الحساب الفلكي لمعرفة أوائل الشهور
الحساب الفلكي يُؤخَذ به في النفي لا في الإثبات؛ أي: أن الرؤية البصرية هي المعتمدة إلا إذا خالفت الحساب الفلكي المقطوع بدقته، فإذا خالفته لا تُعتَمَد، ولا تُعتَبر حينئذ شهادة مَن شَهِد برؤية الهلال لمخالفتها الحساب، وبهذا يتم الجمع بين الأصل وهو الرؤية البصرية المأمور بها كأصل للمسألة، والحساب الفلكي المقطوع بدقته في عصرنا.
وأما عن القضية المتعلقة باختلاف المطالع: فإن العلماء قد اختلفوا في اعتباره من عدمه في خصوص ما يترتب على رؤية الهلال في إحدى البلدان من وجوب الصوم أو الفطر على غيرها ممن لم يشاهد فيها الهلال.كما سيأتي ذكره فيما بعد.
فذهب الحنفية -كما نص عليه الإمام النسفي في «كنز الدقائق» (1/ 321، مع شرح تبيين الحقائق للزيلعي ط. دار الكتاب الإسلامي) والعلامة ابن عابدين في «تنبيه الغافل والوسنان على أحكام هلال رمضان» (ص: 27- 28، ط. مطبعة معارف بدمشق)-: إلى أنه لا عبرة باختلاف المطالع؛ بمعنى أنه إذا رأى الهلالَ أهلُ بلد ولم يره أهل بلد آخر وجب عليهم أن يصوموا برؤية أولئك كيفما كان.
وذهب المالكية إلى أن رؤية الهلال بجماعة مستفيضة في بلد يلزم غيرها من البلاد مطلقًا؛ قال سيدي خليل في مختصره: «وعم إن نقل بهما عنهما» اهـ، أي: عَمَّ وجوب الصوم سائرَ البلاد القريبة والبعيدة إذا نقل بعدلين عن عدلين، أو الاستفاضة عن الاستفاضة، فإذا رؤي وثبت الهلال في مكان ما فإن هذه الرؤية تعم جميع الأقطار. (انظر: «شرح مختصر خليل للخرشي» 2/ 236، ط. دار الفكر، و»حاشية الدسوقي» 1/ 510، ط. دار إحياء الكتب العربية).
وعند الحنابلة أيضًا أنه لا عبرة باختلاف المطالع، قال العلامة ابن مفلح في «الفروع» (3/ 12، ط. عالم الكتب): «(وإذا رأى الهلالَ أهلُ بلد لزم الناس كلهم الصوم) لا خلاف في لزوم الصوم على من رآه، وأما من لم يره: فإن كانت المطالع متفقة لزمهم الصوم أيضًا، وإن اختلفت المطالع فالصحيح من المذهب لزوم الصوم أيضًا» اهـ. وكذلك في «الإنصاف» للمرداوي (3/ 273، ط. دار إحياء التراث العربي).
ودليلهم: ما رواه البخاري ومسلم -واللفظ لمسلم- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «صُوموا لرؤيته وأَفطِروا لرؤيَتِه»، فهو يخاطب سائر أهل الآفاق، ولم يقيد بأهل بلد دون غيرهم، فإذا وجب اعتبار رؤية أهل بلد في الصوم والإفطار وجب اعتبار رؤية غيرهم أيضًا.
قال العلامة البهوتي في «شرح منتهى الإرادات» (1/ 471، ط. عالم الكتب): «(وإذا ثبتت رؤيته) أي: هلال رمضان (ببلد لزم الصوم جميع الناس) لحديث: «صوموا لرؤيته»، وهو خطاب للأمة كافة» اهـ.
وأما الشافعية فذهبوا إلى أن هلال رمضان إذا رؤي في بلد ولم يُرَ في غيرها، فإنْ تقارَبَ البَلَدَان فَهُمَا كالبلد الواحد ويَلزم أهلَ البلد الآخر الصومُ، وإن تَبَاعَدَا فلا يجب الصوم على أهل البلد الآخر.
قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في «المنهج» و»شرحه» (2/ 308- 309، ط. دار الفكر): «(وإن رُئِيَ) الهلال (بمحَلٍ لزم حكمه محلا قريبًا) منه، (وهو) يحصل (باتحاد المَطلَع) بخلاف البعيد منه، وهو يحصل باختلاف المَطلَع أو بالشك فيه كما صَرَّح به في الروضة كأصلها، لا بمسافة القَصر» اهـ.
ونقل ابن المنذر أن رؤية الهلال لا تلزم غير أهل بلد الرؤية عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق بن راهويه. كما في «المجموع» للإمام النووي (6/ 282، ط. المنيرية).
ودليلهم: ما رواه مسلم عن كُرَيب بن أبي مسلم مولى ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمْتُ الشامَ فقَضَيْتُ حاجتها واستهل عَلَيَّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قَدِمْتُ المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة. فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية. فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أَوَ لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا الحديث ظاهر في أن كل قوم مكلفون برؤيتهم.
ومورد هذا النص في الشام والحجاز، وقد وجد بينهما مسافة القصر، واختلاف الإقليم، واختلاف المطالع، واحتمال عدم الرؤية.
فأما احتمال عدم الرؤية فهو احتمال بعيد؛ لأن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال لكريب: أنت رأيته؟ فقال له كريب: نعم، ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية.
وأما احتمال مسافة القصر واختلاف الإقليم فليس متجهًا أيضًا؛ كما حققه العلامة الإمام محمد بخيت المطيعي «في إرشاد أهل الملة» (ص: 279، ط. مطبعة كردستان العلمية) بقوله: «إذا رجعنا إلى الواقع نجد أنه لا دخل في اختلاف الناس في رؤية الهلال بعد الغروب لمسافة القصر ولا لاختلاف الإقليم، وأن المدار في ذلك على اختلاف المطالع؛ فإنه ليس المراد باختلاف الناس في الرؤية: أن هذا يرى وهذا لا يرى، بل المراد: أن رؤية هذا للهلال بعد الغروب لا تعتبر رؤية للآخر؛ لأنه لا غروب ولا هلال في بلده، وهذا إنما يكون باختلاف المطالع فليكن عليه المعول» اهـ.
أما ما استدل به الأولون من تعلق الخطاب بمطلق الرؤية في حديث: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» فهو صحيح، لكنه لا يشمل إلا كل من تحقق لديهم الرؤية بعد الغروب، أما من لم توجد عندهم الرؤية بعد الغروب؛ بأن كان وقت الغروب عند الرائين هو وقت طلوع الشمس عند غيرهم، فلا يجب عليهم صوم؛ لانتفاء سبب الوجوب وهو رؤية الهلال بعد الغروب، فليس الحديث بِدَالٍّ على عدم اعتبار المطالع.
والذي قرره مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة في مؤتمره الثالث المنعقد في الفترة من 30 سبتمبر إلى 27 من أكتوبر سنة 1966م بشأن تحديد أوائل الشهور القمرية أنه: «لا عبرة باختلاف المطالع، وإن تباعدت الأقاليم، متى كانت مشتركة في جزء من ليلة الرؤية، وإن قَلَّ، ويكون اختلاف المطالع معتبَرًا بين الأقاليم التي لا تشترك في جزء من هذه الليلة» اهـ.
وتأكد هذا أيضا في قراره رقم [42] في جلسته الثانية في دورته الثامنة والعشرين التي عقدت بتاريخ 23 ربيع الآخر لسنة 1412هـ الموافق 31 من أكتوبر لسنة 1991م بشأن رؤية الهلال، ونصه: «أنه إذا تعذر دخول الشهر القمري، وثبتت رؤيته في بلد آخر تشترك مع المنطقة في جزء من الليل، وقال الحسابيون الفلكيون: إنه يمكث لمدة عشر دقائق فأكثر بعد الغروب، فإن دخول الشهر العربي يثبت» اهـ.