ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فكانت خير تربية لخير جيل على وجه هذه الأرض.. خرجوا حفاة عراة فغزوا العالم وأخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، وبلَّغوا بإذن ربهم دعوة ربهم سبحانه وتعالى.. نشروا الخير والسلام وكانوا مثالا يحتذى، حتى قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي. ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) (رواه البخاري ومسلم)، وقال فيهم ما رواه رزين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( أصحَابِي كالنُّجوم بأيِّهم اقتدَيتُم اهتَديتُم) (مشكاة المصابيح) ، وقال: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشدينَ الْمَهْدِيّين فَتَمَسَّكُوا بِها وَعَضُّوا عَلَيْها بالنَّواجِذِ) (أورده الترمذي في سننه)، وقال وهو ينهانا عن أن نخوض فيهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم: (لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي. لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي. فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَـدَكُمْ أَنْفَـقَ مِثْـلَ أُحُـدٍ ذَهَبـاً، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلاَ نَصِيفَهُ) (رواه البخاري ومسلم)،(والمد مكيال معروف عند أهل المدينة يعادل ربع الصاع)، ويعني لو تصدق الصحابي بمُدٍّ من قمح فإن أحدنا لو تصدق بمثل أُحد ذهبا لا يبلغ ثواب هذا المُدّ.
فلابد علينا أن نبحث في هذا الجيل، وعلام كان كذلك، ولِمَ نجح؟ ولمَ ﴿zرَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [المائدة :119] ؟ ولِمَ أعز الله بهم الإسلام ونصرهم نصرا مؤيدًا؟ ألأن كل الإمكانات كانت متوفرة عندهم؟ أو أنهم كانوا يعملون في عالم ملؤه الخير والسعادة فاستجاب لهم؟ أو أنهم كانوا قد وصلوا إلى مصاف الملائكة الكرام وخلوا أنفسهم من كل حاجة بشرية أو من كل شهوة ولم يقعوا أبدا في معصية؟ أو أنهم ماذا كانوا..!
هؤلاء الصحابة الكرام وهم يسكنون المدينة يحيط بهم العدو من كل مكان يريد أن يفتك بهم.. هؤلاء الصحابة الكرام كانوا في عدد قليل وفي عدة بدائية.. هؤلاء الصحابة الكرام يروي لنا أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج نهارا في وقت القيلولة، في وقت لا يخرج فيه الناس بل ينامون قبل الظهر- وهكذا كانت عادتهم يبدءون يومهم بعد الفجر وينامون قبل الظهر- خرج فوجد أبا بكر وعمر فقال: (مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَـٰذِهِ السَّاعَةَ؟) قَالاَ: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللّهِ، قَالَ: (وَأَنَا. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَخْرَجَنِي الَّذَي أَخْرَجَكُمَا. قُومُوا) -خاطبهم بالجمع، فذهبوا إلى ابن التيهان وهو رجل من الأنصار كان يسكن أطراف المدينة، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ. فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلاً، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ: (أَيْنَ فُلاَنٌ؟) قَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الْمَاءِ- فإن الماء الذي في البئر عندهم غير صالح للشرب، فذهب يستجلب ويستعذب لهم ماءً من المدينة من الآبار التي كانوا يشربون منها- إذْ جَاءَ الأَنْصَارِيُّ فَنَظَرَ إلَىٰ رَسُولِ اللّهِ وَصَاحِبَيْهِ- عرف ما بهم جوع- ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ للّهِ. مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافاً مِنِّي. قَالَ: فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ. فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَـٰذِهِ- يسدون رمقهم ويذهبون جوعتهم به، وذهب يذبح لهم شاة- وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ-أي السكين- فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ)- يعني لا تأخذ الشاة الحلوب، حتى نستفيد من لبنها، وحتى لا نقضي على مورد من موارد رزق تلك الأسرة، وهو في أطراف المدينة يعني وكأنه من الأغنياء، وعنده بستان فيه عرق من البلح وعنده شياه يستطيع أن يذبح للأضياف منها، وهو لما رآهم يقول نزل بي خير ضيف في العالم صلى الله عليه وسلم- فَذَبَحَ لَهُمْ. فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ، وَمِنْ ذٰلِكَ الْعِذْقِ، وَشَرِبُوا. فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا، قَالَ رَسُولُ اللّهِ لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَـٰذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ. ثُمَّ لَـمْ تَرْجِعُـوا حَتَّـىٰ أَصَابَكُـمْ هَـذَا النَّعِيـمُ) (رواه مسلم)، ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر :8]...؛ هل هذا هو النعيم يا رسول الله!
أي قائد هذا؟! أي قائد هذا وأي زعيم يشعر بأتباعه ويقف معهم ويقول: ( إنما أنا لكم مثل الوالد للولد) (سنن الدرامي)، كان يَخِيطُ ثَوْبَهُ، ويَخْصِفُ نَعْلَهُ، ويَعْمَلُ ما يَعْمَلُ الرِّجالُ في بُيوتِهِمْ (مسند الإمام أحمد)، ويَكُونُ في مَهْنَةِ أَهْلِهِ (صحيح الإمام مسلم) وصدق ربه حيث وصفه ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم :4]..
لا بد من طاعة الله ورسوله، لكنَّ ماعزًا قد زنا، ولكنَّ نعيمان قد شرب الخمر، ولكن المخلفين قد كذبوا في فعلهم وصدقت أقوالهم، ولكن المنافقين في المدينة يصلون مع المسلمين ولا يؤمنون....؛ لم تكن الأمور على سعة في المدينة بل كانت الأمور في ضيق في الخارج والداخل.. وفازوا.
إذا اردتم نصر الله فأنصروه في أنفسكم أولاً، فإذا فعلتم فسترون خيرا إن شاء الله تعالى في الدنيا والآخرة، وإذا تركتم فإنه سيسلط عليكم الذل كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعاقـل خصيـم نفسـه وليتخيـر كـل منـا مـا أراد ﴿ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾ [الكهف :29].
العاقل خصيم نفسه.. حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.
كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول:
نعيب زماننا والعيب فينا ** وما لزماننا عيب سوانـا
(يتبع)
قال تعالى: ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِى القُرْبَى﴾ [الشورى :23]، وهكذا أمرنا سبحانه أن نصل رحمه صلى الله عليه وسلم ولذلك قام أهل السنة والجماعة من لدن الصحابة وإلى يومنا هذا بحب آل البيت وإكرامهم، وآل البيت من الصحابة ومن بعدهم من الأئمة الكبار أحبوا الأمة وعملوا على إظهار ما في قلوبهم من الود لهم، فكانت أمة واحدة نفخر بوحدتها إلى يومنا هذا وكل ذلك كان ولا زال بعيداً عن الألاعيب السياسية والمصالح الإقليمية والرؤى الساذجة حيث إن ترابط الأمة هو الذي يبقى بعد كل المتغيرات وتياراتها.
من حين لآخر يخرج علينا من يريد أن يفرض فكره ورأيه في مسألة شرعية خطرت في باله فعاش معها واستغرق فيها حتى رأى أنها الحق وحدها وأن ما سواها باطل وأن الأمة خفي عليها الأمر حتى خطر ببال هذا أو ذاك ذلك الرأي أو تلك الفكرة، والمصيبة ليست في التفكير ولا في الدفاع عن رأي يقتنع به صاحبه ويرى أن الأدلة تؤيده في ظنه، وإنما المصبية الكبرى والبلية العظمى هو أنه يرى فكرته ورأيه هي الحق وأن ما سواها هو الباطل ويبدأ في التعالي ورفض كل الآراء من سواه، ويفتقد في شعوره الداخلي إلى ما كان يذكره العلماء دائما من قولهم: "والله أعلم"، والجانب السلبي في هذا التكبر العلمي يتمثل في إشغال بال الناس بقضايا تشكك عوامهم في كل الثوابت وتحول أمر الدين عندهم إلى محض ظن من ناحية، وإلى بلبلة الأفكار وانشغال القلب والعقل من ناحية أخرى، وإذا لم يكن من سلبية سوى هذا لكفى، وتزيد المعالجة الإعلامية التي تميل إلى الإثارة دون الإنارة الأمر تعقيدًا.
أرسل الله سبحانه وتعالى عباده المرسلين وأنزل عليهم الوحي ليخرج الناس من الأوهام إلى الحقائق وينهاهم عن أن يتبعوا أهوائهم ويأمرهم أن يتفكروا، ووضع لهم نظاما إلهيا يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحدد لهم معالم الطريق إليه سبحانه وتعالى. وسـمّى الله سبحانه دينه بدين القيمة والدين القيم، فقال تعالى: ﴿وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾ [البينة :5]، وقال: ﴿ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ [يوسف :40]، ويتميز الدين القيم بالعقل والأخلاق ومراعاة المصالح وتهذيب الشهوات ونفي الضرر والغرر وسوء الأخلاق، قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ﴾ [آل عمران :14]، وقال سبحانه: ﴿وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص :26]، وعندما نترك الدين القيم نكون في مهب الريح، ولقد حاول كثير من البشر عبر العصور أن يتركوا الدين القيم فكانت الكارثة على مستوى الفرد في نفسه وعلى مستوى المجتمع وعلى مستوى الاجتماع البشري. ولا يزال البشر حتى الآن يخترعون أديانًا وضعية بعضها لعبادة الشيطان وبعضها لديانة الفوضى.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ " [آل عمران :102]، وهي تعد أعظم آية في القرآن من حيث العمل، فكيف نموت إلا ونحن على الإسلام ونحن لا ندري متى نموت؟ فهذا معناه أن الإنسان يظل في ذكر الله سبحانه وتعالى على الدوام حتى إذا ما جاه الموت وجده على الإسلام، وكأن الآية تطالبنا ألا نغفل عنه سبحانه وتعالى طرفة عين ولا أقل من ذلك، فتكون بذلك أعظم آية من حيث العمل، نسأل الله أن يخفف عنا لقصورنا وتقصيرنا وما جُبلنا عليه من نسيان وغفلة.
وإذا ما تأملنا في هذه الآية الكريمة، وجدناها وكأنها تأمرنا بأن نحول العادات إلى عبادات، والحاصل في حياتنا أن الإنسان إذا ما أكثر من عمل ما يألف هذا العمل فيتطرق هذا إلى أمور العبادة فتتحول عنده إلى عادة، فتراه يُصلي وينسى في صلاته، وتراه يذكر بلسانه وذهنه شارد في أمور أخرى، لأن العبادة تحولت عنده إلى عادة. وهذا التحول أول الفساد في الأمم، لأن العبادة حينئذ لا تؤدي وظيفتها التي أرادها الله سبحانه وتعالى لها، فيقول الله تعالي: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت :45]، فنرى المصلي لا تنهاه صلاه لا عن فحشاء ولا عن منكر، لهذا السبب.
وفي هذه الآية العظيمة يأمرنا ربنا سبحانه وتعالى بمقاومة أنفسنا، لا في أن نؤدي العبادة على وجهها وحسب بل أيضاً أن نحول العادات إلى عبادات، وقد تميز السلف الصالح والصحابة الكرم بأنهم استطاعوا أن يحولوا العادات إلى عبادات، وذلك لما قدموا في أنفسهم قول الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (متفق عليه)، فجلوا نياتهم جميعاً لله سبحانه وتعالى في حلهم وترحالهم، في قولهم وسكوتهم، في تركهم وفعلهم حتى صاروا عباداً ربانيين إذا ما مدوا أيديهم إلى السماء ودعوا الله عز وجل، استجاب لهم، فهل يمكن أن نهيئ أنفسنا للربانية، وأن نتقي الله حق تقاته ، وأن ننقل أنفسنا بإذنه من دائرة سخطه إلى دائرة رضاه، وأن نحول عباداتنا إلى إخلاص لرب العالمين وأن ننقل عاداتنا إلى دائرة العبادة له سبحانه وحده؟
إن ذلك يحتاج على قرار من أنفسنا نبيع به هذه النفس لله سبحانه وتعالى، فنجعل الدنيا في أيدينا ونخرجها من قلوبنا، ونبدأ صفحة جديدة معه سبحانه فنتوب ونندم على ذنوبنا ونعزم على عدم تكرارها، ونقلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ونجعله القدوة والأسوة الحسنة في حياتنا. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقاً وأكرمهم وأتقاهم. فعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا ( رواه الشيخان وأبو داود والترمذي)، وعن أم المؤمنين عائشة لما سئلت رضي الله عنها عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام ، قالت : ( كان خلقه القرآن) صحيح مسلم ، قال ابن كثير في تفسيره: ومعنى هذا أنه صلى الله عليه وسلم صار امتثال القرآن أمراً ونهياً سجيةً له وخلقاً .... فمهما أمره القرآن فعله ومهما نهاه عنه تركه، هذا ما جبله الله عليه من الخُلق العظيم من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خُلقٍ جميل.أ.هـ ، فلنجعل لأنفسنا حصة من القرآن كل يوم قلت أو كثرت ولا تقطع نفسك عن كلام الله.
برنامج واضح ويسير على من يسره الله عليه، والله سبحانه وتعالى لا يريد ظلماً للعالمين، كما كتب ذلك على نفسه وجعل رحمته تسبق غضبه، فأمرنا وأرشدنا ووجهنا لما فيه الخير لأنفسنا، يقول تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُون﴾ [المؤمنون :1- 3]، واللغو منه مباح ومنه مكروه ومنه حرام، ولكن المؤمن قد أعرض عن اللغو كله ونقل ما يفعله من أكل وشرب ولبس وسعي وذهاب ومجيء – بالنية الصالحة – لله رب العالمين وحده.
هلا دربنا أنفسنا فيما تبقى لنا من زمن حتى نستقبل نفحات الله في أيام دهرنا والله عنا راض، هلا فعلنا ذلك فنجد في أنفسنا حلاوة الإيمان وحلاوة العبادة وحلاوة الذكر، ومن جرب حلاوة الإيمان لا يتركها أبداً، وهكذا شأن الإيمان إذا دخل القلب وداعبت حلاوته القلوب فإنه يزداد ولا ينقص، فهلا فعلنا ذلك حتى نغير من عقائدنا وأحوالنا مع أنفسنا لله وأن نفعل ذلك ابتغاء وجه الله، ولنتأمل قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ وحبل الله هو القرآن ﴿وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وَجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وَجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وَجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وَجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران :103- 108]
من أعلامنا المعاصرين الذين يعدون الأسوة الحسنة والمثال الذي نريده لشبابنا وأبنائنا ونريده لتجديد خطابنا وتعليمنا وعرض ديننا وثقافتنا مع الحفاظ على هويتنا الشيخ محمد عبد الله دراز، والذي كان واحدًا من العلماء الأجلاء المتبحرين في علوم الشريعة والعقيدة والفلسفة، ويظهر ذلك في ميراثه العلمي الذي إن دل عن شيء فإنه يدل على عقلية فلسفية متينة راسخة.
ولد الشيخ رحمة الله عليه في قرية صغيرة في وسط الدلتا وهي قرية محلة دياي في الثامن من نوفمبر عام 1894م، وعرف بنبوغه العلمي منذ طفولته، فأتم حفظ كتاب الله ودرس قراءاته المختلفة وهو دون العاشرة، ثم أكمل تعليمه في المعهد الديني الأزهري الجديد بمدينة الإسكندرية والذي أشرف والده الشيخ عبد الله دراز في إعادة هيكلته وتنظيمه بأمر من مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده. وبعد تخرجه من المعهد عمل به مدرسًا عام 1916م وهو في سن الثانية والعشرين. كما بدأ في هذا الفترة في الانتظام في دروس مسائية لتعلم اللغة الفرنسية. ثم عمل في وظيفة مدرس بالأزهر عام 1928م ولم يمض عام من تاريخ تعيينه إلا وكلف بالتدريس لقسم الدراسات المتخصصة، وفي عام 1936م، اختاره الملك فؤاد بناء على ترشيح جامعة الأزهر في بعثة دراسية في فرنسا امتدت إلى عام 1948م بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، حيث عاين الشيخ ويلات الحرب إلا أنه رفض العودة حتى يتم رسالته وبحثه العلمي.
وعقب عودته من الخارج أصبح عضوًا بارزًا في هيئة كبار العلماء بالأزهر، كما اشتعل في نفس السنة كمدرس في جامعة فؤاد الأول، فقام بتدريس علم تاريخ الأديان في كلية الآداب، وعلم التفسير في كلية دار العلوم، بالإضافة إلى تدريسه الفلسفة في كلية اللغة العربية.
ولقد كان ثريا في نتاجه العلمي فألف كتابه (الدين) والذي كان مجموعة من المحاضرات التي ألقاها الشيخ الجليل على طلاب كلية الآداب بوصفها أبحاثًا تمهيدية لعلم تاريخ الأديان، وهناك أيضًا بحثه لنيل درجة الدكتوراه من جامعة السوربون بعنوان (دستور الأخلاق في القرآن الكريم)، والتي ترجمت بعد ذلك، وهناك أيضا كتابه (مدخل لدراسة القرآن الكريم) والذي كتبه بالفرنسية والتي كان يجيدها كما يجيد العربية بسبب دراسته ومُكثه في فرنسا أكثر من اثنتي عشرة سنة مما كان له تأثير عميق على اتساع مداركه وفكره وعلمه ونجاحه في ربط التراث الشرعي بثقافة العصر، وهذا من أهم الصفات التي تميز بها الشيخ محمد عبد الله دراز، رغم عدم تأثير ذلك على شخصيته الأزهرية فظل يحتفظ بزيه الأزهري حتى يوم وفاته، وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية أيضًا.
وهناك كذلك رسالته التي سماها (كلمات في مبادئ علم الأخلاق) وهي رسالة وجيزة قليلة الصفحات عظيمة الأثر والمحتوى. ورغم انشغال الشيخ بالفلسفة والعقيدة والمنظومة الأخلاقية في الإسلام كما هو واضح من عناوين مؤلفاته هذه، إلا انه كان له باع في التفسير وعلوم القرآن، فمن ميراثه العلمي في هذا المجال، كتابه الماتع (النبأ العظيم)، وهو كتاب متفرد لم يسبقه إليه أحد سواء في المضمون أو في الأسلوب، فقد تبحر فيه في فلك الإعجاز البياني والأدبي لكتاب الله مظهرا لفتات ونظرات جديدة مذهلة تدل على مدي فهمه العميق والراسخ للقرآن المجيد ومقدار نجاحه في الاغتراف والارتشاف من حلاوة الآيات القرآنية وجمالها البلاغي والبديعي، هذا وقد ترك لنا أيضًا تفسير الفاتحة ومقدمة التلاوة لعدد من سور القرآن الكريم.
أما عن علوم السنة، فلم تخل من إبداعات الشيخ مثل كتابه (المختار من كنوز السنة) الذي تناول فيه مختارات من الأحاديث النبوية الجليلة مع شرحها شرحًا وافيا يدل عن مدي تعمقه واهتمامه بعلم الحديث والسنة.
وقد بدأ الشيخ في عدد من المشاريع العلمية التي لم يكتب لها التمام والكمال بسبب وفاته المفاجئة مثل كتابه (الميزان بين السنة والبدعة) وقد كانت محاولة من قبل الشيخ لتحديث كتاب (الاعتصام) للشاطبي وإعادة صياغته بلغة عصرية جديدة لا تخل بمضمون الكتاب الأصلي وتفيد القراء المعاصرين وطلاب العلم من كنوز هذا الكتاب التي لا تنفد، وهو مطبوع.
هذا وقد مثل الشيخ مشيخة الأزهر في العديد من المؤتمرات الدولية فقد كان عضوا بارزا مؤثرا في هيئة كبار العلماء، فمثل المشيخة في مؤتمر الحقوق الدولية والذي انعقد في باريس في عام 1951م وقدم فيه الشيخ بحثًا ممتعًا في قوة الأسلوب وسهولة اللفظ عن (الربا) وقد طبع أيضًا، كما مثل المشيخة في مؤتمر العلاقات الدولية، وقدم من خلاله بحثًا رفيع المستوى عن (الإسلام والعلاقات الدولية)، وآخر المؤتمرات التي مثل فيها الأزهر كان مؤتمر الأديان العالمي في لاهور والذي وافته فيه المنية في يناير سنة 1958م بعد الانتهاء من إلقاء كلمته الأخيرة.
وبعد أن عاد جثمانه الشريف من لاهور ليدفن في وطنه مصر كان يوم وداعه مهيبًا أمطرت فيه السماء حتى إن المشيعين الذين رفعوا المظلات البيضاء فوق رؤوسهم حولوا شارع الأزهر إلى قطعة بيضاء من تلاصق مظلات المشايخ وكثرة المشيعين من عند الجامع الأزهر وإلى طريق صلاح سالم الآن حيث كانت مدافن العلماء المجاورين، فكان نزول الغوث وبياض المشهد بشرى لاستقبال هذه الروح الطاهرة.
إن شخصية في حجم الشيخ محمد عبد الله دراز، رحمه الله تعالى، لجديرة بالدراسة المتأنية المتدبرة حيث أنه كان من أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث برؤيته المستنيرة الواضحة وفكره المستقيم المرن. وقد طبعت جميع مؤلفاته في ستة كتب ضخمة إلا أنها شملت المؤلفات الرئيسية فقط ولم تشمل أوراقه وبحوثه ورسائله ومقالاته التي كتبها أو تلك التي كُتبت عنه، وظل هذا الكنز الثمين في أدراج النسيان بمكتبة الشيخ حتى جاء باحث ذو همة وهو الشيخ أحمد مصطفى فضيلة وقام بتجميع غالبية هذه الأوراق في كتابين الأول تحت عنوان "محمد عبد الله دراز سيرة وفكر" وتناول فيه حياة الشيخ بالتفصيل والمحاور العامة لمدرسته الفكرية وآثاره العلمية ووفاته ورثاؤه وثناء العلماء عليه.
أما الكتاب الثاني وهو الأهم فكان تحت عنوان "محمد عبد الله دراز دراسات وبحوث" وتناول فيه ما كتبه الشيخ من مقالات وبحوث وما كُتب عنه في الصحافة العربية بأقلام تلامذته ومعاصريه ليضع بين يدي القارئ كنزاً علمياً ثميناً كان نسياً منسياً حتى جاء الشيخ أحمد فضيلة فجمعه واعتنى به وطبعه في هذا الكتاب. وقد قُسم الكتاب إلى ستة أبواب تناول في الباب الأول المقالات التي كتبت عن المدرسة الفكرية للشيخ بصورة كلية جامعة وذلك في سبعة مقالات مختلفة لعل أهمها مقال الشيخ يوسف القرضاوي والذي تناول فيه المسيرة العلمية للشيخ بصورة موجزة دقيقة فلخص في صفحات قلائل ما يعجز شخص عن كتابته في مجلدات ضخمة، وهناك أيضا مقال الأستاذ أنور الجندي والذي قام بتفصيل ما أوجزه الشيخ القرضاوي ليعطيا المقالان معاً صورة متناسقة متكاملة عن الميراث العلمي للشيخ عبد الله دراز، تؤكد أن الفكر الإسلامي المستنير هو في أصله حلقات متصلة متعاقبة بين الأجيال وأن الشيخ دراز لم يكن ظاهرة متفردة بل هو أحد حلقات هذا الفكر في عصره متسلماً الراية ممن سبقه ومسلماً إياها لمن جاء بعده.
ومن الباب الثاني وحتى الرابع، تناول الباحث الدراسات المتخصصة عن مؤلفات الشيخ دراز، فخصص الباب الثاني للدراسات التي تناولت مؤلفاته وآثاره في السنة وهما كتابي المختار والميزان، وللكتابين أهميتهما العلمية والفكرية لعلم السنة الشريفة والدفاع عنها والاستفادة منها، وتناول الباب الثالث عدة مقالات وبحوث حول مؤلفات الشيخ دراز في علم الأخلاق وقد رسمت هذه المقالات صورة دقيقة لمدى الفائدة العظيمة التي أضافتها تلك المؤلفات إلي علم الأخلاق في عمومه وخصوصه مما دفع أحدهم وهو الأستاذ أنور وجدي لاعتبار محمد عبد الله دراز المؤسس الحقيقي لما يعرف بعلم الأخلاق القرآني وكتب عن ذلك مقالاً دقيقا منشوراً في هذا الباب. وتناول الباب الرابع مؤلفات الشيخ في التفسير وعلوم القرآن ولعل أهمها كتابه القيم الممتع الماتع "النبأ العظيم" وهذا الكتاب من الأهمية التي تدفعنا لتخصيص مقالات منفصلة لعرضه وتحليله والغوص في كنوزه اللامتناهية.
وتناول الباحث أيضاً في الباب الخامس أهم بحوث الشيخ في القضايا المعاصرة، بالعرض والتعليق، مع مقدمة جيدة تناول فيها مناسبة البحث والأسباب التي دفعت الشيخ إلى كتابته إن وجدت، ومن أمثلة ذلك بحثه بعنوان "الإسلام والسلام الديني العالمي" والذي ألقاه في مؤتمر الأديان العالمي بباريس عام 1939م، وأهمية هذا البحث تتمثل في توقيته وهو نفس وقت اندلاع الحرب العالمية الثانية، ففي الوقت التي اجتاحت الجيوش المختلفة أرض الله تنشر الدمار والخراب والدماء فلا تُفرق بين الطفل والمرأة والكهل، كان الدكتور دراز ينادي بتوحيد الصفوف بين الأديان المختلفة ويدعو إلى التقائها عند "قاعدة واحدة هي أساس التعاون" وذلك أنها تأمر جميعها بالعدل والإحسان وتنهى عن الظلم والعدوان وكلها تساوي في "هذه المعاملة الدنيوية بين أتباعها وبين أعدائها"، وهو نفس ما يدعو إليه علماؤنا في العصر الحالي تحت شعار "تعالوا إلى كلمة سواء".
أما الباب السادس فقد خُصص للحوار الوحيد الذي أجراه الدكتور دراز مع صحيفة الأهرام تحت إدارة الأستاذ عصمت عبد الجواد فور عودته من باريس بعد حصوله على الدكتوراه من جامعة السوربون وأهم ما في الحوار ما قاله الشيخ عن مناقشة الرسالة والتي استمرت في أحد قاعات جامعة السوربون طوال أربع ساعات متواصلة وسط جمهور جميعهم من الفرنسيين وقد أجاد الشيخ في عرض موضوعه بأسلوب مبهر دعى رئيس لجنة المناقشة ليعقب قائلاً: "أنك ولا شك تريد أن تجذبنا إلى الدين الإسلامي أليس كذلك؟؟"
أما الباب السابع والأخير فقد تناول المقالات المختلفة التي نشرها الشيخ في مجلة "المجلة" منذ يوليو سنة 1957م وقد تناولت موضوعات شاملة متنوعة ترسم صورة حية لجهوده العلمية والإصلاحية المتواصلة ويظهر ذلك جلياً من عنوانيها مثل "بين العدل والفضل"، " كيف تحب الناس محبة شاملة"، "آداب القرآن بين المثالية والواقعية" و "مناهج الناس في السلوك وقيمها في القرآن" وغير ذلك. ورغم الجهود المضنية للباحث أحمد مصطفى فضيلة في جمعه لهذا الكتاب إلا أن التراث العلمي للدكتور عبد الله دراز ما زال كالبحر الواسع المترامي الأطراف منتظراً المزيد من طلاب العلم وأصحاب الهمم العالية لسبر أغواره وتحصيل كنوزه ونشر فوائده، فكلما سرحت النظر في هذا الكتاب الجامع كلما شعرت بمدى احتياجنا إلى الشيخ في خضم حياتنا اليوم ورغبتي في أن نستنسخ منه نسخاً كثيرة في صورة شبابنا من طلاب الأزهر العامر نهيئ لهم الطريق ونشجعهم ونقوي هممهم، فالله على كل شيء قدير.
يعد كتاب "النبأ العظيم ... نظرات جديدة في القرآن" المرجع الرئيسي للتعرف على الآراء العلمية للشيخ محمد عبد الله دراز في قضية الإعجاز القرآني، والكتاب ككل هو تجربة فريدة في هذا المجال المهم لما يشمله من آراء فكرية وعلمية بديعة وسباقة أظلها بأسلوب سهل ماتع يصل إلى قلب القارئ وعقله بيسر وانسيابية، وهي التي يؤكدها المؤلف، رحمه الله تعالى، في المقدمة فيصف كتابه أنه "حديث يبدأ من نقطة الصفر، فلا يتطلب من قارئه انضواءه تحت راية معينة، ولا اعتناقًا لمذهب معين، ولا يفترض فيه تخصصا في ثقافة معينة، ولا حصولاً على مؤهل معين، وإنما يناشد القارئ فقط أن يعود بنفسه صحيفة بيضاء، إلا من فطرة سليمة ورغبة صادقة في الوصول إلى الحق". وقد مكث الشيخ دراز في تأليفه لهذا الكتاب ما يزيد على ثلاثين عاما حيث بدأه منذ اشتغاله بالتدريس بالقسم العالي بالأزهر، إلا أن انشغاله برسالة الدكتوراه وسفره إلى فرنسا للحصول عليها ثم انشغاله بالتدريس في جامعة الأزهر وجامعة القاهرة بعد عودته حال دون إتمام هذا الكتاب سوى قبل موته بشهور قلائل حيث أتمه في مارس سنة 1957م، وهذا يعكس أن آراء الشيخ في هذا الكتاب هي رحلة حياة علمية كاملة بدأها من المهد إلى اللحد قدم فيها خلاصة آرائه المتفردة في مجال الإعجاز القرآني.
وقد قسم كتابه إلى محورين أساسيين، اختص المحور الأول بالرد على شبهة أن القرآن ليس بوحي سماوي، وقد أفرد الشيخ دراز ما يزيد عن مائة صفحة للتحدث عن هذه القضية وإثبات خرافتها من الناحية العقلية البحتة وساق في ذلك العديد من الأدلة القرآنية والأدلة من كتب السير والتاريخ والاكتشافات الحديثة في العلوم التجريبية. أما المحور الثاني فتناول فيه الإعجاز اللغوي والبياني للقرآن والذي يعد خير دليل علي أنه وحي وليس بكلام بشر، فكان هذا المحور تطبيقًا عمليًّا للمحور الأول، فتكلم عن الإعجاز اللغوي وما يكتنفه من شبهات دحضها بالأدلة العقلية قبل النقلية.
إلا أن أميز ما جاء به في نطاق الإعجاز اللغوي هو ما أطلق عليه "القشرة السطحية للفظ القرآن"، فألفاظ القران لها من الاتساق والائتلاف ما يولد في النفس عند سماعها نوعا من السعادة والراحة ربما تشبه بعض آثار الموسيقى الجميلة أو الشعر المنمق إلا أنها ليس فيها ما في أنغام الموسيقى أو أوزان الشعر، فالقطعة الموسيقية أو القصيدة الشعرية يصاحبها الملل عند تكرار سماعها أما اللفظ القرآني مع استمرار ترتيله لما يزيد عن ألف وأربعمائة سنة لم يصاحبه أي ضجر أو فتور من جماله وسحره، ولعل ذلك يوضح لماذا قارنت العرب بين القرآن وبين الشعر ولم تقارن بينه وبين الفنون الأخرى كالخطابة مثلا، وذلك لأنها لم تجد في خيالها سوى الشعر الذي ربما يقابل بعض إعجاز القرآن اللفظي، إلا أنها وعند عقد المقارنة وجدت أنه ليس بشعر، فوصفوه بالسحر لأنه جمع –كما قال الشيخ في كتابه- "بين طرفي الإطلاق والتقييد في حد وسط: فكان له من النثر جلاله وروعته، ومن الشعر جماله ومتعته".
أما عن الإعجاز البياني، فأوضح الشيخ انه يتألف من مستويات عدة في كتاب الله، فهناك الإعجاز على مستوى الآية ثم مجموعة الآيات ثم مستوى السورة قصيرة كانت أم طويلة ثم مجموعة السور المتعاقبة ثم القرآن كله كوحدة عضوية متكاملة مجملة، إلا أن أفضل ما ساقه الشيخ في مجال الإعجاز البياني كان تحت عنوان "الأسلوب القرآني ملتقى نهايات الفضيلة البيانية"، فأهم ما يميز القرآن من الناحية البديعية هو جمعه للأطراف البيانية المتباعدة في نقطة وسط وهو أمر يعجز عنه البشر، وتناول في هذه النقطة ثلاث قضايا رئيسية: الأولى هي القصد في اللفظ والوفاء بحق المعنى، فالكاتب خلال كتابته يعاني من صراع داخلي بين إيجاز لفظه في أقل عدد من الكلمات لإظهار مهارته اللغوية وبين رغبته في توضيح رؤيته بأسلوب دقيق مفصل، ولكن القرآن نجح في عرض أدق المعاني بأوجز الألفاظ.
وهناك قضية خطاب العامة وخطاب الخاصة، فإذا قام المؤلف بتوجيه خطابه للفئة المثقفة لَحَصَر قُرّاءَه في فئة واحدة، ولو تَبسط بأسلوبه لمخاطبة العوام لفقد الفئة المثقفة التي تمثل نخبة المجتمعات البشرية، ولكن القرآن جمع بين الخطابين العام والخاص في صورة واحدة مستحيلة الوجود سوى أن تكون من صنع الله عز وجل. والقضية الثالثة هي إقناع العقل وإمتاع العاطفة، فالقارئ دائمًا ما يبحث عن المعرفة لإشباع عقله والإحساس لإشباع وجدانه، وفي العادة يفضل الكاتب أحد الجانبين على الآخر، أما القرآن فجمع بينهما على مستوى الآية الواحدة، وساق الدكتور دراز العديد من الآيات التي يضيق المجال لذكرها لتدعيم كل قضية من هذه القضايا الثلاث، ولو قارنا بين هذا الكتاب وكتاب الأديب البارع مصطفى صادق الرافعي "إعجاز القرآن" لتبين لنا الجدة ولعرفنا مدى إلهام الله لشيخنا لإبراز بعض خصائص كتابه الكريم.
وفي نهاية كتابه قام بوضع نموذج رشيد لطلاب العلم لدراسة النسق القرآني وتحليله، تبعه بتطبيق عملي له على سورة البقرة ليكون خير معين للطلبة في فهمه واستيعابه. ورغم تنوع مؤلفات الشيخ دراز إلا أن كتابه النبأ العظيم سيظل علامة مميزة في هذا المجال الحيوي والذي إذا لم يشتمل على أي مؤلفات أخرى غيره لكفاه لغزارة ما به من حقائق و وآراء فذة لا نظير لها.
من العلماء الأفذاذ الذين نرجو من أبنائنا في الأزهر الشريف أن يجعلوهم نبراسًا لهم وهدفًا يصلون إليه فضيلة العلامة محمد الصادق إبراهيم عرجون، والذي ولد في سنة 1903م الموافق 1321هـ وانتقل إلى رحمة الله في سنة 1981م الموافق 1400هـ، ولد العلامة في بلدة إدفو وتخرج في الأزهر الشريف عام 1929م ونال شهادة التخصص سنة 1935م وعين مدرسًا بالمعاهد الأزهرية حتى أصبح شيخًا لمعهد دسوق الديني ثم شيخًا لمعهد أسيوط الديني ثم شيخًا لمعهد الإسكندرية وعميدًا لعلمائها ثم كلية اللغة العربية ثم كلية أصول الدين التي أصبح عميدًا لها عام 1964م، ورحل للعمل في الكويت والسودان والجماهيرية الليبية والمدينة المنورة وجامعة أم القرى بمكة المكرمة، وفي كل ذلك أنتج العلامة محمد الصادق عرجون كتبًا جعلته في مصاف العلماء الكبار والمؤرخين العظام؛ حيث اهتم بإبراز قادة الفكر الإسلامي عندما رأى البيئة الثقافية قد أدارت النقاش حول مفهوم قادة الفكر بعيدًا عن الدائرة الإسلامية، فنراه يقول: (فلم يشر أحد إلى تتابع الدورة الثقافية شرقًا وغربًا وإلى أن هذه الدورة قد انتهت إلى الفكر الإسلامي فأحدثت أثرها القوي في تاريخ الفكر الإنساني، فقلت في نفسي إن الضرورة ملزمة بالحديث عن قادة الإسلام وأثرهم في تحرير الفكر الإنساني وإذا كان عظماء الصدر الأول من رجالات الإسلام قد جمعوا بين السياسة والفكر أي أنهم أخضعوا الفكر النظري إلى الميدان العلمي فصدروا في أحكامهم واتجاهاتهم عن شريعة ذات هدف إنساني فإن زعماء هذا العهد قادة فكر بهذا المعنى)، ومن هنا وبهذا الأسلوب الرصين نرى الأستاذ محمد رجب البيومي يصف العلامة عرجون (بالأسلوب الرجل، ففي أسلوبه ما في شخصيته من فحولة وشجاعة وقوة، فلقد كان الأستاذ ذا حمية مخلصة وغيرة ملتهبة تلمسها في حديثه كما تراها في بريق عينيه وتوهج ملامحه).