أطلقت مؤسسة "مصر الخير"، التي يترأسها الدكتور علي جمعة، مبادرة "أيادي الخير للغارمين"، لتنمية وتعليم المهارات الحرفية لفتح أبواب رزق للغارمين، من خلال إعدادهم وتدريبهم بشكل جيد، بما يساعدهم على إيجاد مصدر رزق يساعدهم على توفير حياة كريمة، ويحميهم من الوقوع في الاستدانة.
وتشمل المبادرة بإعلان 1000 وظيفة حتى نهاية العام الجاري، على أن تبدأ بتوفير 100 وظيفة لعددٍ من المهن خلال الأيام العشر الأوائل من شهر ذو الحجة، التي تبدأ بعد غدٍ الاثنين.
وقالت سهير عوض، مدير مشروع الغارمين بمؤسسة مصر الخير، في تصريحاتٍ لها، السبت: "الفئات المستهدفة من مبادرة أيادي الخير هو الغارم الذى عليه دين ولا يستطيع سداده، ولديه حرفة من الحرف المستهدفة، وهي فني كهرباء وفني سباكة وفني تبريد وتكييف وفني نجار موبيليا"، لافتةً إلى أنَّ أهداف المبادرة تتضمن العديد من المحاور، أولها هدف اجتماعي لمساعده هؤلاء الأشخاص وإحساسهم بالمسؤولية تجاه مجتمعهم، وتحويلهم من أشخاص غير منتجين بالمجتمع إلى أفراد منتجين، بالإضافة إلى رفع المستوى الفني للعمالة المصرية، لكي تنافس العمالة من الخارج في سوق العمل.
وأوضحت أنَّ المؤسسة تسعى لتحقيق هدف قومي من المبادرة يعتمد على إيجاد حلول جذريه لمشكلة البطالة والعمالة الفنية الماهرة بمصر مع تشجيع المجتمع علي الإنتاج والتطوير بما يتناسب مع متطلبات المرحلة الحالية التي تمر بها البلاد .
عرضنا لحوادث رمي الجمرات في المقال السابق، ورأينا أن الأزمة لا تتمثل في القوانين والفقه، وفي هذا المقال نجيب عن ذلك السؤال المحير : من أين تبدأ الأزمة في حوادث الجمرات المتكررة ؟
الأزمة تبدأ في الفكر الفقهي الذي يأبى الاجتهاد ويجهله، والاجتهاد هو بذل الوسع في فهم النصوص الشرعية لاستنباط الأحكام منها، ولقد ركد الفكر الفقهي، وركن إلى التقليد وإلى الاكتفاء بفقه الأوراق دون رغبة في دراسة الواقع، وهو أمر جد خطير ليس فقط في حدوث مثل هذه الحوادث، بل إنه خطير أيضًا من الناحية الدينية التي ترى في هذا التصرف نوعًا من الضلال والإثم أن ينظر أحدهم إلى ما سطر في الكتب فيوقعه في فتاويه من غير نظر إلى الواقع الذي يفتي فيه.
ويقول القرافي في كتابه الفروق : (والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين، والسلف الماضين) [الفروق للقرافي 1/177، 178]، وهو يؤيد ما سطره ابن تيمية في كيفية الفتوى من وجوب إدراك الواقع، وأن الفتوى مبنية (على أصلين: أحدهما: المعرفة بحالهم، والثاني: معرفة حكم الله في مثلهم [مجموع الفتاوى 28/510] فالمعرفة بالحال جزء لا يتجزأ من الفتوى.
3- فظهر لنا إذن أن الرمي بعد الزوال ليس محل اتفاق أو إجماع بين العلماء، وعلى ذلك فهو من المسائل المجتهد فيها التي يجوز لنا أن نفهم النص لتحقيق مصلحة الواقع، وليس في هذه المسألة نص بذاتها، بل إنه مأخوذ من عموم قوله صلى الله عليه وسلم : (خذوا عني مناسككم) [رواه البيهقي] مع أنه قد رمى الجمرة عند الزوال قبل الصلاة.
وهذا العموم مع ذلك الفعل لا يدل على الوجوب الذي ذهب إليه كثير من العلماء عبر التاريخ، فالمناسك منها ما هو ركن كالوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة والسعي، ومنها ما هو ركن وفيه خلاف في ركنيته كالحلق والتقصير لشعر الرأس، ومنها ما هو واجب لو فاته الحج بعذر فلا إثم عليه ويجب عليه أن يذبح ذبيحة لله، ولو تركه بغير عذر فهو آثم، ويذبح نفس الذبيحة أيضًا، ومنها ما هو سنة أو هيئة من سنن أو هيئات الحج تاركها لا إثم عليه ولا ذنب، فالقول بالوجوب استدلالا بعموم ذلك الحديث محل نظر واجتهاد منذ القديم، والتمسك بهذا الفهم مع هذه الحالة الموجودة نوع من أنواع الضلالة كما يقول القرافي رحمه الله تعالى.
ويؤكد ذلك المعنى قوله صلى الله عليه وسلم : (صلوا كما رأيتموني أصلي) [رواه البخاري] فالصلاة هدفها الخشوع : (قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) [المؤمنون : 1، 2] وذلك حتى يتذكر المؤمن ربه، فيقلع عن الفحشاء والمنكر (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ) [العنكبوت :45]، والصلاة تشتمل على أركان وسنن وهيئات فلا تصح إلا باستيفاء أركانها، ولكن وضع اليمنى على اليسرى، ورفع اليدين عند التكبير، وقولنا سمع الله لمن حمده هيئات الصلاة بتركها.
وليس معنى قوله صلى الله عليه وسلم : (صلوا كما رأيتموني أصلي) أن كل هذه الهيئات من أركان الصلاة، بل ولا أن تركها يستوجب إثمًا، ولكن الإثم الصحيح هو أن يشتغل بهذه الهيئات حتى يذهب خشوعه، وحتى تصير الصلاة مجرد شعيرة ظاهرية لا علاقة لها بأن يترك الفحشاء أو المنكر التي يمارسها خارج الصلاة، فتفقد الصلاة بهذا الاهتمام الزائد هدفها ومراد الله فيها.
وكذلك واجب الرمي، له هيئة في الزمان لا تجعلنا نهلك أنفسنا، ولم يأمرنا الله بذلك، بل أمرنا بخلافه فقال تعالى : (وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة :195] وقال : (وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء :29] وقال : (وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الأنعام :151].
فإذا انضم إلى ذلك أن الحج بني على التيسير، فلم يُسأل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قُدم أو أُخر إلا قال : (افعل ولا حرج)، ولم يُسأل عن شيء فيه عذر من تأخير في الزمان أو ضيق في المكان، أو حال اعترت من حج معه إلا وقد أباح له ذلك، فأين هذا من عقلية قد أغلقت نفسها على الأوراق فضاع من ضاع بسببها.
تأكد لنا أن وقوع مثل تلك الحوادث المروعة بموسم الحج ، سببه في الأصل عدم الالتفات للنصوص والقرارات الميسرة، التي إذا ما التزم بها الحجيج تجنبنا كثيرًا من تلك الأزمات.
وقد أقر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف بعض الحلول لتفادي وقوع حوادث مماثلة لحادث التدافع الذي وقع أثناء رمي الحجاج للجمرات في منى في موسم الحج عام 1424 هـ، الموافق بداية فبراير عام 2004، حيث أرسلت لجنة تابعة لمجمع البحوث خطابًا باسم الأزهر إلى وزير الحج السعودي ومفتي السعودية، وتم إرسال ذلك الخطاب فور موافقة المجمع في جلسته الأخيرة في 24 مارس 2004 على تفويض شيخ الأزهر في إعداد ذلك الخطاب الذي يشمل اقتراحات طرحها أعضاء المجمع.
وقد افتُتح ذلك الخطاب بالنص التالي : (من منطلق التعاون الصادق والإخاء بين علماء المسلمين في أمور دينهم، وحرصا على سلامة الحجاج، يتقدم مجمع البحوث الإسلامية بمقترحات حتى لا يتكرر الحادث الذي ألم بضيوف الرحمن في ساحة الرمي بموسم الحج هذا العام).
وكانت أولى تلك المقترحات ما نصه : (التوسع في إباحة زمن رمي الجمرات في جميع الأيام الخاصة به، بحيث يكون الرمي 24 ساعة في كل يوم من هذه الأيام نظرًا للزحام الشديد الذي يحدث كل عام خلال أداء الحجاج لهذه الشعيرة، ويترتب عليه في الغالب عنت شديد يلم بهم، وضرر عظيم للضعفاء قد يصل إلى الموت، خاصة أنه من المعلوم من الدين بالضرورة أن من أهم أسباب مشروعية الحج المحافظة على النفس وإحياؤها، ومنع الضرر والهلاك عنها، وبذلك تكون كل مناسك الحج ـ بما فيها رمي الجمار ـ محققة للغرض الذي شرع له الحج، ومؤكدة لحكمة مشروعيته، وهو إحياء النفس، وعليه فلا يتصور أبدًا أن تكون مناسك العبادة التي شرعت لإحياء النفس سببًا في هلاكها، ولذلك فإن بعض الفقهاء من المسلمين ـ قديمًا وحديثًا ـ صرحوا بجواز الرمي في أي وقت)
كما تضمن ذلك الخطاب مقترحًا آخر كان نصه : (ضرورة الإنابة في الرمي للنساء وغير القادرين عن طريق نشر الوعي بين الحجيج بأن من الخير للنساء وغير القادرين أن يوكلوا غيرهم من الرجال والقادرين لرمي الجمرات عنهم حتى لا يتعرضوا للضرر والزحام الشديد).
ونص كذلك على : (العمل بمبدأ التعاقب في الرمي أيام التشريق الثلاثة بمنى، وذلك بتفويج الحجيج وتقسيمهم، مع الجمع بحيث يجمع رمي يومين في يوم واحد لكل طائفة مع مراعاة الترتيب خاصة أنه لا حرج في ذلك شرعًا؛ لأن أيام التشريق كلها زمان واحد للرمي).
وختم ذلك الخطاب اقتراحاته بالإشارة إلى حلول أخرى غير فقهية، وكان نصه في ذلك الشأن : (إن هناك تيسيرات أخرى تتعلق بجوانب هندسية من حيث توسيع الأماكن المخصصة للرمي وهي متروكة للسلطات في المملكة العربية السعودية؛ لأن أهل مكة أدرى بشعابها).
ولعلنا في حاجة لنقل المزيد من الفتاوي والتأصيل الفقهي لعرض الأقوال التي تجيز الرمي في أي وقت، وننقل من ذلك فتوى العلامة مصطفى الزرقا -رحمه الله- حيث قال : (رمي الجمرات يكون في الأيّام الأربعة كلّها من الصّباح قبل الزوال في مختلف الاجتهادات، ولو في غير يوم النّفر للمستعجِل وغيره؛ لأن في الرمي قبل الزوال تيسيرًا كبيرًا على الناس حتى على غير المستعجِل لأجل النفر، فإن الماكِث أيضًا قد يحتاج إلى التبكير في الرمي اجتنابًا للزِّحام الشّديد في الحَرّ الشديد، ولا يخفَى أن المكلَّف عليه أن يتبع أحد المذاهب المُعتبرة، ويتقبّل الله تعالى منه، فإن الدين يُسر بنصِّ الحديث الثابت).
وقد ذيل فضيلة الشيخ الزرقا فتواه بذكر مذاهب من أجاز الرمي في أي وقت وعد منهم الإمام الباقر محمد بن علي من آل البيت (كما في بداية المجتهد)، وكذا الإمام الناصر من الزّيديّة (كما في البحر الزخار) وكذا من التابعين عطاء وطاووس (كما في نيل الأوطار) فقال هؤلاء جميعًا : إن الوقت في اليوم الثاني أيضًا يبدأ من الفجر، فيرمي قبل الزوال مُطلقًا، وفي قول آخر عند الحنفيّة أيضًا غير القول المشهور: أنّ اليومين الثاني والثالث أيضًا يجوز الرّمي فيهما قبل الزّوال. انتهت فتوى الشيخ الزرقا.
ولقد صرحت لجريدة الأهرام المصرية بتاريخ (4-1-2005) تصريحًا بهذا الشأن، وأكدت في ذلك التصريح على : (أن من فَضَّل المزاحمة التي تؤدي إلى الأذى لنفسه ولغيره هو آثم شرعًا، ويخشى عليه من عدم قبول حجه، وذلك تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم عندما نظر إلى الكعبة فقال لها : (أنت حرام، ما أعظم حرمتك ؟ وأطيب ريحك ؟ وأعظم حرمة عند الله منك المؤمن) [الطبراني في الأوسط، وابن أبي شيبة في مصنفه] وعلى ذلك فإن الأخذ بفتوى إجازة رمي الجمرات في ساعات اليوم كله وليس الرمي في وقت محدد واجب شرعي على الحجاج؛ تفاديًا لحدوث أي مكروه) كان ذلك نص تصريحي لجريدة الأهرام منذ أكثر من عام.
فها نحن نرى محاولات صادقة ومجهود كبير من علماء الأمة لحل الأزمات وإدارتها، ولتوحيد المسلمين، ولمثل هذه المسألة وأشكالها اتجه العلماء المخلصون في التاريخ المعاصر -وبعد بناء الدول الحديثة وأنظمة المجامع الفقهية والجمعيات- إلى محاولة توحيد المسلمين عبر هذه المذاهب، بالبيانات والمقررات المتفق عليها بينهم رأفة بالناس وإعانة لهم على القيام بالواجبات الشرعية ومساعدتهم على كل خير.
تعلمنا في الحج الكثير، تعلمنا الفقه والأسرار والفكر، نسأل الله أن يرزقنا حسن عبادته وذكره وشكره، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تكلمنا في المقال السابق عن باقي واجبات الحج وسننه، وبدأنا في الإجابة عن سؤال كيف يحج المسلم حجا كاملا ؟ وتكلمنا عن أعمال الحج قبل بداية الحج حتى يوم النحر، وفي هذه المرة نكمل الحديث عن باقي أعمال الحج فنوضح أعمال اليوم الأول والثاني والثالث من أيام التشريق
أعمال اليوم الأول والثاني والثالث من أيام التشريق :
أ - المبيت بمنى ليلتي هذين اليومين : فبعد طواف الإفاضة الذي به التحلل الأكبر يتوجه الحاج للمبيت بمنى هذين اليومين وفي هذين اليومين يقوم برمي الجمار؛ بحيث يخرج في اليوم الأول بعد صلاة الظهر (بعد الزوال) يرمي الجمار الثلاثة على الترتيب : الجمرة الأولى أو الصغرى وهي أقرب الجمرات إلى مسجد الخيف بمنى , ثم الجمرة الثانية أو الوسطى , ثم الثالثة الكبرى جمرة العقبة. يرمي كل واحدة بسبع حصيات , ويدعو بين كل جمرتين. ويقوم بنفس هذا الفعل في اليوم الثاني.
ب - النفر الأول والثاني : يحل للحاج إذا رمى جمار اليوم الثاني من أيام التشريق أن يرحل إلى مكة, إذا انتهى من رمي الجمار الثلاثة قبل الغروب ويسمى النفر الأول، أما إذا غربت عليه شمس اليوم الثاني وجب عليه أن يمكث إلى اليوم الثالث من أيام التشريق وهو رابع أيام عيد الأضحى المبارك؛ حيث يقوم فيه بنفس أعمال رمي الجمار الثلاثة السابق بيانها. ثم يتوجه إلى مكة ولا يحل له أن يمكث في منى بعد ذلك وهذا يسمى النفر الثاني.
ج- التحصيب : وهو نزول الحاج بالمحصب (موضع بمكة) يصلي فيه ويذكر الله تعالى فيه وهو مستحب.
د- طواف الوداع : يمكث الحاج بمكة ما أراد أن يمكث في ذكر لله وغيره من أعمال البر وأعمال المعاش، وليعلم أنه في حرم الله، وفي أطهر بقاع الأرض فليتق الله ليراقبه دائما، فيجوز له أن يعتمر أو يزور من يعرفهم ثم إذا أراد السفر من مكة يجب عليه يطوف بالبيت طواف الوداع, والمعنى الملاحظ في هذا الطواف أن يكون آخر العهد بالبيت, وبعد أن يصلي ركعتي الطواف , يأتي زمزم ويشرب من مائها مستقبل البيت ويدعو بما شاء , ويتشبث بأستار الكعبة, ويستلم الحجر الأسود إن تيسر له من غير إيذاء أحد, ثم يسير إلى باب الحرم ووجهه تلقاء الباب, داعيا بالقبول, والغفران, وبالعود مرة بعد مرة, وألا يكون ذلك آخر العهد من الكعبة.
وبذلك نكون قد انتهينا من الحديث عن الحج من جهة كيفية وفقهه، ويجب الالتفات إلى معاني أخرى غير المعاني الفقهية وهي المعاني الروحية، فإن الحج يدل على التوحيد وعلى الإذعان لله سبحانه وتعالى فهو يعلم الأخلاق الحميدة ويبعدنا عن الأخلاق الذميمة، ويأمرنا بالتقوى، قال سبحانه : ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِى الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِى الأَلْبَابِ﴾ [البقرة :197].
والحج تجديد للحياة، فيبدأ الإنسان بعد الحج صفحة جديدة مع ربه يعاهده فيها على السير على طاعته والعزم على امتثال أمره واجتناب نهيه، ولعل لأجل ذلك المعنى قام سيدنا عمر بن الخطاب بوضع التقويم الهجري العربي للمسلمين بداية من شهر محرم، فكان هو أول العام الهجري، فهو بداية سنة جديدة في العلاقة مع الله سبحانه وتعالى، فكان بداية تقويم المسلمين.
والحج يدل على التوحيد بمعناه الشامل، فهو عبادة، فكما يفرض على المسلمين صيام شهر واحد، كذلك يفرض عليهم أداء عبادة واحدة في وقت معين من السنة هي الحج، ففي توحيد الحج وحدة للأمة حيث يجتمعون من كل مكان يلبون نداء الله سبحانه وتعالى.
فالمسلم يؤمن بالتوحيد ليس فقط توحيد الإله، بل توحيد شمل كل شيء في بنائه العقائدي، فنبيه صلى الله عليه وسلم واحد؛ لأنه خاتم قال تعالى : ﴿رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب : 40]، وكتابه واحد؛ ولذلك حفظه من التحريف والتخريف وجعله واحدا لا تعدد له، قال سبحانه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر : 9]، والأمة واحدة قال تعالى : ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء : 92]، والقبلة واحدة، قال عز وجل : ﴿وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة : 144]، والرسالة واحدة عبر الزمان قال سبحانه : ﴿هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [الحج : 78]، والحج واحد، قال تعالى : ﴿وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة :196]، وشهر واحد افترض الله صومه على المسلمين : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة :185].
وقد خرج علينا ودعا إلى تعدد الحج –وهو لا يفهم هذا المعنى- فذهب عقله إلى الخلط بين التخريف والتحريف، وبين الاجتهاد الذي كان عليه أئمة الأمة وبين الانسلاخ من الدين، فالله يدعونا إلى تفعيل التوحيد في حياة الناس، وهؤلاء يدعوننا إلى تعدد ما جعله الله واحدا، إنها غفلة تقتضي منه لا يسعنا معها إلا أن نقول له ولأمثاله «سلام عليكم».
فالحج يعد مؤتمرا سنويا يوحد الأمة ويكتب غير المسلمين ويتعبون أن كل المخترعات التي اخترعت لدى المسلمين في الشرق يجدونها وبعد شهور قليلة قد طبقت في الأندلس في الغرب والحال كذلك عند علماء الأندلس من أهل الصناعة والهندسة والطب وغيرها يجدونها انتقلت إلى الصين والهند لدى المسلمين وتتبعوا هذه الظاهرة العجيبة فوجدوا أن الأمر إنما هو مردود إلى الحج حيث يجتمع فيه علماء المسلمين ويتبادلون الخبرات، يقومون بنقل المخترعات والأفكار والنظم والإدارات والإجراءات وحدة للأمة، وقوة للدولة، ووقوفا أمام الحضارات الناقصة.
فكان المسلمون يشهدون في الحج منافع لهم على الحقيقة لا على المجاز، فكان يعود منه إلى أقطارهم وقد ازدادوا قوة إلى قوتهم إلى أن دب الوهن في قلوب المسلمين فأحبوا الحياة، وكرهوا الموت، وتشرذمت الأمة، وتفرق الناس فأصبح الحج خاليا من معناه، وينبغي أن يعود المسلمون لعمل المؤتمرات العلمية لا تلقى يها الخطب الرنانة، بل تقدم فيها الأبحاث وتوضع فيها السياسات وتتفق فيها الشعوب.
فوظيفة الحج إظهار التوحيد، وتعظيم شعائر الله، وهذا التعظيم هو من تقوى القلوب فينبغي على المسلم إذا ذهب إلى بيت الله الحرام أن يعظم شعائر الله، يقول تعالى : ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة :185]. وقال سبحانه : ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج :26]
وكلمة «سجود» مصدر، ولكنها أطلقت على الساجدين، وإطلاق المصدر على جمع الفاعلين مثل شهود وقعود، وإطلاقه بهذه الكيفية وكأنه ينفي الشخص وينظر إلى الفعل، وانتفاء الشخص معناه أنه قد فنى في الله سبحانه وتعالى، وأنه قد طلق الدنيا من قلبه، وأنه في سجوده لم يبق له وجود سوى هذا السجود لرب العالمين، وأنه يكرر ذلك السجود ويسجد لله دائما، فهو دليل على كثرة السجود.
يرشدنا ربنا في الحج إلى وحدة الأمة وإلى التكافل الاجتماعي بينها، وإلى القيام بشأنها والاهتمام به، وينبهنا إلى أن يكون الحج منطلقا وبداية، وليس من أجل شيء آخر، إنما جاءوا لإعلان التوحيد بالنسك المأخوذ عن حبيب الحق وسيد الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى : ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ﴾ [الحج :29] البيت العتيق، وهو الكعبة المشرفة محل نظر ربنا، والنظر إليها عبادة، فهي مهبط الرحمان، وموضع يستجاب فيه الدعاء.
وطواف المسلمين بالبيت العتيق فيه تشبه بملائكة الرحمن الحافين حول العرش، فالمسلمون يحاكون الملأ الأعلى ولديهم المنهج القويم الذي به أسرار الكون والعبادة، وعمارة الدنيا وسلامها، فالبشر جميعهم يحتاجون إلينا، فعلينا أن نقوم بدورنا وندعو إلى الله بالحال قبل القال، وألا نيئس ولا أن نسير في مهالكنا خلفهم، بل علينا أن نعتز بالله ورسوله، وأن نعتز بديننا.
كثير من الدروس والأسرار في الحج، وكثير من مسائل الفقه تكتنف هذا الباب، ولكن نتكفي بما ذكرنا عن الأسرار والفقه، وننتقل إلى أمرنا نتذكره في كل موسم حج، ونتألم كثيرا له، وهو حوادث رمي الجمرات.
إن الأمة بوسعة تفادي تلك المأساة إذا ما أعملت العقول، وفعلت الفكر، وأعادت النظر والاجتهاد في مسألة إطالة مدة الرمي، وكذلك وسعنا قضية الإنابة في الرمي خاصة عن الضعاف وكبار السن.
كما إننا بإمكاننا أن نقف لنقرأ حال الأمة من خلال حوادث رمي الجمرات، ولنضع أيدينا على الخلل في التفكير الفقهي الذي أدى إلى مثل هذه الحوادث المأسوية، مما يؤدي إلى موت المئات من جنسيات كثيرة، وإصابة الآلاف بإصابات مختلفة وهم يؤدون منسكًا من المناسك التي لها دلالة نفسية يمنع من تحصيلها والتمتع بأثرها هذه الأزمة الفكرية، وهذه الحالة بالعقلية الفقهية التي يصر عليها الكثير.
فالأزمة ليست قانونية ولا تنظيمية ولا حتى فقهية، فسلطات تنظيم الحج قد أخذت بالفتوى الصادرة من جهات عديدة في السنين الماضية بأنه يجوز للمسلم أن يرمي الجمرات في أي ساعة شاء من ليل أو نهار.
وهو نص البيان الذي أصدره مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف (هيئة كبار العلماء) وأصدرت دار الإفتاء المصرية هذا المعنى مرارًا، وهو أمر قد صدرت فيه فتاوي من العلماء منذ أكثر من ثلاثين سنة، بل إنه في الفقه الإسلامي الموروث ذهب إليه اثنان من كبار المجتهدين، وهما طاوس بن كيسان اليماني، ومجاهد وكان من تلامذة حبر الأمة، وابن عم النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكثير من المحدثين منهم العلامة عبد الله آل محمود وألف فيها كتابًا، والعلامة الشيخ يوسف القرضاوي، وغيرهم كثير.
ولقد أيدت وزارة الحج السعودية هذه الفتوى واعتمدتها في العمل من السنة الماضية؛ ولذلك رأينا أن البنود لا تمنع الناس لأداء هذا المنسك في أي وقت كان، كما كان يحدث في سنين ماضية؛ حيث لم يكن عدد الحجاج قد زادت إلى هذا الرقم الكبير، فقد وصل إلى ثلاثة ملايين في هذا العام.
إذن فما هي حقيقة الأزمة ؟ نذكر ذلك في المقال القادم إن شاء الله (يتبع)
تكلمنا في المقال السابق عن الحج ومفهومه وفضله وأركانه وتكلمنا عن واجباته، وفي هذه المرة نكمل الحديث عن الحج، ونتكلم عن قسم الواجبات التابعة، فما هي الواجبات التابعة ؟
الواجبات التابعة : تنقسم إلى :
1- واجبات الإحرام : ويجب على المحرم أمرين في إحرامه :
1- الإحرام من الميقات الزماني والمكاني 2- ترك محظورات الإحرام.
أما التلبية فهي سنة عند الشافعية والجمهور :
أ- الإحرام من الميقات :
والميقات من التوقيت, وهو : أن يجعل للشيء وقت يختص به , ثم اتسع فيه فأطلق على المكان . ويطلق على الحد المحدد للشيء والذي نقصده في الشرع بالمواقيت : أنها : (مواضع وأزمنة معينة لعبادة مخصوصة) ويجب على المسلم أن يحرم من الميقات فإن جاوز الميقات المكاني فدى، وإن أحرم قبل الميقات الزماني فدى، فما هو الميقات الزمني والميقات المكني.
أولا : الميقات الزماني : وهو الزمن الذي يحرم فيه الحاج بالحج، وهو شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وليس المراد أن جميع هذا الزمن الذي ذكروه وقت لجواز الإحرام, بل المراد أن بعض هذا الزمن وقت لجواز ابتداء الإحرام, وهو من شوال لطلوع فجر يوم النحر, وبعضه وقت لجواز التحلل, وهو من فجر يوم النحر لآخر ذي الحجة.
ثانيا : الميقات المكاني : المحرم إما أن يكون آفاقيا أو ميقاتياً أو حرمياً والآفاقي : هو من منزله خارج منطقة المواقيت ، ومواقيت الآفاقي هي : أ- ذو الحليفة : لأهل المدينة ومن مر بها، ب- الجحفة : لأهل الشام ومن جاء من قبلها كأهل مصر والمغرب ،وهي مندثرة الآن ويحرم الناس من رابغ على بعد 204 ك شمال غرب مكة أما الحجفة والتي ذهبت معالمها فكانت على بعد 187 ك .ج- وقرن المنازل : ويسمى الآن السيل لأهل نجد وهي على بعد 94 كل شرق مكة، د-يلملم : لأهل اليمن وتهامة والهند وهو على بعد 54 ك جنوب مكة ، هـ -وذات عرق : لأهل العراق وسائر أهل المشرق وهي على بعد 94 كل شمال شرق مكة.
أما الميقاتي : هو من كان في مناطق المواقيت أو ما يحاذيها أو ما دونها إلى مكة . وهؤلاء ميقاتهم من حيث أنشئوا العمرة وأحرموا بها ، إلا أن الحنفية قالوا : ميقاتهم الحل كله ، والمالكية قالوا : يحرم من داره أو مسجده لا غير، والشافعية والحنابلة قالوا : ميقاتهم القرية التي يسكنونها لا يجاوزونها بغير إحرام .
وأما الحرمي : وهو المقيم بمنطقة الحرم والمكي ومن كان نازلا بمكة أو الحرم، هؤلاء ميقاتهم للإحرام بالعمرة الحل ، فلا بد أن يخرجوا للعمرة عن الحرم إلى الحل ولو بخطوة واحدة يتجاوزون بها الحرم إلى الحل.
وإذا تجاوز المعتمر الميقات المكاني ولم يحرم بعد فليحرم، فعليه شاة جذعة من الضأن وثنية من الماعز، تذبح وتوزع على فقراء الحرم.
ب- ترك محظورات الإحرام : وهو الواجب الثاني من واجبات الإحرام، وهي : وهي الأشياء التي يحرم على المسلم فعلها أثناء إحرامه وإذا فعلها وجب عليه التوبة والكفارة عن بعضها، كل فعل بما يناسبه من الكفارة وهذه المحرمات منها :
( أ ) ما يحرم على الرجل : لبس المخيط وكل ما نسج محيطا بالجسم أو ببعض الأعضاء كالجوارب، ويحرم عليه وضع غطاء على الرأس وتغطية وجهه ، ولبس حذاء يبلغ الكعبين.
( ب ) ما يحرم على المرأة :ستر الوجه بستر يلامس البشرة ، لبس قفازين ، وتلبس سوى ذلك لباسها العادي.
( ج ) ما يحرم على الرجال والنساء : الطيب وأي شيء فيه طيب، وإزالة الشعر من الرأس ومن أي موضع في الجسم، واستعمال الدهن الملين للشعر أو الجسم - ولو غير مطيب - وتقليم الأظفار، والصيد والجماع ودواعيه المهيئة له، والرفث (أي : المحادثة بشأنه) وليجتنب المحرمون الفسوق أي :مخالفة أحكام الشريعة، وكذا الجدال بالباطل.
ويجب في ارتكاب شيء من محظورات الإحرام الفدية والكفارة، وفي الجماع خاصة فساد العمرة والكفارة والقضاء، عدا ما حرم من الرفث والفسوق والجدال ففيها الإثم والجزاء الأخروي فقط.
الكفارات الواجبة : تختلف الكفارة حسب اختلاف المحظور الذي وقعه فيه المحرم، ويمكن أن نقسم الكفارات الواجبة بترك محظورات الإحرام إلى ما يلي :
وباقي الواجبات التابعة للأعمال مختلف عليها، فهي إما من الأركان وذكرت في الأركان، وهي واجبة عند بعضهم، وإما من السنن وستذكر في السنن إن شاء الله تعالى.
وإلى هنا نكون قد انتهينا من ذكر واجبات الحج، وتبقى لنا الحديث عن سنن الحج
سنن الحج :
هناك سنن كثيرة للحج منها ما يتعلق بهيئة الأداء، وما يتعلق بالإحرام، وما يتعلق بالسعي، وهناك سنن لا تعلق بأعمال، بل هي مستقلة، وبيان ذلك فيما يلي :
ومنها لا يتعلق بالأركان وأفعالها :
وإلى هنا نكون قد عرفنا الحج بأقسامه من أركان وواجبات وسنن، ولإتمام الفائدة نجيب عن سؤال يهم كل من أراد أن يحج ولا يعلم كيفية الحج وهو كيف يحج المسلم حجا كاملاً ؟ هناك أعمال قبل الحج وأعمال الحج.
1- أعمال ما قبل الحج
ينوي المسلم في إحرامه الكيفية التي يريد أداء الحج عليها, فإن أراد الإفراد نوى الحج , وإن أراد القران نوى الحج والعمرة, وإن أراد التمتع نوى العمرة فقط. فإذا دخل مكة بادر إلى المسجد الحرام, وتوجه إلى الكعبة المعظمة بغاية الخشوع والإجلال, ويبدأ بالطواف من الحجر الأسود, فيطوف سبعة أشواط, وهذا الطواف هو طواف القدوم للمفرد بالحج, وهو طواف العمرة لمن أحرم متمتعا، أما إن كان قارنا فيقع عن القدوم.
ويقطع المتمتع التلبية بشروعه بالطواف, ولا يقطعها المفرد والقارن حتى يشرع في الرمي يوم النحر. ويستلم الحجر في ابتداء الطواف ويقبله , وكلما مر به , إن تيسر ذلك من غير إيذاء لأحد , وإلا لمسه بيده أو بشيء يمسكه بها وقبله , وإلا أشار بيديه , وإذا فرغ من طوافه يصلي ركعتي الطواف عند مقام إبراهيم إن أمكن.
ثم إن أراد السعي يذهب إلى الصفا ويسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط, كسعي العمرة الذي سبق توضيحه. وهذا السعي يقع عن الحج للمفرد, وعن العمرة للمتمتع, وعن الحج والعمرة للقارن. وهنا يحلق المتمتع رأسه بعد السعي أو يقصره, وقد حل من إحرامه . أما المفرد والقارن فهما على إحرامهما إلى أن يتحللا بأعمال يوم النحر.
ثانيا : أعمال الحج
(1) يوم التروية : وهو يوم الثامن من ذي الحجة , وينطلق فيه الحجاج إلى منى , ويحرم المتمتع بالحج من مكة بعد الضحى , أما المفرد والقارن فهما على إحرامهما , وعندما يصلون إلى منى يبيتون بها اتباعا للسنة, ويكثرون فيها من ذكر الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ويمكثون في منى حتى فجر يوم عرفة فيصلون فيها خمس صلوات : الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر . وهذا فجر يوم عرفة.
(2) يوم عرفة : وهو يوم عظيم يؤدي فيه الحجاج الوقوف بعرفة ركن الحج الذي يتوقف على فواته بطلان الحج, ويقوم فيه الحاج بالآتي :
أ - الوقوف بعرفة : ويخرج الحاج في هذا اليوم من منى بعد صلاة الفجر متوجها إلى عرفة, وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة, ويسمع خطبة عرفة ويصلي الظهر والعصر جمع تقديما, ثم يدخل عرفة فيقف بعرفة مراعيا مبتهلاً , ويستمر في الوقوف إلى غروب الشمس, ولا يخرج من عرفة قبل الغروب، ويتوجه إلى الله في وقوفه خاشعا ضارعا بالدعاء والذكر والقرآن والتلبية.
ب - المبيت بالمزدلفة : إذا غربت شمس يوم عرفة يسير الحاج من عرفة إلى المزدلفة , ويجمع بها المغرب والعشاء تأخيرا , ويبيت فيها, ثم يصلي الفجر ويقف للدعاء , ويستمر واقفا يدعو ويهلل ويلبي حتى يسفر جدا , لينطلق إلى منى . ويستحب له أن يلقط الجمار ( الحصيات الصغار ) من المزدلفة , ليرمي بها , وعددها سبعون , للرمي كله , وإلا فسبعة يرمي بها يوم النحر.
(3) يوم النحر :
يتوجه الحاج من مزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس , ليؤدي أعمال النحر , وهو أكثر أيام الحج عملا , ويكثر في تحركه من الذكر والتلبية والتكبير.
أ - رمي جمرة العقبة : فعندما يصل الحاج إلى منى يقوم برمي جمرة العقبة بالحصى الذي جمعه من المزدلفة, وتسمى الجمرة الكبرى. يرميها بسبع حصيات , ويكبر مع كل حصاة , ويقطع التلبية مع ابتداء الرمي.
ب - نحر الهدي : وهو واجب على المتمتع والقارن , سنة لغيرهما، فيقوم بنحر شاة جذعة من الضأن أو ثنية من الماعز
ج - الحلق أو التقصير : والحلق أفضل للرجال , مكروه كراهة شديدة للنساء .
د - طواف الزيارة : ويأتي ترتيبه بعد الأعمال السابقة , فيفيض الحاج أي يرحل إلى مكة ليطوف الزيارة , وهو طواف الركن في الحج. ثم يعود إلى منى مرة أخرى لأعمال أيام التشريق من رمي الجمار.
هـ - السعي بين الصفا والمروة : لمن لم يقدم السعي من قبل .
و - التحلل : ويحصل بأداء الأعمال التي ذكرناها , وهو قسمان :
1- التحلل الأول : أو الأصغر : تحل به محظورات الإحرام عدا النساء ويحصل بكل أعمال يوم النحر عدا طواف الإفاضة .
2- التحلل الثاني : أو الأكبر : تحل به كل محظورات الإحرام حتى النساء . ويحصل بطواف الإفاضة فقط.
وبهذا يتبقى من أعمال الحج أعمال أول وثاني وثالث أيام التشريق وهو ما سنوضحه تفصيلا في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
تكلمنا في المرة السابقة عن الدعاء وآدابه وحكمه، وعلمنا أن من آداب الدعاء تحري الأزمان والأحوال والأماكن الفاضلة، ومن هذه الأماكن تحت الميزاب ميزاب الرحمة، حيث يتجه المؤمن إلى الله يدعو ربه سبحانه وتعالى، وما من أحد دعا الله في البيت الكريم المشرف إلا استجاب الله له.
وقد بنى الله الإسلام على خمسة أركان شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، وأمرنا سبحانه وتعالى بإقامة هذه الأركان، فهي وعاء للإسلام وإناء يضع ربنا لنا فيه من أنواره وينزل علينا من أسراره سبحانه وتعالى فهو الرءوف الرحيم بحالنا.
وقد جمع الله علينا في الحج كل هذه الأركان، فالحج يشتمل على التوحيد ويشتمل على الصلاة، ويشتمل على الإنفاق والحج يشتمل على الصوم، ويشتمل على النذر، ومن أجل ذلك يبشرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعموم المغفرة للحجاج حيث قال : «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» [رواه البخاري ومسلم].
: فالحج في اللغة هو مطلق القصد، وقيل هو القصد لمعظم.
أما الحج الذي نقصده فهو : قصد موضع مخصوص (وهو البيت الحرام وعرفة) في وقت مخصوص (وهو أشهر الحج) للقيام بأعمال مخصوصة وهي : (الوقوف بعرفة, والطواف, والسعي عند جمهور العلماء, بشرائط مخصوصة يأتي بيانها.
حكم الحج :
الحج فرض عين على كل مسلم ومسلمة بشروطه وهي : (العقل-البلوغ-الاستطاعة)، وهناك شرط خاص بالنساء وهو (عدم العدة) فلا يجوز للمعتدة أن تخرج للحج وهو أحد أركان الإسلام، أما بخصوص المحرم أو الزوج فلا يلزم المرأة ذلك في الحج، فإن وجدت نسوة ثقات (اثنتين فأكثر تأمن معهن على نفسها) كفى ذلك بدلا عن المحرم أو الزوج وهو ما ذهب إليه الشافعية والمالكية إن لم تجد المرأة المحرم، بل يجوز لها أن تخرج وحدها لأداء الفرض أو النذر إذا أمنت على نفسها ومالها.
وقد دل على فرضية الحج القرآن الكريم، والسنة النبوية، وإجماع المسلمين، فأما القرآن الكريم فيقول تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ) [آل عمران :97]. ومن السنة النبوية أحاديث كثيرة؛ منها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه : (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج، فحجوا، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) [رواه مسلم].
وقد أجمعت الأمة سلفًا وخلفًا، شرقًا وغربًا، على فرضية الحج وأنه أحد أركان الإسلام الخمسة، وأنه من المعلوم من الدين بالضرورة، وأنه منكره يكفر. وقد اختلفوا في وجوب الحج هل هو على الفور أو على التراخي ؟ فذهب الجمهور إلى أن الحج يجب على الفور (بمعنى فور الاستطاعة) وهو الأولى، وذهب الشافعية والإمام محمد بن الحسن إلى أنه يجب على التراخي، ذلك بالنسبة لحكمه، أما فضله فكثير نبينه فيما يلي :
فضل الحج :
يقول الله تعالى : (وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ)، وقد كثرت النصوص النبوية الشريفة في فضل الحج وعظيم ثوابه، نذكر من ذلك على سبيل المثال، ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) [رواه مسلم] .
وكذلك ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة, وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة) [رواه مسلم، والنسائي] ، وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (الحجاج والعمار وفد الله, إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم) [ابن ماجة والبيهقي في الشعب] وعنه أيضا : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي الأعمال أفضل ؟ فقال : إيمان بالله ورسوله, قيل : ثم ماذا ؟ قال : جهاد في سبيل الله, قيل : ثم ماذا ؟ قال : حج مبرور) [البخاري ومسلم].
هيئات الحج :
يؤدى الحج على ثلاث هيئات هي:
1- الإفراد : وهو أن يحرم الحاج بالحج فقط عند إحرامه، فيقول «لبيك اللهم حجًا» ثم يأتي بأعمال الحج وحده.
2- القران : وهيئته أن يحرم بالعمرة والحج جميعا, فيقول : «لبيك اللهم عمرة وحجًا» فيأتي بهما في نسك واحد. وقال الجمهور : إنهما يتداخلان, فيطوف طوافا واحدا ويسعى سعيًا واحدًا ويجزئه ذلك عن الحج والعمرة. وقال الحنفية : يطوف القارن طوافين ويسعى سعيين, طواف وسعي للعمرة, ثم طواف الزيارة والسعي للحج. ويجب على القارن أن ينحر هديًا بالإجماع.
3- التمتع : وهو أن يحرم بالعمرة فقط في أشهر الحج, فيقول : «لبيك اللهم عمرة» ويأتي مكة فيؤدي مناسك العمرة, ويتحلل. ويمكث بمكة حلالا, ثم يحرم بالحج ويأتي بأعماله. ويجب عليه أن ينحر هديا بالإجماع.
أركان الحج :
للحج أركان أساسية إذا ترك المسلم منها شيئًا بطل حجه، وأركان الحج ستة وهي :
1- الإحرام. 2- الوقوف بعرفة. 3- طواف الزيارة
4- السعي. 5- الحلق أو التقصير. 6- الترتيب بين الأركان.
وذلك عن الشافعية، أما عند الحنابلة والمالكية، فالأركان أربعة فقط دون الحلق أو التقصير والترتيب، وعند الأحناف ركنان فقط هما : الوقوف بعرفة، وطواف الزيارة.
1- الإحرام : وهو في اللغة الدخول في الحرمة. ومعناه الشرعي : نية الحج عند الجمهور، والنية مع التلبية وهي قول : لبيك اللهم - عند الحنفية. والإحرام ركن من أركان الحج عند الجمهور, وشرط من شروط صحته عند الحنفية.
2- الوقوف بعرفة : وهو أن يقف الحاج بأرض عرفة، ويبدأ وقت الوقوف بعرفة من زوال الشمس يوم عرفة - وهو تاسع ذي الحجة - ويمتد إلى طلوع الفجر الصادق يوم عيد النحر حتى لو وقف بعرفة في غير هذا الوقت كان وقوفه باطلا اتفاقا في الجملة . وقد أجمعوا على أن آخر وقت, وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة, ويسن ألا يدخل عرفة إلا بعد الزوال, وبعد أن يجمع الظهر والعصر تقديمًا, فيقف بعرفة مراعيا أحكامه وسننه وآدابه, ويستمر إلى غروب الشمس, ولا يجاوز عرفة قبله, ويتوجه إلى الله في وقوفه خاشعا ضارعا بالدعاء والذكر والقرآن والتلبية، ويسقط الفرض بالوقوف في تلك المدة زمنًا يسيرًا، وما ذكر أفضل.
3- طواف الزيارة أو الإفاضة : هو طواف يؤديه الحاج بعد أن يفيض من عرفة ويبيت بالمزدلفة, ويأتي منى يوم العيد، فيرمي، وينحر، ويحلق، ثم بعد ذلك يفيض إلى مكة فيطوف بالبيت، وسمي طواف الزيارة؛ لأن الحاج يأتي من منى فيزور البيت ولا يقيم بمكة, بل يرجع ليبيت بمنى. ويسمى أيضا طواف الإفاضة؛ لأن الحاج يفعله عند إفاضته من منى إلى مكة.
وعدد أشواط الطواف سبعة, ويجب المشي في الطواف على القادر عليه عند الجمهور, وهو سنة عند الشافعية. ويشترط فيه أن يكون مسبوقًا بإحرام، ومسبوقًا بالوقوف بعرفة، ويبدأ وقت طواف الإفاضة بعد منتصف ليلة النحر، لمن وقف بعرفة، ولا حد لآخره.
4- السعي : هو مشي الحاج بين جبل الصفا وجبل المروة، وهو السعي بين الصفا والمروة ويشترط فيه سبق الإحرام، وأن يسبقه الطواف، وأن يبدأ السعي بالصفا فالمروة، فلو عكس يلغي الشوط واحتسب من عند الصفا. وركن
حثنا ربنا سبحانه وتعالى على اللجوء إليه ودعاءه في الشدة والرخاء، وأخبرنا بأنه سبحانه قريب مجيب، وطلب منا أن نكون مخلصين له في الدعاء وأن ندعوه خوفا وطمعا، وتضرعا وخفية، ودلنا على مفاتيح الدعاء وهي أسماءه الحسنى، كل ذلك ورد إلينا عبر نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة فمن القرآن ما يلي :
قوله تعالى : ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة :186]. وقال تعالى : ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّى بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ [الأعراف :29]. وقال سبحانه : ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف :55]. وقال عز وجل : ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف :56] وقال سبحانه وتعالى : ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف :180]. وقال تعالى : ﴿قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَئَابِ﴾ [الرعد :36]. وقال سبحانه : ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى﴾ [الإسراء :110]. وكذلك قوله: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ﴾ [غافر :14]. وقوله تعالى : ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر :60]. وقوله عز وجل : ﴿هُوَ الحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾ [غافر :65].
وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في سنته بأن الله سبحانه يستحي أن يرد العبد خائبا بدعائه، وأن الدعاء من أكرم العبادات عليه سبحانه، وأنه تعالى يستجيب الدعاء، وأنه يحب أن يسأل، وذلك في مجموعة من الأحاديث نذكر منها قوله صلى الله عليه وسلم : «إن الله حيي كريم، يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين» [رواه أبو داود، وابن حبان]. وقال صلى الله عليه وسلم : « ليس شيء أكرم على الله عز وجل من الدعاء » [رواه أحمد]، وقال صلى الله عليه وسلم : « ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم » [أخرجه الحاكم في المستدرك، والطبراني في الأوسط]، وقال صلى الله عليه وسلم : « سلوا الله تعالى من فضله, فإنه تعالى يحب أن يسأل, وأفضل العبادة انتظار الفرج » [رواه الترمذي، والطبراني في الكبير]. وقوله صلى الله عليه وسلم : « إن الدعاء هو العبادة، ثم قرأ ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي » [رواه أحمد والترمذي]
فما هو الدعاء ؟ الدعاء في معناه اللغوي هو مصدر دعوت الله أدعوه دعاء ودعوى , أي ابتهلت إليه بالسؤال ورغبت فيما عنده من الخير . وهو بمعنى النداء يقال : دعا الرجل دعوا ودعاء أي : ناداه , ودعوت فلانا صحت به واستدعيته , ودعوت زيدا ناديته وطلبت إقباله . ودعا المؤذن الناس إلى الصلاة فهو داعي الله , والجمع : دعاة وداعون. ودعاه يدعوه دعاء ودعوى : أي : رغب إليه , ودعا زيدا : استعانه , ودعا إلى الأمر : ساقه إليه.
وهو أن تُميل الشيءَ إليك بصوت وكلام يكون منك، وأصله دعاوٌ؛ لأنه من دعوت, إلا أن الواو لما جاءت متطرّفة بعد الألف هُمزت، ثمّ أقيم هذا المصدر مقام الاسم ـ أي: أطلق على واحد الأدعية ـ، كما أقيم مصدر العدل مقامَ الاسم في قولهم: رجلٌ عدلٌ، ونظير هذا كثير
أما معناه في اصطلاح أهل الشرع : هو الكلام الإنشائي الدال على الطلب مع الخضوع , ويسمى أيضا سؤالا. قال الخطابي: «معنى الدعاء استدعاءُ العبدِ ربَّه عزَّ وجلَّ العنايةَ، واستمدادُه منه المعونةَ. وحقيقته: إظهار الافتقار إلى الله تعالى، والتبرُّؤ من الحول والقوّة، وهو سمةُ العبودية، واستشعارُ الذلَّة البشريَّة، وفيه معنى الثناء على الله عزَّ وجلَّ، وإضافة الجود والكرم إليه» [شأن الدعاء ص 4]
والدعاء مستحب في الأصل وقد يجب أحيانا، قال النووي : «إن المذهب المختار الذي عليه الفقهاء والمحدثون وجماهير العلماء من الطوائف كلها من السلف والخلف أن الدعاء مستحب.
وقد يكون الدعاء واجبا كالدعاء الذي تضمنته سورة الفاتحة أثناء الصلاة. وكالدعاء الوارد في صلاة الجنازة, وكالدعاء في خطبة الجمعة عند بعض الفقهاء فهو حينئذ جزء من العبادة.
وللدعاء آداب ينبغي للمسلم أن يتحلى بها ويتحرى إصابتها ومنها : أن يكون مطعم المسلم ومسكنه وملبسه من حلال الرزق لا حرام فيه، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم :
آداب الدعاء
أ - أن يكون مطعم الداعي ومسكنه وملبسه وكل ما معه حلالا . بدليل ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أيها الناس : إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا, وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين, فقال تعالى : ﴿يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا﴾ وقال تعالى : ﴿يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء, يا رب, يا رب, ومطعمه حرام, ومشربه حرام, وملبسه حرام, وغذي بالحرام, فأنى يستجاب لذلك» [رواه مسلم في صحيحه]
ومن الآداب كذلك أن يتحرى المسلم الأزمان الفاضلة، والأماكن الفاضلة والأحوال الفاضلة في دعاءه فذلك أرجى للإجابة وأكثر بركة في الدعاء، ومن هذه الأزمان والأماكن والأحوال كدعاء ليلة القدر، وجوف الليل الآخر، ووقت السحر، ودبر الصلوات المكتوبات، وبين الأذان والإقامة، وعند الآذان، عند نزول المطر، عند زحف الصفوف في سبيل الله، وساعة من يوم الجمعة وهي على الأرجح آخر ساعة من ساعات العصر قبل الغروب، وعند شرب ماء زمزم، وفي السجود في الصلاة، وعند صياح الديك، وبعد زوال الشمس قبل الظهر، والدعاء عند المريض، والدعاء بعد الثناء على الله والصلاة على النبي صلى الله علية وسلم، و عند دعاء المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب، ودعاء يوم عرفه في عرفه، والدعاء في شهر رمضان، ودعاء المظلوم علي من ظلمه، دعاء الصائم حتي يفطر، ودعاء الصائم عند فطره، ودعاء المسافر، ودعاء المضطر، ودعاء الإمام العادل، والدعاء في الطواف وعلى الصفا وداخل الكعبة، والدعاء على المروة، والدعاء فيما بين الصفا والمروة، والدعاء في الوتر من ليالي العشرة الأواخر من رمضان، والدعاء في العشر الأول من ذي الحجة، والدعاء عند المشعر الحرام.
وذلك لكثير من الأدلة نذكر بعضها، كقوله صلى الله عليه وسلم : «ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول : من يدعوني فأستجيب له, من يسألني فأعطي , من يستغفرني فأغفر له» [رواه البخاري ومسلم].
ولقوله صلى الله عليه وسلم : «تفتح أبواب السماء، ويستجاب دعاء المسلم، عند إقامة الصلاة، وعند نزول الغيث، وعند زحف الصفوف، وعند رؤية الكعبة» [رواه الطبراني في الكبير] وروي عن أبير هريرة موقفا، وقوله صلى الله عليه وسلم : «لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة» [رواه أبو داود]. وقوله صلى الله عليه وسلم : «الصائم لا ترد دعوته» [رواه أحمد في مسنده] وقوله صلى الله عليه وسلم : «الإمام العادل لا ترد دعوته» [رواه أحمد في مسنده]
ومن آداب الدعاء كذلك أن يدعو مستقبل القبلة ويرفع يديه بالدعاء، فروى أنس «أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء حتى يرى بياض إبطي» [رواه البخاري ومسلم] ومن آداب الدعاء أن يمسح بيديه وجهه في آخر الدعاء. قال عمر رضي الله عنه : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مد يديه في الدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه» [رواه الترمذي في سننه والحاكم في المستدرك.
ومن الآداب أن يتجنب رفع بصره إلى السماء، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : «لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء أو لتخطفن أبصارهم» [رواه النسائي في سننه]
ومن الآداب أيضا إخفات الصوت في الدعاء والاعتدال بين المخافتة والجهر لقوله عز وجل : ﴿ ادعوا ربكم تضرعا وخفية﴾ [الأعراف :55] , ولما روي أن أبا موسى الأشعري قال : «قدمنا مع رسول الله فلما دنونا من المدينة كبر, وكبر الناس ورفعوا أصواتهم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا أيها الناس : اربعوا على أنفسكم, إنكم ليس تدعون أصم ولا غائبا, إنكم تدعون سميعا قريبا , والذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم» [رواه البخاري ومسلم]، وقد أثنى الله عز وجل على نبيه زكريا عليه السلام حيث قال : ﴿إذ نادى ربه نداء خفيا﴾ [مريم : 3].
ومن الآداب أن لا يتكلف السجع، فلا يهتم بشكل الدعاء والموسقى الصوتية فيه فهذا كل من الشكليات التي تذهب بحقيقة الدعاء، وذلك لما رود عن ابن عباس : «وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه , فإني عهدت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفعلون إلا ذلك» [رواه البخاري]
ومن الآداب كذلك أن يجزم المسلم في الدعاء ويوقن بالإجابة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت, اللهم ارحمني إن شئت, ليعزم المسألة فإنه لا مستكره له» [رواه البخاري ومسلم] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء» [رواه ابن حبان في صحيحه] وقال صلى الله عليه وسلم : «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة, واعلموا أن الله عز وجل لا يستجيب دعاء من قلب غافل» [رواه أحمد في مسنده والترمذي في سننه].
وعن سفيان بن عيينة : «لا يمنعن أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه, فإن الله عز وجل أجاب دعاء شر الخلق إبليس لعنه الله إذ ﴿قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين﴾. ومن الآداب كذلك الإلحاح في الدعاء وتكراره ثلاثا، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : «كان عليه الصلاة والسلام إذا دعا دعا ثلاثا, وإذا سأل سأل ثلاثا» [رواه مسلم في صحيحه]
ومن الآداب كذلك أن لا يستبطئ الإجابة، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل, يقول قد دعوت فلم يستجب لي. فإذا دعوت فاسأل الله كثيرا فإنك تدعو كريما» [رواه البخاري ومسلم]
ومن الآداب أن يفتتح الدعاء بحمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لما ورد عن فضالة بن عبيد قال : «سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم : «عجل هذا ثم دعاه, فقال له أو لغيره : «إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثنا , ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بما شاء» [رواه أبو داود في سننه والترمذي في سننه والحاكم في المستدرك].
ومن الآداب كذلك جعل الثناء عليه سبحانه والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في آخر الدعاء وذلك لقوله تعالى ﴿وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين﴾ [يونس :10]، وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فتكون في أوسط الدعاء كذلك وفي آخره، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : «لا تجعلوني كقدح الراكب يجعل ماءه في قدحه فإن احتاج إليه شربه, وإلا صبه, اجعلوني في أول كلامكم وأوسطه وآخره» [رواه البيهقي في شعب الإيمان].
وقد يتوهم بعض الناس التعارض بين نفاذ القدر والدعاء، فلا ينبغي للمسلم توهم التعارض بين نصوص الشرع الشريف، فالشرع جاء بحتمية الإيمان بالقدر، وجاء بالحث على الدعاء، وذلك لأن الدعاء عبادة لها أثرها العظيم، والقضاء أحد أركان الإيمان.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدع الدعاء قط, فكم رفعت محنة بالدعاء, وكم من مصيبة أو كارثة كشفها الله بالدعاء، ومن ترك الدعاء فقد سد على نفسه أبوابا كثيرة من الخير. وقد قال الغزالي في هذا الشأن : فإن قلت : فما فائدة الدعاء والقضاء لا مرد له ؟ فاعلم أن من القضاء رد البلاء بالدعاء, فالدعاء سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة, كما أن الترس سبب لرد السهام, والماء سبب لخروج النبات من الأرض, فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان, فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان. وليس من شرط الاعتراف بقضاء الله تعالى ألا يحمل السلاح.
فإذا فهم المسلم عن الله تلك الدقائق وتحرى آداب الدعاء وصدق في اللجوء إلى الله، قبله الله واستجاب له دعاءه، نسأل الله أن يستجيب لنا وأن يقبلنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
علمنا في المقالة السابقة أن الإسلام وضع أسس الرحمة والرأفة بالحيوان وطبقها المسلمون في حضارتهم وثقافتهم عبر العصور، وفصلنا الرد على وهم الواهمين الذين يظنون أن أمر الله بذبح الحيوان مأكول اللحم من قبيل التعذيب، وأن الرحمة في ظنهم هي بتعريضه للصعق الكهربائي أو الضرب على الرأس بآلة.
يقول تعالى : ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾ [ الكوثر :1 : 3] لو لم نقيد أنفسنا في تدبر هذه السورة بأسباب النزول، فإن هذه السورة ستكون بيننا وبينهم إلى يوم الدين، فإن الذين يبغضوننا من أجل أننا نصلي لربنا، وننحر له سبحانه، ونطعم الفقراء والمساكين، فإن بيننا وبينهم الشنآن أن ندعوهم بأنهم هم الأقطع من الخير والأقطع عن الحق.
فكلام ربنا إرشاد للبشر إلى جادة الصواب والصراط المستقيم، فلا تحزن أيها المسلم بما يقولون ويسبون به الإسلام وأهله من أنه دين لا رحمة فيه، وأنه دين إرهاب، فلا تحزن وإن صدر ذلك من كبارهم وقيادتهم السياسية والدينية، وإن صدر ذلك بمن يسمى بابا الفاتيكان الذي استشهد بكلام الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني وهو لا يعارضه بعبارات تسيء للإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم وتتهمه بالإرهاب والشر.
فالمشركون من قبل آذوا رسولنا الكريم، وأرادوا إدخال الحزن على قلبه بكلامهم، فأرشدهم ربنا سبحانه وتعالى بأن عدوه هو الأبتر المقطوع ممحوق البركة.
وعندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذبح أضحيته وقد أوتي بكبشين أقرنين أملحين فقال : «إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، على ملة إبراهيم حنيفا، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين، اللهم منك ولك عن محمد وأمته باسم الله والله أكبر ثم ذبح» [رواه أبو داود في سننه].
فقبل ذبح الأضحية يقدم التوجه لله وحده والتوحيد له والإقرار بملة إبراهيم عليه السلام، ويؤكد أن الأعمال كلها لا تنصرف إلا لله، فيذبح الأضحية تقربا إلى الله سبحانه وتعالى، بكلام يوضح إذن الله لنا في ذبح هذا الحيوان للانتفاع به بالأكل والإطعام والإهداء.
ولا ينبغي أن يعترض على الله، فليس من وظيفة العقول الاعتراض على الخالق وإنما محاولة فهم حكم الخالق، فإن عجزنا فهم بعض الحكم لقصور في عقلنا، ويؤمنون بأن ذلك كله من الله فيسلمون له، وذلك شأن أصحاب العقول السليمة، يقول تعالى : ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِى العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران :7]، ويطلب العلم والفهم من الله شأن الملائكة الكرام حيث قالوا : ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ﴾ [البقرة :32].
هناك آداب يتحلى به من أراد ذبح الأضحية، منها : أنه إذا بدأ ذو الحجة لا يقلم أظفاره ولا يحلق رأسه تشبه بالحجيج، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «من أراد أن يضحى فلا يقلم أظفاره ولا يحلق شيئا من شعره ي العشر من ذي الحجة» [رواه ابن حبان في صحيحه].
والتشبه بالحجاج والمحرمين يشبع شيئا من أشواق المشتاقين إلى زيارة البيت الحرام، ومن شعر بالشوق يدرك ذلك الكلام، فمن زار تلك البقاع المقدسة يشعر بالشوق إليها ويحن للطواف بالبيت العتيق وزيارة روضة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وأن يأنس بالوقوف في تأدب وسلام ومحبة للحبيب صلى الله عليه وسلم ويتمثل قول القائل :
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه |
** |
فطاب من طيبهن القاع والأكم |
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنـه |
** |
فيه العفاف وفيه الجود والكرم |
فإن كنت أيها المسلم لم تدخل في دور الاشتياق إلى الله ورسوله وزيارة تلك الأماكن التي هي محل نظر الله وزيارة هذا القبر المعظم المفخم الذي ضم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قلبك في هذه الأيام يريد أن يطير بلا جناحين إلى هناك فعليك أن تتباكى إذا لم تبك, وعليك أن تطلب الشوق إذا لم تكن مشتاقا.
واعلم أن هذا الذي يقوله لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو لتسكين الأشواق وشدة الغرام بالبلد الحرام، فهو لضبط النفس والوصول بها إلى الميزان الذي أنزله الله مع أنبيائه ودل الله الخلق عليه، قال تعالى : ﴿اللَّهُ الَّذِى أَنزَلَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ [الشورى :17] لم يقل الله الذي أنزل على أنبيائه أي إلى أنبيائه، بل قال الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان، وكأنهما نزلا بالحق لكل البشر فلا يختصا بنبي ولا ولي إنما، وهما يمثلان الحكمة وهي القدرة على السير في طريق قويم بين الإفراط والتفريط، قال تعالى : ﴿يُؤْتِى الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [البقرة :269]
فالكتاب للنظر والميزان للعمل، وفقد الميزان يذكرنا بقول بعض السفهاء بأنه يريد أن يكون الحج في كل أيام أشهر الحج، وأتوا به في وسال الإعلان، فرأيناهم يهرفون بما لا يعرفون، ويخرج عن ملة الإسلام وهو لا يدري.
فلا يصح أن يطلق الإنسان عقله الكاسد، وجهله السائد لتفسير القرآن الكريم فيخرج لنا بكلام عجيب غريب، يضحك ويبكي.
إن الفصل بين حرية البحث العلمي للوصول إلى صحيح المعرفة، وبين تقييد الاستعمال للوصول للمحافظة على الثوابت العلمية وعمارة الكون، فإنه أمر قد اختلط على كثير من الناس مع وضوحه وتأكده؛ لذا قد وجب علينا التنبيه على بعض الحقائق.
من هذه الحقائق أن العلوم لها صورة كلية تتمثل في عملية متكاملة من التعليم لإدراك المعلومات، والتربية لإقرار القيم، والتدريب لتنمية الملكات، وأن هذا كل لا يتجزأ أو لو تجزأ لفقدنا (دليل التشغيل) إن صح التعبير، وفقد دليل التشغيل يوقع في حيرة واضطراب، ويبدو أننا قد فقدنا دليل التشغيل هذا في كثير من جوانب حياتنا ليس العلمية فقط، بل أيضًا السياسية والاجتماعية والدينية.
ومنها أيضا وجود فارق بين الدين - وهو علم - وبين التدين - وهو سلوك ومجال ، والدين الذي هو علم له مصادره ومنهجه وقواعده، والعملية التعليمية لها أركانها التي يجب أن تكتمل بعناصرها الخمسة الطالب والأستاذ والمنهج والكتاب والجو العلمي ويحتاج إلى تخصص وتفرغ ، شأنه شأن سائر العلوم.
أما المجال فهو قابل للمناقشة والأخذ والرد كالفنون والرياضة والحزبية والصحافة ونحوها من المجالات المهمة ، أما جانب العلم من هذه المجالات فليس محله المناقشة والأخذ والرد والرأي والرأي الآخر ، بل هذا مكانه الأكاديميات التي تتخصص فيه.
وبمناسبة ذكر أشهر الحج ومسألة الأضحية نذكر تلك الأزمة السلوكية الفكرية التي تلم بالأمة في كل موسم حج، وهي أزمة رمي الجمرات الأزمة، وهي أزمة تبدأ في الفكر الفقهي الذي يأبى الاجتهاد ويجهله، والاجتهاد هو بذل الوسع في فهم النصوص الشرعية لاستنباط الأحكام منها، ولقد ركد الفكر الفقهي، وركن إلى التقليد وإلى الاكتفاء بفقه الأوراق دون رغبة في دراسة الواقع، وهو أمر جد خطير ليس فقط في حدوث مثل هذه الحوادث، بل إنه خطير أيضًا من الناحية الدينية التي ترى في هذا التصرف نوعًا من الضلال والإثم أن ينظر أحدهم إلى ما سطر في الكتب فيوقعه في فتاويه من غير نظر إلى الواقع الذي يفتي فيه.
ويقول القرافي في كتابه الفروق: «والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين، والسلف الماضين»([1])، وهو يؤيد ما سطره ابن تيمية في كيفية الفتوى من وجوب إدراك الواقع، وأن الفتوى مبنية (على أصلين: أحدهما: المعرفة بحالهم، والثاني: معرفة حكم الله في مثلهم([2])، فالمعرفة بالحال جزء لا يتجزأ من الفتوى.
إن الرمي بعد الزوال ليس محل اتفاق أو إجماع بين العلماء، وعلى ذلك فهو من المسائل المجتهد فيها التي يجوز لنا أن نفهم النص لتحقيق مصلحة الواقع، وليس في هذه المسألة نص بذاتها، بل إنه مأخوذ من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم»([3]) مع أنه قد رمى الجمرة عند الزوال قبل الصلاة.
وهذا العموم مع ذلك الفعل لا يدل على الوجوب الذي ذهب إليه كثير من العلماء عبر التاريخ، فالمناسك منها ما هو ركن كالوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة والسعي، ومنها ما هو ركن وفيه خلاف في ركنيته كالحلق والتقصير لشعر الرأس، ومنها ما هو واجب لو فاته في الحج بعذر فلا إثم عليه ويجب عليه أن يذبح ذبيحة لله، ولو تركه بغير عذر فهو آثم، ويذبح نفس الذبيحة أيضًا، ومنها ما هو سنة أو هيئة من سنن أو هيئات الحج تاركها لا إثم عليه ولا ذنب، فالقول بالوجوب استدلالا بعموم ذلك الحديث محل نظر واجتهاد منذ القديم، والتمسك بهذا الفهم مع هذه الحالة الموجودة نوع من أنواع الضلالة كما يقول القرافي رحمه الله تعالى.
كما أنه ليس معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» أن كل هذه الهيئات من أركان الصلاة، بل ولا أن تركها يستوجب إثمًا، ولكن الإثم الصحيح هو أن يشتغل بهذه الهيئات حتى يذهب خشوعه، وحتى تصير الصلاة مجرد شعيرة ظاهرية لا علاقة لها بأن يترك الفحشاء أو المنكر التي يمارسها خارج الصلاة، فتفقد الصلاة بهذا الاهتمام الزائد هدفها ومراد الله فيها.
وكذلك واجب الرمي، له هيئة في الزمان لا تجعلنا نهلك أنفسنا، ولم يأمرنا الله بذلك، بل أمرنا بخلافه فقال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ([4])، وقال: { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ([5])، وقال: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ([6]).
فإذا انضم إلى ذلك أن الحج بُنِيَ على التيسير، فلم يُسأل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قُدِّم أو أُخِّر إلا قال: «افعل ولا حرج»([7])، ولم يُسأل عن شيء فيه عذر من تأخير في الزمان أو ضيق في المكان، أو حال اعترت من حج معه إلا وقد أباح له ذلك، فأين هذا من عقلية قد أغلقت نفسها على الأوراق فضاع من ضاع بسببها.
وفي مساعي تفادي وقوع حوادث في رمي الجمرات أقر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف بعض الحلول لتفادي وقوع حوادث مماثلة لحادث التدافع الذي وقع في أثناء رمي الحجاج للجمرات في منى في موسم الحج عام 1424هـ، الموافق بداية فبراير عام 2004م، حيث أرسلت لجنة تابعة لمجمع البحوث خطابًا باسم الأزهر إلى وزير الحج السعودي ومفتي السعودية، وتم إرسال ذلك الخطاب فور موافقة المجمع في جلسته الأخيرة في 24 مارس 2004م على تفويض شيخ الأزهر في إعداد ذلك الخطاب الذي يشمل اقتراحات طرحها أعضاء المجمع.
وقد افتُتح ذلك الخطاب بالنص التالي: «من منطلق التعاون الصادق والإخاء بين علماء المسلمين في أمور دينهم، وحرصًا على سلامة الحجاج، يتقدم مجمع البحوث الإسلامية بمقترحات حتى لا يتكرر الحادث الذي ألم بضيوف الرحمن في ساحة الرمي بموسم الحج هذا العام».
وكانت أولى تلك المقترحات ما نصه: «التوسع في إباحة زمن رمي الجمرات في جميع الأيام الخاصة به، بحيث يكون الرمي 24 ساعة في كل يوم من هذه الأيام نظرًا للزحام الشديد الذي يحدث كل عام خلال أداء الحجاج لهذه الشعيرة، ويترتب عليه في الغالب عنت شديد يلم بهم، وضرر عظيم للضعفاء قد يصل إلى الموت، خاصة أنه من المعلوم من الدين بالضرورة أن من أهم أسباب مشروعية الحج المحافظة على النفس وإحياءها، ومنع الضرر والهلاك عنها، وبذلك تكون كل مناسك الحج - بما فيها رمي الجمار - محققة للغرض الذي شرع له الحج، ومؤكدة لحكمة مشروعيته، وهو إحياء النفس، وعليه فلا يتصور أبدًا أن تكون مناسك العبادة التي شرعت لإحياء النفس سببًا في هلاكها، ولذلك فإن بعض الفقهاء من المسلمين - قديمًا وحديثًا - صرحوا بجواز الرمي في أي وقت».
كما تضمن ذلك الخطاب مقترحًا آخر كان نصه: «ضرورة الإنابة في الرمي للنساء وغير القادرين عن طريق نشر الوعي بين الحجيج بأن من الخير للنساء وغير القادرين أن يوكلوا غيرهم من الرجال والقادرين لرمي الجمرات عنهم حتى لا يتعرضوا للضرر والزحام الشديد».
ونص كذلك على: «العمل بمبدأ التعاقب في الرمي أيام التشريق الثلاثة بمنى، وذلك بتفويج الحجيج وتقسيمهم، مع الجمع بحيث يجمع رمي يومين في يوم واحد لكل طائفة مع مراعاة الترتيب خاصة أنه لا حرج في ذلك شرعًا؛ لأن أيام التشريق كلها زمان واحد للرمي».
وختم ذلك الخطاب اقتراحاته بالإشارة إلى حلول أخرى غير فقهية، وكان نصه في ذلك الشأن: «إن هناك تيسيرات أخرى تتعلق بجوانب هندسية من حيث توسيع الأماكن المخصصة للرمي وهي متروكة للسلطات في المملكة العربية السعودية؛ لأن أهل مكة أدرى بشعابها».
([1]) «الفروق» للقرافي (1/ 177- 178).
([2]) «مجموع الفتاوى» (28/ 510).
([3]) هذا اللفظ أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (5/ 125) حديث (9307) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، وأخرج مسلم في «صحيحه» في كتاب «الحج» باب «استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا» حديث (1297) نحوه من حديث جابر أيضًا يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم r يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: «لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه».
([4]) من الآية 195 من سورة البقرة.
([5]) من الآية 29 من سورة النساء.
([6]) من الآية 151 من سورة الأنعام.
([7]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب «الحج» باب «الفتيا على الدابة عند الجمرة» حديث (1736)، ومسلم في كتاب «الحج» باب «من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي» حديث (1306) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما.
نحن في أيام مباركات وأشهر معلومات فرض فيهن الله سبحانه وتعالى زيارة بيته الأعز الأكرم بيت الله الحرام، وذكر المسلمين في كافة أركان الأرض ممن لم يزوروا ولم يعتمروا أو حبسهم حابس أو حال صرفهم أن يصلوا إلى البيت الحرام فأمرهم بأن يعيشوا معيشة الحجاج وأن يهرقوا الدم فليس هناك عمل أحب إليه في ذلك اليوم في –يوم عيد الأضحى- من أن يهراق الدم في سبيله وله ولوجهه خالصا من دون الناس إعلانا للتوحيد.
فالذبح لا يكون إلا لله والأضحية لا تكون إلا لله، والنذر بها لا يكون إلا لله، فهو حده الذي يستحق العبادة، والأضحية توزع في الفقراء، وتوزع في المساكين لوجه الله، ويوهب ثوابها لفلان وعلان إنما هي لوجه الله.
وقد يظن بعضهم أن الذبح للحيوان يتعارض مع الرفق والرحمة به، فهل الإسلام أمر بالرفق بالحيوان في نصوصه الشرعية ؟ وهل نفذ المسلمون ذلك في حضارتهم ؟ لقد اهتم الإسلام بالحيوان وأكد على ضرورة التعامل معه بالرأفة والرحمة فهو مسخر للبشر، وغير قادر على التعبير عن احتياجاته وآلامه ولذلك كان الاهتمام به أكبر.
فنرى رسول الله صلى الله عليه ويسلم ينهى عن قتل العصفور، فقال : «ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها بغير حق إلا سأله الله عز وجل عنها» [رواه النسائي]. ويبين أن الإساءة للحيوان وتعذيبه والقسوة معه تدخل الإنسان في عذاب الله، ونار جهنم والعياذ بالله، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : «دخلت امرأة النار في هرة حبستها ولا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» [رواه البخاري ومسلم]
وجعل الإسلام دخول الجنة جزاء للرفق بالحيوان، وأن الرفق به قد يكون سببا في تجاوز الله عن كبائر وقع فيها الإنسان، فقال صلى الله عليه وسلم : « بينما كلب يطيف بركية كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فسقته فغفر لها به» [رواه البخاري ومسلم]
وقال صلى الله عليه وسلم «بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خُفَّهُ ثم أمسكه بفيه فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له» قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ فقال: «نعم، في كل ذات كبد رطبة أجر» [رواه البخاري ومسلم].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تفرش فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها» [رواه أبو داود]
فالإسلام حرم قتل الحيوان جوعاً أو عطشاً، وحرّم المكث على ظهره طويلاً وهو واقف، وحرّم إرهاقه بالأثقال والأعمال الشاقّة، وحرّمت الشريعة التلهّي بقتل الحيوان، كالصيد للتسلية لا للمنفعة، واتخاذه هدفاً للتعليم على الإصابة، ونهى الإسلام عن كي الحيوانات بالنار في وجوهها للوسم، أو تحريشها ببعضها بقصد اللهو، وأنكر العبث بأعشاش الطيور، وحرق قرى النمل.
وقد أوجب الإسلام نفقة مالك الحيوان عليه، فإن امتنع أجبر على بيعه، أو الإنفاق عليه، أو تسييبه إلى مكان يجد فيه رزقه ومأمنه، وإذا لجأت هرّة عمياء إلى بيت شخص وجبت نفقتها عليه حيث لم تقدر على الانصراف.
ولم يعاقب المسلمون الحيوان بما جنى على غيره، وإنما عاقبوا صاحبه إذا فرّط في حفظه وربطه، ومنعوا أن يؤجّر الحيوان لمن عرف بقسوته على الحيوان، خشية أن يجور بقسوته وغلظته عليه.
ورعى الإسلام الحالة الصحية للحيوانات وأمر بالجر الصحي عند انتشار الأوبئة والأمراض المعدية للحفاظ على باقي الحيوانات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يوردن ممرض على مصح، وإن الجرب الرطب قد يكون بالبعير، فإذا خالط الإبل أو حككها، أو أوى إلى مباركها، وصل إليها بالماء الذي يسيل منه» .
وقد حول المسلمون الرحمة بالحيوان في حضارتهم إلى واقع معيش فأنشئوا مساقي الكلاب؛ وفي العصر المملوكي، وبالتحديد في تكية محمد بك أبو الذهب بنيت صوامع للغلال لتأكل منها الطير، وأنشأوا مبرات للبيطرة وصيروها علما لتخفيف الألم عن الحيوان.
مما سبق يتضح لنا أن الإسلام أحاط الحيوان بالرافة والرحمة، فكيف يمكننا الجمع بين الرحمة والرأفة بالحيوان، وبين الأمر بذبحه تقربا إلى الله سبحانه وتعالى ؟
هناك اتفاق بين البشر على منفعة أكل لحوم الحيوانات مأكولة اللحم [الجمال-البقر-الماشية-الأرانب] أو الطيور [الدجاج-الأوز-البط-الحمام]، ولا يعقل أن يأكل الناس هذه الحيوانات والطيور وهي حية فلابد من قتلها.
إذن فإن عقلاء البشر يتفقون على ضرورة قتل الحيوان للاستفادة من منفعته التي خلقها الله، وجاء الإسلام يإذن للبشر في ذلك، إلا أنه حدد وسيلة ذلك القتل إلا وهو الذبح، وغير المسلمين من أصحاب الدعوات الحديثة يرون أن قتل الحيوان بالذبح تعذيب له، ويرون أنه من الرحمة قتله بالصعق الكهربائي، أو الضرب على رأسه..
وهذه الدعوة الحديثة والتي جاءت عبر جميعات الرفق بالحيوان والذي أنشئت أول ما أنشئت ببريطانيا سنة 1829م، رفضها اليهود في إنجلترا وغيرها من البلاد، إلا أن وسائل الإعلام لا تذكر ذلك كثيرا، وتحاول أن تهم الناس أنه لا يعارض هذه الدعوة غير المسلمين، ربما لتأكيد النظرة المعادية للإسلام التي تتهمه بالعنف والإرهاب!
في بداية إبريل سنة 2004 ذكرت البي بي سي أن تقرير مجلس رعاية الحيوان أثار غضب الجالية اليهودية في بريطانيا، وذكرت أن هناك منظمة تدعى سيخيتا بريطانيا لزيادة الوعي «بالطريقة اليهودية الدينية الإنسانية لإعداد الماشية للطعام» التي تسمى بطريقة السيخيتا. وقال هنري جرونوولد -الذي يرأس منظمة سيخيتا ومجلس نواب اليهود البريطانيين- إن الحكومة لم تنشر أدلة تثبت أن الحيوانات تتعذب بالذبح بهذه الطريقة، وقال : بالعمل البناء مع الحكومة، سنوضح أن طريقة السيخيتا رحيمة تماما ولا يمكن العدول عنها.
إذن يتفق المسلمون مع اليهود في عدم جواز قتل الحيوان لأكله إلا عن طريق الذبح، فينبغي أن يكون الإنكار على من يقر الذبح يشمل اليهود كذلك.
والعجيب أنهم يصعقون الحيوان بالكهرباء، ويصوبونه بالطلق الناري، ويضربونه بالآلات الحديدية على أم رأسه حتى يخر ميتاً، بل وتسلخ جلود الحيوانات وهي لم تمت، ويزعمون أن في كل ذلك رحمة بالحيوان.
ويتساءل الإنسان هل هناك فرق من الناحية الصحية بين القضاء على الحيوان بالذبح أو بأي طريقة أخرى ؟ فمع اعتقادنا أن الذبح هو الوسيلة الشرعية للقضاء على الحيوان لأكله، وذلك لما ورد من الآيات القرآنية واتفق عليه علماء الإسلام، وإنما نذكر نتائج الأبحاث الطبية والأدلة العلمية ليزداد الإيمان واليقين، وييأس غير المسلمين من محاولة صدنا عن الالتزام بشريعتنا.
فذبح الحيوان وهو يسمى في الفقه الإسلامي بالذكاة الشرعية، ويعرفها الفقهاء بأنها هي عبارة عن قطع مخصوص [ما بين اللبة وهي أسفل العنق واللحية وهي شعر الذقن] لحيوان مباح الأكل بنية القصد لله وذكره عليه.
ولذلك فالمسلمون يرون أن أي حيوان يموت أو يقتل بغير الذبح هو ميتة يحرم أكلها، وقد ذكر القرآن أشكال من قتل الحيوان بغير ذبح كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، فقال تعالى : ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ والنطيحة وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. [المائدة: 3 ]
يقول القرطبي: «الميتة: ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يذبح, وما ليس بمأكول فذكاته كموته كالسباع وغيرها» [تفسير القرطبي]. وقال الألوسي في شأن تحريمة الميتة : «أي أكلها والانتفاع بها وأضاف الحرمة إلى العين مع أن الحرمة من الأحكام الشرعية التي هي من صفات فعل المكلف وليست مما تتعلق بالأعيان إشارة إلى حرمة التصرف في الميتة وهي التي ماتت من غير ذكاة شرعية من جميع الوجوه» [روح المعاني].
ويستنبط الأطباء العلاقة بين المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة باعتبارهم أشكال للحيوان الميت الذي يحرم أكله، فيرون أن القاسم المشترك الذي يجمع بين هو أن الدم بقي في جسمها.
ويقول الدكتور جون هونوفر لارسن - أستاذ قسم البكتريا في مستشفي غيس هوسبيتال – المستشفى الرسمي – اكبر مستشفيات كوبنهاجن- : «الميتة مستودع للجراثيم، ومستودع للأمراض الفتاكة، والقوانين في أوربا تحرم أكل الميتة.كما يقول: إن قوانيننا الآن تحرم أكل لحم الحيوان إذا مات مختنقاً. حيث اكتشفنا مؤخراً أن هناك علاقة بين الأمراض التي يحملها الحيوان الذي يموت مختنقاً وبين صحة الإنسان. حيث يعمل جدار الأمعاء الغليظة للحيوان كحاجز يمنع انتقال الجراثيم من الأمعاء الغليظة – حيث توجد الفضلات – إلى جسم الحيوان والى دمه طالما كان الحيوان على قيد الحياة. ومعلوم أن الأمعاء الغليظة مستودع كبير للجراثيم الضارة بالإنسان، والجدار الداخلي لهذه الأمعاء يحول دون انتقال هذه الجراثيم إلى جسم الحيوان، كما أن في دماء الحيوان جداراً أخر يحول دون انتقال الجراثيم من دم الحيوان، فإذا حدث للحيوان خنق فانه يموت موتاً بطيئاً».
إذن نعلم من ذلك أن في تحريم الدم حماية للإنسان، فتتجلى رحمة ربنا عند قراءة قوله : ﴿إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ .[الأنعام:145]. قال الشوكاني : «اتفق العلماء على إن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به».
وعلميا الدم هو هذا السائل الأحمر القاني الذي يتكون من أخلاط عديدة منها الخلايا الحمراء الممتلئة بمادة الهيموجلوبين التي تقوم بنقل الأكسجين إلى مختلف خلايا الجسم, والخلايا البيضاء التي تدافع عن الجسم ضد غزو حاملات الأمراض من الجراثيم والطفيليات, والصفائح التي تتحطم حول نزيف الدم من أجل تجلطه.
ويحمل الدم سموماً وفضلات كثيرة ومركبات ضارة، وذلك لأن إحدى وظائفه الهامة هي نقل نواتج استقلاب الغذاء في الخلايا من فضلات وسموم ليطرحه خارج الجسم عبر منافذها التي هيأها الله لهذا الغرض, وأهم هذه المواد هي: البولة وحمض البول والكرياتنين وغاز الفحم كما يحمل الدم بعض السموم التي ينقلها من الأمعاء إلى الكبد ليصار إلى تعديلها.
والأحكام الشرعية تؤثر في الروح وفي القلب وليس هناك انفصال بين دائرة الاعتقاد ودائرة الامتثال، فالاعتقاد هو الأساس، وهو ما وقر في القلب، ولكن لابد أن يصدقه العمل وهو الامتثال. وتأملت في تحريم الله علينا الدم والميتة ولحم الخنزير فوجدت أن تلك الأحكام أنشأت نفسية للمسلم يجعلها هي أبجديته التي يتعامل بها في حياته في جميع مناحيها السياسية، والاقتصادية، والحضارية، والفكرية، والاجتماعية، وغيرها. وظهر هذا في تاريخ المسلمين في كل بلادهم شرقا وغربا.
ولذلك لم نر المسلمين عبر تاريخهم يبيدون الشعوب، أو يستعمرون الناس استعمار هيمنة واستغلال، أو يدخلون البلاد لرفع الطغيان وصد العدوان فيحولونها إلى حمام دم يهون معه الطغيان ويرضى بإزاءه العدوان، ويتمنى الإنسان أن لم يأت ذلك المنقذ الذي اتضح منقذ خسيس من أجل أن يحرره، وأن يدافع عنه.
والسؤال الذي يثير الفكر ويدعو إلى التأمل هو ما الرابطة بين تحريم الدم والميتة واعتبار تسبيح الكون وسجوده، بين عمارة الدنيا وبين استباحة الدم والميتة وبين خراب الدنيا. تأمل. لعل الله أن يفتح عليك.
فتحريم الدم المسفوح ليس من أجل أنه يسبب ضررًا من ناحية الطب بقدر ما أنه يسبب ضررًا من ناحية الأخلاق، والتجرؤ على شكل الدم، وعلى رفع الحاجز النفسي بين الإنسان وبين سفك دماء البشر، وتحريم الخنزير كذلك، فإنه الحيوان الوحيد -كما يقال- الذي لا يغار على أنثاه، وهو أيضا تعود على أكل القاذورات بشكل أساسي.
ويحاول بعضهم -وقد يكون صادقا، وقد يكون غير دقيق- أن يربط بين التحريم وبين الضرر الجسدي، وأن يبحث في حكمة التحريم بالمسائل الطبية، إلا أن التحريم لا يقتصر على هذا الجانب، بل إنه يبني نفسًا، ويعمق شعورًا لدى الإنسان يساعده في نشاطه الاجتماعي، وفي عمارته للدنيا، ولذلك لا يقبل المسلم حلولاً لأزماته الكمية بتحليل الحرام، فقد يقترح بعضهم إذا ما وقع مجتمع ما في أزمة لحوم، أن يربي ذلك المجتمع الخنزير وأن يأكله، فالخنزير كثير التناسل، ونفقته قليلة، ويمكن أن يحل المشكلة بطريقة كمية، ولكن (سلطان الكم) ليس هو كل شيء في هذه الحياة.
ولقد كتب في هذا المعنى رينيه جينو (عبد الواحد يحيى رحمه الله تعالى) كتابه الماتع (سلطان الكم وعلامات الزمان) وهو في نسخته الإنجليزية (The Reign of Quantity & the Signs of the Times) وفيه يبين أن من سمات عصرنا سيطرة الكم على معيار التقويم، فأصبح الكم هو المسيطر على السوق وعلى الاستهلاك.
فلا تعارض بين الرحمة بالحيوان، والامتثال لأمر الله بذبحه للانتفاع الذي أذن الله به، ولتحقيق وظيفة هذا الحيوان في الكون التي خلقها الله من أجله، وهي أن يأكله الإنسان ليحدث التوازن البيئي الكوني. رزقنا الله الفهم عنه والامتثال لأمره وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
لقد حكم النساء بعض الأقطار الإسلامية في أزمنة مختلفة، وإن كانت لم تلقب امرأة في الإسلام باللقب «الخليفة»، ولكونها لقبت بألقاب دون ذلك منها : السلطانة، والملكة، والحرة وخاتون.
ويذكر التاريخ الإسلامي أن هناك أكثر من خمسين امرأة حكمن الأقطار الإسلامية على مر التاريخ بداية من ست الملك إحدى ملكات الفاطميين بمصر، والتي حكمت في بداية القرن الخامس الهجري؛ مروراً بالملكة أسماء والملكة أروى اللتين حكمتا صنعاء في نهاية القرن الخامس الهجري، وزينب النفزاوية في الأندلس، والسلطانة رضية التي تولت الحكم بدلهي في منتصف القرن السابع الهجري، وشجرة الدر التي تولت حكم مصر في القرن السابع كذلك، وعائشة الحرة في الأندلس، وست العرب، وست العجم، وست الوزراء، والشريفة الفاطمية، والغالية الوهابية، والخاتون ختلع تاركان، والخاتون بادشاه، وغزالة الشبيبة، وغيرهن كثير([1]).
فالمرأة في الإسلام كالرجل في أصل التكليف، وأصل الحقوق والواجبات وأن الاختلاف الذي بينهما في ظاهر الحقوق والواجبات من قبيل الوظائف والخصائص، وليس من قبيل تمييز نوع على آخر، فلا يعد اختلاف الوظائف والخصائص انتقاصًا لنوع.
فالمرأة تمتاز بخصائص فكرية وعاطفية وفسيولوجية، وتقوم بوظائف تناسب طبيعتها وتكوينها، فهي الزوجة التي تحمل الحياة، وهي الأم التي تربي المولود وترضعه وتحنو عليه، وهذه الوظائف تتناسب مع خصائصها الفكرية والعاطفية والفسيولوجية، في توافق مبهر مع طبيعة الحقوق التي تتميز بها، والواجبات التي تلزم بها في منظومة متكاملة، تبرز تميز كل نوع عن الآخر، كما تجعله متكاملا معه، مندمجا، ومكونًا معه أولى لبنات المجتمع وهي الأسرة.
ورغم وضوح الصورة إلا أن هناك عدة شبهات تثار دائما حول المرأة، وأن الإسلام يمارس ضدها أنواعًا من التمييز لصالح الرجل، فما هي أهم تلك الشبهات وكيف يرد الإسلام عنها ؟
سوف نجمل الحديث عن أهم تلك الشبهات التي تثار حول وضع المرأة في الإسلام والتي تتمثل في شبهة ظلم المرأة في الميراث، وشبهة انتقاص المرأة في نظام تعدد الزوجات، وشبهة حول نظام الطلاق في الإسلام.
أولا : شبهة ظلم المرأة في الميراث :
من هذه الشبه قضية عدم المساواة في الميراث كدليل على تحيز المسلمين ضد المرأة، وتبين أن التحيز ضد المرأة في قضية الميراث وهم ناتج من تعميم قاعدة ظنوها عامة، وهي تتعلق بحالات خاصة، وهي قاعدة أن للذكر مثل حظ الأنثيين، والتي أخذت من قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) [النساء :11] لأن هذه القاعدة تعلقت بأربع حالات فقط في نظام الميراث الإسلامي الذي هو نظام متكامل.
وباستقراء تلك مسائل الميراث وجدنا أن الحالات التي ترث المرأة مثل الرجل أكثر من عشرة حالات، والحالات التي ترث المرأة أكثر من الرجل تزيد على أربعة عشرة حالة، والحالات التي ترث المرأة ولا يرث الرجل خمس حالات، وفي المقابل أربع حالات يرث الرجل ضعف نصيب المرأة.
ونظام الميراث يعمل أيضًا مع نظم أخرى كنظام النفقة التي أوجبها الإسلام في جميع اتجاهاتها على الرجل، ويعمل أيضًا في ظل استقلال الذمة المالية للمرأة، مما يبرأه من شبهة التحيز في الذهن الغربي.
ثانيا : شبهة حول تعدد الزوجات :
ومن الشبهات كذلك أن في تعدد الزوجات انتقاص لمكانة المرأة وإهدار لحقوقها، ومن باب تصحيح المفاهيم وإرساء الحقائق يجب علينا أن نعلم أن الإسلام جاء بالحد من تعدد الزوجات ولم يأت بتعدد الزوجات كما يظن الآخرون، فعن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « اختر منهن أربعا »([2]). من هذا الحديث يظهر لنا أن الإسلام نص على الحد من كثرة عدد الزوجات، وفي المقابل لم يرد أمر لمن تزوج واحدة بأن يتزوج أخرى؛ وذلك لأن تعدد الزوجات ليس مقصودًا لذاته، وإنما يكون تزوج الرجل مرة أخرى لأسباب ومصالح عامة.
ولم يرد تعدد الزوجات في القرآن الكريم بمعزل عن أسبابه، فالله عز وجل قال : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ([3]) فالذين فسروا الآية الكريمة بشكل مغلوط، يفسرونها بمعزل عن السبب الرئيس الذي أُنْزِلَت لأجله، وهو وجود اليتامى والأرامل؛ إذ إن التعدد ورد مقرونا باليتامى؛ حيث قاموا بانتزاع قوله تعالى: { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } دون القول السابق، والذي صيغ بأسلوب الشرط {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} وكذلك دون القول اللاحق، والذي يقيد تلك الإباحة بالعدل حيث قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} .
فمن ذهب إلى القرآن الكريم لا يجد دعوة مفتوحة صريحة للتعدد دون تلك القيود التي أشرنا إليها، ومن ذهب إلى السنة فسيجد أن الإسلام نهى عن التعدد بأكثر من أربع نساء، وشتان بين أن يكون الإسلام أمر بالتعدد حتى أربع نساء، وبين أن يكون نهى عن الجمع بين أكثر من أربع نساء.
ونظام تعدّد الزوجات كان شائعًا قبل الإسلام بين العرب، وكذلك بين اليهود والفرس، والتاريخ يحدّثنا عن الملوك والسلاطين بأنّهم كانوا يبنون بيوتًا كبيرة تسع أحيانًا لأكثر من ألف شخص لسكن نسائهم من الحرائر والجواري.
وفي شريعة اليهود وفي قوانينهم - حتى الآن- يبيحون تعدد الزوجات، ولا يجرؤ أحد أن يهاجمهم في عقيدتهم ودينهم وشرعهم.
والغريب أن الذين يحاربون نظام الإسلام في السماح للرجل بالزواج مرة أخرى -في ظروف معينة ولمصالح تفيد المجتمع ككل- يعانون من تفكك أسري، وانتشار الفاحشة، وإباحة تعدد العشيقات بلا عدد ولا حد، تلك العشيقة التي لا تتمتع بحقوق الزوجة، وما يترتب عليه من سلبيات اجتماعية كتفشي معنى الخيانة الزوجية والانحراف الأخلاقي، كما لا يتم الاعتراف بها وبأولادها. فهي وحدها التي تتحمل ثمن أجرة الإجهاض أو تعيش غير متزوجة (الأم العازبة) لترعى طفلها غير الشرعي.
التعدد المباح في الغرب هو التعدد في غير إطار، وهو التعدد الذي لا يكفل للمرأة أي حق، بل يستعبدها الرجل، ويقيم معها علاقة غير رسمية ويسلب زهرة حياتها، ثم يرمي بها خارج قلبه وحياته.
هل هذا هو النموذج الذي أراد دعاة تحرير المرأة وحماية حقوقها تطبيقه في مجتمعاتنا وبلادنا، والله تعالى يقول على لسان موسى عليه السلام : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بَالَّذِى هُوَ خَيْرٌ) [البقرة :61].
ثالثا : شبهة الطلاق وإنهاء العلاقة الزوجية :
وشبهة أخرى تتعلق بقضية الطلاق، فإن من المفاهيم الشائعة عن الإسلام أن الرجل وحده هو الذي يملك حق إنهاء العلاقة الزوجية، وهو وحده صاحب قرار الطلاق، وأن المرأة لا تملك هذا الحق، والحقيقة أن الأمر ليس كذلك.
إن التشريع الإسلامي في نظامه الفريد أعطى المرأة حق إنهاء العلاقة الزوجية كما أعطى للرجل ذلك، وجعل لإنهاء العلاقة الزوجية من قبل المرأة عدة أشكال؛ فللمرأة الحق في أن تشترط على زوجها أن تكون العصمة بيدها -بمعنى أن أمر الطلاق لها فتطلق نفسها وقت ما تشاء- وفي هذه الحالة تطلق المرأة نفسها وتستحق جميع حقوقها، وكأن الزوج هو الذي طلقها، فلا ينقص من حقها شيء، ولها كذلك أن تطلب التفريق بينها وبين زوجها للضرر، إذا لحقها منه ضرر بالغ فيفرق بينهما القاضي دون حاجة لطلاق الزوج كما في مذهب الإمام مالك، وتستحق كذلك جميع حقوقها دون أي نقصان. ولها كذلك أن تختلع، وفي هذه الحالة فقط تنفصل المرأة عن الرجل، ولكنها تتنازل عن حقوقها لعدم وجود سبب لإنهاء العلاقة الزوجية؛ فليس من العدل حينئذ تغريم الرجل بالمستحقات، وهو متمسك بالعشرة بينهما.
وقد دل على صور تخيير المرأة في قرار الانفصال نصوص كثيرة منها، ما روي عن ابن عباس : «أن زوج بريرة كان عبدًا يقال له مغيث : كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعباس يا عباس ألا تعجب من حب مغيث ببريرة ومن بغض بريرة مغيثا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«لو أرجعته ؟ قالت : «يا رسول الله أتأمرني؟ قال: «إنما أنا أشفع» قالت : فلا حاجة لي فيه»([4])، وذلك لما علمت أن كلامه ليس أمرًا، وإنما هو مشورة تخيرت تركه، حيث كان من حقها تركه بعد أن أصبحت حرة.
وجاءت امرأة ثابت ابن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : «يا رسول الله، ما أنقم على ثابث في دين ولا خلق إلا أني لا أحبه، فقال صلى الله عليه وسلم : فتردين عليه حديقته ؟ فقالت: نعم، فردت عليه حديقته وأمره ففارقها »([5]). هذا في إيضاح موجز لمسألة احترام إرادة المرأة إذا أرادت فراق زوجها. ولعل الصورة قد اتضحت بهذا البيان اليسير.
ويبدو أن المجتمع الغربي لم يكتف بإخراج الكنيسة والدين من حياته ونظامه واستبدال ذلك بالعلمانية، بل يسعى لإخراج الدول العربية والإسلامية من دينهم وإخراج الدين من حياتهم وتشريعاتهم ونظامهم، يحاول إلزامنا بأشياء تتعارض مع شرعنا تحت غطاء الشرعية الدولية، أو الأمم المتحدة أو غير ذلك من مسميات هم يعرفون أنها لا قيمة لها إلا على الضعفاء، فهذا الكيان الصهيوني ينال الدعم والتعاطف من كل الغرب وهو يضرب بكل قرارات الأمم المتحدة التي تخصه عرض الحائظ، ولا يوقع على الاتفاقيات التي تحقق السلام والأمن في المنطقة.
لعله قد آن الأوان أن ينتقي المسلمون من قرارات الشرعية الدولية ما يتوافق مع شريعتهم ونظامهم ومجتمعاتهم، فقد أعد الغرب اتفاقية تسمى «اتفاقية القضاء على التمييز بكل أشكاله ضد المرأة» وظل الغرب يستدرج الدول العربية والإسلامية للتوقيع على هذه الاتفاقية، وبالفعل وقعت الدول العربية والإسلامية على هذه الاتفاقية سنة 1979، وتوقيع الاتفاقية لم يكن هدفا في ذاته، وإنما الهدف فيما يترتب على هذا التوقيع من ضرورة تفاعل كل أجهزة الدول الموقعة مع الاتفاقية، فيقوم الإعلام بدوره بالإشادة بتلك المبادئ ومحاولة تغيير سلوك الناس تجاهها.
وكان من الممكن أن يدعو علماء الإسلام إلى تبني هذه الاتفاقية، فنحن مع كل رفق بالمرأة، ومع كل وصية بالمرأة اتباعا لهدي رسولنا الكريم، ولكن عنوان الاتفاقية لا علاقة له بالأهداف التي تسعى إليها الاتفاقية.
فهذه الاتفاقية التي تعرف (بالسيداو) تهدف لإعطاء المرأة الحرية الجنسية، وكأن الحرية الجنسية حق للرجل ومن ثم يراد تعميمه، فالحرية الجنسية والتي يفهم المسلمون منها معنى الزنا الذي هو من الكبائر، سواء فعل ذلك رجل أو امرأة، والشرع لم يفرق في حجم ذلك الجرم وعقوبته على أساس النوع، فأي حرية جنسية تراد للمرأة ؟
تلك الاتفاقية تنعى على الوظائف النمطية للمرأة، وإذا سألتهم ما تقصدون من الوظائف النمطية ؟ يتضح أنها وظائف : الحمل، والولادة، ورعاية الطفولة، تلك الوظائف التي ظلت وسام شرف تحمله المرأة عبر العصور، مما جعلها صاحبة الفضل في إعداد الشعوب، ومدح الشعراء ذلك فيها، فهذا أمير الشعراء يقول :
الأم مدرسة إذا أعددتها |
** |
أعددت شعبا طيب الأعراق |
إن تلك الاتفاقية للتسوية بين الذكر والأنثى في النمط الشكلي، وفي نمط الأزياء، وكذلك ما فتح للمرأة من رياضات العنف التي لا تناسب طبعها كحمل الأثقال وغيره، بل تم تجاوز ذلك كله، حينما سمحوا بزواج المثلين، في إشارة لتضييع تميز كل نوع عن الآخر، فعقولهم وقوانينهم قبلت أن تتزوج المرأة المرأة، والذي يعني قيام المرأة بوظائف الرجل الاجتماعية وحتى الجنسية، مما يعد مسخًا مقيتًا لصورة المرأة التي خلقها الله عليها، وكأنهم يستجيبون للشيطان كما حكى عنه القرآن قوله : {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا } ([6])، والحمد لله رب العالمين حيث أظهروا مفهوم المساواة الذي يطالبوننا به، مما يوجب على أبناء ثقافتنا وحضارتنا أن يكفوا عن اتباع أهوائهم والسير وراء شهواتهم وترديد كلامهم دون فهم أبعاده.
إن ما حدث من إقرار لتلك الاتفاقية والتوقيع بالالتزام مرتين، وما حدث في مؤتمر السكان، ومؤتمر بكين، ومؤتمر بكين يؤدي إلى إعاقة المسلمين في تقديم نموذجهم الحضاري، ويؤدي إلى مسخ المجتمع المسلم على الهيئة التي مسخ بها المجتمع الغربي إلا من رحم الله.
فينبغي أن تكون مرجعية المسلم دائما وأبدًا هي شريعته الغراء ونظامه الإسلامي الفريد الذي به يواجه العالم، وبه يصلح الفساد، وبه ينشر كلمة الحق في العالمين، ويعمر الأرض، رزقنا الله الفهم الصحيح والعمل الصالح آمين.
([1]) راجع كتابنا : المرأة في الحضارة الإسلامية بين نصوص الشرع وتراث الفقه والواقع المعيش.
([2]) رواه أحمد في المسند ج2 ، ص 13، وابن ماجه في سننه ج 1 ، ص 628.
([4]) أخرجه البخاري في صحيحه، ج5 ص 2023، وأبو داود في سننه، ج2 ص 207، والنسائي في سننه، ج8 ص 245.
تكلمنا في مقالات سابقة عن مراد الله من خلقه، وعلمنا المبادئ القرآنية العامة، وكيف تكون عقلية المسلم الواعي الذي ينفع ولا يضر، وأردفنا ذلك بالحديث عن السنن الإلهية، ورأينا كيف أن كل سنة إلهية تصلح أن تكون منهجًا للإصلاح وطريقًا للتربية.
وفي هذه المرة سوف نعالج موضوعي حقوق الإنسان وحقوق المرأة كنموذجين لتطبيق المبادئ القرآنية والسنن الإلهية، ولنبدأ بموضوع حقوق الإنسان.
فالإسلام ينظر إلى الكون باعتباره مخلوقًا لخالق عظيم، وأنه سبحانه هو الحق، وأن الكون أي العالم هو ما سوى الله، وأن عالم الأشياء والنبات والحيوان والإنسان كلها مخلوقة لأنها من الكون، ثم يرى صورة واضحة محددة في تعامل الإنسان مع هذا الكون، وفي حقوق هذا الكون عليه، واجبات الإنسان في تعامله، فحقوق الإنسان هي جزء من منظومة حقوق الأكوان ومن هذه النظرة وهذا المدخل نلقي الضوء على قضية حقوق الإنسان في الإسلام من خلال حقوق الأكوان حتى يتضح لنا مكان تلك الحقوق من هذه المنظومة ومدى عمقها وتغلغلها في نسيج رؤية المسلم الكلية وعقيدته السمحة التي تسعى دائما لإدراك الحق والحقيقة، ومدى ارتباطها في تلك النظرة الكلية بالأحكام الشرعية وبحاكمية الله سبحانه وتعالى
فحقوق الإنسان من حيث اللغة مركب إضافي لا ندرك معناه إلا بإدراك كل من أجزائه ، فكلمة حقوق جمع حق وهي تعني في معناها الدلالي المعجمي: الثابت ، وكلمة إنسان من مادة (ن س ى) ومنه قول الشاعر :
وما سمي الإنسان إلى لنسيه |
** |
وما أول ناس إلا أول الناس |
يشير إلى قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه : 115]
والإضافة تأتي بمعنى اللام وما تدل عليه، واللام تأتي للملك والاختصاص وأدنى ملابسة ومعنى هذا أن ذلك التركيب الإضافي يعني الثوابت التي تختص بالإنسان فلا تتغير والتغير يحدث عادة من أحد أربعة جهات : الزمان ، والمكان ، والأشخاص والأحوال ، فهناك أعراف وعادات تتغير بتغير الزمان ومرور العصور والدهور، وهناك أمور من المأكل والمشرب والمذاهب والأفكار تتغير من مكان إلى مكان بحسب طبيعته وما تؤدي إليه ، وهناك أمور أخرى تتعلق بالإنسان تختلف باختلاف الأشخاص، وما يميزهم بعضهم عن بعض كاللون والعرق والصفات الجسدية من قوة وضعف وطول وقصر ونوع من ذكر وأنثى وقد تختلف الصفات والأمور المتعلقة بالإنسان أيضا من جهة الأحوال التي يمر بها من صحة ومرض وتقدم وتخلف وكفر وإيمان، إلا أن هناك ثوابت لا تتغير ولا تتبدل هي المكون الحقيقي للإنسان وهي الثواتب التي تختص به وهي حقوق الإنسان.
هذا هو الفهم اللغوي الذي يتبادر إلى ذهن العربي من سماعه تلك العبارة . فما معناها الاصطلاحي إذن ؟
جاء في المادة 55 فقرة ج من ميثاق الأمم المتحدة :«أن يشيع في العالم احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء ومراعاة تلك الحقوق فعلا » وأصبحت تلك العبارة (حقوق الإنسان وحرياته الأساسية) عنوانا على مجهودات تاليه ظهرت في إعلانات ووثائق الأمم المتحدة ووثائقها.
ففي 1 ديسمبر 1948 صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من الأمم المتحدة تضمن قائمة بمختلف الحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية للإنسان.
وأقرته الجمعية العامة إلا ثماني دول هي الكتلة السوفيتية ويوغسلافيا وجنوب إفريقيا ، وتحفظت السعودية على ما يعارض الشريعة الإسلامية ولقد تضمن الإعلان ثلاثين مادة تغطي الجوانب المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للإنسان.
وفي 16 ديسمبر سنة 1966 وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على ثلاثة مستندات دولية أولاها اتفاقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للإنسان ، وثانيها اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية وثالثها بروتوكول اختياري ملحق بالاتفاقية الثانية متعلق بشكاوى الأفراد ضد انتهاك حقوقهم ويطلق على هذه الوثائق بالإضافة إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مصطلح الوثيقة الدولية لحقوق الإنسان.
وهذه الحقوق لا تخرج عن حق تقرير المصير، حق العمل وكسب معيشته، حق تكوين النقابات، حق الضمان الاجتماعي، حق حماية الأسرة والأطفال، حق الصحة البدنية والعقلية، حق التعليم والثقافة والتربية، حق تحسين مستوى المعيشة ، الحريات العامة (حرية الانتقال ، العمل ، الفكر ، الرأي، الاعتقاد ، المشاركة السياسية ، الزواج) المساواة.
وعلى ذلك جرت الأمور حول حقوق الإنسان وحرياته العامة تتلخص في أن هناك مجموعتين من تلك الحقوق والحريات سياسية ومعيشية.
أما ما يتعلق بالمعيشة فيظهر في المحافظة على الحياة في نفسها ثم على الحياة الكريمة التي تكفل الغذاء والكساء والدواء والتعليم والزواج و …. الخ وأن يكون الإنسان حرا في نقله وعمله واعتقاده وآرائه وفكره … الخ والسياسية تتعلق بممارسة لقيادة الحياة وتوجيهها.
وقد ترى أن القسم الأول الذي يمكن أن نطلق عليه المعيشي وهو الجانب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والديني ينظمه عندنا المقاصد الخمسة التي جعلها الأصوليون -منذ الغزالي في المستصفى حتى الشاطبي في الموافقات- هي مقاصد المكلفين، وهي : حفظ النفس، والعقل، والدين، والعرض (كرامة الإنسان)، والمال (الملك والمعد في التملك) وأن المسلمين جعلوها على ثلاثة مستويات ضرورية وحاجية وتكميلية، وقسموا الأحكام الشرعية عليها على مستويين في كل قسم هي الأصلية والفرعية.
وهنا يجدر أن نلاحظ مسألة غاية في الأهمية، وهي أن الحقوق في الشريعة الإسلامية قد تحولت إلى واجبات، فأصبحت واجبات يجب أن يحصلها وإلا يكون آثما في التخاذل عنها، فلم يعد الإنسان محتاجًا إلى استجدائها ومنتظرا للآخرين أن يقروها، بل إن أصل خلقه وتكليفه قائم عليها، ويجب عليه ذلك.
ومن هنا اختلط على كثير من الناس تصنيف حضارة المسلمين أنها حضارة واجبات أدت إلى الديكتاتورية والتسلط، وأن حضارة الغرب حضارة حقوق، والأمر ليس كذلك، بل الحضارة الإسلامية التي جعلت الدين أساسها ومنطلقها كانت حضارة حقوق وصلت إلى حد الواجبات.
أما القسم الثاني وهو الحقوق السياسية:
فهو مندرج تحت تنظيم المجتمع ، وأساليب ذلك التنظيم ومرجعه في الإسلام إلى الفقه (أي القانون الحاكم لحياة البشر) وفيه من التفصيل ما يجعل الصورة كاملة متسقة في منظومة لا اضطراب فيها ولا تناقض.
ومن هنا فإن الحقوق السياسية والحريات الأساسية المتعلقة بها لا نزاع حولها حيث أن الإطار العام في احترام كرامة الإنسان قائم عبر التاريخ لدى جملة العقلاء.
وتتجلى قيمة الإنسان في الدين الإسلامي إذ جعل مقاصد بناء الدين خمسة أركان، أربعة أركان منها لحماية حقوق الإنسان فكان الركن الأول : حفظ النفس البشرية، والركن الثاني : حفظ العقل البشري. والركن الثالث : حفظ الدين. والركن الرابع : حفظ كرامة الإنسان (عرضه)، والخامس : حفظ ماله. فكانت الأركان (الأول والثاني والرابع والخامس) لحماية حقوق الإنسان، وجعل هذه الحقوق واجبات يلتزم بضمانها المجتمع المسلم أفرادًا وجماعات.
فالشريعة الإسلامية بأكملها جاءت لحماية حقوق الإنسان، ولمعرفة رب الإنسان والسير في طريقه، فهل هناك نظام تجلت فيه حماية حقوق الإنسان بهذا الشكل.
هذا فيما يخص موضوع حقوق الإنسان، أما عن حقوق المرأة وما يثار حوله من شبهات، تحاول أن توسم الحضارة الإسلامية بانتقاصها فبيانه فيما يلي :
حقوق المرأة النموذج الثاني
لا شك أن قضية المرأة وحقوقها احتلت مكانة كبيرة بين الموضوعات المثارة على الساحة الفكرية والإعلامية في العصر الحديث، والتي يظن بعضهم أنها نقاط ضعف في الإسلام، وقد تسبب عرضها بشكل مجتزأ للخلط والإساءة للإسلام وحضارته.
والمسلمون يعتقدون أن الله خلق المرأة والرجل من نفس واحدة، فهما معًا يكونان الجنس البشري الذي كرمه الله، وذلك لإيمانهم بكلام ربهم حيث يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} ([1]) وقال سبحانه : {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} ([2]) وقال تعالى : {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } ([3]) وقال تعالى : {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}([4]).
ويعتقدون أنه لا يوجد تمييز لنوع على نوع، وأن معيار التفضيل عند الله هو بقيمة كل إنسان سواء كان ذكرا أو أنثى، فقيمته وصلاحه وتقواه هي المعيار المعتبر عند رب العالمين، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } ([5]).
ويعتقد المسلمون أن المرأة والرجل سواء في التكليف أمام الله، في الثواب والعقاب، وذلك لأنهم آمنوا بكلام ربهم حيث قال : {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} ([6]) وقال سبحانه : {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } ([7]).
وقد أكد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على ذلك المعنى حيث أوصى بالنساء فقال : « استوصوا بالنساء خيرًا »([8]). وفي بيان المساواة بينهما في أصل العبودية والتكاليف الشرعية قال صلى الله عليه وسلم : «إن النساء شقائق الرجال»([9]).
وقد اعتنى الإسلام بالمرأة في في كل أطوار حياتها، ويتضح هذا الاهتمام منذ طفولتها فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من عال جارتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو , وضم أصابعه»([10]) .
كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفضل الذكر على الأنثى -كما كانت عادة العرب- في التربية والعناية, فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده يعني الذكور عليها أدخله الله الجنة»([11]) .
وعن أنس رضي الله عنه «أن رجلا كان جالسًا مع النبي صلى الله عليه وسلم فجاء ابن له فقبله وأجلسه في حجره, ثم جاءت بنته فأخذها فأجلسها إلى جنبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «فما عدلت بينهما»([12]).
ما مر يبين مكانة المرأة في نصوص الشرع الإسلامي من القرآن والسنة، وإذا نظرنا إلى الواقع التاريخي الذي عاشه المسلمون نعلم أن هناك نساء كثيرات أثرن في مسيرة الأمة الإسلامية، وساهمن في رفعة مجدها في جميع المجالات، ولقد بدأ الدور النسائي في المسيرة الإسلامية مبكرًا جدًا، فالمرأة هي أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والمرأة هي أول من استشهد في سبيل الله، والمرأة هي أول من هاجرت إلى الله ورسوله مع زوجها بعد نبي الله لوط عليه السلام، وقد كانت السيدة عائشة رضي الله عنها أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فالسيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها هي أول من آمن بالرسول وصدقه، غير أنها زادت على ذلك فقد كانت ملاذاً له صلى الله عليه وسلم ومأمناً ومطمئنة له، بل ونصرت النبي صلى الله عليه وسلم بمالها ورزقه الله منها الولد، ولقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم عام فراقها له بعام الحزن.
وكانت السيدة سمية بنت خياط زوج ياسر والد عمار هي أول شهيدة في الإسلام، وكانت أقوى من ولدها الشاب حيث رفضت سب النبي صلى الله عليه وسلم والنطق بكلمة الكفر في سبيل نجاتها وأظهرت التمسك والإيمان بدينها وبنبيها حتى استشهدت رضي الله عنها.
وكانت السيدة رقية بنت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هي أول مهاجرة في سبيل الله مع زوجها عثمان بن عفان رضي الله عنها([13]).
وكانت السيدة فاطمة والسيدة عائشة رضي الله عنهما من أحب الناس إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقد « سئل صلى الله عليه وسلم من أحب الناس إليك قال : فاطمة»([14]) ، وكذلك السيدة عائشة رضي الله عنها فقد روى أنس رضي الله عنه قال : « قيل يا رسول الله من أحب الناس إليك؟ قال : «عائشة» قال : من الرجال ؟ قال : أبوها»([15]).
ولم تقتصر مكانة المرأة في الإسلام على كونها أول مؤمنة في الإسلام، وأول شهيدة، وأول مهاجرة، وأحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، بل تعدت مكانتها ذلك عبر العصور والدهور، فحكمت المرأة، وتولت القضاء، وجاهدت، وعلمت، وأفتت، وباشرت الحسبة .. وغير ذلك الكثير مما يشهد به تاريخ المسلمين.
ولا نقصد بحكم النساء للبلاد أن يكن لهن التأثير والنفوذ وتسيير الأمور عن طريق زوجها الحاكم أو ابنها أو سيدها، فهذا الشكل لا يحصى وقد كثر في الدولة العباسية خاصة بشكل كبير بداية من الخزيران([16]) بنت عطاء زوجة المهدي العباسي وأم بنيه الهادي وهارون وقد توفيت سنة 173 هـ؛ مروراً بقبيحة أم المعتز بالله([17]) (ت 264)، وفاطمة القهرمانة([18]) (ت 299)، وأم موسى الهاشمية قهرمانة دار المقتدر بالله([19])، وأم المقتدر بالله شغب([20]) (ت 321) وغيرهن الكثير مما لا يحصى ولا يعد، إنما نعني من حكمن البلاد وبعض الأقطار الإسلامية بطريقة مباشرة وواضحة. (يتبع)
([8]) البخاري في صحيحه 3/1212، ومسلم في صحيحه 2/1091.
([9]) رواه أبو داود في سننه 1/61، والترمذي في سننه 1/190.
([10]) أخرجه مسلم في صحيحه، ج4 ص 2027، والترمذي في سننه، ج4 ص 319.
([11]) أخرجه أحمد في مسنده، ج1 ص 223، وأبو داود في سننه، ج4 ص 337، والحاكم في المستدرك، ج4 ص 196، وعقبه بقوله : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
([12]) رواه البيهقي في شعب الإيمان، ج6 ص 41.
([13]) أخرجه الطبراني في الكبير، ج1 ص 90.
([14]) الحاكم في المستدرك 3/239.
([15]) رواه الترمذي في سننه كتاب المناقب باب مناقب عائشة رضي الله عنها ج5 ص 706.
([16]) تاريخ الطبري، ج 4 ص 623، ج8 ص 234، تاريخ بغداد ج 14 ص 430.
([17]) تاريخ الطبري، ج 5 ص 514، أعلام النساء ج 4 ص 184.
([18]) البداية والنهاية، ج 11 ص 118، أعلام النساء ج 4 ص 91.
([19]) أعلام النساء، ج 5 ص 123.
([20]) البداية والنهاية، ج 11 ص 175، أعلام النساء، ج 5 ص 67.