولا يخلف الله وعده.
ثالثا : حفظ آله صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِى القُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [الشورى :23].
وقد صح عن سعيد بن جبير -رحمه الله- أن قال في معنى هذه الآية: «لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة»([1])، فهذه توصية بقرابته يأمره الله أن يبلغها إلى الناس. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي »([2])، وقال رضي الله عنه أيضًا: «ارْقُبُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فِي أَهْلِ بَيْتِهِ»([3]).
وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحب آل بيته والتمسك بهم، ووصانا بهم - عليهم السلام أجمعين - في كثير من أحاديثه الشريفة، نذكر منها قوله صلى الله عليه وسلم: «أما بعد ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين؛ أولهما : كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به». فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي». فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: ومن هم؟ قال: هم آل على، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس. قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم»([4]) وقوله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا؛ كتاب الله، وعترتي أهل بيتي»([5]).
وإن الأمر بالتمسك بالعترة الطاهرة آل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يقتضي بقاءهم في كل الأزمان، حتى يكون ذلك الأمر صالحًا للتطبيق في كل الأزمان، فالعترة الطاهرة باقية من زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهذه من خصائصه التي شهد بها التاريخ، فليس هناك نبي مرسل، حفظ الله أهله ونسبهم إليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم وذلك تصديقًا لوعده ولأمره صلى الله عليه وسلم بالتمسك بهم رضي الله عنهم أجمعين فهم الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه، ليؤكد بالدليل العملي القاطع على وجوده التاريخي، فإن وجود آل النبي صلى الله عليه وسلم بيننا إلى يومنا هذا، ووجودهم حتى يرث الله الأرض ومن عليها يؤكد للعالم أجمع أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن وهما، ولا يمكن إنكاره بل هو واقع وحق بهر الوجود وزيَّنه.
«والعجيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بشر ببقاء عترته في حين أن أبنائه كلهم قد ماتوا أمام عينيه في حياته إلا السيدة فاطمة عليها السلام حيث ماتت بعد انتقاله الشريف بستة أشهر، والأعجب من هذا أن أمامة بنت العاص ابنة زينب عليها السلام ماتت دون أن تعقب، فانحصر النسل الشريف في الحسن والحسين، وعلى كثرة زواجهما رضي الله تعالى عنهما إلا أنه لم يبق من أولادهما أحد بعد أن تسلط عليهم سيف الفسقة بالقتل، ولكن الله نجا أو أبقى الحسن المثنى وزيدا الأبلج ابنا سيدنا الحسن، عليا زين العابدين ابن سيدنا الحسين، ثم انتشر النسل الشريف بكثرته في الشرق والغرب من هؤلاء فقط، وكأن الله سبحانه وتعالى يرينا أنه كان قادرا على قطع نسل النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولكنه أبقاه تصديقا لكلامه الشريف، ونصرته لنبيه صلى الله عليه وسلم»
رابعا : بروز قبره وبقاؤه:
قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ [النساء :64]. وقد انتقل النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الحياة الدنيا، ولكن بانتقاله هذا لم ينقطع عنا صلى الله عليه وسلم وله حياة أخرى هي حياة الأنبياء، وهي التي تسمى الحياة بعد الموت، أو الممات كما سماها صلى الله عليه وسلم حيث قال: «حياتي خير لكم تُحدثون ويَحْدُث لكم. ومماتي خير لكم، تُعرض علي أعمالكم فما رأيتُ من خير حمدت الله، وما رأيتُ من شر استغفرت الله لكم»([6]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي؛ حتى أرد عليه السلام»([7])، وهذا الحديث يدل على اتصال روحه ببدنه الشريف صلى الله عليه وسلم أبدًا؛ لأنه لا يوجد زمان إلا وهناك من يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله ليست كحياة باقي الناس بعد الانتقال؛ وذلك لأن غير الأنبياء لا ترجع أرواحهم إلى أجسادهم مرة أخرى، فهي حياة ناقصة بالروح دون الجسد، وإن كان له اتصال بالحياة الدنيا كرد السلام وغير ذلك مما ثبت في الآثار، ولكن الأنبياء في حياة هي أكمل من حياتهم قبل الانتقال، وأكمل من حياة باقي الخلق بعد الانتقال.
وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام يعبدون ربهم في قبورهم، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مررت على موسى ليلة أُسري بي عند الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره»([8])، وعنه صلى الله عليه وسلم: «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون»([9])، ويدل هذا الحديث على أنهم أحياء بأجسادهم وأرواحهم لذكر المكان حيث قال «في قبورهم»، ولو كانت الحياة للأرواح فقط لما ذكر مكان حياتهم، فهم أحياء في قبورهم حياة حقيقية كحياتهم قبل انتقالهم منها، وليست حياة أرواح فحسب؛ كما أن أجسادهم الشريفة محفوظة يحرم على الأرض أكلها، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء»([10]).
ومن تمام إعجاز القرآن وبقائه وصلاحيته في كل الأزمان، وتمام تحقيق الله لوعد نبيه صلى الله عليه وسلم إبراز قبره الشريف، وأصبح القبر الشريف حقيقة تاريخية لا يختلف اثنان من أن ذلك الموضع بالمدينة المنورة في مسجده الشريف هو القبر الذي ضم جسد أعظم العظماء بشهادة غير المسلمين.
ليس هناك يقين عند أحد من المؤرخين بوجود قبر صحيح منسوب لأحد من الأنبياء إلا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ثبوت قبره يقينًا عند المؤرخين، وبروزه فضيلة أخرى شهد بها الواقع التاريخي، وجميع الشواهد.
خامسا : حفظ سنته وسيرته :
قال تعالى : ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم :3] ، وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه»([11]). وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله»([12]). وعن حسان بن عطية قال: «كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن»([13]).
فأدرك الصحابة ومن بعدهم أهمية ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال وحركات وسكنات وقاموا بتسجيلها لحفظ ذلك الدين الخاتم.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو النبي الوحيد، بل الإنسان الوحيد الذي حفظت سيرته وأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته في اليقظة والمنام بهذا الشكل، فلم يهتم أحد بحفظ سيرة أحد على الأرض على مر التاريخ على هذا النحو، واهتم المسلمون بنقل كل شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنشئوا العلوم لحفظ سيرته وسنته، ولقد بدأ هذا في الصدر الأول للإسلام، فابن عباس ـ رضي الله عنه ـ يتحرى الليلة التي يأتي فيها النبي صلى الله عليه وسلم إلى خالته ميمونة ـ إحدى زوجاته رضي الله عنها ـ ويبيت عند خالته حتى يراقب النبي صلى الله عليه وسلم في أكله ونومه وعبادته، ويتمثل به كما روى ذلك مسلم في صحيحه وغيره.
ومن أبرز تلك العلوم التي نشأت علم الحديث والمصطلح، والذي رأى أن السنة هي: « كل الأقوال والأفعال والتقريرات حقيقة وحكمًا، حتى الحركات والسكنات يقظة ومنامًا قبل البعثة وبعدها» على نحو سيأتي تفصيله فيما بعد.
فكان حفظ سيرته وأخباره في كتب الصحاح والسنة والسيرة دليل واقعي تاريخي آخر على خصوصية وفضل ذلك النبي، فليس هناك تسجيل تاريخي محفوظ لنا بسند متصل إلى أحد الأنبياء إلا له صلى الله عليه وسلم.
سادسا : حفظ أمته من عبادته صلى الله عليه وسلم:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» [رواه مالك في الموطأ] وكما يظهر فالمقصود من كلمة مساجد في هذا الحديث، هو السجود لمن في القبر عبادة له، بدليل تحذيره في بداية الحديث لا تجعل قبري وثنًا يعبد، وإن من أعجب العجب، حفظ الله تعالى لأمة نبيه صلى الله عليه وسلم من أن تقع في عبادته رغم وقوعها في عبادة من هو أقل منه شأنًا، فضل أقوام وخرجوا من ملة الإسلام بأنها عبدت سيدنا عليًّا رضي الله عنه ، وضل آخرون بعبادتهم للحاكم بأمر الله.
إلا أن الله وقى الأمة على مر العصور وكر الدهور من الوقوع في عبادته صلى الله عليه وسلم، ولم يسجل التاريخ حتى ولو حالة واحدة أن هناك طائفة عبدته صلى الله عليه وسلم من دون الله، وفي ذلك إعجاز وحفظ واستجابة لدعوته صلى الله عليه وسلم حيث وقى الله الأمة أن تعبده، وسيستمر هذا الأمر إن ـ شاء الله ـ إلى أن يرث ربنا الأرض ومن عليها.
سابعا : نزاهة جهاده وجهاد أمته:
إذا تكلمنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتباره قائدًا مجاهدًا شجاعًا نبيلاً، ونراه صلى الله عليه وسلم وهو يعلم قواد الجيوش في العالم بأسره حقيقة الحروب، وكيف تدار، ومتى تبدأ وكيف تنتهي، وبالاطلاع على الحقائق التاريخية يتأكد ذلك المعنى، ومن هذه الحقائق: أنه صلى الله عليه وسلم لم يسع إلى الحروب وإنما فرضت عليه بسبب الاعتداء عليه، أو رغبة الظلم والعدوان، أو محاربة دين الله والآمنين، فقد فرض عليه صلى الله عليه وسلم طوال قيادته للدولة الإسلامية اثنان وثمانون تحركا عسكريا، لم ينشب القتال في ستين منها، وخمس تحركات لم يقتل غير المسلمين، ومجموع القتلى والشهداء من الفريقين 1004 أشخاص منهم 252 شهيدا مسلما والباقي من المشركين.
هذه الأرقام ليست من الفظاعة حتى تجبر العالم بأسره أن يخشى من الإسلام ويدخل فيه خوفا من السيف، بل إن عدد قتلى حوادث السيارات في عام واحد في أي مدينة كبيرة يفوق هذا العدد.
وذلك يؤكد أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن الخيار الأول عنده القتال، وكان يبتعد عن القتال قدر استطاعته حتى لا يجد من القتال بدا بأن يدافع عن نفسه وينصر المظلومين وينشر الإسلام.
وقد أنتجت هذه الحروب نحو ستة آلاف وخمسمائة أسير عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ستة آلاف وثلاثمائة أسير، ولم يأسر ويستمر الأسر إلا على مائتين، فكانت حروبه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وهو سيد ولد آدم ولا فخر.
وبذلك الخلق وتلك الأرقام يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نجاهد جهاد النبلاء، كيف نكون أتقياء مراقبين لله حتى في ظل احتدام المعركة، كيف نذكر الله في كل وقت وخاصة في وقت الجهاد، وقد اكتنف جهاده صلى الله عليه وسلم حقائق كثيرة ينبغي أن يعلمها المسلمون، فمن كان يجاهد؟ وكيف كان تواضعه ولجوءه إلى ربه في أصعب الأوقات؟ وكيف صار أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ بعده على هديه في الجهاد؟
وقد واصل الصحابة الكرام مسيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم في نشر الإسلام، والدعوة إلى الله على بصيرة، وبالحكمة والموعظة الحسنة، وكانوا لا يلجئون إلى القتال إلا إذا فرض عليهم من قوى العالم المتجبرة.
فلم ينشر المسلمون دينهم بالسيف، وقد شهد بذلك المنصفون من أبناء الحضارة الغربية، فهذا المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) - وهو يتحدث عن سر انتشار الإسلام في عهده صلى الله عليه وسلم وفي عصور الفتوحات من بعده -: «قد أثبت التاريخ أن الأديان لا تفرض بالقوة. ، ولم ينتشر القرآن إذن بالسيف بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرا كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل ما زاد عدد المسلمين على خمسين مليون نفس فيها»([14]).
ونسجل شهادة الكاتب الغربي الذي يدعى (توماس كارليل)، حيث قال في كتابه «الأبطال وعبادة البطولة» ما ترجمته: «إن اتهامه ـ أي سيدنا محمد ـ بالتعويل على السيف في حمل الناس على الاستجابة لدعوته سخف غير مفهوم ؛ إذ ليس مما يجوز في الفهم أن يشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس، أو يستجيبوا له، فإذا آمن به من يقدرون على حرب خصومهم ، فقد آمنوا به طائعين مصدقين، وتعرضوا للحرب من غيرهم قبل أن يقدروا عليها»([15]).
إن من يقرأ التاريخ ويلاحظ انتشار الإسلام على مر العصور يعلم أن الإسلام لم ينتشر بالسيف، بل انتشر بطريقة طبيعية لا دخل للسيف ولا القهر فيها، وإنما بإقامة الصلات بين المسلمين وغيرهم وعن طريق الهجرة المنتظمة من داخل الحجاز إلى أنحاء الأرض.
وهناك حقائق حول هذا الانتشار حيث يتبين الآتي:
في المائة العام الأولى من الهجرة: كانت نسبة انتشار الإسلام في غير الجزيرة كالآتي: ففي فارس (إيران) كانت نسبة المسلمين فيها هي 5%، وفي العراق 3%، وفي سورية 2%، وفي مصر 2%، وفي الأندلس أقل من 1%.
أما السنوات التي وصلت النسبة المسلمين فيها إلى 25% من السكان فهي كالآتي:-
إيران سنة 185 هـ، والعراق سنة 225 هـ، وسورية 275 هـ، ومصر 275 هـ، والأندلس سنة 295هـ.
والسنوات التي وصلت نسبتهم فيها إلى 50% من السكان كانت كالآتي:
بلاد فارس 235 هـ، والعراق 280 هـ، وسورية 330 هـ، ومصر 330هـ، والأندلس 355 هـ.
أما السنوات التي وصلت نسبة المسلمين فيها إلى 75% من السكان كانت كالآتي:
بلاد فارس 280 هـ، والعراق 320 هـ، وسورية 385 هـ، ومصر 385 هـ، والأندلس سنة 400 هـ.
من يعلم هذه الحقائق ويعلم أن من خصائص انتشار الإسلام:
1- عدم إبادة الشعوب.
2- الإبقاء على التعددية الدينية من يهود ونصارى ومجوس؛ حيث نجد الهندوكية على ما هي عليه وأديان جنوب شرق آسيا كذلك.
3- إقرار الحرية الفكرية، فلم يعهد أنهم نصبوا محاكم تفتيش لأي من أصحاب الآراء المخالفة.
4- ظل إقليم الحجاز مصدر الدعوة الإسلامية فقيرًا حتى اكتشاف البترول في العصر الحديث.
كل هذه الحقائق وغيرها، تجعلنا نتأكد أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الكامل، وهو الرسول الخاتم الذي علم البشرية بأسرها فضائل الأخلاق، والتسامح، والنبل، والشجاعة، وعلى دربه سار أصحابه، والتابعون من بعدهم، وضرب المسلمون أروع الأمثلة للأخلاق، وانبهر العالم من حولهم بهذه الأخلاق النبوية التي توارثوها جيلاً بعد جيل.
ثامنا : «كمال أسوته»
فقد كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أسوة لكل أحد مع اختلاف مشاربهم وأوضاعهم وأحوالهم ودرجاتهم وأعمالهم وتخصصاتهم، ولم يكن نبي قط على هذا الحال إلا سيد الخلق، فقد اشتغل بالرعي، والتجارة، والعبادة، والقيادة، والتدريس، والقضاء، وكان من الأغنياء ومن الفقراء، وكان أبا وزوجا وجارا وصديقا، وتزوج امرأة واحدة، ورأى أحفاده فكان جدا، وتزوج أكثر من امرأة معا، فكانت له الأسرة المستقلة، وكانت له حالة التعدد، وكان محاربا ومعاهدا ومفاوضا ومناظرا ورجل سلام، وعاش في دار الكفر، وعاش في دار الإيمان، وهاجر، ولو جلسنا نعدد نواحيه كلها ما استطعنا.
ولكنه كان بالجملة مثالا لكل أحد فيجد كل واحد ممن أراد أن يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في حال من الأحوال، أو في شأن من الشئون رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه بسيرته العطرة وإرشاده المستقيم مثالا يحتذى وأسوة حسنة متبعة.
تاسعا : «شفافيته» :
وكان سيد الخلق ظاهره كباطنه، وهو أمر لم نعهده فيما رأيناه من البشر، ولم نعهده كلنا في أنفسنا، بل إن الإنسان يحب أن تكون له خصوصية لا يطلع عليها أحد، ولكنه صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن تعرفه، وقال : «بلغوا عني ولو آية» وتزوج من تسع نسوة حتى ينقلن بثقة وأمانة حياته الخاصة، فلم تتبرم واحدة قط، ولم ترو واحدة ما يشين في سره وخصوصيته، كما أنه صلى الله عليه وسلم، قد آمن به من عرفه لا من لم يعرفه، وهو عكس ما كان عليه الأنبياء من أنهم قد آمن بهم من لم يعرفهم، وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم دافعوا عنه وفادوه بأنفسهم، وأصحاب الأنبياء فروا منهم وتفرقوا حين اللقاء.
وبذلك نقلت حياة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم بكل تفاصيلها وروى عنه أحاديثه أكثر من ألف وسبعمائة 1700 شخص عاش كثير منهم ليروي مقولة واحدة، وتحت يدينا صورة واضحة بكل العلاقات في حين أن بوذا وكنفشيوس وسيدنا موسى وعيسى -عليهما السلام- لا نعرف عن سيرتهم شيئًا، وأصحابهما -عليهما السلام- نعرف العدد القليل جدا منهم بأسمائهم دون سيرتهم، في حين أن المجلدات قد نقلت في سيرة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ونقلت ترجمة نحو عشرة آلاف صحابي، ولم يحدث هذا في تاريخ البشر.
فكانت حياة محمد عمارا وتعميرا، وكانت حياة غيره مجملة لا تصلح لأن تكون محلا للدرس واستخراج الأسوة للعالمين.
لقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر به من ربه على أكمل وجه، وهذا في حد ذاته معجزة، حيث لم يختلف أول أمره عن آخره، فارس معلم بالنهار، عابد قائم بالليل.
عاشرا : «صدقه في ختم النبوة به» :
حيث قال ربنا : ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الأحزاب :40]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا نبي بعدي». فلم يأت نبي بعده صلى الله عليه وسلم، وكل من ادعى النبوة كذبا انتهى أمره، ولم يتبعه أحد، وذهب ذكره في التاريخ، أما المصطفى صلى الله عليه وسلم فله أمة هي أعلى وأكثر أهل الأديان تبعا.
وابتلى الله بعض الكذابين ممن ادعى النبوة أولا بدعوى الألوهية أخيرًا، فخرجوا عن المعقول والمنقول، ولم تنتشر أديانهم انتشار الإسلام.
الثاني عشر : «أمته أمة التوحيد» :
فهي الأمة التي تعبد ربا واحدا، والتي لها نبي واحد، والتي لها كتاب واحد، ولها قبلة واحدة، وتصوم شهرا واحدا، وترى الدنيا والآخرة حياة واحدة، وهي الأمة الوحيدة التي تسجد لربها في صلاتها، والأمة الوحيدة التي تصلي كل يوم خمس مرات بهذه الكيفية تطهر قبل الصلاة، وتستقبل قبلة واحدة، وترتبط الصلاة بمواقيت، ولها شروط وأركان، وهي الأمة الوحيدة التي فيها الصلاة شخصية تتعلق بذمة كل مسلم ومسلمة، لا يشترط فيها إلا العقل (فلا تفرض على الصبي وإن صحت منه، ولا تفرض على المجنون، ولا تفرض على النائم وإن طولب بها في الجملة).
وهي الأمة الوحيدة التي عندها تفاصيل العلاقة بين الإنسان وربه، فسرها الفقهاء في باب العبادات، وعندها تفاصيل شعب الإيمان، وعندها تفاصيل التشريع في العلاقة بين الإنسان وربه، وبينه وبين نفسه، وبينه وبين كونه، وبينه وبين الناس أجمعين. وهي الوحيدة التي عندها تفاصيل عالم الغيب، وتفاصيل مشاهد القيامة والجنة والنار، حتى إنها تفاصيل من يقف في ظل عرش الرحمن يوم القيامة، وعندها سند التوثيق المستمر في نقل الدين من جيل إلى جيل، حتى إن كل النقلة عبر العصور قد سجلوا بأسمائهم وأوصافهم وهو ما لا وجود لهم في البشرية أبدا. فعندها البركة الموروثة.
الثالث عشر : «عالمية الإسلام» :
دعا محمد صلى الله عليه وسلم بنفسه إلى عالمية الإسلام، قال تعالى : ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ [يوسف :104]. وقال تعالى : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء :107]. في حين أن كل نبي جاء لم يدع إلى العالمية، بل دعا إليها من جاء بعده، وهذه العالمية أيدت في القرآن، فنص فيه على أنه محفوظ ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر :9]. وأنه الختام ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الأحزاب :40]. وأن الدين قد كمل : ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المائدة :3]. ولذا تراه قد اعترف بجميع الأنبياء من قبله، وجعل الإيمان بهم ركن الإيمان بالإسلام، وخاطب الناس أجمعين، فقال : ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف :158]. وقال : ﴿يَا بَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِى سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف :26]
ــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) أخرجه البخاري في صحيحه، ج4 ص 1289.
([2]) أخرجه أحمد في المسند، ج1 ص 9، والبخاري في صحيحه، ج3 ص 1360، ومسلم في صحيحه، ج3 ص 1380.
([3]) أخرجه البخاري في صحيحه في موضعين، ج3 ص 1361، وص 1370 في الجزء نفسه.
([4]) أخرجه أحمد في مسنده، ج4 ص 366، ومسلم في صحيحه، ج4 ص 1873.
([5]) أخرجه أحمد في المسند، ج3 ص 26، والترمذي في سننه، ج5 ص 662.
([6]) أخرجه البزار في مسنده 4-9، ج5 ص 308، والديلمي في مسند الفردوس، ج2 ص 137، والحارث في مسنده بزيادات الهيثمي، ج2 ص 884، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، ج9 ص 24 وعقبه بقوله ورجاله رجال الصحيح..
([7]) أخرجه أحمد في مسنده، ج2 ص 527، وأبو داود في سننه، ج2 ص 218، والطبراني في الأوسط، ج3 ص 262، والبيهقي في الكبرى، ج5 ص 245، وفي الشعب، ج2 ص 217، والديلمي في مسند الفردوس، ج4 ص 25، والمنذري في الترغيب والترهيب، ج2 ص 326، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، ج10 ص 162، وقال عنه الحافظ ابن حجر في الفتح، ج6 ص 488: ورواته ثقات، ورد على الإشكالات العقلية الواردة عليه.
([8]) أخرجه أحمد في مسنده، جـ2 صـ 315، ومسلم في صحيحه، جـ4 صـ 1845، والنسائي في الكبرى، جـ1 صـ 419، وابن حبان في صحيحه، ج1 ص 242، وابن أبي شيبة في مصنفه، جـ7 صـ 335، والطبراني في الأوسط، جـ 8 صـ 13.
([9]) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس، ج1 ص 119، وأبو يعلى في مسنده، ج6 ص 147، وابن عدي في الكامل، جـ2 صـ 327، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، جـ 8 صـ 211، وعقبه بقوله ورجال أبي يعلى ثقات.
([10]) أخرجه أحمد في مسنده، ج4 ص 8، وأبو داود في سننه، جـ1 صـ 275، والنسائي في سننه، جـ3 صـ 91، وابن ماجه في سننه، جـ 1 صـ 524، والدارمي في سننه، جـ1 صـ 445، والحاكم في المستدرك، ج1 ص413، وعقبه بقوله: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ورواه البيهقي في الصغرى، جـ1 صـ 372، والكبرى، جـ3 صـ 428.
([11]) رواه أحمد في مسنده، ج4 ص 130، وابن أيوب الطبراني في مسند الشاميين، ج2 ص 137، والمروزي في السنة، ج1 ص 71.
([12]) رواه أحمد في مسنده، ج4 ص 130، وأبو داود في سننه، ج3 ص 170، والترمذي في سننه، ج5 ص 38، وابن ماجة في سننه، ج1 ص 9، وابن حبان في صحيحه، ج1 ص 188، والحاكم في المستدرك، ج1 ص 190، واللفظ للترمذي.
([13]) رواه أبو داود في مراسيله، ج1 ص 361، المروزي في سنته، ج1 ص 33، وابن المبارك في الزهد، ج1 ص 23.
([14]) غوستاف لوبون حضارة العرب ص 128 ، 129 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب.
([15]) حقائق الإسلام وأباطيل خصومه للعقاد صـ166 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب..