طباعة

هناك من يقول : إن أبوي النبي صلي الله عليه وسلم من المشركين وهما في النار، فهل هـــــذا الكـــــلام صحيـــح ؟

محبة النبي صلي الله عليه وسلم من أفضل القربات، ويكفينا لمعرفة تلك المكانة حديث النبي صلي الله عليه وسلم الذي يقول فيه : «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين»([1]).

    ولا شك أن الحب يتنافى مع رغبة الإيذاء لمن يحب، ولا شك كذلك أن الحديث بسوء عن أبويه صلي الله عليه وسلم يؤذي النبي صلي الله عليه وسلم وقد قال تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ([2]) ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ([3])، ولقد نهانا الله صراحة عن أذية رسول الله صلي الله عليه وسلم ومشابهة اليهود  - لعنهم الله- في ذلك، فقال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا([4])، قال القاضي : فنحن لا نقول إلا ما يرضي ربنا، ويرضي رسولنا صلي الله عليه وسلم ولا نتجرأ على مقامه الشريف ونؤذيه صلي الله عليه وسلم بالكلام بما لا يرضيه صلي الله عليه وسلم.

    واعلم أن آباء النبي صلي الله عليه وسلم وأجداده إن ثبت وقوع بعضهم فيما يظهر أنه شرك فإنهم غير مشركين؛ وذلك لأنهم لم يُرسل إليهم رسول، فأهل السنة والجماعة قاطبة يعتقدون أن من وقع في شرك وبدل شرائع التوحيد في الفترة ما بين النبي والنبي لا يعذب، والأدلة على ذلك كثيرة منها قوله تعالى : ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ([5])، وقوله سبحانه : ﴿ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ([6])، وقوله تعالى : ﴿ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ([7])، وقوله عز وجل : ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا([8])، فلا تقوم الحجة على الخلق إلا بإرسال الرسل، وبغير إرسال الرسل فالبشر غير محجوجين برحمة الله وفضله.

    هذه الآيات تدل على ما يعتقده أهل الحق أهل السنة والجماعة، أن الله برحمته وفضله لا يعذب أحدًا حتى يُرسل إليه نذيرًا، وقد يقول قائل لعل أبوي النبي صلي الله عليه وسلم أرسل إليهم نذير، وهم أشركوا بعد بلوغ الحجة، فهذا لا يسعفه نقل، بل جاءت النصوص تنفيه، وتؤكد عكس ذلك قال تعالى : ﴿ وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ([9])، وقال سبحانه : ﴿ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ([10])، وقال عز وجل : ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ([11]).

       فدلت النصوص السابقة على أن أبوي النبي صلي الله عليه وسلم غير معذبين، لا لأنهما أبويه صلي الله عليه وسلم ؛ بل لأنهما من جملة أهل الفترة التي علمنا من هم، وحكمهم بما استقر عند المسلمين، قال الشاطبي: جرت سنته سبحانه في خلقه : أنه لا يؤاخذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل ، فإذا قامت الحجة عليهم؛ فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، ولكل جزاء مثله([12])، وقال القاسمي في تفسيره لقوله تعالى : ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ([13])  ما نصه : « وما صحَّ ، وما استقام منا، بل استحال في سنَّتنا المبنية على الحِكم البالغة، أن نعذِّب قومًا حتى نبعث إليهم رسولًا يهديهم إلى الحق، ويردعهم عن الضلال؛ لإقامة الحجة، وقطعًا للعذر »([14]).

قال ابن تيمية : « إن الكتاب والسنة قد دلت على أن الله لا يعذب أحدًا إلا بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة، لم يعذِّبه رأسًا، ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل، لم يعذِّبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية»([15]).

أما ما يدل على نجاة أبويه بخصوصهما دون الدليل العام الخاص بأهل الفترة فهو قول الله تعالى : ﴿ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ([16]) فعن ابن عباس رضي الله عنه - في قوله تعالى: وتقلبك في الساجدين - قال : أي في أصلاب الآباء آدم ونوح وإبراهيم حتى أخرجه نبياً([17]).

وعن هذا فعن واثلة بن الأسقع أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : « إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة ، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»([18]). وعن عمه العباس رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : « إن الله خلق الخـلق فجعلني من خيرهم، من خير قرنهم، ثمّ تخيَّر القبائل فجعـلني من خير قبيلةٍ، ثم تخير البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً »([19]). فوصف رسـول الله صلي الله عليه وسلم أصوله بالطاهرة والطيبة وهما صفتان منافيتان للكفر والشرك، قال تعالى يصف المشركين : ﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ([20]).        

    أما ما يثيره المخالفون بسبب ورود حديثى آحاد يعارضان ما ذكر من الآيات القاطعة، وهما حديثا مسلم؛ الأول : أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : «استأذنت ربي أن استغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي»([21]). والثاني : «أن رجلا قال : يا رسول الله، أين أبي ؟ قال: في النار. فلما قضى دعاه. فقال : إن أبي وأباك في النار»([22]).

    فالرد عليهم أولا : أن الحديث الأول ليس فيه تصريح بأن أمه صلي الله عليه وسلم في النار، وإنما عدم الإذن في الاستغفار لا يدل على أنها مشركة، وإلا ما جاز أن يأذن له ربه عز وجل أن يزور قبرها، فلا يجوز زيارة قبور المشركين وبرهم.

    الحديث الثاني : يمكن حمله على أنه كان يقصد عمه؛ فإن أبا طالب مات بعد بعثته، ولم يُعلن إسلامه، والعرب يطلقون الأب على العم، كما في قوله تعالى عن إبراهيم : ﴿øŒÎ)ur tA$s% ÞOŠÏdºtö/Î) ÏmŠÎ/L{ u‘y—#uä ä‹Ï‚­Gs?r& $·B$uZô¹r& ºpygÏ9#uä ﴾([23])، وأبو إبراهيم هو تارح، أو تارخ كما ذكر ذلك ابن كثير وغيره من المفسرين.

    أما إذا رفض المخالف ذلك التأويل وأراد الاستمساك بظاهر النص في الحديث الثاني، حيث لم يسعفه ظاهر النص في الحديث الأول، فنقول : نزولا على كلامكم وإذا اعتبرنا أن الحديثين دلا على أن أبوي النبي صلي الله عليه وسلم غير ناجيين، فإن ذلك يجعلنا أن نرد الحديثين لتعارضهما مع الآيات القاطعة الصريحة التي تثبت عكس ذلك مما مر، وهذا هو مذهب الأئمة والعلماء عبر القرون، وقد نص على هذه القاعدة الحافظ الخطيب البغدادي حيث قال : « وإذا روى الثقة المأمون خبرا متصل الإسناد رد بأمور : أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ»([24]).

    ورد المحدثون كالبخاري والمديني حديث : « خلق الله عز وجل التربة يوم السبت،  وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل»([25])، وقد ردوه لأنه يعارض القرآن كما ذكر ذلك ابن كثير([26]) في تفسيره لقوله تعالى : ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ([27]).

    وكذلك فعل الإمام النووي رضي الله عنه عندما رد ظاهر حديث عائشة رضي الله عنها حيث قالت : « فرضت الصلاة ركعتين، ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر»([28])، ورغم أنه متفق عليه لم يتهاون الإمام النووي في رد ظاهره؛ حيث ذكر : «أن ظاهره أن الركعتين في السفر أصل لا مقصورة, وإنما صلاة الحضر زائدة, وهذا مخالف لنص القرآن وإجماع المسلمين في تسميتها مقصورة, ومتى خالف خبر الآحاد نص القرآن أو إجماعًا وجب ترك ظاهره»([29]).

    فليختر المخالف أيًا من المسلكين إما التأويل وهو الأولى لعدم رد النصوص، وإما رد هذه الأخبار الآحاد لمعارضتها للقطعي الصريح من القرآن الكريم، وهو مسلك الأئمة الأعلام، وعلى أية حال فلعله قد ثبت أن أبوي النبي صلي الله عليه وسلم ناجيان، بل جميع آبائه صلي الله عليه وسلم ، رزقنا الله حبه، ومعرفة قدره صلي الله عليه وسلم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والله تعالى أعلى وأعلم.

 _______________________________________________________________________

 

([1]) أخرجه أحمد في مسنده، ج3 ص 177، والبخاري في صحيحه، ج1 ص14.

([2]) التوبة : 61.

([3]) الإسراء : 57.

([4]) الأحزاب : 69.

([5]) الإسراء : 16.

([6]) الأنعام : 131.

([7]) الشعراء : 208.

([8]) النساء : 156.

([9]) سبأ : 44.

([10]) القصص : 46.

([11]) القصص : 59.

([12]) الموافقات، للشاطبي، ج3 ص 377.

([13]) الإسراء : 16.

([14]) محاسن التأويل، للقاسمي، ج10 ص 312.

([15]) مجموع الفتاوى، ج13 ص 493.

([16]) الشعراء : 219.

([17]) تفسير القرطبي، ج13 ص 144، وتفسير الطبري، ج7 ص 287.

([18]) أخرجه أحمد في مسنده، ج4 ص 107، ومسلم في صحيحه، ج4 ص 1782، واللفظ لأحمد.

([19]) أخرجه أحمد في مسنده، ج4 ص 165، والترمذي في سننه، ج5 ص 584.

([20]) التوبة : 28.

([21]) أخرجه مسلم في صحيحه، ج2 ص 671.

([22]) أخرجه مسلم في صحيحه، ج1 ص 191.

([23]) الأنعام : 74.

([24]) الفقيه والمتفقه، للبغدادي، ص 132.

([25]) أخرجه مسلم في صحيحه، ج4 ص 2149.

([26]) تفسير ابن كثير، ج2 ص 230.

([27]) الأعراف : 54.

([28]) أخرجه البخاري في صحيحه، ج1 ص 137، ومسلم في صحيحه، ج1 ص 478.

([29]) المجموع، للنووي، ج4 ص 222.

عدد الزيارات 25043 مرة
قيم الموضوع
(4 أصوات)

2 تعليقات

  • تعليق د.عبدالوهاب الأحد, 27 أغسطس 2023 23:22 أرفق د.عبدالوهاب

    جزاكم الله خيرا وبارك بكم ورحم والديكم ?

  • تعليق إبراهيم محمد مالم جنيد الإثنين, 26 سبتمبر 2016 19:47 أرفق إبراهيم محمد مالم جنيد

    شكراً دكتور ، جزاكم الله عنا خير جزائه بجاه سيدنا رسول الله صلى الله عليه. وأطال بقائكم