جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما للمرسلين, وداعيا العالمين إلى ربهم, وإلى يوم الدين, فتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك, ورسالته تتوافق مع الفطرة الإنسانية.
فيسعد الإنسان عند الطاعة ويشقى عند المعصية, حقا إنه يلهو بما يشتهيه وبالأضواء اللافتة, لكنه يعود بعد ذلك إلى نفسه اللوامة, والله تعالى بين لنا في صدر (سورة الحجر) هذه الحقيقة, وبين لنا هذا التداخل بين المعصية والطاعة الذي قد يحدث في قلوب بعض الناس في الدنيا.
تفتتح السورة بحروف مقطعة, تثبت أن القرآن فوق الحروف وفوق الأصوات, وأن عقول البشر لن تبلغ منتهاه, ولن تصل إلى سر تأثيره دون ما سواه, فالقرآن كلام الرحمن, لا يستطيعه الثقلان, والقرآن فوق الأكوان, يعلو ولا يعلى عليه, فهو غالب لا مغلوب, لله كم لجلاله وجماله خشعت عقول! ولكم لانت لذكره وتذكرته من قلوب! سمعه أقوام فخروا للأذقان سجدا يبكون, وعندما عرفوا ما فيه من الحق فاضت له العيون.
إنه كلام الله, حمل من الأسرار ما فوق ظاهرة من الحروف,و ما فوق تلاوته بالأصوات, وكله حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, فأعجز الخلائق في لفظه وخطه ومبناه, كما أعجزهم في معناه ومرماه, نزل به الروح الأمين, على قلب سيد الأولين والآخرين, ما أثقله! لولا أن الله سبحانه يسره بلسانه ليكون من المنذرين, وليكون ذكرا للعالمين, ولا يزال الله عز وجل يمنح عباده من أنوار الفهم عنه فيه بقدر معلوم, ورزق من لدنه مقسوم, فتفاوت الناس بقدر تحمله شرفا, وتفاضلوا بحسب علمه قدرا, وتساموا بقدر فهمه مراقي ودرجا, وأما الراسخون في العلم -وقالوا آمنا به كل من عند ربنا- فلا تسأل عن مكانتهم عند مليكهم تصديقا وصدقا; إنه بحق ميراث النبوة قائما باقيا في هذه الأمة الغراء, وهل ورثة الأنبياء إلا العلماء! هجره أقوام وما لهم من ناصرين, أما الصالحون فكان موردهم ومصدرهم, وما اتخذوا من دون الله وليا ولا نصيرا, بل اطمأنت بالذكر قلوبهم لما ساروا على بصيرة بفضل أنوار المنزل عليه صلى الله عليه وسلم في قوله الله تعالى: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) [الأعراف:196].
يقول الله تعالى: (الر) [الحجر:1] والحروف المقطعة في أوائل السور هي نصف حروف الهجاء, ولو جمعناها لخرجت جملة جميلة تصف معناه: (نص حكيم قاطع له سر) فالقرآن (نص) يؤخذ منه, كل حرف فيه له معنى, وهو (حكيم) وحكيم على وزن فعيل, أي أنه محكم (لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصِّلت:42] (قاطع) في ثبوته, وقاطع في هدايته, وقاطع في كونه كتاب حياة, و(له سر) ومن أسراره تلك الحروف التي ذهب فيها المفسرون كل مذهب, والتي لا يزال الإنسان وهو يقرؤها يشعر بضآلته -من بعد تحصيله علوما شتى- أمام كلام الله سبحانه.
والكلام واضح لا خفاء فيه, والعلو مشاهد, والفخامة ظاهرة, والعظمة بادية على كتاب الله تعالى, من أول حرف تقرؤه فيه: (الر) فإذ بك تفهم المعنى, إلا أنك تقف خاشعا أمامه, وكأنك قد هيئت لتلقي كلام عظيم من رب عظيم.
ونقف عند قوله تعالى: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) [الحجر:2] فـ(رُبَ) للتقليل كما أن (كم) للتكثير (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني كأن الكافرين (قلة منهم) يودون في قلوبهم أن لو كانوا مسلمين, ومعني هذا أن حجابا كثيفا بين أولئك الكافرين وبين الإسلام يحول دون إسلامهم.
بعض المفسرين حمل (رُبَمَا) في الآية على التكثير, ولكن يوم القيامة, حين يرون عصاة الموحدين يخرجون من النار; فيود الكافرون لو أنهم كانوا مسلمين في الدنيا, فيخرجون كما خرجوا.
وعن صفات أولئك الخاسرين يقول تعالى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر:3], إذن لهم في ظاهرهم أمارات ثلاث: أولاها الأكل (يَأْكُلُوا) غلبت عليهم شهوة الطعام, فشأنهم الأكل, وسعيهم للأكل, وكأنهم للأكل خلقوا.. والأكل مطلق, فماذا يأكلون!؟ لا يبالون أحلالا كان أم حراما; وبإطلاق الأكل صح أن يدخل فيه أكل أموال الناس بالباطل, وأكل مال اليتيم, وأكل الربا, وأكل الدنيا بالدين, لا عبرة عندهم بكل ذلك! المهم بل الأهم لديهم أن يأكلوا; (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) المتعة: وهي ثانية الأمارات; لما طمس الله على قلوبهم ببغيهم, وأذهب نورهم, جعلوا أوقاتهم لمتعة, وأنفقوا أعمارهم فيها, وهذه المتعة متعددة بحسب الحال, فهي كلمة جامعة فذة, تشمل متع الجنس, ومتع الجاه, ومتع المال, لكنها كلها متعلقة بالدنيا فقط, ولا يتعلق منها شيء بالآخرة, ولا بوجه الله, ولا بذكره, ولا بالطيب من القول, وإنما لهو ولعب وغرور وخداع ومكره (وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ) وهذه هي الأمارة الثالثة الظاهرة, فهم يؤملون في هذه الحياة الدنيا أملا كاذبا خادعا, ألهاهم عن حقيقتها, وما من أجله خلقوا فيها, ولا ترى واحدا فيهم يذكر الموت, بل يأباه ويكرهه لأنه يكره لقاء الله, كما قال تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الرُّوم:7].
إن القرآن غاص داخل خبايا النفس الإنسانية وكشف عن حقيقتها وخصائصها ووظائفها (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ) [الملك:14], والإنسان مكرم على الكون كله, فصارت النتيجة المنطقية عند أولي الألباب: أن القرآن فوق الأكوان.
تحدثنا في المقال السابق عن مؤتمر ماردين وفتوى ابن تيمية الخاصة بأهل تلك البلدة في وقته, وأشرنا إلى اختلال الفهم الذي وقع فيه بعض المتشددين حين تعلقوا بهذه الفتوى دون الرجوع إلى أهل العلم والاختصاص.
ليبينوا فحوى هذه الفتوى ومعناها والسياق الذي قيلت فيه. والذي أدى إلى هذا الاختلال هو عدم الوقوف فضلا عن الدربة والاستخدام للمنهج العلمي في كيفية توثيق النصوص وفهمها لدي علماء المسلمين, فالمنهج العلمي عند المسلمين يتكون من أركان لا غنى عنها, هي: الطالب, والمعلم, والمنهج, والكتاب, والمناخ العلمي الملائم, وهي أركان إذا غاب أحدها اختلت العملية التعليمية برمتها. وهو ما حدث عندما انتقى غير المتخصصين فتوى ابن تيمية بشكل محرف, فحرفوا كلمة ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بكلمة ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام, وبذلك برروا أعمال القتل والعنف والتخريب وترويع الآمنين ضد المسلمين وغير المسلمين, والنص الصحيح لفتوى ابن تيمية عن بلدة ماردين هو: (وأما كونها دار حرب أو سلم فهي مركبة: فيها المعنيان, ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام, لكون جندها مسلمين, ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار, بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه, ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه), وهو ما ورد في الفتاوى المصرية لابن تيمية, ولكن ليس في النسخة المطبوعة المتداولة في خمسة أجزاء, وإنما جاءت صحيحة في النسخة المخطوطة بمكتبة الأسد الوطنية بسورية, وأكد ذلك العلامة ابن مفلح الحنبلي المتوفي 763 هـ, وهو تلميذ لابن تيمية, حيث أوردها على الوجه الصحيح في كتابه: الآداب الشرعية والمنح المرعية ص212.
وكذلك وردت في تاب: الدرر السنية في الأجوبة النجدية لبعض علماء السعودية لمعاصرين (12/251).
وقد حفظ الله تعالى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من التحريف والتصحيف, ولذلك ورد الوحي بالتلقي من أفواه العلماء ليطابق المكتوب المقروء, حتى إن بعضهم وقع في تحريف بعض الآيات فسخر الله له من يرد عن كتابه, ومن ذلك ما أورده العسكري في تصحيفات المحدثين (1/26) والذهبي في ميزان الاعتدال (3/37): أن رجلا قرأ (وجعل السقاية في رجل أخيه), فصححها له الحاضرون: و(جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) [يوسف:70]. أما في السنة فقد أورد ابن الصلاح في مقدمة علوم الحديث (ص143) مثالا على ذلك, وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الذين يشققون الخطب. أي يتقعرون في الكلام ويتكبرون على الناس بهذا, فقرأها أحد الرواة (الحطب) بالحاء المهملة, فقال بعض الحاضرين من الفلاحين: يا قوم كيف نعمل والحاجة ماسة.
إن غياب التوثيق في فتوى ابن تيمية أدى إلى تحريفها بشكل أهدر كثيرا من دماء المسلمين وغيرهم, بل أضر بمقاصد الشريعة وأهدافها, وتسبب في تشويه صورة الإسلام والمسلمين ووصمهما بالتطرف والعنف.
هذا وإن كانت القاعدة عند العلماء أن دعوى الوهم في التفسير أسهل من دعوى التصحيف في الأصل إلا أن من استخدم نص ابن تيمية المحرف قد وقع في الأمرين معا, لأن التفسير مبني على صحة الأصل. فهم قد جانبهم الصواب في توثيق النص وقراءته, وأخطأوا أيضا في فهم الكلمة المحرفة من خلال السياق وسابق الكلام ولاحقه, وأمارة ذلك الاقتران والازدواج الواردين في نص الفتوى بين قوله: ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه وقوله: يعامل المسلم فيها بما يستحقه إذ لو كان المراد -كما فهموا- ويقاتل الخارج لما كان هناك داع لقوله بعدها: بما يستحقه لأن الخلاف ليس في كيفية القتال, وإنما في إقرار القتال ومشروعيته.
وبهذا نرى كيف أن التحريف في النص أدى إلى خطأ في الفهم, وإلى أن يستخدمه قاصرو الفهم في ترويع الآمنين, وبالتتبع يجد العاقل العالم أن كثيرا من المشكلات والأحداث الجسام التي وقعت في التاريخ الإسلامي كانت مبنية على خطأ في توثيق نصوص العلماء وخطأ فهمها.
إن افتقار المتلقين لفتوى ابن تيمية وافتقادهم للمنهج العلمي عند المسلمين قد أحدث هذا التحريف والتشويه لفتوى هذا العالم, وسبب ذلك أنهم يستسهلون التقليد الأعمى دون التأكد من حقيقة الأمور, والتبصر ببواطنها ومعرفة عواقبها, ورغبة الناس في أن تستسهل طريق العقل عملية قديمة جدا, فهو لا يكلفهم شيئا, خاصة أنه ليس في خدمة العلم, ولا تحت عباءة المنهج, أما العلم فيحتاج إلى الاحتراق به, وإلى أعمال العقل أيضا فيه.
فلابد علينا أن نمتلك الأدوات الضرورية اللازمة لفهم أدوات التعامل مع الموروث الإسلامي أو أن نرشد إلى الطريق في ذلك, مع ضرورة حفظ التمييز بين الأصلين المترهين (الكتاب والسنة), وبين سائر التراث الذي اجتهد في إنتاجه المسلمون من علوم وفكر, وفقه وفتاوي, ورؤى وواقع تاريخي.
وإننا نحذر من العقلية الخرافية وتداعياتها, وننبه إلى أن هذا النمط القديم الجديد الذي يبرز كل حين فيحدث جلبة وضوضاء, من أجل أن يلفت لنفسه الأنظار, ويحقق اشتياقه الذي ضل عنه, ويوظف تراثنا وموروثاتنا لخدمة أهدافه, مستغلا حالة الاختلال في الفهم, والبعد عن التوثيق, والتمسك بالتقليد الأعمى دون وعي ولا سبيل لنا بمواجهته سوى بالتسلح بالمنهج العلمي, المرتبط بالتوثيق والتمحيص والفهم, وهو المنهج الوسطي الذي يتحراه القائمون على العملية التعليمية في الأزهر الشريف وغيره من الجامعات والمعاهد المعتبرة في العالم الإسلامي, ولا يسعنا إلا ما ورد عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه لمن لا يجيد العلم وأدواته, فنقول: هلا سألوا إذ لم يعلموا, إنما شفاء العي السؤال.
في خطوة مهمة وضرورية نحو مواجهة جماعات العنف وتيارات الفكر التكفيري في العالم الإسلامي, عقد مؤتمر ببلدة ماردين التركية لمناقشة فتوى الفقيه الحنبلي ابن تيمية الحراني الشهيرة بفتوى ماردين.
والتي استخدمتها كثير من الحركات المتطرفة في تبرير ما يقومون به من أعمال تخريب وتدمير وقتل للنفس الإنسانية الآمنة باسم الإسلام. وقد كنت مدعوا لحضور هذا المؤتمر ولكني شغلت ساعتها بتأبين فضيلة الإمام الراحل الدكتور محمد سيد طنطاوي, ومع ذلك حرصت على الوقوف على ما انتهى إليه ذلك المؤتمر نظرا لأهمية موضوعه, خاصة وقد حضره نخبة من علماء الأمة الإسلامية من بلدان شتى, من بينها المملكة العربية السعودية وتركيا والهند والسنغال والكويت وإيران والمغرب وإندونيسيا.
وقد تناول المؤتمر أربعة محاور أربعة, اهتم المحور الأول بفتوى ماردين: الزمان والمكان والظروف والملابسات. والمحور الثاني: مفهوم الموطن والمقر في الفقه التقليدي وفي ضوء العولمة والاتصالات الحديثة.
والمحور الثالث: أهمية الفتوى في سياق التاريخ الإسلامي. أما المحور الرابع فتناول: فهم الجهاد: ظروف القتال المسلح وقواعد الاشتباك, كما تم تعريفها من قبل ابن تيمية وميثاق الأمم المتحدة.
ويرجع تاريخ فتوى ابن تيمية إلى ما قبل700 عام عندما سئل الفقيه ابن تيمية -رحمه الله- عن بلد ماردين هل هي بلد حرب أو بلد سلم؟ وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الإسلام أم لا؟ وإذا وجبت عليه الهجرة ولم يهاجر, وساعد أعداء المسلمين بنفسه أو ماله, هل يأثم في ذلك؟ وهل يأثم من رماه بالنفاق وسبه به أم لا؟ فأجاب: أحمد لله. دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في [ماردين] أو غيرها. وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرمة, سواء كانوا أهل [ماردين] أو غيرهم. والمقيم بها إن كان عاجزا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه. وإلا استحبت ولم تجب.
ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال محرمة عليهم, ويجب عليهم الامتناع عن ذلك, بأي طريق أمكنهم, من تغيب, أو تعريض, أو مصانعة. فإذا لم يمكن إلا بالهجرة تعينت, ولا يحل سبهم عموما ورميهم بالنفاق, بل السلب والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة, فيدخل فيها بعض أهل مايدين وغيرهم.
وأما كونها دار حرب أو سلم, فهي مركبة فيها المعنيان, ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام, لكون جندها مسلمين, ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار, بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه, ويقاتل (الصحيح: ويعامل) الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه (مجموع فتاوى ابن تيمية 28/241240).
ويعد مؤتمر ماردين تحولا نوعيا في التعامل مع الجماعات المتطرفة وأسانيدها, فالمؤتمر لم يهدف إلى مصادرة الفتوى أو نفيها وإثبات عدم صحتها, كما أنه لم يسع إلى التشكيك في روافدها الشرعية, بل على العكس من ذلك خلص المؤتمر إلى الإشادة بها والتأكيد أن ابن تيمية موافق ومتبع لعلماء المسلمين في فتاواهم في هذا الشأن, ولم يخرج عنهم, وسعى المؤتمر إلى تجريد الفتوى من التوظيف السلبي لها من قبل الجماعات المتشددة, على غرار آيات قرآنية وأحاديث نبوية أولها أولئك المتشددون بغير المقصود منها, إضافة إلى تأكيد المؤتمر على أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون فتوى ماردين متمسكا ومستندا لتكفير المسلمين, والخروج على حكامهم, واستباحة الدماء والأموال, والغدر بمن يعيشون مع المسلمين أو يعيش المسلمون معهم بموجب علاقة مواطنة وأمان, بل هي فتوى تحرم ذلك كله, فضلا عن كونها نصرة لدولة مسلمة على دولة غير مسلمة.
ولمواجهة التوظيف السلبي لفتاوى علماء المسلمين القدامى واستخدامها لتبرير عمليات تخريبية, فقد دعا العلماء المشاركون في المؤتمر إلى التجديد الديني, والانطلاق من فتاوى العلماء المسلمين القدامى باعتبارها ثروة كبيرة, راعت الظروف الزمانية والمكانية المعاصرة لهم, على أن يجدد العلماء المعاصرون مثلما فعل العلماء السابقون, من خلال إيجاد أحكام شرعية تتوافق مع مستجدات العصر.
ونبه المشاركون أيضا إلى خطورة إسقاط الفتاوى القديمة على الواقع الجديد, منوهين بوجود جدل دائم وصحي ما بين التراث والواقع, إذ بات من الأهمية بمكان مراعاة المصالح والمفاسد والأحوال والمآلات.
وخلص المؤتمر إلى اعتبار دول العالم جميعها -باستثناء الدول التي تخوض حربا ضد المسلمين- (فضاء سلام), إذ قلما يوجد بلد لا يعيش فيه مسلمون, ويتمتعون فيه بحقوق المواطنة, كما أكد المشاركون في المؤتمر أهمية اجتماع العلماء المسلمين للنوازل المستجدة ووضع الحلول لها, ومراجعة آراء العلماء السابقين وفتاواهم, ومنها فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية, والوقوف على زمانها ومكانها, والظروف التي أدت إلى إصدارها.
وإننا في هذا الوقت الذي نعيشه في عالم أضحى الإسلام فيه المتهم الأول بالإرهاب ودعم العنف والتطرف لفي أشد الحاجة إلى نقض وتمحيص ومراجعة تلك الشوائب والتهم التي لحقت بالإسلام والمسلمين, سواء من الجماعات المتطرفة في الداخل, أو من الإعلام الخارجي الموجه, والمدفوع في أحيان كثيرة, وقد ترك لنا الأوائل الأدوات والمعايير التي من خلالها نُزيل غبش تلك الشوائب, ونعرف الصواب من الخطأ, والصحيح من الباطل, سواء مما ورد في تاريخنا وتراثنا أم مما يفد إلينا من غيرنا, وبتلك المعايير وذلك المنهج لنا وقفة مع فتوى ابن تيمية من حيث التوثيق والفهم.
اقتضت حكمة الله عز وجل تفضيل بعض الشهور على بعض, ومن ضمن هذه الشهور يجيء شهر شعبان الذي فضله الله, وعظمه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فحري بنا أن نعظمه وأن نكثر من العبادة والاستغفار فيه, كما جاء عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, لم أرك تصوم شهرا من الشهور ما تصوم في شعبان, فقال صلى الله عليه وسلم: ذلك شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان, وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله, فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم (رواه النسائي 4/201) فقوله: شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان يشير إلى أنه لما جاء بين شهرين عظيمين -رجب ورمضان- اشتغل الناس بهما عنه وغفلوا عنه, وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيام شعبان لأن رجب شهر حرام, والأمر ليس كذلك.
وفي الحديث السابق إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون أفضل منه, وفيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة.
ومن شدة محافظته صلى الله عليه وسلم على الصوم في شعبان ظن بعض أزواجه رضي الله عنهن أنه يصوم شعبان كله, مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يستكمل صيام شهر غير رمضان, وقد بينت السيدة عائشة رضي الله عنها ذلك فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم, وما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان, وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان (رواه البخاري ومسلم).
وفي هذا الشهر ليلة عظيمة هي ليلة النصف من شعبان, عظم النبي صلى الله عليه وسلم شأنها فقال: إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن (رواه ابن ماجة 1/445 وابن حبان في صحيحه 17/48)
وقد ورد في فضل تلك الليلة أحاديث بعضها مقبول وبعضها ضعيف, غير أن الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال, ولذلك يحرص الصالحون على قيام ليلها وصيام نهارها.
وفي شعبان تم تحويل القبلة, وهو حدث عظيم في تاريخ الأمة الإسلامية, حيث كان تحويل القبلة في البدء من الكعبة إلى المسجد الأقصى لحكمة تربوية وهي العمل على تقوية إيمان المؤمنين وتنقية النفوس من شوائب الجاهلية: (وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) [البقرة:143] فقد كان العرب قبل الإسلام يعظمون البيت الحرام ويمجدونه. ولأن هدف الإسلام هو تعبيد الناس لله وتنقية القلوب وتجريدها من التعلق بغير الله وحثها على اتباع المنهج الإسلامي المرتبط بالله مباشرة, لذا فقد اختار لهم التوجه قبل المسجد الأقصى, ليخلص نفوسهم ويطهر قلوبهم مما علق بها من الجاهلية, ليظهر من يتبع الرسول اتابعا صادقا عن اقتناع وتسليم, ممن ينقلب على عقبيه ويتعلق قلبه بدعاوى الجاهلية ورواسبها.
وبعد أن استتب الأمر لدولة الإسلام في المدينة, صدر الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى المسجد الحرام, ليس تقليلا من شأن المسجد الأقصى ولا تنزيلا من شأنه, ولكنه ربط لقلوب المسلمين بحقيقة أخرى هي حقيقة الإسلام, حيث رفع سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل قواعد هذا البيت العتيق ليكون خالصا لله, وليكون قبلة للإسلام والمسلمين, وليؤكد أن دين الأنبياء جميعا هو الإسلام: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ) [الحج:78] وليس تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام إلا تأكيدا للرابطة الوثيقة بين المسجدين, فإذا كانت رحلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى قد قطع فيها مسافة زمانية قصر الزمن أو طال, فقد كان تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام رحلة تعبدية, الغرض منها التوجه إلى الله تعالى دون قطع مسافات, إذ لا مسافة بين الخالق والمخلوق: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) [الحديد:4] وعندما يتجه الإنسان من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام فهو بذلك يعود إلى أصل القبلة (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) [آل عمران:96] فهي دائرة بدأت بآدم مرورا بإبراهيم حتى عيسى عليهم السلام, ولكنها لم تتم أو تكتمل إلا بالرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم فقد أخره الله ليقدمه, فهو وإن تأخر في الزمان فقد تحقق على يديه الكمال.
وقد كرم الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة بأن طيب خاطره بتحويل القبلة والاستجابة لهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة:144] وما الأمر في هذا كله إلا أنه انتقال من الحسن إلى الأحسن وهذا شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمور كلها. وجاء تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام أيضا لتقر عين الرسول صلى الله عليه وسلم فقلبه معلق بمكة, يمتلئ شوقا وحنينا إليها, إذ هي أحب البلاد إليه, وقد أخرجه قومه واضطروه إلى الهجرة إلى المدينة المنورة التي شرفت بمقامه الشريف فخرج من بين ظهرانيهم ووقف على مشارف مكة المكرمة قائلا: والله إنك لخير أرض الله وأحب الأرض إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت (رواه الترمذي 5/722) وبعد أن استقر صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة, ظل متعلقا بمكة المكرمة فأرضاه الله عز وجل بأن جعل القبلة إلى البيت الحرام, فكانت الإقامة بالمدينة والتوجه إلى مكة في كل صلاة, ليرتبط عميق الإيمان بحب الأوطان.
تحدثنا في المقال السابق عن معجزة رحلة الإسراء, وأوضحنا أنها مثلت خروجا جزئيا عن القانون الكوني من حيث الزمان والمكان. واليوم نتحدث عن رحلة المعراج وهي إعجاز فريد خص الله سبحانه به سيد الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم دون غيره من الخلائق.
ففي لحظة لطيفة خاطفة صعد من المسجد الأقصى إلى السماوات العلا, ومنها إلى سدرة المنتهى وهو ما يعد كشفا كليا للغيب, وخروجا كاملا عن قوانين الأرض, وتجاوزا لا تستطيع بلوغه حواس الإنسان ومداركه.
ومما يجدر ذكره في هذه المعجزة الكبرى أنها أخذت بيد النبي صلى الله عليه وسلم ليتجاوز عوالم الكون ومحددات الوجود, وهي عوالم الزمان والمكان والأشخاص والأحوال.
أما عالم الزمان فقد سبق القول ببيان كيف طوى الله عز وجل لنبينا صلى الله عليه وسلم الزمان بما لا تبلغه العقول ولا تستوعبه الأفهام إلا إذا أدركت تلك العقول نفحات من الإيمان.
وأما عالم المكان فإنه صلى الله عليه وسلم تجاوز كل مكان وصله مخلوق, من نبي مقرب أو ملك مرسل, حيث تجاوز السماوات السبع إلى سدرة المنتهى, إلى حيث شاء الله عز وجل بما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر.
وتجاوز أيضا عالم الأشخاص مع ما لهم من الحب والكرامة عند الله سبحانه, سواء أكانوا أنبياء أم مرسلين أو ملائكة مقربين, بداية من آدم في السماء الأولى مرورا بعيسى وموسى من أولي العزم حتى أبي الأنبياء خليل الرحمن إبراهيم, بل تجاوز الأمين جبريل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, فقال له نبينا صلى الله عليه وسلم: أفي هذا المكان يفارق الخليل خليله؟, فأشار جبريل إلى قوله تعالى: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ) [الصَّافات:164]، وبخصوص عالم الأحوال فقد فاق رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم كل المقامات, وبلغ أعلى الرتب والدرجات, فإنه تجاوز مراتب المرسلين, ومر على أحوال الملائكة المقربين الذين وصفهم الله بقوله: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء:20]، وقال صلى الله عليه وسلم عن السماوات: (ما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم).. (المعجم الكبير للطبراني 201/3, وشعب الإيمان للبيهقي 348/3) ولم يتحمل جبريل أنوار جلال الله تعالى, فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على تلك الأنوار وحده, ويتلقى الوحي والعلم والفضل من الله عز وجل دون واسطة جبريل, ليفضل الجميع بما تلقاه في تلك الحال, ويتحقق تفرده كما قال سبحانه: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) [النساء:113].
ولقد ظهرت هذه المعاني كلها بعوالمها الأربعة في قوله تعالى: (وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ المَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى) [النَّجم:7-18].
تلك كانت القضية الأولى في معجزة المعراج, وهي الخروج الكلي عن قوانين البشر وغيرهم في الحياة الدنيا, لتكون مثالًا ناصعًا وحجة واضحة لالتقاء عالم الغيب وعالم الشهادة, إظهارًا لقدرة الله تعالى ولفضل النبي محمد صلى الله عليه وسلم, ومنها ننتقل إلى القضية الثانية التي تجلت في الإسراء والمعراج معا, وهي اجتماع الرسول صلى الله عليه وسلم بإخوانه من رسل الله وأنبيائه في طريق صعوده إلى سدرة المنتهى, وفي هذا تأكيد على وحدة الرسالة التي أرسلوا بها جميعا إلى أهل الأرض, وهي نشر عقيدة التوحيد وتحرير البشرية من نير عبودية العباد إلى شرف عبودية رب العباد وحده لا شريك له.
وبالنظر إلى حوار خاتم الأنبياء والمرسلين مع إخوانه من الأنبياء نجدهم قد أقروا بنبوته صلى الله عليه وسلم إيمانا منهم وحرصا على إتمام هذه الرسالة التي جمعتهم في سلسلة واحدة وهدف واحد, إذ مصدرها من الله, وهدفها التحقق بمراد الله, وغايتها الوصول إلى مرضاة الله, فالأنبياء جميعا إخوة فيما بينهم, كل منهم يؤدي دوره الذي أنيط به, ويكمل شريعة الله بما يتفق والزمان والحال الذي أرسل فيه, حتى أتى النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ليكون اللبنة الأخيرة في هذا البناء الرباني, والكلمة الأخيرة في خطاب الله للعالمين, ولهذا ظهرت حفاوة الأنبياء في استقبالهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يمر على أحد منهم من آبائه إلا بادره بقوله: (مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح, وقال له إخوانه: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح) (رواه البخاري 1410/3) كما نلاحظ رفقهم في وصاياهم للرسول صلى الله عليه وسلم بالرفق بالأمة وخوفهم عليها, حيث قال له الخليل إبراهيم عليه السلام: (يا محمد, أقرئ أمتك مني السلام, وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة, عذبة الماء, وأنها قيعان, وأن غراسها: سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر) (رواه الترمذي وحسنه510/5), فيما أوصاه الكليم موسى عليه السلام بطلب تخفيف الصلاة من رب العزة وظل يراجعه حتى خففت من خمسين صلاة إلى خمس صلوات في اليوم والليلة.
لقد أظهرت حادثة الإسراء والمعراج حالة الحب والاحترام والتوقير بين الأنبياء جميعا, وأنه لا اختلاف بينهم في أصول دينهم, وأن همهم واحد وغايتهم واحدة, وهي عبادة الله وعمارة الأرض, وتزكية النفس, والأخذ بيد الإنسان من ظلمات الجهل إلى نور العلم والرحمة والهداية. وهو أحوج ما تكون البشرية إليه اليوم, ولا يتحقق ذلك إلا بأن يعود كل أصحاب دين إلى ما كان عليه نبيهم من صلاح وقيم وإرساء الحب والاحترام بين أتباع الأنبياء جميعا.
لم تكن رحلة الإسراء والمعراج معجزة منتهية المفعول, محددة الزمان والمكان, بل مازالت ماثلة أمامنا بما احتوته من أحداث وعبر, كما أنها مازالت منهلا عذبا تستفيد منه الأمة في معالجة قضاياها الراهنة اقتداء بالحبيب المصطفى والرسول المجتبى صلى الله عليه وسلم.
ومعجزة الإسراء والمعراج علم غيب جعله الله شهادة لرسوله صلى الله عليه وسلم, فكان الغيب مرئيا مشاهدا في عين وبصر النبي صلى الله عليه وسلم غيب تراه عينه, ويدركه عقله, ويستنير به فهمه, ويستوعبه قلبه, وتعيه مدركاته لتعلم الخلائق جمعاء أنه في أعلى مراتب الإيمان واليقين.
فالرحلة التي قام بها صلى الله عليه وسلم في إسرائه إلى بيت المقدس, ثم معراجه إلى ما فوق السماوات السبع لينتهي به المطاف عند سدرة لينتهي في ساعات محدودة ليعود فيجد فراشه مازال دافئا, كل هذا أمر لم يتكرر مرة أخرى مع بشر, وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على مدى تميز هذه الحادثة عن بقية التاريخ الإنساني جملة وتفصيلا.
وفيما يتعلق بإسرائه صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الإسراء:1] إنها لحظة لطيفة لا يدركها الإنسان بحواسه, فهي معجزة زمانية ومكانية, وهي منحة إلهية وتسرية ربانية للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث تجلى علم الغيب للرسول المجتبى فأصبح علم شهادة, وذلك في انتقاله اللحظي من مكة إلى بيت المقدس.
إن معجزة الإسراء والمعراج لا تخضع لقوانين الكون إنما هي استثناء, لأن الذي خلق المكان والزمان, اختصرهما وطواهما لسيد الأنام, كما لا يمكن أن يفسر ذلك وفق قوانين الأرض, فهو خروج جزئي وكلي عن قوانين الأرض ومدارك الإنسان. وهو ما تفرد به النبي محمد صلى الله عليه وسلم حيث جمع الله عز وجل له في حادثة واحدة بين هذين الخروجين. ففي الإسراء خروج جزئي وكشف محدد لعالم الغيب أمام الرسول صلى الله عليه وسلم, إذ قد أصبح من الممكن للإنسان في العصر الحالي السفر من الشرق إلى الغرب في وقت قصير, مما يؤكد إعجاز حادث الإسراء في ذلكم العصر.
ومعجزة الإسراء هي كشف وتجلية للرسول صلى الله عليه وسلم عن أمكنة بعيدة في لحظة خاطفة قصيرة, وكل من له علم بالقدرة الإلهية وطبيعة النبوة لا يستغربون من ذلك شيئا, فالقدرة الإلهية لا يقف أمامها شيء وتتساوي أمامها جميع الأشياء والمقدرات, فما اعتماد الإنسان أن يشاهده ويدركه بحواسه البشرية الضعيفة ليس هو الحكم في تقدير الأمور بالقياس أمام القدرة الإلهية, ومن جهة أخرى فإن من خصائص طبيعة النبوة أن تتصل بالملأ الأعلى, وفي هذا الأمر تجليات وفتوحات ربانية يمنحها اللطيف القدير لمن يصطفيه ويختاره من رسله.
والوصول إلى الملكوت الأعلى بأي وسيلة كانت -معلومة أو مجهولة- ليس أغرب من تلقي الرسالة والتواصل مع الذات العلية, ولهذا فقد صدق أبو بكر رضي الله عنه هذه المعجزة قائلا: إني لأصدقه بأبعد من ذلك, أصدقه بخبر السماء (رواه الحاكم في المستدرك 65/3) وأبو بكر الصديق يشير من واقع إيمانه العميق إلى أن هذه الحادثة ليست قضية مهولة ولا هي ضربا من الخيال, بل هي مسألة معتادة بالنظر إلى طبيعة العلاقة بين الله ورسله ومن كشف الغيب لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عندما عاد وجادله المشركون في مكة غير مستوعبين لتلك المعجزة, وطلبوا منه وصف المسجد الأقصى, جلى الله له المسجد رأي العين, فأخذ يصفه لهم ركنا ركنا.
كما يتجلى في رحلة الإسراء وحدة الرسالات السماوية وأصل التوحيد, فكل الرسل جاءت بدعوة الإسلام قال تعالى: (قُولُوا آَمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة:136] وقال: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) [الحج:78], وقد التقى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة بإخوانه من الأنبياء, وصلوا صلاة واحدة يؤمهم فيها صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, إشارة إلى أن هذه الأمة تتبع جميع الأنبياء وتؤمن بهم, وأن آخر الرسل موصول بأولهم.
إن الله سبحانه كما أرسل الرسل بالعهد القديم, والعهد الجديد, فقد ختمهم برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم الذي أنزل معه العهد الأخير والرسالة الخاتمة: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران:81], وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله, إلا موضع لبنة من زاوية, فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له, ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة قال فأنا اللبنة, وأنا خاتم النبيين (أخرجه البخاري ومسلم).
لقد أصبحت هذه الرحلة رمزا أبعد وأوسع من حدود الزمان والمكان لتأكيد أن الإسلام هو دين الله الخاتم وهو الدين الذي أرسل بأصله الأنبياء والمرسلون لهداية العالمين.
إن حادثة الإسراء معجزة رسالة إلى يوم الدين, لابد فيها من الإيمان والتذكير بشرف الزمان الذي وقعت فيه, وشرف المكان الذي بدأت منه والمكان الذي انتهت إليه, وصولا إلى شرف النبي الخاتم الذي به تشرفت مفردات الوجود في هذه الحادثة وغيرها سواء الزمان والمكان والأحوال والأشخاص.
أ.د علي جمعة.. إياكم وثوابت الدين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صرح أمس الأستاذ الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار علماء الأزهر الشريف في برنامجه على cbc يوم السبت الثالث عشر من شهر رجب عام 1436 الموافق للثاني من شهر مايو عام 2015 بأن الذي ينكر النصوص القطعية من الكتاب والسنة المتفق على معناها بين علماء المسلمين شرقا وغربا، سلفا وخلفا، كوجوب الصلاة، وأن الصلوات خمسة، وأن الظهر أربع ركعات، ووجوب الزكاة في مال الغني، ووجوب الصيام على القادر من المسلمين، ووجوب الحج إلى بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا مرة في عمره، وحرمة الخمر والخنزير، وزواج المحارم، والزنا، والكذب، وعقوق الوالدين، والتعري، ورفع الحجاب، وإنكار أن هذه الأمور من كونها مفروضة أو محرمة، قاصدا لذلك، عالما باتفاق المسلمين عليها، مختارا غير مكره؛ فقد استحل حراما مجمعا عليه بالضرورة، وللقاضي عند العرض عليه أن يحكم بكفره وردته عن دين الإسلام.
أما من كان غافلا، أو جاهلا، أو غبيا، أو مكرها؛ فإنه يجب تعليمه أن هذا الحكم متفق عليه بين علماء المسلمين.
وقد لوحظ في الآونة الأخيرة أن أقواما يريدون من مداخل عدة هدم ثوابت الدين، وإحداث فتنة لهدم الأمن المجتمعي والاستقرار الاجتماعي، وهو ما يصب في نهاية الأمر في مصلحة الجماعات الإرهابية التي تخدع الناس بوجود هذه الآراء الضالة وتصف المجتمع كله بأنه قد تبناها؛ وذلك لتحقيق أغراضهم الدنيئة في محاولات تكفير عموم المسلمين، فكان واجبا على العلماء أن يبينوا القواعد والشروط، وألا يتركوا الأمر لجاهل مفسد، أو مرجف مغرض...
والله من وراء القصد
إن العلاقة المتصورة في المنظور الإسلامي بين الإنسان والأرض لهي أدعى إلى الألفة والارتباط بينهما، فضلًا عن المحافظة والتنمية، أو الاقتصار على التفكر والتدبر، فالعلاقة بين المسلم والأرض تدور في ثلاثة مستويات، أدناها وأقربها مستوى الانتفاع بالتسخير، وهو ما يتعلق بالجسد، وأوسطها مستوى التفكر والاعتبار، وهو ما يتعلق بالعقل، وأعلاها مستوى المحبة والألفة، وهو ما يتعلق بالروح.
قال تعالى: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) [سورة نوح: ١٧-٢٠].
فولاء الإنسان للأرض وحنينه إليها يشبه حنين الابن إلى أمه، فإنه منها خلق ومن خيرها يأكل ويشرب وفي أحضانها يدفن، قال تعالى: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) [سورة طه: آية ٥٥]، وقال صلى الله عليه وسلم: «وَتَحَفَّظُوا مِنَ الأَرْضِ فَإِنَّهَا أُمُّكُمْ» [أخرجه الطبراني في معجمه الكبير].
إذن فهناك عاطفة تربط الإنسان بالأرض التي نشأ فيها وتربى، ولا نكير في ذلك، بل هو مما حض عليه الشرع وورد به، فذوو الفطرة السليمة يشعرون دائمًا بالشوق والحنين إلى أوطانهم ولا يشعرون بالألفة أو الطمأنينة في البلاد على كثرتها قدر ما يشعرون بها في بلادهم.
وقد صوَّر القرآن علاقة الألفة والمحبة التي تنشأ بين الأرض والسماء وبين الإنسان، حيث قال تعالى: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) [سورة الدخان: آية ٢٩].
وهذا انفعال بين الإنسان والأكوان، فقد روى الطبري عن سعيد بن جبير قال: أتى ابنَ عباس رجلٌ فقال: يا أبا عباس أرأيت قول الله تبارك وتعالى: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) فهل تبكي السماء والأرض على أحد؟ قال: نعم، إنه ليس أحد من الخلائق إلا له باب في السماء منه ينزل رزقه وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن وأُغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه بكى عليه، وإذا فقد مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله فيها بكت عليه. وقوم فرعون لم يكن لهم في الأرض آثار صالحة، ولم يكن يصعد إلى السماء منهم خير، فلم تبك عليهم السماء والأرض.
ويعد أفضل إطار لفهم حقيقة علاقة الإنسان بالأرض هو خُلُق الرحمة والرفق مما تجلى في نموذج النبي، صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [سورة الأنبياء: آية ١٠٧]، فكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رحمة بالخلق أجمعين، إنسهم وجنهم، رحمة بالحيوان والنبات والجماد، وأَعْظِمْ بِالرَّحْمَةِ هدايةً للناس إلى المعرفة، معرفة الخالق ومعرفة الخلق، وتحديد المنهج القويم في عبادة الخالق ورحمة الخلق والانتفاع بما سُخِّرَ فيهم من خيرات.
وقد أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، بالرحمة العامة التي تشمل جميع المخلوقات فقال: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» [أخرجه الترمذي وأبو داوود].
وقال ابن بطال المغربي في شرحه للبخاري: فيه الحض على استعمال الرحمة للخلق كلهم، كافرهم ومؤمنهم، ولجميع البهائم -المملوك منها وغير المملوك- والرفق بها. وإن ذلك مما يغفر الله به الذنوب ويكفر به الخطايا، فينبغي لكل مؤمن عاقل أن يرغب في الأخذ بحظه من الرحمة، ويستعملها في أبناء جنسه وفي كل حيوان، فلم يخلقه الله عبثًا. ويدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام والسقي والتخفيف في الحمل وترك التعدي بالضرب.
وقد أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، بالرفق في كل شيء، ولذلك يجب على المسلم إذا دخل داره أو خرج منها ألا يدفع الباب دفعا عنيفا، لأن هذا مناف للطف والرفق، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ» [صحيح مسلم].
والرحمة العامة التي أمر بها النبي، صلى الله عليه وسلم، دائرة أوسع وأشمل من كل معاني المحافظة والرعاية للبيئة الإنسانية التي يمكن أن نجد دعواها في أي شريعة أو فلسفة -في أي مكان أو زمان- غير الإسلام.
إن الإسلام حرر الإنسان من عبودية عالم الأشياء، وجعله يتحرر من رهبتها أو مراقبتها بتوجس، فأصبح يتعامل معها من منظور السلطة والسيادة، فلا يُفَوِّتُ أي فرصة للانتفاع بما سخره الله فيها.
والإنسان لا يستطيع أن يصل من التأمل في الكون إلى معرفة نظامه وقوانينه، إلا إذا وثق بنفسه أولا وآمن بأن الكون المشاهد خاضع لإدراكه وبحثه، وبأن ظواهره ليست بالشيء المبهم الغامض الذي لا يفسر، وبأن في مقدوره الاستفادة من الكون واستغلال خيراته على أوسع نطاق لتأمين حياته ورفاهيتها.
وتأكيد القرآن على أن الكون كله مسخر للإنسان هو في نفس الوقت تأكيد على روح المنهج العلمي الصحيح، الذي يحاول دائماً استكشاف ما هو مجهول من هذا الكون وظواهره على أساس من الثقة بقدرة الإنسان وبالعلم في مواجهة الطبيعة.
فالإنسان جزء من الكون، لكنه تميز عليه بعلاقته الخاصة مع الخالق، فهو المكلف بحمل الأمانة التي شق على السماوات والأرض والجبال تحملها، لأنها مسؤولية، فارتضت الكائنات أن تكون مسخرة للإنسان يُسْأَلُ هو عنها.
وقد تميز الإنسان أيضاً على بقية المخلوقات بأنه خُلِقَ مُعَدًّا لاستيعابها معرفياً، فباستطاعته أن ينقل العالم الخارجي في صورته الكمية والكيفية إلى عالمه الداخلي، فاستحق بقدرته المعرفية أن يحمل أمانة الخلافة.
والملكات والقدرات التي مُنِحَهَا الإنسان وفُضِّلَ بها إنما هي ليتمكن من الاستفادة بما سخر له في الكون من منافع، ولم تكن للسيطرة على الكون والتعالي عليه، والشعور بالسيادة المطلقة فيه، فإن تلك القدرات التي وهبت للإنسان هي لتمكينه من فهم وإدراك سنن الله المودعة سلفاً في كونه، وبمعرفتها يتمكن من الانتفاع بخيرات الكون التي سخرها الله له.
إذن فليست ملكات الإنسان وقدراته هي التي سَخَّرَتْ له الكونَ ومَكَّنَتْهُ منه، ودليل ذلك:
1- ألا نرى أضعف الخلق كالذباب يمكنه أن يخترق كل الحُجُز ويصل إلى الإنسان فيسلبه شيئاً لا يستطيع استنقاذه منه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [سورة الحج: آية ٧٣].
2- وكذلك نرى أضعف الناس جسماً كالطفل الصغير وأضعفهم عقلاً كالمجنون يستطيع كلٌّ منهما التحكم فيما سُخِّرَ للإنسان نفعه كالماء والحيوانات الضخمة وغيرها، تنفعل له وتستجيب لقياده، لا لقدرة بدنية أو عقلية فيه.
3- وقد تنفعل الطبيعة مع الإنسان دون قصد منه، كأن يمر فى طريق فتطأ قدمه بذرة فتصير شجرة فيأكلها حيوان فيصيده الإنسان فيأكله، فيجعله الله سبباً فى حياة دون أن يدرى ذلك.
ونخلص من ذلك أن الكون سُخِّرَ للإنسان بإرادة الله وقدرته، وليس لِتَمَيُّزِهِ وقوته دَخْلٌ فى ذلك التسخير.
4- والطبيعة قد تنفعل بذاتها بإذن الله فتحافظ على قدرتها ونضارتها وجمالها، فحتى فترة وجيزة من التاريخ كان الإنسان يعثر في الأرض على أماكن لم تطأها قدم إنسان من قبل، وقد حظيت الطبيعة فيها بخيرات وحياة وجمال ينبهر به الإنسان.
5- ويثبت التاريخ والمشاهدات والتجارب عن حالات كثيرة تتخلف فيها مظاهر الكون عن سيطرة الإنسان وقبضته، فتنخرق السُّنَّة التي يظن الإنسان أنه أحاط بكل أسرارها واستنفد جميع أسباب إقامتها، فالمؤمن يعلم أن من وراء ذلك إلها واحدا، وأنه لا سلطان حقيقة في الكون غير سلطانه ولا قوة قاهرة غير قوته ولا ملك إلا ملكه.
ويحكي لنا القرآن عن بعض الملوك المتجبرين والفراعنة في الأرض الذين ظنوا أن سلطانهم فوق كل قوة، فقال تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِى مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [سورة الزخرف: آية ٥١].
وكأن تسلطه على الأرض والماء في بقعة من الأرض يعطيه الحق في استعباد الناس. وقد سعى لاستعبادهم بكل سبيل، ولم يتصور أن يَخْرُجَ موسى وقومه على إرادته وبطشه.
فكل القوانين الكونية أو التوقعات البشرية تُؤَكِّدُ أن فرعون منتصر، فبعد أن تجبر في أرض مصر وتكبر وعلا أهلها وقهرهم حتى أقروا له بالعبودية، لا يمكن لموسى ومن تبعه أن ينجو من بطشه، فضلا عن أن يتحقق له ما وعده الله به، وأنجزه وعده. قال: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} ولاة وملوكا {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:6] نورثهم ملك آل فرعون في الأرض. {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الْأَرْضِ} [القصص:7]، ولولا أن تدخلت إرادة الله وقوته فقلبت الموازين وغيرت السنن في اتجاه نصرة الحق ونجاة أصحاب المنهج ما كانت تلك النتيجة.
ولا يمكن لإنسان العصر أن يستقر نفسيا ويأخذ وجهته الصحيحة نحو إنجاز رسالته على الأرض إلا إذا عرف حدوده مع خالق هذا الكون ومدبره، ذلك أن الكون كله شأن من شؤون الله تعالى، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [سورة آل عمران: آية ١٠٩] فهو تعالى خالق الكون بما فيه الإنسان، وهو الذي ركَّب العقل في الإنسان ليعمِّر به الأرض لا ليدمرها، وليعرف به خالقه لا ليلحد، والإنسان مدعوٌّ أن يضع نفسه في إطار الكون كله وقوانينه المطردة لا في إطار قدرته الخاصة المحدودة، وسيرى أن ليس للإنسان قدرة على توجيه مجرى الحوادث الكونية وفق مشيئته، لأن هذا من شأن خالق الأشياء جميعا ومدبرها، وهو الله.
تقوم العلاقة بين الإنسان والكون على التوافق والانسجام، ومنذ هبط الإنسان إلى الأرض، وقد ارتبط تطوره العقلي والحضاري بحسن توافقه وتكيفه مع البيئة والكون، وحسن استخدامه وانتفاعه بمفردات الحياة. فلا يحق له بأي حال الإساءة إليه، بل يجب عليه احترامه ورعايته.
والمسلم، خاصة، يتعامل مع مخلوقات الله من منطلق الشعور بالمساواة معها، والمشاركة في العبودية لإله واحد، وترتبط علاقاته بغيره بمدى تعلقه والتفاته إلى ربه، فهو يتوجه بالحب إلى الله ومن خلال ذلك الحب يتوجه بالحب إلى ما أبدع وصنع، ولذلك نراه يستوي عنده ضعف المخلوقات وقوتها، حقارتها وعظمتها، لأن نظره لا يتعلق بها، بل يتعلق بخالقها القوي الحكيم. فالمسلم يقدس من عالم الأشياء المصحف والكعبة وقبر النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- ونحوها، لمكانتها عند الله- عز وجل-، وتقديسه لها يجمع بين الاحترام والحب.
ولقد أعطى النبي- صلى الله عليه وسلم- أصحابه درسا في حب الجماد والتفاعل معه ومجاوبته حينما حن إليه الجذع ومال، فَعَنْ جَابِرٍ: «كَانَ الْمَسْجِدُ مَسْقُوفًا عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَخْلٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَطَبَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ، وَكَانَ عَلَيْهِ، فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الْجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ الْعِشَارِ- وهو صوت يخرج من الصدر فيه رقة-، حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا، فَسَكَنَتْ». [رواه البخاري].
وعندما مر النبي- صلى الله عليه وسلم- على جبل أحد، وعلى الرغم من أنه كان موطنا أصاب المسلمين فيه قرحٌ وأصاب النبيَّ جرح، واستشهد عليه عمه حمزة بن عبد المطلب فحزن النبي لذلك، رغم ذلك فإنه أشار إليه وقال: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» [رواه البخاري]، فالجبل أحب المسلمين، والمسلمون يحبون هذا الجبل، وإن كان ما حدث في موقعة أحد أدعى أن يتشاءم المسلمون منه.
ولم يكن هذا الأمر من التفاعل مع الجماد في البيئة الإنسانية مقصورا في حياة رسول الله- صلى الله عليه وسلم -بعد بعثته، بل قبلها فقد قال- صلى الله عليه وسلم-: «إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَىَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ» [صحيح مسلم]، فالنبي يذكر أنه لم يتجاهل الحجر بعد البعثة، بل ظل يعرفه ويتعلق به، ولم يفعل ذلك إلا لكونه مخلوقا لله أحبه وعظمه، فقد كان يسلم عليه قبل بعثته مبشرا له ومعلما بما سَيُكَلَّفُ به النبي من تحمل الرسالة وأدائها. ولم يكن تفاعل عالم الجماد مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مقصورا على العالم الأرضي، بل السماوي أيضا، فنجد القمر ينشق نصفين معجزة له، فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ- عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُم انْشِقَاقَ الْقَمَرِ، قال الخطابي: انشقاق القمر آية عظيمة لا يعادلها شيء من آيات الأنبياء، لأنه ظهر في ملكوت السماء، والخطب فيه أعظم، والبرهان به أظهر ؛ لأنه خارج عن جملة طباع ما في هذا العالم من العناصر. [راجع عمدة القاري شرح صحيح البخاري].
إن الجماد له احترامه في تصور المسلم للوجود، وقد تعلق كثير من العبادات بالمكان والزمان، وأوضح مثال على ذلك حركة المسلم في طوافه حول الكعبة، فإنها حركة تشبه كثيرا حركة النجوم والأجرام السماوية في أفلاكها حول مركزها، وتشبه أيضا حركة الإلكترونات في مساراتها حول النواة داخل الذرة، مما يعكس صورة رمزية لوحدة البناء بين أعظم المخلوقات وأدقها، فينطق بأنه- سبحانه- خالق كل شيء، وأن الكون عبارة عن مسجد كبير اشتركت فيه الكائنات سجودا وتسبيحا لخالقها.
والإنسان وجميع الموجودات خاضعون لقانون واحد وسنة واحدة تتحكم في تحركهم وسكونهم، وهذا النظام يعبر عن وحدة الخالق، وتظهر فيه سنن الله في خلقه. فلكل موجود ممكن دورة حياة، تبدأ بالوجود ثم النماء ثم الضمور فالموت، وهو أمر يصيب كل شيء من حولنا، سواء في ذلك الجماد والحيوان والإنسان، حتى النجوم والمجرات لها أعمار وآجال، بانتهائها تدخل في دورة حياة كائنات أخرى، وتفقد صورتها الأولى وتتحول إلى صور أخرى متعددة. قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِى الأَلْبَابِ) [سورة الزمر: آية ٢١]، وقال- سبحانه-: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ). [سورة الروم: آية ٥٤].
فالموجودات تتشابه في أطوار التكوين وتتابعها عليها بين الضعف والقوة والنقص والكمال، ولكل موجود أجل وعمر مقدر لا يتقدم عليه لحظة ولا يتأخر، ينتهي دوره في الكون بانتهاء أجله.
وكذلك هناك تشابه في التكاثر بين المخلوقات، حيث خلق الله- سبحانه وتعالى- من كل شيء زوجين متجاذبين تتولد الطاقة أو الحياة من التقائهما، لذا تُعَد الحياة كلها آية ساطعة على التوحيد، تظهر على وجه الكائنات صغيرها وكبيرها . قال تعالى: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). [سورة الذاريات : آية ٤٩].