الأمة وأزمة الثقافة والتنمية
هذا عنوان مؤتمر دعيت إليه لإلقاء المحاضرة الافتتاحية فيه بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة في الأسبوع الماضي, ونظمته جهات ثلاث, تعاونت علي عقده وهي: برنامج حوار الحضارات بالكلية تحت رعاية عميدها الفاضل الدكتور كمال المنوفي, ورئاسة الدكتورة نادية مصطفي, ومنسق البرنامج د.سيف عبدالفتاح, والمعهد العالي للفكر الإسلامي تحت رئاسة د.عبدالحميد أبوسليمان, والبنك الإسلامي للتنمية في جدة التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
ومن كثرة المؤتمرات واللقاءات وآلاف وملايين البحوث والأوراق المكدسة علي الأرفف منذ سنوات زادت علي المائة عام ذهبت إلي المؤتمر بطريقة عادية فقد تعودنا الذهاب والكلام والانصراف.
وتسلمت الأبحاث, وألقيت كلمتي الافتتاحية وانصرفت, وأخذت في تقليب الأبحاث كالمعتاد, وفوجئت أن من حق الأساتذة المشاركين أن أنبه إلي أبحاثهم حيث شعرت بأن الأمر هذه المرة مختلف, وأنه عسي أن يكون ذلك هو الضوء الذي ينير أو هو أول الخيط الذي يتبع.
شارك في المؤتمر وفي كتابة الأبحاث نحو خمسين عالما من مصر والسعودية وماليزيا وأمريكا والمغرب والأردن وإيران في تخصصات مختلفة من السياسة والاقتصاد والتربية والاجتماع والشريعة والإعلام والهندسة واللغة والفلسفة, ومن الأبحاث المقدمة ـ وكلها جديرة بالقراءة والمتابعة واستخلاص منهج للعمل ـ منها أتكلم عن ثلاثة فقط لضيق المقام:
1 ـ بحث الدكتور رفعت العوضي تحت عنوان( القيم الإسلامية الحاكمة لتنمية المجتمع), وهو أستاذ الاقتصاد في جامعة الأزهر. وجعل أولي هذه القيم هي قيمة الحرية: الحرية في العقيدة, والحرية في السياسة, والحرية في الاقتصاد. ويري أن هذه القيمة في محاورها الثلاثة تلك هي أول الطريق للتنمية الشاملة, فإن الإنسان الحر هو الذي ستصدر منه التنمية, ويكون مهيأ لعملية الاستخلاف وإعمار الأرض. والقيمة الثانية هي الإعمار: وهو مبني علي مدي وضوح علاقة الإنسان بالكون والحياة ومبني علي مدي التفاؤل والتشاؤم في مجال الاقتصاد ومبني علي توظيف ذلك في الواقع. والقيمة الثالثة قيمة الصلاح الاقتصادي التي تلتزم بها الدولة, وهي لابد أن تتخلق بأخلاق في إدارة ماليتها وتتخلق بأخلاق أخري في حماية الحافز عند الأفراد. ثم القيمة الرابعة قيمة الصلاح الاقتصادي التي يلتزم بها الأفراد. والخامسة: الصلاح الاقتصادي الذي به الغني. والسادسة الصلاح الاقتصادي الذي يلتزم به الفقير. السابعة ثقافة المقاومة, ويتكلم فيها عن وجوب تربية أفراد المجتمع علي مقاومة الخطر الخارجي أيا كان شكله, وأن الهروب من المواجهة لن ينجي الهارب, ولن ينجي وطنه, وأن التسليم بأي نوع من المطالب ولو جزئيا يؤدي إلي ضياع الهمة ويؤدي بالحتم إلي قبول ماهو أسوأ لغير مصلحة الوطن, وأن ثقافة المقاومة من شأن مؤسسات كثيرة فهي مسئولية جماعية.
2 ـ والبحث الثاني بحث الدكتور سعيد إسماعيل تحت عنوان:[ ازدواجية التعليم وأثرها علي ثقافة الأمة] وهو أستاذ التربية بكلية التربية بجامعة عين شمس, وبجانب المتعة التأريخية للبحث في دراسته لقضية ازدواجية التعليم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين, وأنواع هذه الازدواجية وسلبياتها وأسبابها وطرق التخلص من هذه الازدواجية ودرجاتها, فإنه نبه علي أمر لابد أن نكرر التأكيد عليه وهو قضية الاهتمام باللغة العربية الفصيحة ووظائفها في حياة الأمة, وكيفية استثمار إمكاناتها في التطور للوفاء بالحاجات الحضارية المتجددة وتنميتها لإرساء وحدة الأمة الفكرية وتطويرها وإشاعتها في الحياة العامة وسيلة للتفكير, ووضع لذلك مقترحات جديرة بالنظر والتنفيذ وهو من كبار خبراء التربية في مصر والعالم العربي والإسلامي.
3 ـ ويأتي البحث الثالث للدكتور عمار علي حسن تحت عنوان[ الطرق الصوفية وعملية التنمية في العالم الإسلامي] وهو باحث في العلوم السياسية, فكتابته في الموضوع ليست من الداخل, بل نظر خارجي يدرس ويحلل ويتوقع ويتكلم بحرية الناقد الذي يحسب ما للشيء وما عليه, ونخرج من بحثه إلي أن التاريخ يؤكدأنه تحول إلي مؤسسة مؤثرة وأن الرهان عليه من قبل الأمريكان بعد أحداث11 سبتمبر محل نظر, فالتصوف في صورته النقية والفاعلة قد يكون المخرج الحقيقي للأمة وهو منفذ يمكن منه التربية واسترجاع الهمة المفقودة ومعني الجهاد الواسع الذي يشمل جهاد النفس والعمل الصالح والعمار ونبه البحث إلي دور الزوايا وعلاقتها بالعلم والثقافة السائدة التي نحتاج إليها للخروج من الأزمة.
4 ـ تميزت الأبحاث بالدخول في الموضوع مباشرة وبوضح مقترحات قابلة للتطبيق وبرامج عمل واضحة في ذاتها وفي أهدافها وفي النموذج الذي تنطلق منه, وعلي الطرف الآخر من هذا المجهود المشكور, أري أن الثقافة السائدة الآن في مجتمعاتنا بعد هذه المرحلة الطويلة خلال القرنين الماضيين قد وصلت إلي حالة من الأزمة كما عبر عنها عنوان المؤتمر, وأن التنمية المبتغاة التي ندعو إليها تحتاج إلي الخروج من تلك الأزمة, وإلا فإن التنمية أيضا في أزمة, وأشبه هذه الثقافة المأزومة بسيارة قد غرزت في رمل أو وحل وان إخراج هذه السيارة من الوحل ليس هو كل شئ فإننا عندما أردنا أن نخرجها وجدناها مكبلة بالكوابح, وعند فك هذه الكوابح وجدناها قد صدأت في أجزائها وعندما جلونا الصدأ عنها وجدناها معطلة تحتاج إلي إصلاح فني وعندما أصلحناها وجدناها من غير وقود, فلما اجتهدنا وجئنا بالوقود اكتشفنا أنه لا يوجد سائق لها, وعندما أوجدنا السائق بالتي واللتيا لم يكن يعرف الطريق فسار بنا في متاهة, وكلما رأي شيئا ظنه هو الطريق الصحيح فسار فيه ثم رجع فضاع الوقت, وأظلم الليل فازدادت المتاهة وازداد الاجهاد به وبنا.. فهل من مخرج معقول؟ هذه الأزمات نمارسها سويا الآن فهناك منا من هو في مرحلة الغرز ومنا من هو في مرحلة الكوابح ومنا من هو في مرحلة الصدأ, ومنا من هو في مرحلة العطل, ومنا من هو في مرحلة فقد السائق أو فقد الطريق أو الاجهاد المزري.
5 ـ هذه محاولة للوصف وليس تشاؤما محبطا, بل دعوة إلي أن نلملم شعثنا ونفكر بأصالة, خارجين عن التقليد لغيرنا أوبسحب الماضي في حياتنا, وألا نخرج عن هويتنا وهذا ممكن حتي الآن, ونخاف ان استمرت الأزمة ولم تؤخذ بجدية أكبر أن نصل إلي مرحلة لا نجد فيها السائق ولا حتي السيارة من أساسه وحينئذ فإن الأزمة ستصير كارثة بكل المقاييس, وحتي ننبه إلي نقاط واضحة فإنه لابد من مراجعة مناهج التعليم الأساسي والعالي مراجعة قومية لا تقتصر علي اتجاه ولا تتبع مناهج الغير بل تنطلق من رؤيتنا التي لابد أن تصاغ في صورة واضحة أيضا. نحن شعب يؤمن بأن الإنسان مخلوق لخالق, وأنه يكلف في هذه الحياة الدنيا وأن هناك يوما آخر نعود فيه إلي ربنا, وأن الإنسان مكرم ومحترم وليس مجرد جزء من الكون أو مادة تجري عليه الأحداث بعبثية وأن الأمر صادر عن حكيم سبحانه, ونحن شعب نؤمن بالحرية والتعددية وأن البحث العلمي لا نهاية له ولا حد له ولا سقف يحده. ولكن نستعمل منتجات العلم في العمارة لا في الفساد, وأننا ندعو إلي الإبداع لا إلي الهتر, وأننا نحترم الأسلاف ونري أنهم قاموا بواجب عصرهم, كما يجب علينا أن نقوم بواجب عصرنا, وأننا نحترم الأسرة, ونحترم الجماعة في جمعيتها وأعني بذلك كله الشعب المصري بكل طوائفه المسلمين والمسيحيين, بل إن هذا النموذج هو نموذج العرب جميعا كذلك.
6 ـ وبعد مراجعة مناهج التعليم يجب تحويل مشروع الثقافة إلي مطلب قومي يشترك الإعلام بكل مكوناته فيه, وهذا يحتاج إلي جهد وعمل غير تقليدي وطاقة غير عادية, بل يحتاج إلي العمل بالليل والنهار, إلا أن الوضع النفسي لشعبنا عبر التاريخ يسمح بالأمل والاعتماد علي أن استثارة هذا عند جمهور الرأي العام يلقي قبولا ونشاطا وحراكا.
7 ـ وأري أن حركة البعثات العلمية يجب أن ترجع مرة أخري خاصة إلي البلاد الجادة, وأخص جامعة الأزهر بشئ كبير من ارجاع البعثات التي أرجعت لنا رجالا من وزن الإمام عبدالحليم محمود أو محمد الفحام أو محمود حمدي زقزوق وأستاذه محمد البهي ورئيس الجامعة أحمد الطيب والأسبق عبداللطيف بدوي رحم الله من انتقل وبارك فيمن يسعي لصالح البلاد والعباد, إنه نعم المولي ونعم النصير.