من خلال ما سبق من مقالات تدوين السنة، يمكن القول بأن منهج التدوين في عصر التابعين كان يقوم علي جمع الأحاديث النبوية التي تدور حول موضوع واحد، فكان لكل باب من أبواب السنة مؤلف خاص به، وقد بدأ ذلك علي يد ابن شهاب الزهرى (المتوفى سنة 124هـ) ثم تطور التدوين في القرن الثاني إلي مرحلة أخرى، وهي جمع أحاديث الأبواب وضم بعضها إلي بعض، ومزج الأحاديث بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، واشتهر من بين هذه المؤلفات الموطأ، ومصنفا ابن أبى شيبة، وعبد الرزاق، وقد حملت المصنفات عناوين مثل : مصنف، وسنن، وموطأ، وجامع، وجمعت مادتها الأولى عن الأجزاء والصحف التي دونت قبل مرحلة التصنيف، وكان الغرض من جمع السنة بهذه الطريقة في القرن الثاني هو خدمة التشريع وتسهيل استنباط الأحكام .
وبهذا نكون قد أجبنا عن أهم سؤالين، وهما : ما هي الحجة ؟ وكيف وصلت إلينا ؟ وفي هذه المرة نجيب عن السؤال الثالث وهو : كيف نفهم ما ورد إلينا موثقا ؟
ويمكن أن نصوغ السؤال بطريقة أخرى وهي : كيف نتمكن من فهم النص الشرعي والتعامل مع التراث الإسلامي ؟ لابد علينا أن نمتلك الأداة الضرورية اللازمة لفهم آليات التعامل مع «الموروث الإسلامي» أو أن نرشد إلى الطريق في ذلك، مع ضرورة حفظ التمييز بين الأصلين المنزّهين (الكتاب والسُّنة)، وبين سائر التراث الذي اجتهد في إنتاجه المسلمون من علوم وفكر، وفقه وفتاوى، ورؤى وواقع تاريخي.
لا شك أن هناك فجوة مشهودة بين أجيال الباحثين الاجتماعيين المعاصرين وبين هذا الموروث الثمين، فكثيرًا ما نقرأ القرآن أو السُّنة أو علوم التراث الإسلامي ولا نفهم دلالات المقروء، ولا تمكننا الاستفادة منها. ومن ثم، فإن أول مطلوب هو «الفهم»، فهو الخطوة الأولى لسائر الخطوات، فلا يمكنني نقد هذا الموروث أو تطبيقه دون فهم. فأنا –كباحث أو كدارس اطَّلعت ُعلى العلوم الاجتماعية أو بعض فروعها- أريد أن أستفيد مما رأيته أو استشعرته في الموروث من منهجية ومضمون في دراستي لهذه العلوم.. وهذا -بعد تحقيق "الفهم"- يحتاج إلى عملية أكبر؛ وهي ما يمكن تسميتها بعملية "التجريد"، ثم تتلوها عملية ثالثة وهي "الاستنباط"؛ استنباط المناهج والقواعد والأدوات التي يمكن بها أن نواصل المسيرة ونكمل البنيان. فليس المراد من الاطّلاع على هذه العلوم والأفكار وما فيها من منهجيات أن نحاكيها، فتتوقف مسيرة العلم، ونذهب في رحلة موات، بل أن نستخلص منها ما نحتاج إليه.
كثيرًا ما يتساءل الباحثون عن آليات تطبيق هذا الموروث في مجالاتهم العلمية والبحثية الحالية، وعن "الحلقة الواصلة" بين الموروث وبين هذه العلوم الحديثة، في حين أن المطلوب أولًا –قبل التطبيق- هو "الفهم". إن تحديد الهدف والخطوات وتمثُّل هذه الخطوات جيدًا، هو أمر مطلوب جدًا من أجل الوعي والاستفادة.. لكن تشوُّف الباحث إلى ما هو أمام، وتعجُّله قطف الثمار قبل النضج –وربما قبل الزرع والإنبات- هو ما يدفعه إلى نوع من القفز وعدم الاتزان.
وفي البداية نقول إن الموروث –بجملته- عبارة عن مكوّنين: نتاج فكري، وواقع تاريخي. النتاج الفكري له "محلٌ" عَمِل الفكر فيه؛ وهو القرآن والسُّنة مصدرا المعرفة الأساسيان عند المسلمين باعتبارهما وحياً. والنتاج الفكري له "ثمرة"؛ وهي ما يخرجه البشر بتفاعلهم مع هذا المحل من رؤًى وأفكار وعلوم ومناهج وأحكام وممارسات. إن محور الحضارة الإسلامية الذي بنيت عليه هو (النص): الكتاب والسُّنَّة، فما معنى المحور؟ معنى المحور أن كل العلوم خادمة له، وقد أنشئت لتخدمه، وهو المعيار للتقويم ، والإطارَ المرجعيّ.
قرأ المسلمُ النصَّ، فلما استعصى عليه أمرٌ ما فيه راح يبحث عن وسائل فهمه، فصار هناك المُعجم وظهرت التراكيب والنحو والصرف.. تساءلَ: هل هذا الكلام معتاد أم معجز؟ ما الذي جعله متميزًا؟ فظهر علم البلاغة.. تساءلَ: إذا كنت قد فهمت دلالات اللفظ (المفردات والتراكيب)، فماذا عن الدليل والمدلول؟ وبالمثل ظهر علم النقل والتوثيق، وهو علم لم يخرج مثله في الأمم؛ وذلك لخدمة الوثوق في النص، وتوالت التصنيفات بين علوم ذاتية كالتفسير والحديث، وعلوم مضمونية كالتوحيد والفقه؛ وتقسيمات أخرى هي من نتاج تعامل العقل المسلم مع النص.
فالفقه –مثلًا- من القرآن إجمالًا، والقليل منه هو من القرآن مباشرةً، فهناك نحو مليون ومائتي ألف مسألة فقهية، بينما الآيات أقل من ذلك بكثير من حيث العدد والحجم، إلا أن القرآن العظيم منه الانطلاق، وإليه العودة، وبه التقويم, وله الخدمة، في علم الفقه وغيره من العلوم التي ورثناها.
الشق الثاني للموروث – والذي يقابل النتاج الفكري– هو الواقع, وهو يتكون من خمسة عوالم: عالم الأشياء، وعالم الأشخاص، وعالم الرموز، وعالم الأفكار، وعالم الأحداث.. فما معنى أن النص الذي هو محور الحضارة له دور في التعامل مع عوالم الواقع؟ إن ذلك يعني أنني عندما أتعامل مع الواقع أضع على عيني نظارة النص. (يتبع)