واقع المؤسسة الدينية أنها ما زالت تقوم بدورها الوطني والقومي والإسلامي وهي بإذن الله في الريادة والقيادة دائماً، لا نرضى بواقعنا، ولا نستكين لإنجازاتنا ولكن يجب أن تعلم الحقيقة ونحن في عالم متغير، ولتكن لغة الأرقام مع لغة الكيف دليلاً على ذلك.
1- فدار الإفتاء المصرية نشأت سنة 1895م وكان أول من تولاها هو فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر حينئذ الشيخ حسونة النواوي، ثم تولاها من بعده الأستاذ الإمام محمد عبده من سنة 1899م حتى 1905م حيث انتقل إلى رحمة الله تعالى، وفي خلال هذه السنوات الست أصدر الإمام محمد عبده 964 فتوى مسجلة في سجلات دار الإفتاء، وعدد السكان لا يزيد عن عشرة ملايين نسمة، ودار الإفتاء بعد مائة عام باقية تؤدي دورها في مبنى جديد أدخلت فيه وسائل التقنيات الحديثة من أجهزة الحاسب الآلي وأجهزة الاتصالات المتطورة، وانتقلت من قصر رياض باشا رئيس وزراء مصر في مجمع المحاكم بالعباسية إلى المبنى المستقل الكبير الذي يجاور مشيخة الأزهر بطريق صلاح سالم عبر هذه السنوات المائة، والذي أشرف على هذه البناية ودفعها دفعاً هو فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الجامع الأزهر عندما تولى الإفتاء سنة 1986 فأنهاها سنة 1992.
فعدد الفتاوى التي تصدر شهريا من دار الإفتاء في أيامنا هذه ثمانية أضعاف عدد الفتاوى التي صدرت في عهد الإمام محمد عبده في ست سنوات، ومع مراعاة أن السكان قد زادوا سبعة أضعف، فيتضح لنا أن الألف فتوى التي صدرت في ست سنوات في عهد الإمام محمد عبده كان ينبغي أن تكون 7000 فتوى في ست سنوات لاعتبار النسبة العددية في السكان، مع افتراض أن ارتباط الناس بمؤسستهم الدينية كما، ولكن عندما يصبح عدد الفتاوى هو 8000 فتوى في كل شهر. فهل يا ترى ما زال الأمر يحتاج إلى دليل لقيام المؤسسة الدينية بدورها ؟ وإلى دليل لشدة التصاق المسلمين بمؤسستهم الدينية ؟ وإلى دليل إلى وهم إحجام المسلمين عن مرجعيتهم الدينية؟
2- وتسجل دار الإفتاء كل ما صدر عنها من فتاوى، فليس منها فتوى واحدة كانت تحت الطلب أو فصلت لأحد من الناس، أو لم تراع الكتاب والسنة ورضى الله ورسوله وما عليه السلف الصالح من الأمة، أو مصلحة الناس، أو مقاصد الشرع، ويمكن مراجعتها كلها فقد وضعنا فتاوى السنوات المائة بعد حذف المكرر على قرص يباع بعشرة جنيهات في منافذ بيع المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وصدرت في 23 مجلد إلى الآن، ولنا موقع على الإنترنت تنشر عليه الفتاوى الجديدة، والتي نقوم بترجمتها إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية خاصة ما يهم حياة المسلم في الغرب، وييسر عليه عيشه، ويجعله سفير الإسلام الصحيح وداعية بحاله قبل قاله لهذا الدين العظيم، وتتلقى الدار مئات الفتاوى والأسئلة شهريا عن طريق البريد الإلكتروني، والموقع من العالم كله وتجيب عليها وتتفاعل معها.
3- يستطيع المسلم أن يرجع إلى هذا الموقع وعنوانه www.dar-alifta.com ويطلب منه الفتوى، لا أن يأخذها من هنا أو هناك فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع) [رواه مسلم]. ونقل الفتوى شهادة وهو يقول صلى الله عليه وسلم : (أرأيت الشمس فعلى مثلها فاشهد) [البيهقي في الشُعب]، وقد نسبت لي الأخبار السيارة إما عن حسن قصد أو عن سوئه أني حرمت المظاهرات أو أحللت الرشوة أو قتل السفير الإسرائيلي بالقاهرة أو الكويز أو العري أو الخمر أو المخدرات في سلسلة مضحكة مبكية من المهاترات التي أنكرناها ورددنا عليها وما زال يحلو لبعضهم أن يتشدق بها. وعدم التوثق وعدم التوثيق يدخل صاحبها في دائرة الكذب المحرم شرعاً. وقال بعضهم : إن هناك أشياء لا يمكن إلا وأن تكون قد صدرت منكم، فقلت له : كيف هذا ؟ فقال : لقد نشرت مرات. وهذه عقلية مرفوضة مع ما نراه ونعرفه من أن أغلب الناس لا يتوثقون التوثق الذي تعلمناه حين نقل القرآن ونقلت السنة ونقل الفقه والعلم إلى من بعدنا، والتوثيق ثقافة يجب أن تشيع حتى نصل إلى العقلية العلمية ونخرج من عقلية الخرافة والانطباعات الهشة.
4- أما الجامعة الأزهرية فإنها أصبحت أقدم جامعات الدنيا بعد مرور ألف سنة من عملها المتصل وأصبحت أكبر جامعات الدنيا بعد أن أصبح عدد طلابها 400 ألف طالب، وبلغ عدد أساتذتها سبعة ألاف وكلياتها نحو سبعين كلية، فهي بهذا أكبر من أي جامعة في مصر، وأكبر من أعظم الجامعات في العالم من هارفارد بأمريكا، وكمبردج بلندن، وطوكيو باليابان، وهي جامعة تؤدي دورها واستطاعت أن تطور أساليب الدراسة في المائة سنة الأخيرة حتى وصلت إلى اعتمادها في العالم، ووسعت من دراستها فلم تعد تقتصر على العلوم الشرعية، بل أيضا درست العلوم المدنية، بعد تخرج الطالب من المعاهد الأزهرية التي اهتمت ولا زالت بحفظ القرآن، وهو المزية التي مازالت مصر هي الأولى شيوخاً وحفظة وتلاميذ على كل دول العالم، ومازالت المسابقات الدولية تحتاج إلى مصر في حكامها والمصريون يحصدون الجوائز الأولى منها عبر السنين، فلا تزال مصر هي مصدر القرآن وقراءته للعالم الإسلامي كله، ومازالت مصر هي سبب الخير وحفظ كتاب الله في العالم كله، وما زالت جامعة الأزهر هي مصدر الدراسة الأكاديمية المتخصصة عالية الشأن، وما زال أساتذتها يدرسون في كل العالم الإسلامي، بل والعالم الغربي ويرأسون الأقسام ويحتفظون بكراسي الأستاذية في الشرق والغرب، فهل هذا الواقع المرئي الملموس يحتاج إلى دليل.
وليس يصح في الأذهان شيء ** إذا احتاج النهار إلى دليل
5- أما وزارة الأوقاف فهي تشرف على الدعوة من خلال أكثر من تسعين ألف مسجد في مصر، ومن خلال أربعين ألف خريج من خريجي الأزهر الشريف أئمة يحتاج إليهم الناس، وتقوم الوزارة بعمل دورات تدريبية عالية المستوى لوصل هؤلاء الدعاة بالواقع المتطور وبشبكة المعلومات الدولية وأدوات التحليل لفهم المضمون في كافة الجوانب وفي الترجمة والنشر عن طريق المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ولجانه، ووضعت نظاماً يمنع العبث بالدعوة أو أن يتصدر فيها من ليس بكفء، فشرطت لمن يصعد المنبر أن يكون خريجاً من الأزهر أو دار العلوم، أو عنده من الكفاءة ما يمكنه من ذلك عن طريق تصريح يمنح للخطيب من مديريات الأوقاف، وذلك استجابة لمطلب لدى الكافة لضبط الدعوة وعدم تصدر غير الكفء، ولكن لم نعدم من يعترض على ذلك، ويرى أن في هذا تضييقاً على الدعاة، وأنه لا يصح التضييق عليهم، وأن ذلك سُبة في جبين الدعوة في مصر، والسؤال المطروح ماذا يريد هذا المعترض ؟ إنه يريد أن يعترض لا أكثر ولا أقل، فهو ينكر على المؤسسة الدينية إذا تركت وينكر عليها إذا فعلت، فاللهم أأجرنا في مصيبتنا مرتين.
6- أما مجمع البحوث الإسلامية فقد أصدر حتى الآن ثمانية وعشرين مجلداً كبيراً تشتمل على الأبحاث التي قدمت في مؤتمراته المتتالية، ومطبوعاته من الكتب العلمية وصلت إلى مئات غير محصورة لدي، ويجمع بين أعضائه نخبة العلماء والمتخصصين في كافة العلوم والفنون والتخصصات ومحاضر جلساته منذ إنشائه إلى اليوم مسجلة وتوصياته ومؤتمراته وقرراته وفتاويه وآراؤه وتخيراته مسجلة منشورة متاحة، وله صلات بالمجامع التي قلدته وسارت على نهجه ونشأت بعده، ومازال يأتيه من كل الدنيا شرقاً وغرباً المسائل فيدرسها دراسة مستفيضة ويرد عليها بعلم مبني على الحقائق بعد درس واع لها.
وأذكر أن جامعة الأزهر قد وافقت على إنشاء مركز دراسات السكان لبحث المسائل المستحدثة مثل أطفال الأنابيب، والتدخل الجيني ونحوهما، ونشر المعترضون ما نشروا ضد هذا المركز وضد الأزهر حتى وصل ببعضهم أن اتهم الأزهر بالعمالة لأمريكا، وقام المركز تحت إشراف أ.د جمال الدين أبو السرور بدراسة الموضوعات الراجعة إلى السكان، وعقد أكثر من ندوة ومؤتمر وخرج بمجموعة كبيرة من الأبحاث والرؤى عرضت على مجمع البحوث ودرسها في سنتين متتاليتين من غير عجلة ولا تواني، وأصدر المجمع رأيه بعد هذه الرحلة العلمية، وظل المركز حتى الآن يعمل في صمت، ونسي الجميع ما صدر من تشكيك واستهانة، وهكذا هو الفرق بين عقل العلم الذي تحميه المؤسسة الدينية، وبين عقل الخرافة التي حاربته ولا تزال تحاربه.