مفهوم الحضارة
الحضارة مشتقة من الـحُضُورُ : نقـيض الـمَغيب والغَيْبةِ؛ حَضَرَ يَحْضُرُ حُضُوراً
وحِضارَةً. ويقال : رجل حَضِرٌ إِذا حَضَرَ بخير. والحَضَرُ: خلاف البَدْوِ. و الحاضِرُ: خلاف البادي. والـحاضر: المقيم فـي المُدُنِ والقُرَى، والبادي: المقيم بالبادية. ويقال: فلان من أَهل الـحاضرة وفلان من أَهل البادية، وفلان حَضَرِيٌّ وفلان بَدَوِيٌّ.
والـحِضَارَةُ: الإِقامة فـي الـحَضَرِ؛ عن أَبـي زيد. وكان الأصمعي يقول: الـحَضارَةٌ، بالفتـح؛ قال القطامي:
فَمَنْ تَكُنِ الـحَضارَةُ أَعْجَبَتْه فأَيَّ رجالِ بادِيَةٍ تَرانَا.
ورجل حَضِرٌ: لا يصلـح للسفر. وهم حُضُورٌ أَي حاضِرُونَ. والـحَضَرُ و الـحَضْرَةُ و الـحاضِرَةُ: خلاف البادية، وهي الـمُدُنُ والقُرَى والرِّيفُ، سميت بذلك لأن أهلها حَضَروا الأمصارَ ومَسَاكِنَ الديار التـي يكون لهم بها قرارٌ.
وهي ترجمة للفظة الإنجليزية "Civilization"، والتي يعود أصلها إلى عدة جذور في اللغة اللاتينية؛ "Civilties" بمعنى مدنية، و"Civis" أي ساكن المدينة، و"Cities" وهو ما يُعرف به المواطن الروماني المتعالي على البربري. ولم يُتداول الاشتقاق "Civilization" حتى القرن الثامن عشر، حين عرفه دي ميرابو في كتابه «مقال في الحضارة» باعتباره رقة طباع شعب ما وعمرانه ومعارفه المنتشرة بحيث يراعي الفائدة العلمية العامة.
ويبدو أن ما عناه غالبية من استخدموا الكلمة لأول مرة هو مزيج من الصفات الروحية والخلقية التي تحققت على الأقل بصورة جزئية في حياة البشر في المجتمع الأوربي؛ وقياسًا على ذلك تجيء التعريفات لمفهوم "Civilization"، فمثلاً يعرفه وول ديورانت بأنه "نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي، ويتألف من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون».([1])
ولم يمنع ذلك حدوث تداخل كبير في تناول الفكر الأوروبي لمفهوم "Civilization"، فهناك من جعل المفهوم مرادفًا لمفهوم الثقافة، وهناك من جعله قاصرًا على نواحي التقدم المادي مثل أصحاب الفكر الألماني، وهناك من جعله شاملاً لكل أبعاد التقدم مثل المفكرين الفرنسيين.
وبملاحظة التعريفات المقدمة لمفهوم «الحضارة» نلحظ أنها هي نفسها التعريفات التي وضعت إزاء «المدنية»، فالخلاف لفظي والمحتوى واحد وهو المضمون الأوروبي. فعادةً، يربط مفهوم الحضارة إما بالوسائل التكنولوجية الحديثة، أو بالعلوم والمعارف والفنون السائدة في أوروبا، أي خلاصة التطور الأوروبي الحالي. وينطلق هؤلاء من أن الحضارة هي جملة الظواهر الاجتماعية ذات الطابع المادي والعلمي والفني الموجود في المجتمع، وأنها تمثل المرحلة الراقية في التطور الإنساني.
ويختلف الباحثون حول تحديد الجذر اللغوي لكلمة «المدنية» فيرجعها البعض إلى «مدن» بمعنى أقام في المكان، ويرجعها آخرون إلى «دان» وهي جذر مفهوم الدين وتعني خضع وأطاع، وأيًّا كان مصدرها فقد اقترن اللفظ بتأسيس الدولة الإسلامية، وارتبط بمفهوم الدين بما يعنيه من دلالات الطاعة والخضوع والسياسة، ولقد ارتبطت المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بنظام مجتمعي حياتي وتنظيمي جديد في الجزيرة العربية ارتكز على القيم الإسلامية والمبادئ التنظيمية المنبثقة عنها.
وعلى خلاف التجربة الغربية، فالمدينة في الخبرة الإسلامية هي نتيجة لوجود قيم التهذيب والعلاقات الاجتماعية والسياسية في الدين الإسلامي، وليست سببًا فيها. ومن ناحية ثانية، فقد بدأت المدينة في الخبرة الإسلامية مما انتهت عليه المدينة في التجربة الأوروبية «مرحلة المتروبوليتان»، أي المدينة التي تتبعها مدن أخرى وترتبط بها؛ فقد كانت المدن الإسلامية جميعها حواضر راقية تتبعها مئات المدن الأخرى المنتشرة في الإمبراطورية الإسلامية.
فلم يميَز الغربيون بين الحضارة والمدنية، لقد استخدمها (وول ديورانت) وهو مؤلف (قصة الحضارة) بمعنى واحد، وقصدوا بها التقدم العلمي والتقني والرُقي الذي وصلت إليه المجتمعات و الاختراع والتفكير والتنظيم والعمل على استغلال الطبيعة للوصول إلي مستوى أفضل للحياة وهي حصيلة جهود الأمم كلها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1])- راجع بحث الحضارة المدنية .. اختلاف الدلالات باختلاف الحضارات د. نصر محمد عارف نشر على موقع إسلام أون لاين.
لا شك أن الهاتف المحمول، وملابس النساء القصيرة، وأجهزة التلفاز، وأجهزة استقبال القنوات الفضائية؛ كل هذه الأشياء من عالم الأشياء، الذي لا يتعلق به حكم في ذاته، وإنما الحكم يتعلق بالمستخدم، فالهاتف المحمول مثلاً من الأشياء التي لها فوائد عديدة، وهو تطور أحدث طفرة ملحوظة في عالم الاتصالات، وتزويد إمكانات هذا الهاتف بالكاميرا أو غير ذلك لا شيء فيه، والإنسان قد يستخدم كاميرات الفيديو نفسها استخداماً حلالاً أو غير ذلك، سواء اتصلت تلك الكاميرات بالهواتف المحمولة أو انفصلت عنها، وسواء صغرت هذه الكاميرات أو كبرت، فالعبرة بالمستخدم لأن الهواتف المحمولة أو بشكل أدق كاميرات الفيديو من الأشياء المتعددة الاستخدامات، التي يمكن أن تستخدم في كشف العورات ونشر الفاحشة، ويمكن أن تستخدم في خدمة الإسلام ونشر العلم النافع، ويمكن أن تستخدم في المباح كذلك.
وكذلك المرأة التي تشتري الملابس الضيقة أو العارية يمكن أن تلبسها لزوجها، وتتحجب من الأجانب، ويمكن أن تلبسها أمام الأجانب فتكون آثمة بذلك، وكذلك التلفاز وأجهزة استقبال القنوات الفضائية، يمكن أن يستخدمها الإنسان في الثقافة والتعلم، ويمكن أن يستخدمها في المحرم.
وقد تقرر شرعًا أن الحرمة إذا لم تتعين حلت، قال الزيلعي بعد أن عدد أشياء لم تقم الحرمة في عينها كالكبش النطوح ،والديك المقاتل، والحمامة الطيارة، وقال بعدم حرمتها : «لأنه ليس عينها منكرًا ؛وإنما المنكر في استعماله المحظور»([1]).
وعليه فكل ما كان ذا استعمالين جاز بيعه والاتجار فيه، وتكون مسئوليته على المستعمل، فإن استعمله في الحلال فحلال ،وإن استعمله في الحرام فعليه إثم الحرمة، والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــ
اقتناء الكلب في البيت
الكلب في اللغة : هو كل سبع عقور، وجمعه : أكلب وكلاب، وجمع الجمع : أكالب، والأنثى كلبة، وجمعها كلاب. أيضا وكلبات. وفي الاصطلاح : هو ذلك الحيوان النباح المعروف ومنه أشكال وفصائل إلا أنهم يشتركون في الجنس.
وقد اتفق أغلب الفقهاء على أنه لا يجوز اقتناء الكلب إلا لحاجة : كالصيد والحراسة، وغيرهما من وجوه الانتفاع التي لم ينه الشارع عنها. وقال المالكية : يكره اتخاذه لغير زرع أو ماشية أو صيد، وقال بعضهم بجوازه.
وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «من اتخذ كلبًا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط »([1]). وعن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من اقتنى كلبًا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان»([2]). وقالوا : يجوز تربية الجرو الذي يتوقع تعليمه لذلك.
قال الإمام النووي رحمه الله : «قال الشافعي والأصحاب : ويجوز اقتناء الكلب للصيد أو الزرع أو الماشية بلا خلاف لما ذكره المصنف ،وفي جواز إيجاده لحفظ الدور والدروب وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) الجواز، وهو المنصوص في المختصر»([3]).
وقد قال الشيخ عليش من كبار محققي المالكية : «ويجوز اقتناء الكلب للمنافع كلها ودفع المضار، ولو في غير البادية من المواضع المخوف فيها السراق »([4]).
وعليه فيجوز اقتناء الكلب للمنفعة والحاجة إليه، ولا يجوز اقتناؤه لغير ذلك، والله تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) أخرجه أحمد في مسنده، ج2 ص 55، ومسلم في صحيحه، ج3 ص 1202، وأبو داود في سننه، ج3 ص 108، والترمذي في سننه، ج3 ص 79.
([2]) أخرجه أحمد في مسنده، ج2 ص 8، والبخاري في صحيحه، ج5 ص 20882، والنسائي في سننه، ج7 ص 188، وابن حبان في صحيحه، ج12 ص 466.
([3]) المجموع، للإمام النووي، ج9 ص 279.
([4]) منح الجليل شرح مختصر الخليل، للشيخ محمد بن أحمد المعروف بالشيخ عليش، ج4 ص 453.
التدخين
التدخين، وهو ما يعرف بتعاطي نبات التبغ بالإحراق، وجذب الدخان الناتج عن إشعاله، والتبغ : لفظ أجنبي دخل العربية دون تغيير، وقد أقره مجمع اللغة العربية. وهو نبات من الفصيلة الباذنجانية يستعمل تدخينًا وسعوطًا ومضغًا، ومنه نوع يزرع للزينة، وهو من أصل أمريكي، ولم يعرفه العرب القدماء.
فقد ظهر في أواخر القرن العاشر الهجري وأوائل القرن الحادي عشر، وأول من جلبه لأرض العثمانيين الإنجليز، ولأرض المغرب يهودي زعم أنه حكيم، ثم جُلب إلى مصر، والحجاز، والهند، وغالب بلاد الإسلام.
ومن أسمائه : الدخان، والتتن، والتنباك. لكن الغالب إطلاق هذا الأخير على نوع خاص من التبغ كثيف يدخن بالنارجيلة لا باللفائف.
ومما يشبه التبغ في التدخين والإحراق : الطباق، وهو نبات عشبي معمر من فصيلة المركبات الأنبوبية الزهر، وهو معروف عند العرب ، خلافا للتبغ، والطباق : لفظ معرب. وفي المعجم الوسيط : الطباق : الدخان ، يدخن ورقه مفرومًا أو ملفوفًا.
ومدار حكم التدخين على الضرر، فإن تحقق الضرر الذي تمنعه الشريعة الإسلامية فيحرم لذلك، وإن لم يتحقق كره أو أبيح، وكان ذلك سبب اختلاف العلماء فيه قديمًا؛ حيث إن الطب ما زال يكتشف لنا كل جديد، ويخبرنا بأضرار التدخين يومًا بعد يوم، وما وصل إليه الطب الحديث في عصرنا ؛أن التدخين ضار جدًّا بالصحة الإنسانية، وأنه يحتوي على مادة مفترة.
فعن عبادة بن الصامت ؛أن من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم : «لا ضرر ولا ضرار»([1]) وبنيت عليه قواعد فقهية كلية وفرعية منها : «الضرر يزال»، ومنها : «دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة»، وعن أم سلمة رضي الله عنها : «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر»([2]).
وبناءً عليه يُعلم أن الشرع حرم الضرر البالغ، والتدخين يصيب الإنسان بالضرر البالغ كما أقر بذلك الأطباء، ويحرم الشرع كل مادة مفترة، والتبغ وكل النبات الذي يدخن يفتر أعصاب الإنسان، وحرم الشرع الشريف إضاعة المال، وهي الإنفاق فيما لا فائدة له، بل فيما فيه ضرر فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن الله كره لكم قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال»([3]) ؛لذا نرى أن التدخين عادة سيئة محرمة شرعًا، نسأل الله أن يتوب على من اُبتلي بها، والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) أخرجه أحمد في مسنده، ج5 ص 326، وابن ماجه في سننه، ج2 ص 784، والبيهقي في الكبرى، ج6 ص 156.
([2]) أخرجه أحمد في المسند، 6 ص309، وأبو داود في سننه، ج3 ص 329، والبيهقي في الكبرى، ج8 ص 296.
([3]) أخرجه أحمد في المسند، 2 ص327، والبخاري في صحيحه، ج2 ص 537، ومسلم في صحيحه، ج3 ص 1340.
سماع الموسيقى في الإسلام
الموسيقى لفظ يوناني يطلق على فنون العزف على آلات الطرب. وعلم الموسيقى يبحث فيه عن أصول النغم من حيث تأتلف أو تتنافر، وأحوال الأزمنة المتخللة بينها ليعلم كيف يؤلف اللحن. والموسيقي : المنسوب إلى الموسيقى، والموسيقار : من حرفته الموسيقى. والموسيقى في الاصطلاح : علم يعرف منه أحوال النغم والإيقاعات، وكيفية تأليف اللحون، وإيجاد الآلات([1])، وتطلق كذلك على الصوت الخارج من آلات العزف.
ومسألة سماع الموسيقى مسألة خلافية فقهية، ليست من أصول العقيدة، وليست من المعلوم من الدين بالضرورة، ولا ينبغي للمسلمين أن يفسق بعضهم بعضًا، ولا ينكر بعضهم على بعض بسبب تلك المسائل الخلافية، فإنما ينكر المتفق عليه، ولا ينكر المختلف فيه، وطالما أن هناك من الفقهاء من أباح الموسيقى، وهؤلاء ممن يعتد بقولهم ويجوز تقليدهم، فلا يجوز تفريق الأمة بسبب تلك المسائل الخلافية.
خاصة وأنه لم يرد نص في الشرع صحيح صريح في تحريم الموسيقى، وإلا ما ساغ الخلاف بشأنها، وممن أباح الآلات والمعازف الإمام الغزإلى ؛حيث قال : « اللهو معين على الجد، ولا يصبر على الجد المحض، والحق المر، إلا نفوس الأنبياء علىهم السلام؛ فاللهو دواء القلب من داء الإعياء، فينبغي أن يكون مباحًا، ولكن لا ينبغي أن يستكثر منه، كما لا يستكثر من الدواء. فإذًا اللهو على هذه النية يصير قربة، هذا في حق من لا يحرك السماع من قلبه صفة محمودة يطلب تحريكها، بل ليس له إلا اللذة والاستراحة المحضة، فينبغي أن يستحب له ذلك؛ ليتوصل به إلى المقصود الذي ذكرناه. نعم هذا يدل على نقصان عن ذروة الكمال، فإن الكامل هو الذي لا يحتاج أن يروح نفسه بغير الحق، ولكن حسنات الأبرار سيئات المقربين، ومن أحاط بعلم علاج القلوب، ووجوه التلطف بها، وسياقتها إلى الحق، علم قطعًا أن ترويحها بأمثال هذه الأمور دواء نافع لا غنى عنه»([2]).
وقال الغزالي أيضا : « إن الآلة إذا كانت من شعار أهل الشرب، أو الخنين، وهى : المزامير، والأوتار، وطبل الكوبة فهذه ثلاثة أنواع ممنوعة، وما عدا ذلك يبقى على أصل الإباحة كالدف وإن كان فيه الجلاجل، وكالطبل، والشاهين، والضرب بالقضيب، وسائر الآلات»
غير أن بعض أهل العلم يرون في الغناء وسماعه عبرة لمن فهم الإشارة وسمت روحه، ومن هؤلاء العلماء القاضي عياض الشبلي([3]) فقد سئل عن السماع فقال : «ظاهره فتنة، وباطنه عبرة، فمن عرف الإشارة، حل له استماع العبرة »([4]).
وكذلك سلطان العلماء العز بن عبد السلام نُقل عنه أن الغناء بالآلات وبدونها قد يكون سبيلاً لصلاح القلوب فقال : «الطريق في صلاح القلوب يكون بأسباب من خارج، فيكون بالقرآن، وهؤلاء أفضل أهل السماع، ويكون بالوعظ والتذكير، ويكون بالحداء والنشيد، ويكون بالغناء بالآلات، المختلف في سماعها، كالشبابات، فإن كان السامع لهذه الآلات مستحلاًّ سماع ذلك، فهو محسن بسماع ما يحصل له من الأحوال، وتارك للورع لسماعه ما اختلف في جواز سماعه» ([5]).
ونقل القرطبى فى «الجامع لأحكام القرآن» قول القشيرى : «ضرب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل المدينة، فهم أبو بكر بالزجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح) فكن يضربن ويقلن : نحن بنات النجار، حبذا محمد من جار. ثم قال القرطبى : وقد قيل إن الطبل في النكاح كالدف، وكذلك الآلات المشهرة للنكاح يجوز استعمالها فيه بما يحسن من الكلام ولم يكن فيه رفث»([6]).
ونقل الشوكانى فى «نيل الأوطار» فى (باب ما جاء في آلة اللهو) أقوال المحرمين والمبيحين ،وأشار إلى أدلة كل من الفريقين، ثم عقب على حديث : «كل لهو يلهو به المؤمن فهو باطل إلا ثلاثة : ملاعبة الرجل أهله، وتأديبه فرسه، ورميه عن قوسه»([7]) بقول الغزالى : «قلنا قوله صلى الله عليه وسلم : (فهو باطل) لا يدل على التحريم، بل يدل على عدم الفائدة» ،ثم قال الشوكانى: «وهو جواب صحيح ؛لأن ما لا فائدة فيه من قسم المباح([8])، وساق أدلة أخرى في هذا الصدد ،من بينها حديث من نذرت أن تضرب بالدف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إن رده الله سالمًا من إحدى الغزوات، وقد أذن لها صلى الله عليه وسلم بالوفاء بالنذر والضرب بالدف، فالإذن منه يدل على أن ما فعلته ليس بمعصية في مثل ذلك الموطن، وأشار الشوكانى إلى رسالة له عنوانها «إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع».
وقال ابن حزم : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرىء ما نوى)([9]) ،فمن نوى استماع الغناء عونًا على معصية الله تعالى ؛فهو فاسق، وكذلك كل شىء غير الغناء، ومن نوى به ترويح نفسه ليقوى بذلك على طاعة الله عز وجل وينشط نفسه بذلك على البر ؛فهو مطيع محسن وفعله هذا من الحق، ومن لم ينو طاعة ولا معصية فهو لغو معفو عنه، كخروج الإنسان إلى بستانه متنزهًا وقعوده على باب داره متفرجًا»([10]).
ونخلص من كل ما سبق أن الغناء بآلة -أي مع الموسيقي- وبغير آلة: مسألة ثار فيها الجدل والكلام بين علماء الإسلام منذ العصور الأولي، فاتفقوا في مواضع، واختلفوا في أخري.
اتفقوا علي تحريم كل غناء يشتمل على فحش، أو فسق، أو تحريض علي معصية، إذ الغناء ليس إلا كلامًا، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح، وكل قول يشتمل علي حرام فهو حرام، فما بالك إذا اجتمع له الوزن والنغم والتأثير ؟
واتفقوا علي إباحة ما خلا من ذلك من الغناء الفطري الخالي من الآلات والإثارة، وذلك في مواطن السرور المشروعة، كالعرس وقدوم الغائب، وأيام الأعياد، ونحوها بشرط ألا يكون المغني امرأة في حضرة أجانب منها.
واختلفوا في الغناء المصحوب بالآلات، وباقي المسائل المذكورة.
ولهذا نرى جواز الغناء، سواء كان مصحوبا بالموسيقى، أو لا، بشرط ألا يدعو إلى معصية أو تتنافى معانيه مع معاني الشرع الشريف، غير أن استدامته والإكثار منه يخرجه من حد الإباحة، إلى حد الكراهة، وربما إلى حد الحرمة، والله تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) الموسوعة الفقهية الكويتية، ج 38، ص 168، حرف الميم، معازف.
([2]) الفروع لابن مفلح، ج5 ص 236، 237، طـ دار الكتب العلمية.
([3]) وهو شيخ الصوفية، ذو الأنباء البديعة، وواحدة المتصوفين في علوم الشريعة، عالمًا فقيهًا، على مذهب مالك .انظر ترجمته : سير أعلام النبلاء، ج20 ص212 ،والديباج المذهب، ص 168.
([4]) التاج والإكليل، للعبدري المالكي ج2 ص 362.
([7]) رواه أحمد في مسنده، ج4 ص144 ،والترمذي في سننه، ج4 ص174 ،وابن ماجه في سننه، ج2 ص940 ،جميعاً بنحوه ،عن عقب بن عامر الجهني رضي الله عنه .
([9]) رواه أحمد في مسنده، ج1 ص25 ،والبخاري في صحيحه، ج1 ص3 ،ومسلم في صحيحه، ج3 ص1515، وابن ماجه، ج2 ص1413، واللفظ له.
سماع الغناء
الغَناء بالفتح والمد : النفع، وبالكسر والمد : السَّماع، وبالكسر والقصر : اليسار، تقول منه : غَنِي بالكسر غِنىً، فهو غَنِيٌّ و تَغَنَّى أيضًا، أي اسْتَغْنَى، و تَغانَوْا : استغنى بعضهم عن بعض، و المَغْنَى مقصور، واحد المَغَانِي، وهي المواضع التي كان بها أهلوها، ويقال: غَنَّى فلانٌ يُغَنِّي أُغْنِيَّة، و تَغَنَّى بأُغْنِيَّة حَسَنة، وجمعها الأَغاني ([1]).
والمراد هنا الذي هو مد الصوت بالكلام، والغناء بدون موسيقى لا شيء فيه طالما أن كلامه في إطار الشرع، ويستحب إن كان كلام الغناء في إطار الثناء على الله تعالى، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو للحماسة والشجاعة، وحب الأوطان، وما عدا ذلك فيكون من قبيل المباح طالما أن كلاماته لا تتنافى مع الشرع ولا تعارضه.
والغناء في بعض الأوقات أمرًا متعارفا عليه بين المسلمين، وذلك في المناسبات السارة؛ لإشاعة السرور، وترويح النفوس ،وذلك كـ : أيام العيد، والعرس، وقدوم الغائب، وفي وقت الوليمة، والعقيقة، وعند ولادة المولود.
ودل على هذا الإباحة أدلة كثيرة من السنة النبوية الصحيحة نذكر منها التالي :
تروي السيدة عائشة رضي الله عنها : أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يا عائشة ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو»([2]).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : زوجت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أهديتم الفتاة؟» قالوا : نعم. قال : «أرسلتم معها من يغني؟» قالت : لا .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأنصار قوم فيهم غزل، فلو بعثتم معها من يقول : أتيناكم أتيناكم، فحيانا وحياكم»([3]).
وعن عائشة ؛أن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى ـ في عيد الأضحى ـ تغنيان وتضربان، والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه، وقال : «دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد»([4]).
وعن عائشة رضي الله عنها أيضًا قالت : كان في حجري جارية من الأنصار، فزوجتها، قالت : فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرسها، فلم يسمع غناء، ولا لعبًا، فقال : «يا عائشة هل غنيتم عليها، أو لا تغنون عليها؟» ،ثم قال : « إن هذا الحي من الأنصار يحبون الغناء »([5]).
وعن عامر بن سعد أنه قال : كنت مع ثابت بن وديعة، وقرظة بن كعب رضي الله عنه في عرس غناء، فسمعت صوتًا، فقلت : ألا تسمعان؟ فقالا : إنه رخص في الغناء في العرس ([6]).
وعن أم سلمة قالت: دخلت علينا جارية لحسان بن ثابت ـ يوم فطر ـ ناشرة شعرها، معها دف، تغني ،فزجرتها أم سلمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعيها يا أم سلمة، فإن لكل قوم عيدًا ،وهذا يوم عيدنا»([7]).
وعن رُبيع بنت معوذ بن عفراء قالت : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل علي صبيحة بني بي، فجلس على فراشي كمجلسك مني([8])، فجعلت جويريات يضربن بدف لهن، ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر ،إلى أن قالت إحداهن : وفينا نبي يعلم ما في الغد، فقال : «دعي هذه، وقولي الذي كنت تقولين»([9]).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا، فسمعنا لغطًا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا حبشية تزف والصبيان حولها، فقال : يا عائشة تعالي فانظري. فجئت فوضعت ذقني على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لي: «أما شبعت؟» فجعلت أقول : لا ؛لأنظر منزلتي عنده، إذ طلع عمر فأرفض الناسَ عنها([10])، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس قد فروا من عمر» قالت : فرجعت([11]).
ومما ورد عن الصحابة أيضًا ما رواه زيد بن أسلم، عن أبيه : سمع عمر رجلاً يتغنى بفلاة من الأرض، فقال : الغناء من زاد الراكب ([12]).
وهناك من ذهب إلى حرمة الغناء بدون آلات العزف، ولكن الدليل لا يسعفهم بهذا، فقد قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب [الأحكام] : «لم يصح في التحريم شيء» ،وكذا قال الغزالي، وابن النحوي في [العمدة]، وقال ابن طاهر : «لم يصح منها حرف واحد» ،وقال ابن حزم : «كل ما رُوي فيها باطل وموضوع»([13]).
لا شيء في الغناء إلا أنه من طيبات الدنيا التي تستلذها الأنفس، وتستطيبها العقول، وتستحسنها الِفطَر، وتشتهيها الأسماع، فهو لذة الأذن، كما أن الطعام الهنيء لذة المعدة، والمنظر الجميل لذة العين، والرائحة الذكية لذة الشم.
والإسلام دين الجمال، ودين الطمأنينة، ولم يبق في الإسلام شيء طيب، أي تستطيبه الأنفس والعقول السليمة إلا أحله الله، رحمة بهذه الأمة ؛لعموم رسالتها وخلودها. قال سبحانه تعالي : {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] ، ولم يبح الله لواحد من الناس أن يحرم على نفسه أو على غيره شيئًا من الطيبات مما رزق الله، مهما يكن صلاح نيته أو ابتغاء وجه الله فيه، فإن التحليل والتحريم من سلطة الله وحده، وليس من شأن عباده، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59].
ولو تأملنا لوجدنا حب الغناء، والطرب للصوت الحسن يكاد يكون غريزة إنسانية وفطرة بشرية، حتى إننا لنشاهد الصبي الرضيع في مهده يسكته الصوت الطيب عن بكائه، وتنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه؛ ولذا تعودت الأمهات والمرضعات والمربيات الغناء للأطفال منذ زمن قديم، بل إن الطيور والبهائم تتأثر بحسن الصوت والنغمات الموزونة حتى قال الغزالي : « من لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال، بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور وجميع البهائم، إذ الجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثرًا يستخف معه الأحمال الثقيلة، ويستقصر - لقوة نشاطه في سماعه- المسافات الطويلة، وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه. فتري الإبل إذا سمعت الحادي تمد أعناقها، وتصغي إليه ناصبة آذانها، وتسرع في سيرها، حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها »([14]).
ومما سبق يتضح لنا أن الغناء لا يحرم إلا إذا اشتمل على كلمات تخالف الشرع، ويباح عندئذ، ويستحب إذا اشتمل على الثناء على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم والإسلام، وللحماسة وحب الأوطان، والله تعالى أعلى وأعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
([2]) أخرجه البخاري في صحيحه، ج 5 ص 1980.
([3]) رواه ابن ماجه في سننه، ج1 ص 612 ،ورواه أحمد في مسنده، ج 3 ص391 ،ولكن رواه من حديث جابر، وكذلك رواه
النسائي في سننه، ج3 ص332 ،ورواه الطبراني في الأوسط، ج3 ص315.
([4]) أخرجه البخاري في صحيحه، ج1 ص335 ،ومسلم في صحيحه، ج2 ص 608 ،وابن حبان في صحيحه، ج13 ص177، والبيهقي في سننه الكبرى، ج7 ص 92.
([5]) أخرجه ابن حبان في صحيحه، ج13 ص185.
([6]) رواه الحاكم في المستدرك، ج2 ص201 ،وقال : إنه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وابن أبي شيبة في مصنفه ، ج3
ص496 ،ولفظة غناء لأبي شيبة، وحديث الحاكم في عرس فقط دون غناء.
([7]) أخرجه الطبراني في الكبير، ج23 ص264 ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، ج2 ص206، وقال : وفيه الوازع بن نافع ، وهو
متروك .
([8]) أي خالد بن ذكوان، وهو الذي يروي الحديث عنها.
([9]) أخرجه البخاري في صحيحه، ج4 ص 1469، وأبو داود في سننه ، ج 4، صـ 281، طـ دار الفكر، والترمذي في سننه، ج3
ص 399، وابن ماجه في سننه، ج1، صـ 611، واللفظ لأبي داود.
([10]) فأرفض الناسَ عنها : أي فرقوهم عنها .انظر : لسان العرب،ج7 ص157 .
([11]) رواه النسائي في سننه، ج5 ص309.
([12]) رواه البيهقي في سننه الكبرى، ج5 ص 68.
حكم إطلاق اللحية
ورد الأمر بإطلاق اللحية وإعفائها في أكثر من حديث نبوي منها : قوله صلى الله عليه وسلم : «خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب»([1])، وقد اختلف الفقهاء بشأن دلالة هذا الأمر النبوي، هل هو للوجوب أو للندب ؟ فذهب جمهور الفقهاء أنه للوجوب، وذهب الشافعية إلى أنه للندب، وقد كثرت نصوص علماء المذهب الشافعي في تقرير هذا الحكم عندهم ،نذكر منها ما يلي :
قول شيخ الإسلام زكريا الأنصاري : « (و) يكره (نتفها) أي اللحية أول طلوعها إيثارًا للمرودة وحسن الصورة»([2]). وقد علق العلامة الرملي على هذا الكلام في حاشيته على كتاب أسنى المطالب بقوله : « (قوله : ويكره نتفها) أي اللحية إلخ، ومثله حلقها؛ فقول الحليمي في منهاجه لا يحل لأحد أن يحلق لحيته، ولا حاجبيه ضعيف»([3]).
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله ما نصه : « (فرع) ذكروا هنا في اللحية ونحوها خصالاً مكروهة؛ منها : نتفها، وحلقها، وكذا الحاجبان»([4]). وأكد ذلك الكلام الإمام ابن قاسم العبادي في حاشيته على تحفة المحتاج ،حيث قال : « قوله : (أو يحرم كان خلاف المعتمد) في شرح العباب : فائدة : قال الشيخان : يكره حلق اللحية»([5])، وقال العلامة البيجرمي في شرحه على الخطيب ما نصه : « إن حلق اللحية مكروه حتى من الرجل وليس حرامًا»([6]). وذكر الرجل هنا ليس مقابل المرأة، بل مقابل الشاب الصغير؛ حيث كان السياق أنه كان يكره حلقها أو طلوعها للشاب الصغير، فعلق بأن أول طلوعها ليس قيدًا، بل يكره للرجل الكبير كذلك.
وقد جاء القول بكراهة حلق اللحية عن غير الشافعية، من هؤلاء الإمام القاضي عياض رحمه الله صاحب كتاب الشفاء ،وأحد أئمة المالكية ؛حيث قال : « يكره حلقها وقصها وتحريقها»([7]).
ويبدو أن من ذهب إلى القول بوجوب إطلاق اللحية، وحرمة حلقها من الفقهاء لاحظ أمرًا زائدًا على النص النبوي، وهي أن حلقها كان معيبًا، ومخالفة لشكل البشر وقتها، ويُعير الإنسان به، ويُشار إليه في الطرقات، قال الرملي في حديثه عن التعزير وأنه لا يجوز أن يكون بحلق اللحية : «قوله : لا لحيته. قال شيخنا : لأن حلقها مُثلة له، ويشتد تعييره بذلك»([8]).
فإن تعلق الأمر بالعادة قرينة تصرف الأمر من الوجوب إلى الندب، واللحية من العادات، وذهب الفقهاء للقول بندب أشياء كثيرة ورد فيها النص النبوي صريحًا بالأمر؛ وذلك لتعلقه بالعادة، فعلى سبيل المثال قوله صلى الله عليه وسلم : «غيروا الشيب ولا تتشبهوا بأعدائكم من المشركين، وخير ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم »([9]).
فصيغة الأمر في حديث تغير المشيب لا تقل صراحة عنها في حديث إطلاق اللحية، ولكن لما كان تغيير المشيب ليس مستنكرًا في المجتمع تركه وفعله، ذهب الفقهاء للقول بندب تغيير المشيب، ولم يذهبوا إلى القول بوجوبه.
وعلى هذا المنوال سار علماء الإسلام، فتشددوا في وضع القبعة على الرأس، ولبس الإفرنجة، وذهبوا إلى القول بكفر من فعل ذلك، لا لأن هذا الفعل كفر في ذاته، وإنما لدلالة هذا الفعل وقتها على الكفر، ولما سار لبس الإفرنجة هو عادة القوم، لم يقل أحد من علماء الإسلام بكفر من لبسه.
فإن حكم اللحية في أيام السلف، وكل أهل الأرض كافرهم ومسلمهم يطلقونها، وليس هناك مسوغ لحلقها ؛كان خلافيًّا بين الجمهور الذين أوجبوا إطلاقها، والشافعية الذين اعتبروا إطلاقها سنة، ولا يأثم حالقها.
ولذا نرى تحتم العمل بقول الشافعية في هذا الزمان خاصة، وقد تغيرت العادات، فحلق اللحية مكروه، وإطلاقها سنة يثاب عليها المسلم، مع الأخذ في الاعتبار بحسن مظهرها، وتهذيبها بما يتناسب مع الوجه وحسن مظهر المسلم، والله تعالى أعلى وأعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــ
([1]) أخرجه البخاري في صحيحه، ج5 ص 2209، ومسلم في صحيحه، ج1 ص 222.
([2]) أسنى المطالب، للشيخ زكريا الأنصاري، ج1 ص551.
([3]) حاشية أسنى المطالب، للعلامة الرملي ، ج1 ص551.
([4]) تحفة المحتاج شرح المنهاج، لابن حجر الهيتمي، ج 9 ص 375، 376.
([5]) حاشية تحفة المحتاج شرح المنهاج، لابن قاسم العبادي، ج 9 ص 375، 376.
([6]) حاشية البيجرمي على شرح الخطيب، ج4 ص 346.
([7]) نقل ذلك الحافظ العراقي في كتابه طرح التثريب ج2 ص83، والإمام الشوكاني في نيل الأوطار، ج1 ص 143.
([8]) حاشية أسنى المطالب، للعلامة الرملي، ج4 ص162.
([9]) أخرجه البخاري في صحيحه، ج5 ص 2209، ومسلم في صحيحه، ج1 ص 222.
إمامة المرأة في الصلاة
الصلاة عبادة شرعها الله بكيفيتها وهيئتها لم يجتهد في رسمها أحد، وجعل الله لها شروط صحة، وجعل كون الإمام ذكرًا شرطًا لصحة صلاة الجماعة، وليس حقًّا للرجل، ولا انتقاصًا للمرأة، بل هذا أمر تعبدي في المقام الأول.
واتفق المسلمون على تكريم المرأة، ورأوا أن منعها من إمامة الرجال من باب التكريم لا من باب الإهانة والانتقاص، ومن أوامر الإسلام لهذا الغرض أيضًا أن الله تعالى أمر النساء أن يقفن خلف صفوف الرجال؛ لأن صلاة المسلمين قد اشتملت على السجود، فكان ذلك من قبيل قول العرب : «إنما أخرك ليقدمك»، فتأخير النساء في صفوف الصلاة ليس نوعًا من أنواع الحط من كرامتهن، بل ذلك إعلاء لشأنهن، ومراعاة للأدب العالي، وللحياء، وللتعاون بين المؤمنين ذكورًا وإناثًا على الامتثال للأمر بغض البصر.
وفي الحقيقة فإن مسألة «إمامة المرأة للرجال في الصلاة» ينظر إليها من زاويتين؛ الزاوية الأولى : هي زاوية الواقع العملي للمسلمين، وتطبيقهم الفعلي على مر العصور والدهور، والثانية: هي التراث الفقهي، والواقع النظري المعتمد لديهم.
أما عن الواقع العملي فقد رأينا المسلمين شرقًا وغربًا سلفًا وخلفًا قد أجمعوا فعليًّا على عدم تولي المرأة للأذان، ولا توليها لإمامة جماعات الصلاة، ولا توليها لإمامة الجمعة، فلم يعرف تاريخ المسلمين خلال أربعة عشر قرنًا أن امرأة خطبت الجمعة وأمت الرجال، حتى في بعض العصور التي حكمتهم امرأة مثل «شجرة الدر» في مصر المملوكية، لم تكن تخطب الجمعة، أو تؤم الرجال.
وبخصوص الواقع النظري من خلال النظر في نصوص الشرع والتراث الفقهي للمسلمين؛ فإننا نجد الفقهاء قد عرفوا الإمامة بأنها : ارتباط صلاة المصلي بمصل آخر بشروط بينها الشرع. فالإمام لم يصر إمامًا إلا إذا ربط المقتدي صلاته بصلاته، وهذا الارتباط هو حقيقة الإمامة، وهو غاية الاقتداء([1]).
أما ما ورد في هذه المسألة من نصوص الشرع الشريف ؛فقد ورد حديثان؛ الأول : حديث ورقة بنت عبد الله بن الحارث : «أن النبي – صلى الله عليه وسلم - جعل لها مؤذنًا يؤذن لها، وأمرها أن تَؤم أهل دارها»([2])، والثاني : حديث جابر بن عبد الله في روايته لخطبة من خطب النبي – صلى الله عليه وسلم - حيث قال خطبنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ... إلى أن قال عنه – صلى الله عليه وسلم - : « ألا لا تَؤُمَّنَّ امرأة رجلاً، ولا يؤم أعرابي مهاجرًا ولا يؤم فاجر مؤمنًا إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه وسوطه »([3]).
وقد ضعف بعض الحفاظ الحديث الأول كالحافظ ابن حجر العسقلاني؛ حيث قال فيه: « في إسناده عبد الرحمن بن خلاد، وفيه جهالة »([4])، أما الحديث الثاني فقد ضعفه أكثر الحفاظ، فهو أضعف من الأول، وقد ذكر الحافظ أن في إسناده عبد الله بن محمد العدوي وقال : اتهمه وكيع بوضع الحديث، وشيخه علي بن زيد بن جدعان ضعيف. ([5])
أما عن تراث المسلمين الفقهي في هذه المسألة - وهو ما يمثل فهمًا صحيحًا للأصول العامة للشريعة ؛خاصة إذا ما كان هناك إجماع عليه - فقد أجمع أهل العلم من المذاهب الأربعة، بل المذاهب الثمانية، وفقهاء المدينة السبعة على منع إمامة المرأة في صلاة الفريضة، وأن صلاة من صلى خلفها باطلة، وشذ أبو ثور، والمزني، وابن جرير ؛فذهبوا إلى صحة صلاة الرجال وراء المرأة في الفرائض([6])، وإلى هذا القول الشاذ ذهب كذلك محيي الدين بن العربي من الظاهرية.++
وأما في النوافل وصلاة التراويح فجمهور الأمة كذلك على المنع، وخالف بعض الحنابلة وقالوا بجواز إمامة المرأة للرجال في النفل والتراويح، ومن ذلك ما ذكره ابن مفلح عن إمامة المرأة في الصلاة، فقال : «تصح في نفل، وعنه : في التراويح، وقيل : إن كانت أقرأ، وقيل : قارئة دونهم، وقيل : ذا رحم، وقيل : أو عجوزًا، وتقف خلفهم لأنه أستر، وعنه : تقتدي بهم في غير القراءة، فينوي الإمامة أحدهم ، واختار الأكثر الصحة في الجملة، لخبر أم ورقة العام والخاص» ([7]).
ولذا فنرى ونفتي بما أجمعت عليه الأمة سلفًا وخلفًا، قولًا وعملًا؛ لقوة الأدلة، ولعمق النظر، وإنما نقلنا ذلك القول الشاذ من التراث الفقهي؛ لأمانة العلم وليس لجعله هو المعمول به، والدعوة للعمل بهذا القول الشاذ فيه اتهام للأمة سلفًا وخلفًا، ولا تجتمع أمة المسلمين على ضلالة أبدًا، فالإجماع حجة، وبه ضبطت المسائل الفقهية الواردة في النصوص الشرعية.
والحكمة من إبعاد المرأة في «مسألة إمامة الصلاة»؛ حتى تنسجم مع أمر الإسلام بالعفة والعفاف، وأمر غض البصر للمؤمنين والمؤمنات على حد سواء، وأمر ستر العورة، والمرأة عورتها في كل بدنها إلا الوجه والكفين؛ ولذلك كله أمر الله النساء أن يقفن خلف صفوف الرجال؛ لأن صلاة المسلمين قد اشتملت على السجود الذي به قد يتحدد جسد المرأة ويتكشف.
أمَّا ما يحدث في العالم الآن مما نراه ويراه كل أحد، من الخلط بين مسألتي إمامة الجماعة ومسألة خطبة الجمعة، فالأخيرة لم يجزها أحد، فهؤلاء المخلطون ممن ينتمون إلى مدرسة المنشقين، وهي تشتمل على تيارات عدة : بعضها ينكر السنة والإجماع، وبعضها يتلاعب بدلالات الألفاظ في لغة العرب، وبعضها يدعو إلى إباحة الشذوذ الجنسي، والزنا، والخمر، وإلى الإجهاض، وإلى تغيير أنصبة الميراث، ونحو ذلك مما نراه يبرز كل قرن تقريبًا، ثم يخبو ويسير المسلمون في طريقهم الذي أمرهم الله به حاملين رسالة سعادة الدارين للعالمين ؛ {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) راجع حاشية ابن عابدين، ج1 ص 550.
([2]) رواه أحمد في المسند ،ج6 ، ص 405 ، وأبو داود في سننه، ج 1 ص 161، والبيهقي في سننه الكبرى، ج3 ص 130 والدارقطني في سننه ،ج 1 ص 403، والطبراني في الكبير، ج 25 ص 134، وابن خزيمة في صحيحه،ج 3 ص 89 ، ولفظ ابن خزيمة؛ أن نبي الله – صلى الله عليه وسلم - كان يقول : «انطلقوا بنا نزور الشهيدة» ،وأذن لها أن يؤذن لها، وأن تؤم أهل دارها في الفريضة، وكانت قد جمعت القرآن .
([3]) رواه ابن ماجه في سننه، ج1 ص 343، والبيهقي في سننه الكبرى، ج3 ص 90، والطبراني في الأوسط، ج2 ص 64.
([4]) التلخيص الحبير، ج 2 ص 26، 27.
([5]) التلخيص الحبير، ج 2 ص 32.
([6]) راجع الموسوعة الفقهية ،حرف الذال (ذكورة) : ج 21 ص 266.
حق المرأة في اختيار زوجها
ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في حق اختيار كل منهما للآخر، ولم يجعل للوالدين سلطة الإجبار عليهما؛ فدور الوالدين في تزويج أولادهما يتمثل في النصح والتوجيه والإرشاد، ولكن ليس لهما أن يجبرا أولادهما- ذكورًا أو إناثًا – على زواج لا يرضونه، بل الاختيار الأخير في هذا للأبناء.
فالزواج يعتبر من خصوصيات المرء، وإن إجبار أحد الوالدين ابنته على الزواج بمن لا تريد محرم شرعًا؛ لأنه ظلم وتعدٍ على حقوق الآخرين، فللمرأة في الإسلام حريتها الكاملة في قبول أو رد من يأتي لخطبتها، ولا حق لأبيها أو وليها أن يجبرها على من لا تريد؛ لأن الحياة الزوجية لا يمكن أن تقوم على القسر والإكراه، وهذا يتناقض مع ما جعله الله بين الزوجين من مودة ورحمة.
وهذا الحكم المستقر دلت عليه نصوص كثيرة من شرعنا الحنيف، ووقائع فعلية تبين للعالم كله كيف تعامل الرحمة المهداة، إمام العالمين – صلى الله عليه وسلم - مع المرأة ووليها في تحد واضح لكل نظم الجاهلية التي تظلم المرأة، وأثبت حقها في اختيار زوجها، وأبطل زواج من حاول إجبارها حتى وإن كان ذلك الشخص هو الأب، ولا يخفى ما في ذلك من مخالفة لعادات العرب وقتها، فكان ذلك امتحانًا لقلوب المؤمنين بأن يرضوا بالشرع الحنيف الذي يكرم المرأة، ويحترم إرادتها واختيارها، ويتبرءوا من كل النظم التي تهين المرأة وتحتقرها وتظلمها.
فجاءت النصوص النبوية الشريفة في هذا الباب كلها تؤكد على هذا الحق، ومن ذلك قول النبي – صلى الله عليه وسلم - : « لا تنكح الأيم حتى تستأمر ،ولا تنكح البكر حتى تستأذن » .قالوا : يا رسول الله وكيف إذنها ؟ قال : « أن تسكت »([1]). كما كان ينصف – صلى الله عليه وسلم - من تأتي تشتكي إجبار أبيها لها على الزواج كما ثبت ذلك في سنته – صلى الله عليه وسلم - حيث روي : «أن جارية بكرا أتت النبي – صلى الله عليه وسلم - فذكرت له أن أباها زوجها وهى كارهة، فخيرها النبي – صلى الله عليه وسلم -»([2]).
ورُوي ؛أن رجلًا زوج ابنة له وهي كارهة؛ فأتت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن - وذكرت كلمة معناها - أبي زوجني رجلًا وأنا كارهة، وقد خطبني ابن عم لي. فقال : «لا نكاح له انكحي من شئت»([3]).
وعن خنساء بنت خذام قالت : أنكحني أبي وأنا كارهة وأنا بكر، فشكوت ذلك للنبي – صلى الله عليه وسلم - فقال : «لا تنكحها وهي كارهة»([4])، وروي أنه كانت امرأة من الأنصار تحت رجل من الأنصار، فقتل عنها يوم أحد وله منها ولد، فخطبها عم ولدها ورجل إلى أبيها، فأنكح الرجل وترك عم ولدها، فأتت النبي – صلى الله عليه وسلم - فقالت : أنكحني أبي رجلًا لا أريده، وترك عم ولدي، فيؤخذ مني ولدي، فدعا النبي – صلى الله عليه وسلم - أباها، فقال : « أنكحت فلانًا فلانة؟» قال : نعم. قال : «أنت الذي لا نكاح لك. اذهبي فانكحي عم ولدك»([5]).
ويقول ابن القيم عن حديث النبي – صلى الله عليه وسلم - : « وسألته – صلى الله عليه وسلم - عائشة رضي الله عنها عن الجارية ينكحها أهلها، أتستأمر أم لا ؟ فقال : (نعم تستأمر). قالت عائشة رضي الله عنها : فإنها تستحي، فقال – صلى الله عليه وسلم - : (فذاك إذنها إذا هي سكتت) متفق عليه. وبهذه الفتوى نأخذ، وأنه لا بد من استئمار البكر، وقد صح عنه – صلى الله عليه وسلم - : (الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها، وإذنها صماتها). وفي لفظ : (والبكر يستأذنها أبوها في نفسها، وإذنها صماتها) ،وفي الصحيحين عنه – صلى الله عليه وسلم - : (لا تنكح البكر حتى تستأذن) قالوا : وكيف إذنها ؟ قال : (أن تسكت) ،وسألته – صلى الله عليه وسلم - جارية بكر، فقالت : إن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي – صلى الله عليه وسلم -.
فقد أمر باستئذان البكر، ونهى عن إنكاحها بدون إذنها ، وخير – صلى الله عليه وسلم - من نكحت ، ولم تستأذن. فكيف بالعدول عن ذلك كله ومخالفته؟!»([6]).
واهتمام الإسلام بقضية الاختيار بين الزوجين هو في الحقيقة اهتمام بالنواة الأساسية المكونة للأسرة، فبداية الأسرة رجل وامرأة اجتمعا على قدر كبير من التفاهم، مما يؤثِّر في الأسرة عندما تكبر وتتعدد أطرافها، والأسرة هي اللبنة الأساسية للمجتمع، وعلى هذا الأساس السليم تنشأ الحضارات وتعلو القيم.
ويشهد لأهمية المرأة في تكوين المجتمع المسلم قول أمير الشعراء أحمد شوقي :
الأم مدرسة إذا أعددتها |
| أعددت شعبا طيب الأعراق |
وكما أعطى الإسلام المرأة الحق في اختيار زوجها أعطاها الخيار في البقاء معه أو فراقه عندما تسوء العشرة بينهما ولا يمكن التوفيق والصلح ولهذا شرع الطلاق لمصلحة المرأة والرجل على السواء.
فمن المفاهيم الشائعة عن الإسلام ونظامه في الأسرة أن الرجل وحده هو الذي يملك حق إنهاء العلاقة الزوجية، وهو وحده صاحب قرار الطلاق، وأن المرأة لا تملك هذا الحق، والحقيقة غير ذلك تمامًا.
فإن التشريع الإسلامي في نظامه الفريد أعطى المرأة حق إنهاء العلاقة الزوجية كما أعطى للرجل ذلك، وجعل لإنهاء العلاقة الزوجية من قِبَل المرأة عدة أشكال؛ فللمرأة الحق في أن تشترط على زوجها أن تكون العصمة بيدها ـ بمعنى أن أمر الطلاق لها فتطلق نفسها وقت ما تشاء ـ وفي هذه الحالة تطلق المرأة نفسها وتستحق جميع حقوقها، وكأن الزوج هو الذي طلقها، فلا ينقص من حقها شيء، ولها كذلك أن تطلب التفريق بينها وبين زوجها للضرر، إذا لحقها منه ضرر بالغ فيفرق بينهما القاضي، وتستحق كذلك جميع حقوقها دون أي نقصان، ولها كذلك أن تختلع، وفي هذه الحالة فقط تنفصل المرأة عن الرجل، ولكنها تتنازل عن حقوقها لعدم وجود سبب لإنهاء العلاقة الزوجية؛ فليس من العدل حينئذ تغريم الرجل بالمستحقات، وهو متمسك بالعشرة بينهما.
وقد دلت على صور تخيير المرأة في قرار الانفصال نصوص كثيرة منها، ما روي عن ابن عباس ؛أن زوج بريرة كان عبدًا يقال له مغيث : كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم- لعباس : «يا عباس ألا تعجب من حُب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثا؟» ،فقال النبي – صلى الله عليه وسلم- : «لو أرجعته؟» ،قالت : يا رسول الله أتأمرني؟ قال: «إنما أنا أشفع» قالت : فلا حاجة لي فيه([7]) ؛وذلك لما علمت أن كلامه ليس أمرًا، وإنما هو مشورة تخيرت تركه، حيث كان من حقها تركه بعد أن أصبحت حرة.
وجاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي – صلى الله عليه وسلم- فقالت : يا رسول الله، ما أنقم على ثابت في دين ولا خلق إلا أني لا أحبه، فقال – صلى الله عليه وسلم- : «فتردين عليه حديقته؟» ،فقالت: نعم، فردت عليه حديقته ،وأمره ففارقها([8]).
هذا إيضاح موجز لمسألة اختيار المرأة لزوجها واحترام إرادتها إذا أرادت فراق زوجها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) أخرجه أحمد في مسنده، ج2 ص 434، وأخرجه البخاري في صحيحه، ج 5 ص 1974، ومسلم في صحيحه، ج2 ص 1036.
([2]) أخرجه أحمد في مسنده، ج1 ص 117، وأبو داود في سننه ج 2 ص 232، وابن ماجه في سننه ، ج1 ص 603.
([3]) رواه النسائي في الكبرى، ج 3 ص 282.
([4]) رواه النسائي في الكبرى، ج 3 ص 282، والطبراني في الكبير، ج24، ص 251.
([5]) رواه عبد الرزاق في مصنفه، ج6 ص 147، وسعيد بن منصور في السنن، ج1 ص 184.
([6]) إعلام الموقعين، لابن القيم، ج 4 ص 260، 261 .
([7]) أخرجه البخاري في صحيحه، ج5 ص 2023، وأبو داود في سننه، ج2 ص 207، والنسائي في سننه، ج8 ص 245.
تعدد الزوجات وحقيقته
من باب تصحيح المفاهيم وإرساء الحقائق يجب علينا أن نعلم أن الإسلام جاء بالحد من تعدد الزوجات، ولم يأت بتعدد الزوجات كما يظن الآخرون، فعن سالم، عن أبيه؛ أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم - : « اختر منهن أربعًا »([1]). من هذا الحديث يظهر لنا أن الإسلام نص على الحد من كثرة عدد الزوجات، وفي المقابل لم يرد أمر لمن تزوج واحدة بأن يتزوج أخرى؛ وذلك لأن تعدد الزوجات ليس مقصودًا لذاته، وإنما يكون تزوج الرجل مرة أخرى لأسباب ومصالح عامة.
فلم يرد تعدد الزوجات في القرآن الكريم بمعزل عن أسبابه، فالله عز وجل قال : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]. فالذين فسروا الآية الكريمة أو درسوها كنظام إنساني اجتماعي فسروها بمعزل عن السبب الرئيس الذي أُنْزِلَت لأجله، وهو وجود اليتامى والأرامل؛ إذ إن التعدد ورد مقرونا باليتامى؛ حيث قاموا بانتزاع قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] دون القول السابق، والذي صيغ بأسلوب الشرط {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] وكذلك دون القول اللاحق، والذي يقيد تلك الإباحة بالعدل ؛حيث قال : {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } [النساء: 3].
فمن ذهب إلى القرآن الكريم لا يجد دعوة مفتوحة صريحة للتعدد دون تلك القيود التي أشرنا إليها، ومن ذهب إلى السنة فسيجد أن الإسلام نهى عن التعدد بأكثر من أربع نساء، وشتان بين أن يكون الإسلام أمر بالتعدد حتى أربع نساء، وبين أن يكون نهى عن الجمع بين أكثر من أربع نساء.
فإنّ نظام تعدّد الزوجات كان شائعًا قبل الإسلام بين العرب، وكذلك بين اليهود والفرس، والتاريخ يحدّثنا عن الملوك والسلاطين بأنّهم كانوا يبنون بيوتًا كبيرة تسع أحيانًا أكثر من ألف شخص ، لسكن نسائهم من الجواري ، وفي بعض الأحيان يقومون بتقديمهن كهدايا إلى ملوك آخرين، ويأتون بنساء جديدات، كما أنه في شريعة اليهود وفي قوانينهم - حتى الآن- يبيحون تعدد الزوجات، ولا يجرؤ أحد أن يهاجمهم في عقيدتهم ودينهم وشرعهم.
والغريب أن الذين يحاربون نظام الإسلام في السماح للرجل بالزواج مرة أخرى في ظروف معينة يعانون من تفكك أسري، وانتشار الفاحشة، وإباحة تعدد الخليلات (العشيقات) بلا عدد ولا حد، فالخليلة لا تتمتع بحقوق الزوجة، إضافة إلى ما يترتب على الأمر من خيانة الزوجة، وإسقاط حقوقها، ناهيك عن عدم الاعتراف بتلك الخليلة وبأولادها. فهي وحدها التي تتحمل ثمن أجرة الإجهاض، أو تعيش غير متزوجة (الأم العازبة)؛ لترعى طفلها غير الشرعي! {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81].
التعدد المباح في الغرب هو التعدد في غير إطار، وهو التعدد الذي لا يكفل للمرأة أي حق، بل يستعبدها الرجل، ويقيم معها علاقة غير رسمية ويسلب زهرة حياتها، ثم يرمي بها خارج قلبه وحياته، وقد يتسبب لأسرته في أمراض جنسية خطيرة إلى جانب أطفال السفاح الذين لا يعترف بهم في أكثر الأحيان. ولكثرة الأرقام وكثرة الإحصائيات نكتفي بأخذ نموذج من الدول الغربية، وليكن الولايات المتحدة الأمريكية، ولندع الأرقام تتحدث :
v في عام 1980م (1.553000) حالة إجهاض، 30 % منها لدى نساء لم يتجاوزن العشرين عامًا من أعمارهن، وقالت الشرطة: إن الرقم الحقيقي ثلاثة أضعاف ذلك.
v في عام 1982 م (80%) من المتزوجات منذ 15 عامًا أصبحن مطلقات.
v وفي عام 1984م (8 ملايين) امرأة يعشن وحدهن مع أطفالهن دون أية مساعدة خارجية.
v وفي عام 1986م (27%) من المواطنين يعيشون على حساب النساء.
v وفي عام 1982م (65) حالة اغتصاب لكل 10 آلاف امرأة.
v وفي عام 1995م (82) ألف جريمة اغتصاب؛ 80% منها في محيط الأسرة والأصدقاء، بينما تقول الشرطة : إن الرقم الحقيقي 35 ضعفًا.
v وفي عام 1997م بحسب قول جمعيات الدفاع عن حقوق المرأة : اغتصبت امرأة كل 3 ثوان، بينما ردت الجهات الرسمية بأن هذا الرقم مبالغ فيه في حين أن الرقم الحقيقي هو حالة اغتصاب كل 6 ثوان!
v 74% من العجائز الفقراء من النساء؛ و 85% من هؤلاء يعشن وحيدات دون أي معين أو مساعد.
v ومن 1979 إلى 1985: أجريت عمليات تعقيم جنسي للنساء اللواتي قدمن إلى أمريكا من أمريكا اللاتينية، والنساء اللاتي أصولهن من الهنود الحمر، وذلك دون علمهن.
v ومن عام 1980 إلى عام 1990م: كان بالولايات المتحدة ما يقارب مليون امرأة يعملن في البغاء.
v وفي عام 1995: بلغ دخل مؤسسات الدعارة وأجهزتها الإعلامية 2500 مليون دولار. ([2])
كل هذه الأرقام هي نتائج طبيعية لاستبدالهم بنظام تعدد الزواج واحترام المرأة في الشريعة الإسلامية، نظام الانفلات وتعدد الصديقات والعشيقات، ثم بعد ذلك يهاجمون التشريع الإسلامي.
ولننظر آراء المنصفين من الغربيين في تلك القضية، تقول إحداهن : « لقد كثرت الشاردات من بناتنا، وعم البلاء، ودلل الباحثون عن أسباب ذلك؛ وإذ كنت امرأة تراني أنظر إلى هاتيك البنات، وقلبي يتقطع شفقة عليهن وحبًّا وماذا عسى يفيدهن بشيء حزني ووجعي وتفجعي وإن شاركني فيه الناس جميعًا؛ إذ لا فائدة إلا في العمل بما يمنع هذه الحالة الرجسة.
ويرى العالم (توس) أن الدواء الكافل للشفاء من هذا الداء؛ هو الإباحة للرجل بالتزوج بأكثر من واحدة وبهذه الواسطة يزول البلاء لا محالة، وتصبح بناتنا ربات بيوت، فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوربي على الاكتفاء بامرأة واحدة، فهذا التحديد هو الذي جعل بناتنا شوارد وقذف بهن إلى التماس أعمال الرجال، ولا بد من تفاقم الشر إذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة. أيُ ظنٍ وخرصٍ يحيط بعدد الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد غير شرعيين أصبحوا كلًّا وعالةً وعارًا في المجتمع الإنساني فلو كان تعدد الزوجات مباحًا لما حاق بأولئك الأولاد وبأمهاتهم ما هم فيه من العذاب والهوان، ولسلم عرضهن وعرض أولادهن. فإن مزاحمة المرأة للرجل ستحل بنا الدمار. ألم تروا أن حال خلقتها تنادي بأن عليها ما ليس على الرجل، وعليه ما ليس عليها، وبإباحة تعدد الزوجات تصبح كل امرأة ربة بيت وأم أولاد شرعيين»([3])
وعن كاتبة أخرى تقول : « لأن تشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم خير وأخف بلاء من اشتغالهن في المعامل، حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة حيث الخادمة والرقيق ينعمان بأرغد عيش، ويعاملان كما يعامل أولاد البيت ولا تمس الأعراض بسوء. نعم إنه لعار على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثلا للرذائل بكثرة مخالطة الرجال، فما بالنا لا نسعى وراءها بجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت وترك أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفها»([4]).
وهذا الفيلسوف الألماني الشهير «شوبنهور» يقول : « إن قوانين الزواج في أوربا فاسدة المبنى، بمساواتها المرأة بالرجل؛ فقد جعلتنا نقتصر على زوجة واحدة فأفقدتنا نصف حقوقنا، وضاعفت علينا واجباتنا ... - إلى أن قال : - ولا تعدم امرأة من الأمم التي تجيز تعدد الزوجات زوجا يتكفل بشئونها، والمتزوجات عندنا قليل، وغيرهن لا يحصين عددًا، تَرَاهُن بغير كفيل: بين بكر من الطبقات العليا قد شاخت وهي هائمة متحسرة، ومخلوقات ضعيفة من الطبقات السفلى، يتجشمن الصعاب، ويتحملن مشاق الأعمال، وربما ابتذلن فيعشن تعيسات متلبسات بالخزي والعار، ففي مدينة لندن وحدها ثمانون ألف بنت عمومية، سفك دم شرفهن على مذبح الزواج، ضحية الاقتصار على زوجة واحدة، ونتيجة تعنت السيدة الأوربية، وما تدعيه لنفسها من الأباطيل. أما آن لنا أن نعد بعد ذلك تعدد الزوجات حقيقة لنوع النساء بأسره»([5]).
وقالت «أني بيزانت» زعيمة الصوفية العالمية في كتابها «الأديان المنتشرة في الهند» : «ومتى وزنَّا الأمور بقسطاس العدل المستقيم، ظهر لنا أن تعدد الزوجات الإسلامي الذي يحفظ ويحمي ويغذي ويكسو النساء؛ أرجح وزنًا من البغاء الغربي الذي يسمح بأن يتخذ الرجل امرأة لمحض إشباع شهواته، ثم يقذف بها إلى الشارع متى قضى منها أوطاره».
وقال غوستاف لوبون : « إن نظام تعدد الزوجات نظام حسن يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تمارسه، ويزيد الأسر ارتباطًا، ويمنح المرأة احترامًا وسعادة لا تجدهما في أوربا ».
ما سبق يؤكد لنا أن نظام تعدد الزوجات أو إباحة التزوج بأكثر من واحدة ؛تحقيقًا لمقاصد الشريعة التي نص عليها الشرع الإسلامي؛ ليس منقوضًا عند كل المفكرين الغربيين، وقد رأينا شهادة المنصفين منهم.
وفي الختام نؤكد أن الإسلام أباح للرجل بأن يتزوج بأكثر من واحدة لكل هذه الفوائد التي ذكرناها وجاءت تلك الإباحة مقيدة في القرآن ،قال تعالى : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] ،كما أشار سبحانه إلى صعوبة العدل المطلق بين النساء ، فقال تعالى : {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129].هذا على أنه يمكن العدل النسبي في المبيت والنفقة والسكن والكسوة ونحوها. وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم - يقول : " اللهم هذا قسمي فيما أملك ،فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" يعني : القلب([6]).وقال المفسرون : في الحب والجماع([7]).
ورأينا كذلك في السنة النبوية الغراء أن النبي – صلى الله عليه وسلم - لم يأمر في حديث من أحاديثه من تزوج بواحدة أن يتزوج مرة أخرى، وإنما جاءت السنة بعكس ذلك، وهي أن من تزوج بنساء كثيرات أن يُطَلق عنه حتى يبقى عددًا محصورًا كما ذكرنا في حديث سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة ،فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم - : « اختر منهن أربعًا »([8]).
وأرى أن الأمر قد اتضح، والشبهة قد زالت، وتبين أن الزواج بأكثر من واحدة من خلال النظام التشريعي الإسلامي؛ هو في الحقيقة تكريم للمرأة؛ لأن الإنسان لا بد أن تكون نظرته متكاملة؛ فالنظر للمرأة التي يتزوج الرجل عليها وحده ليس إنصافًا، فإن التي سوف يتزوجها الرجل هي امرأة كذلك، وكرَّمها الشرع بأن سمح للرجل أن يتزوج منها لعلاج ما يعانيه المجتمع من مشكلات اجتماعية واقتصادية.
نسأل الله أن يبصرنا بأمور دنيانا وديننا، والله من وراء القصد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) رواه أحمد في المسند ج2 ، ص 13، وابن ماجه في سننه ج 1 ، ص 628.
([2]) التقرير السنوي المسمى بـ "قاموس المرأة" صدر عن معهد الدراسات الدولية حول المرأة، ومقره مدريد.
([3]) المنار ،ج4 ص 485 ،نقلاً عن جريدة (لندن ثرو ) بقلم بعض الكتاب ما ترجمته ملخصًا.
([5]) الإسلام روح المدنية، لمصطفى الغلاييني ص 224، وهذا الرقم الذي ذكره شوبنهور كان في عهده حيث توفى سنة 1860م.
([6]) أخرجه أحمد في مسنده ،ج6 ص144 ،وأبو داود في سننه ،ج2 ص 242 ،واللفظ له ،والترمذي في سننه ،ج3 ص446 ، والنسائي في سننه الصغرى ،ج7 ص63 ،وابن ماجه في سننه ،ج1 ص633 .