حقيقة هذه الفتوى أني سئلت منذ عدة سنوات، وليس في وقت ما نشر ذلك في الصحف، وكانت الفتوى بخصوص الحج، وكان نص السؤال : « هل يجوز أداء الحج من المال الناتج من العقود الفاسدة : كبيع الخمر لغير المسلمين في بلادهم، وكربا مع غير المسلمين في بلادهم كذلك ؟ » وكانت إجابتي هي :
ذهب الإمامان أبو حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف إلى أنه لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب، وأن المسلم في دار الحرب له أخذ أموال الحربيين بأي وجه كان ولو بالعقد الفاسد كالقمار أو بيع الميتة والخمر، قال محمد : « وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فلا بأس بأن يأخذ عنهم أموالهم بطيب أنفسهم بأي وجه كان »([1]).
ثم قال : « ولو أن المستأمن فيهم - أي الحربيين - باعهم درهما بدرهمين إلى ستة ، ثم خرج إلى دارنا، ثم رجع إليهم أو خرج من عامه ثم رجع إليهم فأخذ الدراهم بعد حلول الحول لم يكن به بأس »([2]).
وقال السرخسي بعد ذكره لمرسل مكحول «لا ربا بين المسلمين وبين أهل دار الحرب في دار الحرب» : وهو - أي مرسل مكحول - دليل لأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله - في جواز بيع المسلم الدرهم بالدرهمين من الحربي في دار الحرب... ، وكذلك لو باعهم ميتة أو قامرهم وأخذ منهم مالًا بالقمار، فذلك المال طيب له عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله »([3]).
وقول الإمامين أبي حنيفة ومحمد هو المعتمد والمختار عند السادة الحنفية، فقد قال الإمام السرخسي بعد نصه السابق : «وحجتنا - السادة الأحناف - في ذلك ما روينا، وما ذكر عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال في خطبته : « كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع ، وأول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب ».
وهذا؛ لأن العباس رضي الله عنه بعد ما أسلم رجع إلى مكة، وكان يرابي، وكان لا يخفي فعله عن رسول الله صلي الله عليه وسلم فلما لم ينهه عنه دل أن ذلك جائز، وإنما جعل الموضوع من ذلك ما لم يقبض حتى جاء الفتح »([4]).
وقال المرغيناني([5])، والكمال بن الهمام([6])، والحصكفي([7])، وابن عابدين([8]) قالوا جميعا: «لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب»، وذكروا أن المسلم في دار الحرب له أن يأخذ مال الحربيين بأي وجه كان بغير غدر منه.
وظاهر كلام السادة الحنفية أن الحكم عام في أخذ المسلم للربا في دار الحرب وإعطائه، ولكن الكمال بن الهمام ذكر أن أئمة الحنفية في دروسهم قيدوا حل الربا للمسلم في دار الحرب بأخذه من الحربي، فقال: « إلا أنه لا يخفى أنه إنما يقتضي حل مباشرة العقد - أي عقد الربا -إذا كان الزيادة ينالها المسلم، والربا أعم من ذلك إذ يشمل ما إذا كان الدرهمان - يعني بالدرهم - من جهة المسلم ومن جهة الكافر، وجواب المسألة بالحل عام في الوجهين، وكذا القمار قد يفضي إلى أن يكون مال الخطر للكافر بأن يكون الغلب، فالظاهر أن الإباحة تفيد نيل المسلم للزيادة، وقد التزم الأصحاب في الدرس أن مرادهم في حل الربا والقمار ما إذا حصلت الزيادة للمسلم ؛ نظرا إلى العلة ، وإن كان إطلاق الجواب خلافه » ([9])، ونقل ذلك عنه ابن عابدين([10])، بل إلى بيع الخمر، والإطلاق هو المناسب لعصرنا.
وقد استدل السادة الحنفية على ما ذهبوا إليه بأدلة منها :
(1) ما ذكر عن مكحول عن رسول الله صلي الله عليه وسلم : «لا ربا بين المسلمين وبين أهل دار الحرب في دار الحرب»([11]). قال السرخسي : «وإن كان مرسلا فمحكول فقيه ثقة والمرسل من مثله مقبول»([12]). واستدل بهذا الدليل أيضا المرغيناني([13])، والكمال بن الهمام([14]).
(2) واستدل محمد رحمه الله بحديث بني قينقاع ، فإن النبي صلي الله عليه وسلم حين أجلاهم قالوا: « إن لنا ديونا لم تحل بعد» . فقال : « تعجلوا أو ضعوا »، ولما أجلى بني النضير قالوا: « إن لنا ديونا على الناس ». فقال : «ضعوا أو تعجلوا. »([15])
وبيَّن السرخسي وجه الدلالة فقال : « ومعلوم أن مثل هذه المعاملة - الربا المتمثل في قوله : «ضعوا أو تعجلوا » - لا يجوز بين المسلمين ، فإن من كان على غيره دين إلى أجل فوضع عنه بشرط أن يعجل بعضه لم يجز ، كره كذلك عمر وزيد بن ثابت وابن عمر رضي الله عنهم ، ثم جوزه رسول الله صلي الله عليه وسلم في حقهم ؛ لأنهم كانوا أهل حرب في ذلك الوقت ولهذا أجلاهم ، فعرفنا أنه يجوز بين الحربي والمسلم ما لا يجوز بين المسلمين »([16]).
(3) وبما وقع عند مصارعته صلي الله عليه وسلم ركانة حين كان بمكة ، فصرعه رسول الله صلي الله عليه وسلم، في كل مرة بثلث غنمه ، ولو كان مكروها ما فعله رسول الله صلي الله عليه وسلم، ثم لما صرعه في المرة الثالثة قال ركانة : ما وضع أحد جنبي قط، وما أنت صرعتني ، فرد رسول الله صلي الله عليه وسلم الغنم عليه"([17]).
يقول السرخسي : «وإنما رد الغنم عليه تطولًا منه عليه وكثيرًا ما فعل ذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم مع المشركين يؤلفهم به حتى يؤمنوا »([18]).
(4) روى ابن عباس رضي الله عنهما وغيره ، قال : قال صلي الله عليه وسلم : « ألا كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع ، وأول ربا أضعه ربا عمي العباس بن عبد المطلب »([19]).
ووجه الدلالة في هذا الحديث أن العباس رضي الله عنه بعدما أسلم بعد أن جيء به أسيرا في غزوة بدر ، استأذن رسول الله صلي الله عليه وسلم في الرجوع إلى مكة بعد إسلامه ، فأذن له ، فكان يربي بمكة إلى زمن الفتح ، وكان فعله لا يخفى على النبي صلي الله عليه وسلم، فلما لم ينهه عنه دل أن ذلك جائز ، وإنما جعل الموضوع من ربا في دار الحرب ما لم يقبض حتى جاء الفتح فصارت مكة دار الإسلام ؛ ولذا وضع رسول الله صلي الله عليه وسلم الربا عند الفتح([20]).
(5) ولأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ناحب مشركي قريش قبل الهجرة حين أنزل الله تعالى : « ألم غلبت الروم .. الآية »([21])، فقالت قريش له : « ترون أن الروم تغلب ؟! قال : نعم . فقالوا : هل لك أن تخاطرنا . فقال : نعم . فخاطرهم ، فأخبر النبي صلي الله عليه وسلم، فقال النبي صلي الله عليه وسلم : «أذهب إليهم فزد في الخطر»، ففعل وغلبت الروم فارسًا ، فأخذ أبو بكر خطره فأجازه النبي صلي الله عليه وسلم » . وهو القمار بعينه بين أبي بكر ومشركي مكة وكانت مكة دار شرك([22]).
(6) ولأن مالهم مباح فحق للمسلم أن يأخذه بلا غدر ؛ لحرمة الغدر؛ لأن المسلمين لو ظهروا على ديارهم لأخذوا مالهم بالغنيمة (شرح السير الكبير 4/1410 ، والبناية في شرح الهداية 7/385 ، والمبسوط 14/58 ، وفتح القدير 6/178 وحاشية ابن عابدين 4/188).
وبعد فحاصل مذهب السادة الحنفية جواز التعامل بالعقود الفاسدة في دار الحرب ، بين المسلم وأهل دار الحرب ، سواء كان العقد بيعًا لميتة، أو خنزير، أو خمر، أو مقامرة.
وما يجب أن يلتفت إليه مطالع هذا النقل عن السادة الحنفية ، أن يضع في اعتباره ، أن أهل المذاهب الأخرى لديهم قواعد يمكن من خلالها التعامل مع حالات الضرورة والابتلاء، ويمكن من خلالها عقد صلة بين ما ذهب إليه السادة الحنفية وبين أقوال المذاهب في المسألة ذاتها.
ومن هذه القواعد :
(1) تقليد القائل بالجواز عند الضرورة رفعا للحرج :
فقد قال الشيخ العلامة الشيرواني([23]) : «لمن ابتلي بشيء من ذلك كما يقع كثيرًا تقليدًا ما تقدم ليتخلص من الحرمة».
(2) الإنكار يكون في المجمع عليه : فقد ذكر العلامة السيوطي([24]) : «إنما ينكر المتفق عليه لا المختلف فيه» وهذا يعني أن المسـألة إذا اختلف فيها أهل المذاهب الفقهية، فلا يصح لأهل مذهب أن ينكروا على أهل مذهب آخر؛ لأن المسألة مختلف فيها.
(3) التفريق بين حد الفقه والحكم وحد الورع :
فقد اتفقت كلمة الفقهاء على أن حد الورع أوسع من حد الحكم الفقهي؛ وذلك لأن المسلم قد يترك كثرا من المباح تورعا ، كما كان الصحابة رضي الله عنهم يتركون تسعة أعشار المباح ورعا خشية أن يقعوا في الحرام، ولكن هذا لا يعني أنهم يحرمون الحلال، والورع واسع حتى يصل إلى أن يخرج الإنسان من جميع ماله تورعا من أن يناله شيء من الحرام.
فعلى ما سبق تقديمه من مذهب السادة الحنفية، يكون أداء الحج من المال المكتسب من العقود الفاسدة بين المسلم وأهل دار الحرب في دارهم جائزا؛ لأن هذا المال طيب ، كما نص على ذلك الإمام السرخسي([25]) : «وكذلك لو باعهم ميتا أو قامرهم وأخذ منهم مالا بالقمار فذلك المال طيب».
فإذا كان المال طيبا جاز الحج به عند جميع الفقهاء والله تعالى أعلى وأعلم.
_________________________________________________________________________
([1]) شرح السير الكبير، للسرخسي، ج4 ص 141.
([2]) شرح السير الكبير، للسرخسي، ج4 ص 148.
([5]) الهداية مع البناية 7/384 ، 385).
([7]) الدر المختار، ج4 ص 188، وبهامشه حاشية ابن عابدين.
([8]) رد المحتار على الدر المختار، المعروف بحاشية ابن عابدين، ج 4 ج 188.
([10]) حاشية ابن عابدين 4/188.
([11]) مرسل مكحول ذكره الشافعي في الأم ج7 ، ص359. وذكره أبو يوسف في الرد على سيرة الأوزاعي،ج1، ص97. والحافظ في الدراية في تخريج أحاديث الهداية، ج2، ص 158. والزيلعي في نصب الراية، ج4، ص44. وذكره ابن قدامة في المغني، ج 4، ص47 ولكنه قال عنه : " وخبرهم مرسل لا نعرف صحته، ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك. "، وقد استدل به صاحب المبسوط 14/56.
([13]) في الهداية (البناية شرح الهداية 7/384).
([14]) فتح القدير 6/178، ونقل كلام السرخسي على الحديث.
([15]) أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس الجزء الثاني، صـ60. وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
([16]) شرح السير الكبير 4/1412.
([17]) أصل حديث المصارعة بدون ذكر أنها كانت على شياة رواه الحاكم في المستدرك، الجزء الثالث، وأبو داود في سننه الجزء الرابع، ص 55. ص511، والترمذي في سننه الجزء الرابع، ص 247، ورواه البيهقي في سننه الكبرى الجزء العاشر، ص 18.
أما من ذكر حديث المصارعة وأنها كانت على شياة ، فقد ذكره الحافظ في الحبير، ج 4، ص 162، وقال : حديث أن رسول الله صلي الله عليه وسلم صارع ركانة على شياه في أبي داود والترمذي من حديث أبي الحسن العسقلاني عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة. ورواه معمر بن راشد الأزدي في سننهج 11 ، ص 427. ورواه أبو داود في المراسيل ج 1، ص 235. ورواه ابن الملقن الأنصاري في خلاصة البدر المنير ج2 ، ص 405. وذكره الشوكاني في نيل الأوطار ج 8، ص 256 وعلق عليه قائلا: «فيه دليل على جواز المصارعة بين المسلم والكافر وهكذا بين المسلمين ولا سيما إذا كان مطلوبا لا طالبا، وكان يرجو حصول خصلة من خصال الخير بذلك أو كسر سورة كبر متكبر أو وضع مترفع بإظهار الغلب».
([18]) السير الكبير (4/1412) ، والمبسوط (14/57).
([19]) أخرجه مسلم في صحيحه، الجزء الثاني ، صفحة 889، وأبو داود في سننه الجزء الثاني، صفحة 185، وأخرجه البيهقي في الكبرى الجزء الثامن، ص5.
([20]) انظر السير الكبير مع شرحه 4/1488 والمبسوط 14/75.
([21]) وهي قصة مناحبة أبي بكر الصديق لقريش وقد روى الترمذي هذا الحديث في سننهج 5، 342، وقال حديث حسن غريب. قال صاحب تحفة الأحوذي : المناحبة : المراهنة. وذكر كذلك الحديث ابن كثير في تفسيره، ج3 ، ص 427 حيث قال : وكذلك جاء في الحديث الذي رواه الترمذي 3191، وابن جرير 2117، وغيرهما من حديث عبد الله ابن عبد الرحمن الجمحي عن الزهري عن عبيدالله بن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال لأبي بكر في مناحبة «الم غلبت الروم الآية : ألا احتطت يا أبا بكر فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع، ثم قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه وروى ابن جرير 2121 عن عبد الله بن عمرو أنه قال ذلك والله أعلم.
([22]) فتح القدير 6/178 وانظره أيضا في شرح السير الكبير 4/1411 والمبسوط 14/57.
([23]) في حاشية الشرواني على تحفة المحتاج،ج1 ص 119.
([24]) راجع الأشباه والنظائر القاعدة 35، ص 158.