إن إرسال النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم نعم الله على البشرية، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو النموذج المطلوب اتباعه من البشر، وقد صنعه الله ليكون أسوة، فكما أن كلام الله سبحانه هو المثال النظري والمرجعي لصياغة الإنسانية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المثال العملي التطبيقي لكلام الله، وقد أخبرت بذلك السيدة عائشة رضي الله عنها حيث قالت عندما سألت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كان خلقه القرآن) [رواه أحمد]، فكان صلى الله عليه وسلم قرآنا يمشي على الأرض.
ولم يكن رسول الله الأسوة الحسنة لأتباعه من المؤمنين فحسب، بل كان ذلك للبشرية بأسرها، حتى الأنبياء أمرهم الله باتباعه صلى الله عليه وسلم ونصره إذا بعث في زمنهم، وقد شهدوا بذلك وعاهدوا الله عليه كما أخبر ربنا في كتابه حيث قال : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران :81].
فهو النبي الوحيد، بل الإنسان الوحيد الذي حفظت سيرته وأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته في اليقظة والمنام بهذا الشكل، فلم يهتم أحد بحفظ سيرة أحد على الأرض على مر التاريخ على هذا النحو، واهتم المسلمون بنقل كل شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنشئوا العلوم لحفظ سيرته وسنته، ولقد بدأ هذا في الصدر الأول للإسلام، فابن عباس رضي الله عنه يتحرى الليلة التي يأتي فيها النبي صلى الله عليه إلى خالته ميمونة ـ إحدى زوجاته رضي الله عنها ـ ويبيت عند خالتي حتى يراقب النبي صلى الله عليه وسلم في أكله ونومه وعبادته، ويتمثل به كما روى ذلك مسلم في صحيحه وغيره.
إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة لكل من أراد الله ونعيمه قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب :21]، وذلك لأن الله قلب نبيه صلى الله عليه وسلم في شتى وظائف المجتمع وأعماله، فمن أراد أن يكون أجيراً أميناً على مال الناس فليتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أراد أن يكون تاجراً صالحًا وصادقاً فليتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أراد أن يكون زوجاً صالحاً، وأبا رحيماً، وقائداً حكيماً، ومحارباً شجاعاً في الحق، ومفتياً خبيراً، وقاضياً عادلاً، ومصلحاً اجتماعياً واعياً، وابناً براً، وواصلاً كريماً و .... من أراد أن يكون أفضل إنسان في أي موقع فسيجد له من رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكراً.
ونتكلم في هذه المرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتباره قائدًا مجاهدًا شجاعًا نبيلاً، ونراه صلى الله عليه وسلم وهو يعلم قواد الجيوش في العالم بأسره حقيقة الحروب، وكيف تدار، ومتى تبدأ وكيف تنتهي، وذلك من خلال التجول السريع في سيرته العطرة للتعرف على بعض حقائق حروب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم فرضت عليه الحروب، ولم يسعى إليها، وقد فرض عليه صلى الله عليه وسلم طوال قيادته للدولة الإسلامية اثنان وثمانون تحركا عسكريا، لم ينشب القتال في ستين منها، وخمس تحركات لم يقتل غير المسلمين، ومجموع القتلى والشهداء من الفريقين 1004 أشخاص منهم 252 شهيدا مسلما والباقي من المشركين.
هذه الأرقام ليست من الفظاعة حتى تجبر العالم بأسره أن يخشى من الإسلام ويدخل فيه خوفا من السيف، بل إن عدد قتلى حوادث السيارات في عام واحد في أي مدينة كبيرة يفوق هذا العدد.
وذلك يؤكد أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن الخيار الأول عنده القتال، وكان يبتعد عن القتال قدر استطاعته حتى لا يجد من القتال بدا بأن يدافع عن نفسه وينصر المظلومين وينشر الإسلام.
فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفًا فهو سيف الله وليس سيف الشهوات، والبلاء وقلة الديانة، وسوء الأخلاق، كان سيفا يدافع عن المظلوم ويرد الحقوق لأصحابها، وينشر العدل ولا يستخدم القوة إلا مع أهل البطش والظلم ليدافع عن نفسه وعن الإسلام.
أنتجت هذه الحروب نحو ستة آلاف وخمسمائة أسير عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ستة آلاف وثلاثمائة أسير، ولم يأسر ويستمر الأسر إلا على مائتين، فكانت صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وهو سيد ولد آدم ولا فخر.
وبذلك الخلق وتلك الأرقام يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نجاهد جهاد النبلاء، كيف نكون أتقياء مراقبين لله حتى في ظل احتدام المعركة، كيف نذكر الله في كل وقت وخاصة في وقت الجهاد، وقد اكتنف جهاده صلى الله عليه وسلم حقائق كثيرة ينبغي أن يعلمها المسلمون، فمن كان يجاهد ؟ وكيف كان تواضعه ولجوؤه إلى ربه في أصعب الأوقات ؟ وكيف صار أصحابه رضي الله عنهم بعده على هديه في الجهاد ؟