علمنا أن أسماء الله الحسنى تنقسم إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول : هو قسم الجمال مثل الرحمن الرحيم العفو الغفور الرءوف. والقسم الثاني : هو قسم الجلال مثل الجبار المنتقم المتكبر شديد المحال العظيم. والقسم الثالث : مثل لفظ الجلالة ومثل الأول الآخر، الظاهر الباطن، الضار النافع، المعطي المانع.
وعلاقة الإنسان بكل قسم من هذه الأقسام تختلف، فبالنسبة لقسم الجمال العلاقة هي التخلق، على حد قول الصالحين وهم يفسرون قوله تعالى : ﴿كونوا ربانيين ﴾ [آل عمران :79] أي « تخلقوا بأخلاق الله» وهي مقولة شاعت على ألسنة الصالحين، وليست بحديث نبوي كما توهمه بعضهم، وفضل بعض العلماء أن نقول تعبدوا بأخلاق الله، بدلا من تخلقوا؛ لأن الإنسان إذا أراد الثواب والرضا من الله فإنه لابد وأن يحسن النية وأن يفعل هذا لوجه الله مخلصا له الدين، قال تعالى : ﴿مخلصين له الدين﴾ [البينة :5] وقال صلى الله عليه وسلم : «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» [رواه البخاري ومسلم].
أما التعامل مع القسم الثاني، وهو قسم الجلال فيكون بالتعلق حيث نهانا الله عن التكبر، والتعظم، وقال في الحديث القدسي العظمة : «العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار» [رواه ابن أبي شيبة في مصنفه]. أما التعامل مع القسم الثالث، وهو الكمال فذلك يكون بالإيمان والتصديق.
والاسم الذي معنا هذه المرة هو اسم الله «القدوس» وهو المنزه عن كل النقائص، والُمطهر عن كل ما لا يليق بذاته العالية، وهو لغة من التقديس أي التطهير، والقدس بسكون الدال وضمها تعني الطهر، والقداسة تعني الطهر والبركة، وقدَّس لله بالتشديد أي طهر نفسه بعبادته وطاعته وعظمه، ومنه قول الملائكة لربهم : ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة :30].
فالله القدوس : أي الطاهر المنزه عن كل ما يليق به من نقائص، فهو المتصف بكل صفات الكمال والجمال والجلال، ولا يتصف بغير تلك الصفات.
وقد ورد هذا الاسم في الكتاب العزيز في موضعين، الموضع الأول في سورة الحشر قال تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الحشر :23].
والموضع الثاني في سورة الجمعة، قال سبحانه : ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ﴾ [ الجمعة :1].
واسم الله القدوس يمكن أن نعتبره من القسم الأول من الأسماء الحسنى، أي إنه من قسم الجمال الذي يتعامل المسلم معه بالتخلق والتحلي، فالمسلم مطالب بالتقدس أي التطهر، وقد درج الفقهاء والمحدثون على افتتاح كتبهم بكتاب الطهارة، والطهارة : في اللغة هي النظافة. والله سبحانه وتعالى يحب النظافة، ويحب الجمال، ويحب التطهر وأمر عباده بالتطهر الدائم والمستمر من الأدران الظاهرة والباطنة، لأن المسلم دائما يراقب قلبه ويطهره لله، كما يراقب بدنه وثوبه ويطهره، والمسلم عن قلبه الطاهر المتطهر بمظهره، قال تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة :222]
وأما الطهارة عند الفقهاء فلها معنى زائد عن المعنى اللغوي فيعرفونها بأنها : فعل ما يجعل الإنسان قادرًا على أداء الصلاة كالوضوء، والغسل والتيمم وإزالة النجاسة. وقد استنبط العلماء ذلك التعريف من قول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تقبل صلاة بغير طهور » [رواه البخاري ومسلم]، وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الطهارة نصف الإيمان حيث قال : « الطهور شطر الإيمان » [أحمد ومسلم والترمذي].
وطهارة البدن التي عرفها الفقهاء ليست هي كل الطهارة، بل وليست هي أهم أنواع الطهارة التي أرادها الله من عباده، ولذلك نرى الغزالي في الأحياء يتكلم عن تلك الأنواع فيقول: «الطهور أربعة أنواع، طهارة البدن من الحدث والخبث، وطهارة الجوارح من المعاصي والآثام، وطهارة النفس من الصفات المذمومة، وطهارة القلب مما سوى الله» .
فطهارة القلب وهي الأهم تعني أن يخلو القلب من السوى، وهو كل ما سوى الله، فالقلب بيت الرب، قال تعالى : ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ﴾ [الأحزاب :4] ، وطهارة النفس أن تخلو من الصفات المذمومة كالبخل والحسد والحقد والضغينة والكبر والأثرة.
أما طهارة الجوارح من المعاصي فكل جارحة بحسب طبيعتها وما يجب عليها، فالعين طهارتها ألا تنظر إلى ما حرم الله أن يُنظر إليه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : «عَيْنَانِ لا تَمَسُّهُمَا النَّارُ، عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . [رواه الترمذي]
والعلماء قالوا : ما حرُم فعله حرُم استماعه، وما حرُم استماعه حرُم النظر إليه! طهارة الأذن ألا تستمع بها ما حرم الله أن تستمع إليه من كذب وغيبة ونميمة وكفر وإلحاد، وطهارة اللسان ألا ينطق بالغيبة، ولا بالنميم ، ولا بالكذب ، ولا بالفحش، ولا باللعن ، ولا بالإيقاع بين الناس .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ ، عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ ، حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ ، وَلا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» [رواه أحمد] .
فالله طلب من المؤمن التقدس والتطهر على كل المستويات، فعلى مستوى الظاهر قال تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر :4، 5]، وقال لنبيه إبراهيم عليه السلام : ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج :26].
كما أوضح لنا ربنا أن تشريعاته جاءت لتطهير القلب والنفس، قال تعالى : ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة :232] ﴿ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ [الأحزاب :53]. وقال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المجادلة :12].
ما سبق يوضح لنا أن اسم الله القدوس ينشئ مدرسة تربوية يتربى فيها المسلم ويتطهر من أمراض القلب وخبث النفس، وينظف باطنه قبل ظاهره، فهو اسم من قسم الجمال.
كما يمكن أن ننظر لاسم الله القدوس على اعتباره من قسم الكمال، فيتعامل المسلم معه بالحب والإيمان فبعلمه أنه سبحانه هو القدوس تميل نفسه إليه، ويتعلق قلبه به سبحانه وتعالى حيث يعلم أن الحق عز وجل مبرأ من كل عيب أو نقص يتعارض مع كماله المطلق، فالكمال المطلق للحق تبارك وتعالى يقتضي كمال صفاته العلية، وهذا يعني أن جميع صفات الله عز وجل مطلقة.
فنعلم أنه اسمه القدوس يقتضي أنه مطهر عن النقص والعجز في الصفات، وكون جميع صفاته مطلقة، أي تبلغ منتهى الكمال في الوصف، فرحمته مطلقة وعلمه مطلق، وحكمته مطلقة وسمعه مطلق، وعزته مطلقة وعدله مطلق، وهكذا شأن جميع صفاته تبارك وتعالى.
نسأل الله الطهر والعفاف والغنى، وأن نكون من المقدسين له في كل وقت وحين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.