قراءة القرآن من العبادات المحببة إلى النفس لما فيها من طمأنة القلوب وشفاء الصدور وتنوير الأبصار وجلاء الهموم والأكدار، وتتوهج هذه العادة في شهر رمضان الكريم وارتبطت به ارتباطاً تاريخياً وأصبحت أحد مظاهر الشهر الحضارية التي تعكس هوية الإسلام وسماحة مبادئه، وتتبلور هذه الظاهرة في مصر بشكل لافت، وصارت تلاوة القرآن جزءاً من الشخصية المصرية، ومن ثَم أضحت المقارئ المصرية جزءاً لا يتجزأ من التراث المصري ومن حضارة المصريين، فقد اشتهر أبناء مصر المحروسة بحبهم الشديد وشغفهم وتعلقهم الوجداني بكتاب الله.
كتب أحمد أمين في كتابه: «قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية» الصادر في عام ١٩٥٣م، تحت عنوان تلاوة القرآن فقال: إن من سمات المصريين التي تميزوا بها عن سائر الشعوب ارتباطهم بكتاب الله، فاهتموا بحفظه وعلموه أولادهم، وأنشأوا له الكتاتيب الصغيرة في مختلف أنحاء البلاد فارتبط تعلم القرآن بتعلم القراءة والكتابة، ويقسم الشيخ المحفظ، والذي يلقبه الأطفال «بسيدنا»، مهامه بين التحفيظ والمراجعة، فيحفظ الطفل ما في استطاعته طوال الأسبوع، ثم يُسَمِّع للشيخ ما حفظه في بداية الأسبوع التالي، ويستمر في ذلك حتى يتم القرآن.
وامتد الارتباط بين المصريين وكتاب الله إلى حد اتخاذ تلاوته من قبل البعض حرفة ومهنة يرتزق بها، وقد انتشرت هذه المهنة كما يؤكد أحمد أمين في قاموسه بين فاقدي البصر حتى أصبحت مصدراً رئيساً للرزق لمن يبتليه الله تعالى بفقد حبيبتيه، فيدعوه الناس إلى منازلهم في أيام الجمع والأعياد والمآتم للقراءة، فإذا كان حسن الصوت اشتهر وذاع صيته، وإذا تدهور به الحال، يجلس ليقرأ في الطرقات والشوارع فيعطف عليه المارة ببعض النقود أو المأكولات. ورغم حالته هذه، فإنه يقع في قلب المصريين في منزلة تسمو فوق منزلة غيره من المحتاجين، باعتباره حافظا للقرآن.
ويعتقد المصريون أن قراءة القرآن في المنازل أو المحال التجارية تجلب البركة والرزق وتبعد الشياطين والأبالسة، واعتاد الأغنياء وأفراد الطبقة المتوسطة إحضار القراء للمنازل طوال ليالي رمضان تبركا واحتفالا بالشهر الكريم، ويدعو صاحب المنزل الأصحاب والأقرباء للاستماع للقارئ وشرب المشروبات الساخنة من شاي وقهوة، وانتشرت هذه العادة أيضا بين النساء، خاصة في المآتم فظهر جيل من القارئات المصريات مثل الشيخة: كريمة العدلية والشيخة منيرة عبده وغيرهما، وهناك تسجيلات لهن في الإذاعة المصرية التي تم تسجيلها في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين، كما اعتادت الشيخة كريمة العدلية إقامة حفل ضخم للإنشاد في الخميس الأول من كل شهر في أحد بيوت أثرياء الأقاليم وكان ذلك في عام ١٩٠٥م، واعتاد حضور هذه الحفلات كبارُ القراء وهم في مقتبل العمر حينذاك مثل الشيخ على محمود، ومحمد رفعت، ومحمد الصيفي ومنصور بدار. «راجع ألحان السماء لمحمود السعدني».
وكانت عادة المصريين في المآتم إحضار القارئ ليقرأ ما تيسر من سورة البقرة إذا كان الوقت عصراً، وتلاوة ما تيسر من سورة يونس وهود ويوسف والرعد والنحل والإسراء إذا جن الليل، ويختمون دائما بقصار السور.
كما يتم دعوة القارئ لقراءة الآيات أثناء الدفن حتى يوارى الميتَ التراب، وأكد أحمد أمين أن من أسباب ذلك حث النساء الحاضرات لعملية الدفن على الامتناع عن العويل والصياح حيث اعتاد المصريون الاستماع بخشوع إلى آيات القرآن متى بدأت التلاوة. ولنفس السبب اعتاد القارئ في المسجد قراءة ما تيسر من سورة الكهف يوم الجمعة قبل الصلاة ليحث المصلين على الإسراع للمسجد وعدم التأخر، وللجلوس في سكون وتؤدة.
وامتد الأمر للحفلات السياسية الكبيرة، فكان يدعو منظمو الحفل أحد مشاهير القراء ليبدأ الحفل بتلاوة بعض آيات القرآن، وكان زعيم الأمة سعد زغلول باشا يفعل ذلك أثناء ثورة ١٩١٩م، فكان يصاحبه في جميع المحافل السياسية الشيخ محمود البربري الذي كان يعرف بمقرئ حزب الوفد، فلا يبدأ الحزب اجتماعه إلا بقراءة وتلاوة الشيخ محمود، وكان الشيخ محمود يرفض التلحين في التلاوة وكان مغرما بالإعادة فيقرأ لمدة ساعات طويلة عدداً قليلاً من الآيات.
وعندما تم القبض عليه، طلب سعد من الشيخ منصور بدَّار أن يحل محله، فلقب بمقرئ الثورة، وقد اعتزل الشيخ بدار التلاوة بعد تأبينه سعد زغلول لمدة سبع ليال متواصلة، ولم يظهر الشيخ بعد ذلك سوى مرتين في الذكرى السنوية الثانية لسعد زغلول سنة ١٩٣٠م، وفي مأتم الملك فؤاد سنة ١٩٣٦م.
ويؤكد أحمد أمين أن انتشار المذياع كان له أكبر الأثر في اندثار هذه العادة وهي دعوة المقرئين للمنازل والمحال التجارية، واقتصرت فقط على المآتم. واعتادت الإذاعة المصرية على التعاقد مع مشاهير القراء وأصحاب الأصوات الحسنة، وقامت بتسجيل العديد من الأسطوانات فكان لها أكبر الأثر في الحفاظ على هذا التراث الضخم من الضياع، ثم كان انطلاق إذاعة القرآن الكريم في الخامس والعشرين من مارس عام ١٩٦٤م تتويجاً لروح التناغم بين الشعب المصري وكتاب الله عز وجل، لكونها أول إذاعة متخصصة في الإعلام الديني في العالم العربي والإسلامي، وكانت أولى المهام الأساسية لهذه الإذاعة هي إذاعة آيات القرآن الكريم مرتلاً ومجوداً بصوت مشاهير القراء على مدى اليوم والليلة، كما اهتمت الإذاعة بالعلوم الشرعية الأخرى من تفسير وحديث وفقه وتاريخ إسلامي وغير ذلك بما يؤكد وسطية الإسلام وبُعده عن الأفكار الهدامة المتطرفة، وبما يرسخ حب الانتماء للوطن والحرص على ما في الحضارة المصرية القديمة والمعاصرة من كنوز وتراث، فكانت الإذاعة ولا تزال أحد منابر الحق.
هذه هي بعض عادات المصريين مع كتاب الله، والتي تدل على مدى تعلق هذا الشعب بقراءة القرآن الذي أصبح جزءاً من تراثه وثقافته وهويته وتاريخه وحضارته.