تكلمنا في المقالة السابقة عن اسم الله القدوس، واليوم نتكلم عن اسم الله السلام، وكما علمنا من قبل أن أسماء الله الحسنى تنقسم إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول : هو قسم الجمال مثل الرحمن الرحيم العفو الغفور الرءوف. والقسم الثاني : هو قسم الجلال مثل الجبار المنتقم المتكبر شديد المحال العظيم. والقسم الثالث : هو قسم الكمال، مثل لفظ الجلالة ومثل الأول الآخر، الظاهر الباطن، الضار النافع، المعطي المانع.
وأوضحنا أن علاقة المسلم بهذه الأقسام هي التخلق لقسم الجمال، والتعلق لقسم الجلال، والحب والتصديق لقسم الكمال.
والسلام في حق الله تعني السالم من كل عيب ونقص ينافي كماله وجماله المطلق، وجلاله، فهو الذي يسلم عباده من كل سوء ويحفظهم وينشر عليهم السلامة والأمن في بدنهم وفي بلادهم وفي قلوبهم وأرواحهم.
والسلام من أسماء الله التي تتبع قسم الجمال، والذي علاقة المسلم معه التخلق، على حد قول الصالحين وهم يفسرون قوله تعالى : ﴿كونوا ربانيين ﴾ [آل عمران :79] أي « تخلقوا بأخلاق الله». فالمسلم لابد أن يسلم نفسه ويزكيها من كل النقائص والعيوب، كما أنه لابد أن يسلم الناس من شروره، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» [رواه مسلم]. فالتخلق بالسلام مع النفس ومع الأهل والناس أجمعين يحقق مراد الله على أرضه من نشر الحق والعدل والإيمان.
ويعتقد المسلمون أن السلام قضية متكاملة تحيطهم من كل جانب، فهم يؤمنون بأن السلام اسم خالقهم سبحانه وتعالى، قال سبحانه : ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الحشر :23].
ويؤمنون بأن طُرق ربهم وسبله هي طرق السلام وسبله، وأن الله يهدي من اتبع رضاه هذه السبل، قال تعالى : ﴿يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة :16].
ويؤمنون أن الجنة جزاء المؤمنين يوم القيامة هي دار السلام، وموطن السلامة الأبدية من كل خوف وحزن، قال تعالى : ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام :127]. وقال سبحانه : ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [يونس :25].
ويؤمنون أن أعظم ليالي الدهر التي تتنزل فيها الملائكة ويستجاب فيها الدعاء والعبادة فيها خير من عبادة ألف شهر، هي ليلة سلام حتى نهايتها، قال تعالى : ﴿سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ﴾ [القدر :5].
ويؤمنون أن السلام حالة يحتاجها الإنسان في كل وقت وحين، ويشتد احتياجه لها في وقته مولده ووقت موته، ووقت بعثه، ولذا يحكي القرآن عن الأنبياء ومنهم عيسى عليه السلام أنه قال : ﴿وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وَلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًا﴾ [مريم :33]، وأكد الله أن المؤمن في وقت الاحتضار يحتاج السلام منه سبحانه ومن الصالحين فقال تعالى : ﴿وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ * فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ﴾ [الواقعة :90].
ويؤمنون بأن قول السلام يطمئن المؤمنون ويتبعه رحمة الله سبحانه وتعالى، ولذا خاطب ربنا نبيه في القرآن، فقال سبحانه : ﴿فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الأنعام :54]
ويعتقد المسلمون كذلك أن السلام بشرى المؤمنين عند الوفاة وتحيتهم في الجنة من الملائكة الكرام، قال تعالى : ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل :32]. بل إنهم لا يسمعون في الجنة إلا السلام، قال تعالى : ﴿لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًا﴾ [مريم :62]، كما إنهم يعتقدون أن السلام هو تحيتهم عند لقاء السلام سبحانه وتعالى : ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾ [الأحزاب :44]. وقال تعالى : ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾ [يونس :10]. وقال سبحانه وتعالى : ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد :23]. وقال تعالى : ﴿وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ﴾ [إبراهيم :23]. وقال سبحانه ﴿إِنَّ المُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ﴾ [الحجر :45].
كما أن السلام هو تحية الأنبياء والملائكة في الحياة الدنيا : ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ [هود :69].
ويعتقد المسلمون أن الصبر على الأذى والدعاء بالسلامة لمن يجهل عليهم هو السلوك القويم، والخلق العالي، يقول سبحانه : ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾ [الفرقان :63]، فهم دائما يعفون ويصفحون ويسالمون الناس، اقتداء بنبيهم حيث أمره ربه بذلك فقال تعالى : ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الزخرف :89].
كما أنهم يعتقدون أن السلام هي الكلمة الأخيرة التي يختم المسلمون صلاتهم وهم يعتقدون أنهم عندما يختمون الصلاة يواجهون الحياة، فكأنهم يواجهنا أول ما يواجهنا به بالسلام.
والسلام عندهم ضد الحرب، وهناك دعوة صريحة واضحة في القرآن الكريم في شأن أولئك الذين يعتدون على الناس وعلى المسلمين يقول فيها القرآن الكريم ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ [الأنفال :61]. وهناك دعوة صريحة في القرآن الكريم يقول فيها الله سبحانه وتعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِى السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ [البقرة :208] وهي آية تدل على أن السلام من الرحمن وأن ضده من الشيطان.
واليهود يحسدوننا على السلام كلمة نفشيها فيما بيننا وفيما بيننا وبين العالمين، فعن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت : (بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم إِذِ اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَأَذِنَ لَهُ فَقَالَ السَّامُ يا محمد فقال : النبي صلى الله عليه وسلم وعليك. فقالت عائشة : فهممت أن أتكلم فعلمت كراهية النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فسكت. ثم دخل آخر فقال: السام عليك. فقال : وعليك. فهممت أن أتكلم فعلمت كراهية النبي صلى الله عليه وسلم لذلك. ثم دخل الثالث فقال : السام عليك. فلم أصبر حتى قلت : وعليك السام وغضب الله ولعنته إخوان القردة والخنازير أتحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يحيه الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش قالوا قولا فرددنا عليهم إن اليهود قوم حسد وهم لا يحسدونا على شيء كما يحسدونا على السلام وعلى آمين ». [رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي واللفظ لابن خزيمة].
فالسلام في الإسلام قضية عقائدية سلوكية تعبدية تحيط بالمسلمين في كل حياتهم، ومما يشاع عن الإسلام بغرض الإساءة إليه في هذه الأيام أنه دين إرهاب أو قتل، ويحاولون جاهدين أن يلصقوا الأعمال الإجرامية بتعاليم ذلك الدين السمح.
رغم أن الإسلام نظر إلى الآخر (أو لغير المسلم) منذ نشأته الأولى نظرة تكامل وتعاون، وكيف لا وكان الآخر في أول الدعوة الإسلامية هو مجموع البشر إلا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف لدين لا يقوم على التسامح والتعاون ينتشر هذا الانتشار الرهيب الملحوظ في سنوات معدودة بين العرب ويستمر عبر القرون، ويقود الإنسانية بأسرها قروناً عدة إلى فضائل الأخلاق وتعمير الأرض ؟
وقد وضع الإسلام قواعد واضحة للعائلة البشرية؛ حيث أعلن أن الناس جميعاً خلقوا من نفس واحدة، مما يعني وحدة الأصل الإنساني، فقد قال الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِه وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا ًً﴾ [النساء : 1]، والناس جميعاً في نظر الإسلام هم أبناء تلك العائلة الإنسانية، وكلهم له الحق في العيش والكرامة دون استثناء أو تمييز، فالإنسان مكرم في نظر القرآن الكريم، دون النظر إلى دينه، أو لونه، أو جنسه، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ﴾ [الإسراء :70].
ودستور الإسلام في التعامل مع غير المسلمين يتلخص في قوله تعالى : ﴿ لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة : 8] ، فالآية واضحة في أننا نحن المسلمين عندما لا يريد الآخرون أن ينضموا إلى مدرسة الإسلام، فعلينا صلتهم، والعدل معهم، ومعاملتهم المعاملة الطيبة، بناءً على مبدأ الاحترام المتبادل، والعلاقات الإنسانية والمصالح المشتركة.
فالإسلام دين سلام ولم ينتشر بالسيف والقتال، نصوصه تشهد بذلك، وتعاليمه تؤكد ذلك، وخير شاهد تقتنع به عقول غير المسلمين هي شاهد التاريخ، فإن تتبع انتشار الإسلام في أهم أقطاره تؤكد تلك الحقيقة.
في المائة عام الأولى من الهجرة كانت نسبة انتشار الإسلام في غير الجزيرة كالآتي ففي فارس (إيران) كانت نسبة المسلمين فيها هي 5% وفي العراق 3% وفي سورية 2% وفي مصر 2% وفي الأندلس أقل من 1%
أما السنوات التي وصلت النسبة المسلمين فيها إلى 25% من السكان فهي كالآتي:ـ
إيران سنة 185 هـ ـ العراق سنة 225 هـ ـ سورية 275 هـ ـ مصر 275 هـ ـ الأندلس سنة 295هـ
والسنوات التي وصلت نسبتهم فيها إلى 50% من السكان كانت كالآتي :
بلاد فارس 235 هـ ـ والعراق 280 هـ ـ وسورية 330 هـ ـ ومصر 330هـ والأندلس 355 هـ
أما السنوات التي وصلت نسبة المسلمين فيها إلى 75% من السكان كانت كالآتي
بلاد فارس 280 هـ ـ والعراق 320 هـ ـ وسورية 385 هـ ـ ومصر 385 هـ والأندلس سنة 400 هـ.
فالله هو السلام، وديننا دين السلام، والمسلمون هم دعاة السلام، وينادون في كل المحافل الدولية في عصرنا الحديث بالسلام القائم على العدل، سلمنا الله من كل سوء وسلم أوطاننا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.