محور أي حضارة هو الأساس الذي تقوم عليه تلك الحضارة، فيحدد هويتها ومعالمها، وأساس حضارة الإسلام النص وهذا النص له شقان: الأول القرآن الكريم وهو كلام الله سبحانه وتعالى الحاكم والمنزَّه عن العبث به أو التغيير فيه، وذلك لقوله تعالى: (ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) [البقرة:٢]، ولقوله تعالى: (لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت:٤٢]، ولقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:٩].
والثاني السنة النبوية المشرفة وهي التطبيق المعصوم الدقيق الواضح العملي الذي علمنا مناهج الوصل بين المطلق [الوحي] وبين النسبي [الواقع]، فهي صادرة من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو الموصوف من ربه بأنه (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى) [النجم:٣] والمنعوت من خالقه بأنه (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:١٠٧] والموصوف من ربه بأنه أسوة حسنة، قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب:٢١] والموصوف من ربه بأنه له الطاعة والاتباع، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد:٣٣]، وقال سبحانه: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آل عمران:٣١]، وعن الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: (أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ) (أخرجه أبو داوود في سننه).
والسنة هي كل ما أُثِرَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير، أما عن قوله -صلى الله عليه وسلم- فيتمثل فيما رواه أَبو هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا) (رواه البخاري ومسلم)، وأما عن فعله -صلى الله عليه وسلم- فيتمثل في أعمال الصلاة ومناسك الحج، وأما تقريره -صلى الله عليه وسلم- فيتمثل فيما يقع من أصحابه في حضرته، أو يبلغه عنهم قول أو فعل، فلا ينكره، بل يسكت، أو تظهر عليه دلائل الرضا والاستبشار. مثل عدم إنكاره أكل الضب على مائدته. وترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للفعل في بعض الأحوال يكون سنة، إذ لو كان مشروعا فيها لفعله، مثال ذلك تركه الأذان والإقامة لصلاة العيد، وترك الجهر بلفظ النية عند الدخول في الصلاة.
وللسنة أنواع: فمنها ما كان مطابقا لما جاء به القرآن، فيكون مؤكدا له، ويكون الحكم مستمدا من شقي النص، ومثال ذلك جميع الأحاديث الدالة على وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج، والدالة على حرمة الشرك وشهادة الزور وقتل النفس وعقوق الوالدين.
والنوع الثاني من السنة هو ما كان بيانا لما جاء في الكتاب، مصداقاً لقوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل:٤٤]، ويأتي هذا البيان على عدة أوجه منها: تفصيل مجمل الكتاب، فعلى سبيل المثال أمر الله تعالى في كتابه بالصلاة من غير بيان لمواقيتها وأركانها وعدد ركعاتها، ففصلت السنة العملية ذلك، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّى) (أخرجه البخاري)، كما أمر الله تعالى في كتابه الكريم بالحج من غير بيان مناسكه، ففصلت السنة ذلك، وقال صلى الله عليه وسلم: (خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ) (أخرجه البيهقي في السنن الكبرى)، ومن أوجه البيان تقييد مطلق الكتاب، ومثال ذلك قوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج:٢٩]، فالكتاب يوجب الطواف مطلقا، ولكن السنة العملية قيدته بالطهارة.
والنوع الثالث هو ما كان مشتملا على حكم جديد، ومثاله الحديث الذي أخرجه أبو داوود في سننه، الذي يحرم أكل كل ذي ناب من السبع، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يأتي في هذا الباب -وحاشاه- بما يناقض القرآن، لأنه أعرف الخلق بما يبلغ عن ربه، وأخبرهم بمقاصد الشريعة، وكذلك لعناية الله تعالى به، وعصمته من الزيغ، وتوفيقه إلى الحق، وتسديده إلى الصواب.
ومن أراد أن ينكر السنة ويكتفي بالشق الأول من النص ليكون محور الحضارة، فإن تفكيره يكون شاذا خارجا عن تفكير كل المجتهدين عبر كل العصور وحتى عصرنا الحاضر، وسوف يلاقي من المشكلات الفقهية والعقدية ما لا يستطيع حله على الإطلاق، وقد يضطر صاحبه إلى تغيير هوية الإسلام، وهو يخادع نفسه والآخرين بأنه مازال ينتمي إلى هذا الدين.
ولقد أنكر السنة شُذَّاذٌ من الناس، وهم من غير المتخصصين دائما، فلا يصدق عليهم أبدا أنهم من الجماعة العلمية، بل هي مجموعة من الأهواء التي تتلاطم في أفكار مضطربة في أذهان هؤلاء المُدَّعين. ولذلك نراهم دائما يستدلون بالمتخصصين الذين نقدوا بعض الأحاديث، فيأتي هؤلاء المنكرون -وبغير منهج عقلي أو نقلي- فينزلون هذا النقد منزلة إنكار السنة.
والعجب فيمن ينكر السُّنَّة النبوية أنه رغم جهله بحقيقة السُّنة يكون صادقا مع نفسه، ومع منهجه في الترتيب المنطقي لإنكار السنة النبوية، لأنه يلتزم كل لوازم ذلك الإنكار حتى إنه قد يجد نفسه خارجا عن الإسلام، وهذا هو الذي جعل المخلصين من الأئمة والمجتهدين عبر العصور يتمسكون بالسنة النبوية ويُجْمِعون على حجيتها ويجعلونها الشق الثاني من النص ملازمة للقرآن الكريم ومكونة معه محور حضارة المسلمين.