تحدثنا في المقال السابق عن مؤتمر ماردين وفتوى ابن تيمية الخاصة بأهل تلك البلدة في وقته, وأشرنا إلى اختلال الفهم الذي وقع فيه بعض المتشددين حين تعلقوا بهذه الفتوى دون الرجوع إلى أهل العلم والاختصاص.
ليبينوا فحوى هذه الفتوى ومعناها والسياق الذي قيلت فيه. والذي أدى إلى هذا الاختلال هو عدم الوقوف فضلا عن الدربة والاستخدام للمنهج العلمي في كيفية توثيق النصوص وفهمها لدي علماء المسلمين, فالمنهج العلمي عند المسلمين يتكون من أركان لا غنى عنها, هي: الطالب, والمعلم, والمنهج, والكتاب, والمناخ العلمي الملائم, وهي أركان إذا غاب أحدها اختلت العملية التعليمية برمتها. وهو ما حدث عندما انتقى غير المتخصصين فتوى ابن تيمية بشكل محرف, فحرفوا كلمة ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بكلمة ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام, وبذلك برروا أعمال القتل والعنف والتخريب وترويع الآمنين ضد المسلمين وغير المسلمين, والنص الصحيح لفتوى ابن تيمية عن بلدة ماردين هو: (وأما كونها دار حرب أو سلم فهي مركبة: فيها المعنيان, ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام, لكون جندها مسلمين, ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار, بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه, ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه), وهو ما ورد في الفتاوى المصرية لابن تيمية, ولكن ليس في النسخة المطبوعة المتداولة في خمسة أجزاء, وإنما جاءت صحيحة في النسخة المخطوطة بمكتبة الأسد الوطنية بسورية, وأكد ذلك العلامة ابن مفلح الحنبلي المتوفي 763 هـ, وهو تلميذ لابن تيمية, حيث أوردها على الوجه الصحيح في كتابه: الآداب الشرعية والمنح المرعية ص212.
وكذلك وردت في تاب: الدرر السنية في الأجوبة النجدية لبعض علماء السعودية لمعاصرين (12/251).
وقد حفظ الله تعالى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من التحريف والتصحيف, ولذلك ورد الوحي بالتلقي من أفواه العلماء ليطابق المكتوب المقروء, حتى إن بعضهم وقع في تحريف بعض الآيات فسخر الله له من يرد عن كتابه, ومن ذلك ما أورده العسكري في تصحيفات المحدثين (1/26) والذهبي في ميزان الاعتدال (3/37): أن رجلا قرأ (وجعل السقاية في رجل أخيه), فصححها له الحاضرون: و(جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) [يوسف:70]. أما في السنة فقد أورد ابن الصلاح في مقدمة علوم الحديث (ص143) مثالا على ذلك, وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الذين يشققون الخطب. أي يتقعرون في الكلام ويتكبرون على الناس بهذا, فقرأها أحد الرواة (الحطب) بالحاء المهملة, فقال بعض الحاضرين من الفلاحين: يا قوم كيف نعمل والحاجة ماسة.
إن غياب التوثيق في فتوى ابن تيمية أدى إلى تحريفها بشكل أهدر كثيرا من دماء المسلمين وغيرهم, بل أضر بمقاصد الشريعة وأهدافها, وتسبب في تشويه صورة الإسلام والمسلمين ووصمهما بالتطرف والعنف.
هذا وإن كانت القاعدة عند العلماء أن دعوى الوهم في التفسير أسهل من دعوى التصحيف في الأصل إلا أن من استخدم نص ابن تيمية المحرف قد وقع في الأمرين معا, لأن التفسير مبني على صحة الأصل. فهم قد جانبهم الصواب في توثيق النص وقراءته, وأخطأوا أيضا في فهم الكلمة المحرفة من خلال السياق وسابق الكلام ولاحقه, وأمارة ذلك الاقتران والازدواج الواردين في نص الفتوى بين قوله: ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه وقوله: يعامل المسلم فيها بما يستحقه إذ لو كان المراد -كما فهموا- ويقاتل الخارج لما كان هناك داع لقوله بعدها: بما يستحقه لأن الخلاف ليس في كيفية القتال, وإنما في إقرار القتال ومشروعيته.
وبهذا نرى كيف أن التحريف في النص أدى إلى خطأ في الفهم, وإلى أن يستخدمه قاصرو الفهم في ترويع الآمنين, وبالتتبع يجد العاقل العالم أن كثيرا من المشكلات والأحداث الجسام التي وقعت في التاريخ الإسلامي كانت مبنية على خطأ في توثيق نصوص العلماء وخطأ فهمها.
إن افتقار المتلقين لفتوى ابن تيمية وافتقادهم للمنهج العلمي عند المسلمين قد أحدث هذا التحريف والتشويه لفتوى هذا العالم, وسبب ذلك أنهم يستسهلون التقليد الأعمى دون التأكد من حقيقة الأمور, والتبصر ببواطنها ومعرفة عواقبها, ورغبة الناس في أن تستسهل طريق العقل عملية قديمة جدا, فهو لا يكلفهم شيئا, خاصة أنه ليس في خدمة العلم, ولا تحت عباءة المنهج, أما العلم فيحتاج إلى الاحتراق به, وإلى أعمال العقل أيضا فيه.
فلابد علينا أن نمتلك الأدوات الضرورية اللازمة لفهم أدوات التعامل مع الموروث الإسلامي أو أن نرشد إلى الطريق في ذلك, مع ضرورة حفظ التمييز بين الأصلين المترهين (الكتاب والسنة), وبين سائر التراث الذي اجتهد في إنتاجه المسلمون من علوم وفكر, وفقه وفتاوي, ورؤى وواقع تاريخي.
وإننا نحذر من العقلية الخرافية وتداعياتها, وننبه إلى أن هذا النمط القديم الجديد الذي يبرز كل حين فيحدث جلبة وضوضاء, من أجل أن يلفت لنفسه الأنظار, ويحقق اشتياقه الذي ضل عنه, ويوظف تراثنا وموروثاتنا لخدمة أهدافه, مستغلا حالة الاختلال في الفهم, والبعد عن التوثيق, والتمسك بالتقليد الأعمى دون وعي ولا سبيل لنا بمواجهته سوى بالتسلح بالمنهج العلمي, المرتبط بالتوثيق والتمحيص والفهم, وهو المنهج الوسطي الذي يتحراه القائمون على العملية التعليمية في الأزهر الشريف وغيره من الجامعات والمعاهد المعتبرة في العالم الإسلامي, ولا يسعنا إلا ما ورد عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه لمن لا يجيد العلم وأدواته, فنقول: هلا سألوا إذ لم يعلموا, إنما شفاء العي السؤال.