تكلمنا فيما سبق عن الفلسفة اللغوية وعلمنا الفرق بين حروف المباني، وحروف المعاني، ورأينا أن فهم فلسفة حروف المعاني هذه ينقل الإنسان إلى أعماق أخرى، وترتقي بتعامله مع التراث الذي كُتب بالعربية –وعلى يد فقهاء لغة مدركين لفلسفتها- إلى آفاق عالية، حتى يجد الإنسان وكأنه قد انفتح على نور بعد الظلام.. لأن الانبهار الشديد بالقرآن –الذي يجب أن يتمتع به المؤمن- يأتي من إدراكه وفقهه لمجموعة من القواعد الأساسية، أولها إدراك فلسفة اللغة وفلسفة الحروف. وقد أدرك ابن هشام هذه المسألة، وأن اللغة العربية يمكن أن يكون لها مدخل من حروف المعاني، فألف كتابًا ماتعًا أسماه "منع اللبيب عن كتب الأعاريب": أي دعك من كتب النحو والإعراب هذه وتعالَ نفهم العربية جيداً بطريق أخرى. وهو كتاب يجعل المدخل لفهم العربية قضية حروف المعاني.
ثم هناك قضية الفارق بين الأثر وبين المعنى في الحرف : والأثر هو ما يصنعه الحرف بما بعده من حالات الإعراب "الجزم ، النصب، الجر...". فهناك عشرون حرفّا من التسعين تجّر ما بعدها وتسمى حروف الجرّ:
هاك حروف الجر وهي: من، إلى، ** حتى، خلا، حاشا، عدا، في، عن، على
من، منذ، ربَّ، اللام، الكاف، واوٌ ، وتا ** والباء، والكاف، ولعل، ومتــى
وهناك حروف أخرى تنصب وتسمى حروفاً ناصبة، كأن تنصب المبتدأ وترفع الخبر على خلاف (كان) وأخواتها، وهي:
أما كان وأخواتها فترفع المبتدأ وتنصب الخبر.
ترفع كان مبتدًا اسمًا، والخبر ** تنصبه، كــــ" كان سيدًا عمر"
هذه الحروف أيضاً مقسمة إلى أقسام: منها ما يدخل على الفعل ومنها ما يدخل على الاسم ومنها ما يدخل على كل منهما، ومنها ما له أثر ومنها ما ليس له أثر، ومنها ما له معنى واحد ومنها ما له أكثر من معنى أو وظيفة.
فـ"هل": لا أثر لها، ومعناها أو وظيفتها الاستفهام، وتدخل على الفعل والاسم، و"في": من حروف الجر باعتبار الأثر، ومن حروف الظرفية باعتبار المعنى، ولا تدخل إلا على الاسم، و"لم": من حروف الجزم باعتبار الأثر، وهي تنفي باعتبار المعنى، وتدخل على الفعل فقط.
ولكل حرف استعمالاته الممكنة ولا يمكن استعماله في غيرها، فلا يصح أن نأتي بحرف مثل (الكاف) للاستفهام؛ لأن الكاف لا تستعمل للاستفهام، ولا يمكن أن نستعمل الحرف (في) للسببية؟
والحرف يستعمل في معنى معين بشكل مكثف أو أكثر تداولاً، ثم بصورة أقل قد يستعمل في معانٍ أخرى. فالباء –مثلاً- هي في الأصل للسببية، أما عبارة (ببدر) التي جاءت فيها للظرفية فهي قليلة؛ ولذلك ليس هناك سوى هذا المثال.
فهل يمكن أن يستعمل اللفظ أو الحرف في معنيين مختلفْين حقيقةً؟ نعم، وهذا ما يُسمى بالمشترك، حيث يكون معنياه على الحقيقة وليس فيه مجاز. وسوف نتعرض له لاحقًا.
التعـلق:
هذه الحروف حروف معانٍ؛ بمعنى أنها مرتبطة في التكوين للجملة العربية بفعل. وهذا ينقلنا إلى شيء آخر. فنحن حتى الآن نتكلم في المفرد؛ أي في الألفاظ، في الحروف، مبانٍ ومعانٍ، كألفاظ وحروف مفردة، لكن عندما تتحول إلى التركيب في جملة فإنها تتحول إلى قصة أخرى، لابد من الوقوف عليها من أجل الفهم الأعمق الذي نحن بسبيله. هذه الحروف -في التركيب- لابد أن تتعلق بفعل أو ما يقوم مقام الفعل، سوف نرى -لاحقًا أيضًا- لماذا الفعل أو ما يقوم مقام الفعل؟ و ما هو الذي يقوم مقام الفعل في الواقع المعيش؟ إنه منطق أتوا به من التجربة الخارجية، حتى أصبحت اللغة كأنها كائن حيّ في نموها وفي تفاعلها.
فكل حرف له فعل مختص به، هذه أول حقيقة. فالأفعال نوعان: فعل يتعدَّى إلى المفعول ويرتبط به مباشرة، وفعل يرتبط بالمفعول عن طريق حرف، وهذا النوع الثاني -الذي يسمى الفعل اللازم- فيه لكل فعل حرف، أو قل لابد لكل حرف من فعل.
ومن ثراء اللغة وعمقها ما يسمى بالتضمين والإضمار: أي إنهم قد يستعملون أحياناً حرفاً آخر مع الفعل وليس الحرف الخاص به، وهم يعنون بذلك أن هذا الفعل قد امتلأ بفعل آخر وأصبح أمامي فعلان: فعل أنطق به وفعل آخر أضمنه مع معنى الفعل الأول. من أين أتى إدراكي لهذا الفعل الآخر الكامن؟ جاء من الحرف.
يقول ربنا سبحانه وتعالى : ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ [البقرة : 14]. وبالبحث في اللغة نجد أن "خلا" ترتبط بحرف (الباء) وليس (إلى)، وفي الحديث (لا يَخْلُوَنَّ رجلٌ بامرأة) [رواه مسلم] وهو في كلام العرب وشِعرهم قد استقر على ذلك. فكأن أصل القول هو: "وإذا خلو بشياطينهم"،. فماذا عن (خلوا إلى)؟
الحقيقة أن الفعل قد تشبَّع بفعل آخر يأتي معه الحرف (إلى) وهو (الاطمئنان)؛ لأن مما يصلح في هذا السياق (اطمأن إلى). وبالتالي فالعبارة تكون عند فكّها: "وإذا خلوا باطمئنانٍ إلى شياطينهم قالوا إنا معكم". من أين جئت بالاطمئنان؟ من الحرف.