طباعة

المرجفون وتاريخهم

عندما ترجم الناس مصطلح (Terrorism) ترجموه إلى العربية بكلمة (الإرهاب) وأراها ترجمة خطأ؛ حيث إن كلمة إرهاب في اللغة العربية مصدر له معنى قوة الردع، وله معنى الهيبة والجلال، ولذا نرى القرآن الكريم ينصح المؤمنين لإحداث قوة الردع التي تؤول إلى السلام، وإلى منع إراقة الدماء، وإلى منع مزيد من الدمار في الحروب والنزاعات، فقال تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) [الأنفال :60]. وقال سبحانه : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) [القصص :32]. وقال : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة :40]. وقال : (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِى الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء :90] وقال تعالى : وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف :154].

وألف المسلمون كالمنذري والأصبهاني كتباً أسموها (الترغيب والترهيب)، وهي تدعو إلى الترغيب في الطاعة والتحذير من المعصية والاستقامة على أمر الله سبحانه وتعالى، وكلها معاني طيبة يفرح بها جميع الناس لأنها تنشئ الإنسان الذي يعبد ربه، ويعمر كونه، ويزكي نفسه، وبذلك كانت الأفعال المشتقة من مصدر (الإرهاب) لها معان إيجابية كما وردت في تلك الآيات المباركات وكما تفاعل معها المسلمون في حياتهم، ولا تأخذ المعنى السلبي إلا إذا دل السياق عليها كما في قوله تعالى : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوَهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) [الأعراف : 116]. ومعنى استرهبوهم : أي خوفوهم بالباطل، وهو معنى سلبي لكنه فهم من مجمل السياق، ومن استعماله في جانب فريق فرعون الذي استعمله ضد موسى.

أما الترجمة التي أراها موافقة معنى وحكماً لهذه الكلمة الإنجليزية هي كلمة (الإرجاف) والاشتقاق منها يرجفون، ومرجفون قال تعال : (لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ في المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا) [الأحزاب :60، 61].

وهذا شأن من معنا الآن ممن يقتلون الناس بغير حق، بل محض الفساد في الأرض ولا يعني هذا أنهم لا يمتلكون تأويلا لما يفعلونه، بل يعني أنهم خرجوا عن السواد الأعظم للمسلمين وخرجوا عن منهج الله سبحانه وتعالى فيما أمرهم به وقال لهم : (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) [النحل : 43]، ولقد شدد ربنا سبحانه وتعالى على قضية القتل فقال ويحكي عن بني إسرائيل وهذا يعني أن حرمة القتل كانت ولا زالت في كل الأديان وعلى مر العصور : (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِى الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) [المائدة :32].

 وهم لا يريدون أيضاً أن يفهموا مراد الله من كلامه، ويفهمون ما يريدون هم شأنهم شأن إبليس رأس الشر في الكون حيث علمنا ربنا أنه أراد أن يعبد الله كما يريد هو وليس كما أراد الله فقال له عند أمره بالسجود لآدم : (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا) [الإسراء :61] ، ولم ينف سجوده لله بل نفى سجوده لمن ظنه أدون منه: (أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) [سورة ص :76].

والإرجاف له هذا الحكم القوي الحازم، وهو أن يقتل كما قتل وأفسد في الأرض، وعلى الرغم من ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتل أحدا من المنافقين وقال : (لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) [أخرجه البخاري ومسلم]. فعلمنا مراعاة الحالة الدولية والعلاقات الخارجية وكيفية التعامل معها.

وهذا يبين لنا مسألة خطيرة وهي الخطأ في الترجمة وما يترتب عليه من احتلال المفاهيم واختلالها، ولقد لاحظ هذه القضية الشيخ محمد المرصفي في أواخر القرن التاسع عشر فألف كتابه الماتع (الكلم الثمان) فنبه على اختلاف المفاهيم بإزاء المصطلحات الجارية ومدى الحاجة لضبط هذه المسألة، فإن استعمال مصطلح قرآني مثل هذا في غير ما هو له، بل في ضد معناه، وإهمال مصطلح قرآني آخر يسبب كثيراً من اللبس ويعطل اللغة عن أداء وظيفتها في التواصل بين الناس من جهة، وفي فهم كلام الله سبحانه وتعالى من جهة أخرى بالإضافة إلى أن الألفاظ لها معنى أصلي ومعنى تابع، ولها مردود يسمى بمردود الكلمة يؤثر في وجدان السامع ويسبب الطمأنينة والاتساق أو الحيرة والشقاق، ونحن بلا شك نريد تكريس الأول، ونخاف كثيراً من مساوئ الجانب الآخر.

ولعل هذه الإشارة تتدعو المثقفين إلى استكمال مشروع المصطلحات الذي رأينا اهتماما به في عقد التسعينيات عند كل من د. سيف عبد الفتاح، ود. نصر عارف، حيث أصدرا كتاباً من مجلدين في تحرير بعض هذه المصطلحات كالعلم، والفكر، والثقافة، والتنمية، ونحو ذلك. لعلنا نتحدث عنها فيما بعد.

عدد الزيارات 11977 مرة
قيم الموضوع
(7 أصوات)

2 تعليقات

  • تعليق ايمن جمعة الأربعاء, 22 أبريل 2015 13:16 أرفق ايمن جمعة

    ربنا يكرمك بالجنة ان شاء الله
    تحياتي شيخي الفاضل

  • تعليق mazen esmaiel الخميس, 18 ديسمبر 2014 14:14 أرفق mazen esmaiel

    افضل من يتكلم فى التاريخ الاسلامى او السياسي عامه الشيخ على