النفس البشرية ليست معصومة من الزلل بل الخطأ من شيمها ويستوي في ذلك الآدميون إلا من اصطفاهم الله لرسالته فطهر قلوبهم من المعاصي وفي إدراك ذلك المعنى طمأنة للنفس وتسامح معها وحسن ظن بخالقها إن رجعت إليه وطلبت منه الصفح والغفران.. عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» (أخرجه الترمذي وابن ماجه) وهذا العفو يساعد الإنسان أن يستدرك شئون حياته يعد وقوعه في الخطأ أو المعصية ويساعده ألا يتوقف عن شؤم الإحساس بالذنب مبالغا فيه جالدا ذاته فيعطل مسيرة الحياة ويوقع الناس في العنت والشدة وبعد الاعتراف بالذنوب والخطايا أهم ما يعتمد عليه الدين في إصلاح النفس البشرية لأنه يعيد إلى النفس المضطربة طمأنينتها وسكينتها المفقودة.. ولأجل ذلك شرع الاستغفار من الذنوب وحض عليه النبي صلى الله عليه وسلم كوسيلة دائمة تساعد المرء على التسامح مع نفسه والرضا عنها.
وتحكي السيرة النبوية العديد من القصص التي تؤكد هذا المعنى. ومثال على ذلك ما يحكيه أبو هريرة رضي الله عنه فيما أخرجه البخاري ومسلم أنه قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت قال «مالك؟» قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هل تجد رقبة تعتقها؟» قال: لا، قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال: لا، فقال: «هل تجد إطعام ستين مسكينا؟» قال: لا. قال: «فمكث النبي صلى الله عليه وسلم فبينا نحن على ذلك أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيها تمر والعرق المكئل- قال: «أين السائل؟» فقال: أنا.. قال: «خذ هذا فتصدق به» فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله فوالله ما بين لابتيها يريد الحرتين أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: «أطعمه أهلك».
فهذا الصحابي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم يرتجف ويشعر بمصيبة مهلكة وقع فيها لا خلاص له منها. فأخذ النبي يساعده على تهدئة نفسه وإيجاد المخرج والخلاص لها فعدد عليه النبي صلى الله عليه وسلم مسالك التكفير عن هذا الذنب واحدة تلو الأخرى فلم يستطع إتيان أحدها حتى وصل به الحال أن أخذ كفارة ذنبه ليطعمها هو وعياله الفقراء مما يوضح بجلاء أن العقوبة أو الكفارة مقصورة لتصفية نفس المذنب ومساعدته على العفو عن نفسه وكذلك شرعت لأجل الندم والرجوع عن الخطيئة وقد تحقق هذان الأمران في نفس الصحابي فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاه العرق وصرفه.
ويلاحظ أن مسالك التكفير عن الذنب تظهر في شكل أعمال تكافلية يعود نفعها على المجتمع كله وأن النبي صلى الله عليه وسلم ببساطته وسماحته سهل على المؤمن سبيل السكينة والعفو عن ذاته كي يقبل على عمله وإعماره الحياة بقلب منشرح غير قلق ولا متوتر.
وعن ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال: أرجع إلى مكاني فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده» (أخرجه البخاري في صحيحه) وفي هذا الحديث تربية على التسامح مع الآخرين والفرح بعودتهم نادمين على خطئهم فالله رب العالمين يفرح بعودة عبده عندما يشعر بضآلته وعظيم جرمه في حق خالقه الذي لا يضره ذنب ولا تنفعه طاعة وإنما فرحه وشكره ورضاه راجع للعبد فضلا وإحسانا. وقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم ضرب المثل البليغ وسيلة تربوية وضمنه معنى التسامح مع النفس ومع الآخرين وحض فيه المسلم على التوبة والرجوع عن الخطيئة.
قيمة التسامح من القيم السامية في دين الإسلام قال الله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل:125].
وقال: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة:256] وقال: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة:8]. وقد تحقق التسامح في الإسلام بصورة واضحة سواء التسامح الديني والذي يعني التعايش بين الأديان والمذاهب المختلفة وحرية ممارسة الشعائر الدينية والتخلي عن التعصب الديني والتميز العنصري أو التسامح الفكري بمعنى حرية الحوار والمناقشة والمعارضة مع عدم التعصب للأفكار الشخصية ومنح الحرية في الإبداع والاجتهاد ولقد رسخ الإسلام في قلوب المسلمين تحت شعار التسامح مبادئ رئيسية:
1- الديانات السماوية تستقي من معين واحد قال عز وجل: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) [الشورى:13].
2- الأنبياء إخوة لا تفاضل بينهم من حيث الرسالة ومن حيث الإيمان بهم قال تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة:136].
3- العقيدة لا تنعقد في القلب إلا بالاقتناع العقلي والاطمئنان القلبي وبناء على ذلك جاء النهي عن الإكراه في الاعتقاد حيث قال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:256].
4- يجب احترام العباد ورجال الدين وأماكن العبادة علي اختلافها حيث قال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40].
5- حرص القرآن على أن يربي أتباعه على مجادلة المخالفين بالحسنى والعقل بما يعكس روح احترام الآخر واحترام نظرته المختلفة وذلك لأجل إقامة علاقات إنسانية بين الناس على أساس التسامح والسلام قال تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [العنكبوت:46] وقال تعالى حينما كلف موسى وهارون بالذهاب إلى فرعون وقومه ودعوهما إلى الإيمان بالله: (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه:42-44] وكذلك نرى في القرآن الكريم مثالاً للحوار المتسامح مثل فيه نبي الله إبراهيم نموذجا للتسامح في الحوار ومواجهة صلف الآخر وتعنته بروح مسالمة فقد عرض على أبيه الإيمان بالله وبين له بالعقل والحكمة والموعظة صحة عقيدته، وكان سيدنا إبراهيم حريصاً على تكرار النداء الهادئ مذكراً أبيه بصلة القرابة متألفاً قلبه إليه: يا أبت. وكان رده على توعد أبيه بالرجم: سلام عليك.
إن تحقيق السلام هو غاية جميع العلاقات الإنسانية والتسامح مع الآخرين هو الوسيلة النافعة في تحقيق تلك الغاية وهذه المبادئ الخمسة هي الطريق الأمثل لتأسيس روح التسامح في مجتمعنا المعاصر، اللهم تقبل صالح أعمالنا واغفر لنا وتوفنا مع الأبرار.
نحتاج في وقتنا الحاضر إلى فهم عميق لسُنة التكامل فإن في فهمها الخير الكثير، وفي ترك فهمها، وعدم القدرة على استكشافها الشر الكثير فإن فهم سُنة التكامل يجعل أصل الخلق عند المسلم هو التكامل وليس الصراع، ولذلك يفهم العلاقة بين الذكر والأنثى على أنها خلقت للتكامل، بخلاف التوجه الذي يدعو إلى أن الأصل هو الصراع، وأنه يجب على المرأة أن تصارع الرجل لتحصل على حقوقها، وأن المحكوم يجب أن يصارع الحاكم للحصول علي حقوقه، وأن الإنسان يجب أن يصارع الكون حتى يحصل منه منفعته على ما استقر في الفكر الإغريقي من فكرة صراع الآلهة وانتصار الإنسان في النهاية عليها.
وفهم سُنة التكامل لا ينفي حدوث الصراع أو إمكانية حدوثه ووقوعه، ولكن هناك فرقاً بين أن نجعله أصلاً للخلقة لا يمكن الفرار منه، وبين أن نجعله حالة عارضة يجب أن نسعى لإنهائها حتى تستقر الأمور على الوضع الأول الذي خلقه الله.
هذا التكامل هو الذي يفرق عند فهمه بين المعنى الروحي للجهاد في سبيل الله وبين الحرب التي تشن هنا وهناك لأجل المصالح والهيمنة والاستعلاء في الأرض والفساد فيها أيضاً.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
وقال سبحانه: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا) [الإسراء:12].
وقال تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:26].
وقال تعالى: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف:32].
وهذا التكامل هو الذي يجعل العلاقة بين الرجل والمرأة مآلها إلى السكن والسكينة، وإلى المودة والرحمة، وإلى التعاون وعمارة الأرض بالنسل الصالح القوي.
يقول تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم:21].
ذلك التكامل الذي يجعل الحاكم والمحكوم في خندق واحد أمام كيد الكائدين ويجعل الحاكم رفيقاً رحيماً بالمحكومين، راعياً لشئونهم، قائماً بمسئوليته على أكمل وجه، حيث يتمثل كل حاكم وصية الإمام علي بن أبي طالب لمالك بن الأشتر حين ولاه مصر عندما قال له: «وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل، ويؤتي على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه».. والتكامل يجعل المحكوم متعاوناً متفهماً لحاكمه، معرضاً عما لا فائدة من ذكره، مقبلاً على صالح بلاده ونمائها.
إنه التكامل الذي يجعل صاحب العمل يتعاون مع العمال وصاحب رأس المال يتكامل مع القوة البشرية التي تدير المشروع، فلا يكون هناك نهم من صاحب المال بحيث يطمع ويستغل ظروف سوق العمل، ولا يكون هناك ضغط من العمال لأخذ ما لا يستحقون، بل يتعاون الجميع على تنمية اقتصاد البلاد وصالح أحوالهم المعيشية بما يرضي الله.
إنه التكامل الذي يجعل صاحب البناء متعاوناً ومتفاهماً مع المستأجرين فيتعاون الجميع على نظافة وجمال بنايتهم، فيصبح الحي كله نظيفاً جميلاً، ومن ثم يكون البلد كله متحضراً وعنواناً على نظافة المسلمين وتعاونهم.
ذلك التكامل هو الذي يجعل الغني يساعد الفقير، ويجعل الفقير منتجاً ويتخلص من فقره، ويجعل الشعور السائد بين الأغنياء والفقراء الحب والتعاون، فلا يرى الغني في نفسه فضلاً على الفقير، ولا يرى الفقير في نفسه دناءة.
هذا التكامل الذي إذا ما تم في كل تلك المجالات يتحقق فينا وصف المصطفى إذ يقول: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد. إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى» [أخرجه البخاري ومسلم].
هذا التكامل الذي أراده الله لصلاح الناس وإصلاح الأرض وإعمارها، رزقنا الله فهم سُنة التكامل وتطبيقها على الأرض.. آمين.
إن دراسة السنن الإلهية بل واستقلال علم بدراستها وبيان علاقتها مع المبادئ العامة القرآنية التي تُكوِّن أيضاً عقل المسلم من مثل قوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام:164] وقوله سبحانه: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 179] وقوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) [المائدة: 95] وقوله سبحانه: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) [النجم:39] وقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج:78] إلى آخر ما هنالك من أسس ومبادئ تبين أن الضرر يزال، واليقين لا يرفع بالشك، والأمور بمقاصدها ونحو ذلك.. كل ذلك يعد من الأمور المهمة الواجب الوقوف عليها وإعطائها مزيداً من الجهد والعناية من قبل العلماء والباحثين.
فدراسة السنن الإلهية يمكن أن تفيد الإنسان والإنسانية بنظرة جديدة لمجموعة العلوم الاجتماعية والإنسانية ويمكن بهذه النظرة أن نهيئ لتجديد علمي واع للخطاب الديني.
ولقد ألَّف المرحوم الشيخ محمد الصادق عرجون عن السنن الإلهية، ودعا الشيخ رشيد رضا في المنار إلى الالتفات إليها، ومن المحدثين تكلم عنها الدكتور جمال عطية، وكتبت السيدة زينب عطية موسوعة لها، وللدكتور عبد الكريم زيدان كتاب مستقل، وهناك إسهامات الدكتور مصطفى الشكعة رحمه اللَّه.. وكذلك كتاب الدكتور مجدي عاشور الذي يجمع بين التأصيل والتطبيق، ويعد صنيع الدكتور سيف عبد الفتاح في كتابه «مدخل القيم» محاولة جادة رصينة لبدء تكوين هذا العلم الذي قد يصل بنا إلى بناء علم أصول فقه الحضارة بعد أن وضع الشافعي علم أصول فقه النص الشريف.
ولمعرفة سنن اللَّه في الكون فوائد عظيمة في حياة الإنسان المسلم، حيث إنه يتمكن من الفهم عن اللَّه في كونه، ومن التسليم والرضا بقضائه، ومن الاستفادة من هذه السنن في تنظيم منهج حياته للوصول إلى ربه وخدمة أمته.
نتكلم هذه المرة عن سنة إلهية مهمة وهي: سنة التكامل. والتكامل يعني أموراً.
الأول: أن المخلوقات بها نقص جبلي، فيحتاج كل مخلوق إلى باقي المخلوقات في منظومته حتى يحقق الوظائف التي بها معاشه وسعادته..
والثاني: أن اللَّه تنزه عن الاحتياج إلى زوج يكمله. وتَفَـرَّد بالقيومية، وجعل خلقه أزواجاً في حاجة في الظاهر إلى بعض، وفي الباطن في فقر دائم وحاجة مستمرة له سبحانه، فقال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) [يس:36].
والثالث: أن أساس العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان هي التعاون وليس العداء، بل إن أساس العلاقة بين الإنسان والكون هي التفاعل والصلاح والتكامل، مما يؤكد على ما استقر في عقلية المسلم من أن الصراع طارئ، وأن الأساس التكامل.
والرابع: أن ما دام الأمر كذلك فعلى المسلم مسئولية كبيرة في هذه الأرض، وهي عودة الاستقرار والسلم إليها، وإنهاء حالة الصراع والنزاع فتلك المفاهيم التي تترتب على سنة التكامل لو اطلع عليها من يهاجم الإسلام بغير علم لاعتذر للأمة في تراثها وفي تاريخها، واهتدي بها في سيره لإصلاح العالم بأسره..
والخامس: أن يتواضع الإنسان لخالقه سبحانه، حيث يدرك الإنسان نقصه واحتياجه لكل ما حوله، فهو في حاجة دائمة للهواء الخارجي للتنفس، وللماء للشرب، وللطعام للأكل، وللنوم، ولقضاء الحاجة، وللزوجة، وللأبناء، وللأصدقاء، واللَّه هو الذي يغني الإنسان بتوفير كل ذلك له، فيتواضع لعظمة اللَّه، ويتيقن من فقره، ويعلم أنه غير قادر على الاستقلال بعيداً عن اللَّه وفضله.
الكثير من الفوائد والمعاني العظيمة تخبرنا بها تلك السنة الإلهية المهمة مما يجعل تلك السنة منهجاً متكاملاً للتربية والصلاح وعمارة الأرض وإفشاء السلام.
إن اللَّه قد خلق الأكوان مختلفة في ظاهرها، لكنها متحدة في الهدف والغاية، فهذا الخلاف والاختلاف إنما هو للتنوع وليس للتضاد.؛ فالليل والنهار يشكلان يوماً واحداً لكل منهما خصائص، والذكر والأنثى لكل منهما خصائص، ولكل منهما وظيفة، والحاكم والمحكوم لكل منهما وظيفة، والغني والفقير، وكذلك أغلب الثنائيات الخلقية أو القدرية؛ فالخلقية كالليل والنهار والذكر والأنثى، والقدرية كالحاكم والمحكوم والغني والفقير سميناها قدرية لنفرقها عن الخلقية وإن كان فيها سعي للإنسان واختيار وكسب إلا أنها من فضل اللَّه وقدره أيضاً.
أراد الله من خلقه الصلاح والإصلاح، وذلك لخير أنفسهم فهو لا يحتاج إلى أحد، والخلق كله في حاجة دائمة إليه سبحانه، وقد قام كون الله تعالى الفسيح على قوانين وقواعد ثابتة لا تتخلف، فليس بمقدور أحد من البشر أن يغير هذا النظام الكوني الذي حكم الله به، ولله تعالى سنن أمضاها وأبقاها في كونه تجري على خلقه وهي السنن الربانية، وهي كثيرة منها على سبيل المثال: سنة إخراج الكافرين للأنبياء من ديارهم قال تعالى: (وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلًا * سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا) [الإسراء:76-77].
وفي الحديث الشريف عندما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ورقة يخبره بما رآه فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: «هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَلَ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعاً –أي شابًا قويًا- يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ». قَالَ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ قَطُّ إِلاَّ عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْراً مُؤَزَّراً» [متفق عليه].
وهناك سنة الابتلاء والفتنة وهي سنة عادة لا تقتصر على الظالمين والمفسدين وإنما تشمل الصالحين والأبرار فالدنيا في أصلها دار ابتلاء وعمل قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك:2] وقال: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الكهف:7] وقال: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف:168].
ونرى كذلك سنة الصراع الأبدي بين قوة الحق وقوة الباطل وهي جارية على إقرار الحق وإزهاق الباطل مهما طال الصراع قال تعالى: (وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [الشورى:24] وقال: (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [الأنفال:7-8].
ويترتب على السنة السابقة سنة أخرى وهي سنة انتصار أهل الصلاح والإعمار من المؤمنين على أهل الإفساد والتدمير من المعاندين المتكبرين الكافرين حتى يندحروا مهزومين (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًا وَلاَ نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الفتح:22-23].
ويوازي ذلك سنة عقاب المستكبرين والماكرين المفسدين في الأرض، فإن الله تعالى لا يدع الظالم يفلت بظلمه ويمر بجرمه آمنًا قال تعالى: (اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) [فاطر:43].
وقد تكون سنة الله في أمره الشرعي، كما أمر نبيه بالزواج من طليقة ابنه بالتبني زيد بن حارثة، وكان التشريع الجاهلي عند العرب يحرم هذا، فأمر الله نبيه وهو رأس قيادة الدين بفعل ذلك حتى يكسر هذا التشريع البائد في قلوب العرب، فقال تعالى: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا) [الأحزاب:38].
وغير ذلك الكثير من تلك السنن التي لا تتخلف ولا تتبدل بل هي ماضية بأمر الله وقدره قال تعالى: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الأحزاب:62] وقال: (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) [فاطر:43] وقال: (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا) [الإسراء:77] وقال سبحانه: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) [الأحزاب:38].
ومن تكرار تلك الآيات وبمشاهدة الحس نجد أن سنن الله سبحانه وتعالى تتسم بالثبات وباطرادها عبر الزمان والمكان، فهي لا تتغير ولا تتبدل، وتلك السنن الإلهية بثباتها واستقرارها كونت فطرة الله التي فطر الناس عليها، وكانت جزءا من مكونات عقل المسلم تساعد في التعامل مع الكون وفهمه، وتتضح سنن الله الكونية من مطالعة كتاب الله المسطور (القرآن الكريم) فهو دليل التعامل مع كتاب الله المنظور (الكون)، وكتاب الله المنظور هو برهان الإيمان بكتاب الله المسطور، فكلا الكتابين لا غنى عنهما في الوصول إلى رب العالمين وبلوغ سعادة الدارين.
ما ترك الله لنا طريقًا يبلغنا رضاه وجنته إلا وأرشدنا إليه، وحثنا عليه رسوله الكريم صلوات الله عليه وسلامه، وما ترك لنا طريقًا يؤدي بنا إلى النار إلا وحذرنا منه وأحدث لنا منه ذكرا، وتركنا رسول الله على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
فلما زاغ الناس عن المحجة البيضاء شاع الفساد وفشت الفتن من حولنا تلك الفتن التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «يخرج في آخر الزمان رجال يختلون –أي يطلبون في خداع- الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر وقلوبهم قلوب الذئاب يقول الله عز وجل أبي يغترون؟ أم علي يجترثون؟ فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانا» (رواه الترمذي) وفي ذلك تصديق لقوله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ) [الأنفال:25].
ذلك الحليم الذي يفكر فلا يعرف قبيل الفتن من دبيرها يحاول أن يعلم أين هو منها فإذ به وكأنه في ظلمات بعضها فوق بعض كموج البحر قال تعالى: (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور:40].
فهي فتن يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا ونحن في هذه الحالة نريد أن نعتصم بحبل الله ونتعلق بسفينة النجاة التي توصلنا إلى الله بإذنه تعالى.
لابد أن نحاول معرفة أسباب ما يجري من حولنا فإن العصر اتسم بالإنجاز الذي قد سبق الأخلاق والقيم وسبق النشاط الفكر والتفكر والتدبر، وقدمت المصلحة على الشريعة وتقدمت اللذات على عبادة الله فكان الناس في العصر على ثلاثة أنحاء: فاجر قوي، وعاجز تقي، ومؤمن كامل وفي.
أما الفاجر القوي فيتبنى مبدأ تقديم الإنجاز على القيم والأخلاق وهو نموذج يخافه الجميع لقوته رغم ظهور فضائحه وسوء أخلاقه وهو لا يرى في ذلك ضررًا خاصة طالما أنه ما زال ينجز وينجح في عمله ونحن نخشى على أولادنا من هذا النموذج الذي يعلمهم أن معيار النجاح في الحياة القوة والإنجاز حتى وإن خالطه الفجور.
وفي المقابل نرى تربية الله ورسوله لنا على غير هذا الشأن، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يربينا أن نكون أقوياء، وأن نأخذ بيد العاجز منا ونصل به إلى القوة فالعجز مذموم خاصة إن كان في عبادة الله وعمارة الأرض وتزكية النفس، غير أن المؤمن العاجز خير من الفاجر القوي عند الله، وينبغي أن يكون كذلك عند الناس فالمؤمن يمتلك القيم والأخلاق والإصلاح هو البناء الذي تقوم به الحضارة الإنسانية الحقيقية.
ومبدأ الإنجاز الذي نذمه هو أن يكون وحده المعيار مع مخالفة الأخلاق والقيم والثوابت أما الإنجاز مع الالتزام بكل ذلك هو مطلوب ومأمور به في شرعنا، لم يكن نموذج الفاجر القوي بدعًا في اعتماد مبدأ الإنجاز المذموم، فتاريخ البشرية يشهد بوجود هذا النموذج منذ قديم الزمن، وخير دليل على ذلك قوم عاد، وهي إحدى الأمم البائدة حيث تودد لهم نبيهم هود عليه السلام كما حكى عنه القرآن ذلك فقال: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ) [الشعراء:124-127]، وأدرك هود أن قومه فتنوا بمنجازاتهم فأراد أن يذكر أنها نعم الله وأن الله سوف يزيدها إذا أنتم آمنتم به، فقال لهم: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ) [الشعراء:128-133].
فتمسكوا بشرعية النظام الذي هم عليه، وتمسكوا بما قد ورثوه وقرروه، ولو كان مخالفًا لمراد الله ورسوله، وقالوا حسمًا للقضية (قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ) [الشعراء:136-137].
ويبدو أننا قد دخلنا في دائرة التشبه بعاد، حيث عبثنا وجعلنا الإنجاز قرين القوة، وجعلنا العجز قرين التقوى، والله لا يحب أن يتقدم الفاجر القوي على العاجز التقي، ولا يحب من التقي أن يستمر على عجزه.
فينبغي على المسلم أن يقدم المقدم، ويؤخر المؤخر، فيقدم المسلم الكيف على الكم، والتقوى على الإنجاز، ويقدم الجار قبل الدار، فهو دائمًا يقدم الإنسان على البنيان، رزقنا الله الرشد والصواب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تكلمنا في المقال السابق عن مفهوم المعاجز، وأنها ضد مراد الله من عباده، حيث أراد منهم الإيمان والتسليم والإذعان، وقد أورد الله تعالى أمثلة لهؤلاء المعاجزين ليكونوا مثلا وعبرة للمؤمنين، ومن أكبر الأمثلة التي ضربها الله في كتابه للمعاجزين «قارون» الذي ظن أن ما به من قوة ومال هو استحقاق له، وأنه على علم عنده، وأنه لا يمكن أن يزول، فنسى الله، فأنساه الله نفسه، قال تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ أُولِي القُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ) [القصص:76-78].
فماذا كانت عاقبة ذلك المعاند؟ قال تعالى: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:81-83].
ومعاجزة قارون تمثلت في قوله: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) ولم تكن هذه مقالة قارون وحده، وإنما هي مقالة كل إنسان مغرور بالدنيا وبما آتاه الله منها، قال تعالى: (فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [الزُّمر:49]، فالإنسان مقهور بقدر الله وأمره، وإن توهم غير ذلك، قال تعالى: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [آل عمران:83]، وقال تعالى: (وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالغُدُوِّ وَالآَصَالِ) [الرعد:15].
كما ضرب الله نماذج للمعاجزين من التاريخ والآثار، فقال سبحانه: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) [فاطر:44]، وقد تيقن فريق الجن الذي سمع القرآن أنه لا يعجز الله، ولا يمكن الهروب منه، قال تعالى حكايةً عنهم: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا) [الجنّ:12] و(ظَنَنَّا) هنا ليست على معناها الأصلي من عدم التأكد، وإنما هي بمعنى (علمنا) و(تيقنا) وذلك كقوله تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة:46]، وقوله سبحانه: (وَظَنَّ أَنَّهُ الفِرَاقُ) [القيامة:28].
فمن حاول مبارزة الله بالمعاصي أصيب بالوباء والبلاء فينال الجزاء الأوفر، وقد صدق رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- حيث تحدث عن خمسة أصناف من هؤلاء المعاجزين ويحذر المهاجرين من ذلك فيقول: «يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعملوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا الزكاة إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوهم من غيرهم وأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله إلا ألقى الله بأسهم بينهم» (أخرجه الحاكم في المستدرك).
المعاجزة فخ يقع فيه الإنسان عندما يظن أن له حولا وقوة من دون الله، فعن أبي هريرة فيما رواه الإمام أحمد في مسنده أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «ألا أدلكم على كلمة من تحت عرش الرحمن؟ تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فيقول الله: أسلم عبدي واستسلم» فاللهم اجعلنا من القانعين بحكمك المستسلمين لقضائك.
المعاجزة في اللغة: هي المعاندة والمحاربة، وفي الشرع: محاولة تعجيز رسل الله وشرعه ومراده في الكون، والمعاجز صاحب عقلية مصارعة، ونفس خبيثة، لا يسلم لله، فيخرج من أمره الشرعي ويتحدي آيات الله وأوامره لا مهال الله له، وقد توعده الله بسوء الخاتمة إذا استمر على ذلك الحال. فقال تعالى: (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الجَحِيمِ) [الحج:51].
والمعاجز يحاول الخروج عن أمر الله الكوني كذلك فيسعي لتغيير جنسه ولإطالة عمره، وإلى تغيير خلق الله، وكأنه يمتثل امتثالا شديدا لأمر الشيطان له بذلك، كما حكى ربنا ذلك في كتابه فقال تعالى: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا) [النساء:117-119].
وقد نهى الله عن المعاجزة في آياته، والمعاجزة في آيات الله هو نقيض المؤمن الذي سلم بآيات الله، فالمعاجز لا يصدق ولا يسلم ولا يرضخ لحكم الله وأمره، قال تعالى: (وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الأحقاف:32]. وقال سبحانه: (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) [سبأ:5]. وقال جل شأنه: (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي العَذَابِ مُحْضَرُونَ) [سبأ:38] فالناس فريقان. فريق فهم عن الله وطبق، وفريق رفض أن يفهم وعاجز وصار مفسدا في آيات الله التي خلقها من حولنا في كونه الفسيح، فوصفهم الله بأنهم (أَصْحَابُ الجَحِيمِ) وذلك لاستمرارهم ودوامهم على ذلك الحال، فمن داوم على شيء كان صاحبه؛ فالمسألة ليست هينة وليست سهلة، وليست مجرد أحكام لا أثر لمن امتثل بها، ولمن خالفها، وإنما هي رؤى كلية للكون والإنسان والحياة والعقيدة، غايتها تعظيم الله حيثما يستحق أن يكون في قلوب العباد، ويستحق أن تسلك أيها المسلم سلوكك في الحياة الدنيا مرتبطاً بهذا الفهم وتلك العقيدة.
فالإنسان ضعيف ويلجأ إلى الله في الشرق والغرب -على ما يدعيه من إلحاد، ومن موت الإله، ومن خرافة الأديان- يظهر ذلك اللجوء إلى الله عند الفزع والخوف والضرر، قال تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) [الزُّمر:8].
فعندما شاع الإيدز في بلاد الغرب قالوا: إنها لعنة السماء، وتكلموا عن اصطدام الإنسان بحائط القدر، يعني صرحوا بالعجز مع الله، هم يسمونها (حائط القدر) وربنا يسميها المعاجز.
فالمعاجزة إذن حالة وهمية يتوهم فيها الإنسان المغرور أموراً منها: أن له قوة أصلا وله ملكا ذاتيا، ولا يعلم أن القوة لله جميعا، وأن الله المالك وحده، ثم يتوهم أن ما يظهر عليه من قوة هي من الله، ومن ملك هو لله، ويتوهم أن ذلك لا يمكن أن يزول منه، ويتوهم أنه قادر على إبقائه وحراسته، ثم يتوهم بعد ذلك أن هذه القوة التي توهم أنها ذاتية أنها باقية أنها تقوي على معاندة أمر الله، فالله خلقنا وأمرنا بعمارة الأرض، وحد لنا حدودا، وأمرنا بأوامر ونهانا عن نواه، وينبغي على العاقل أن يقف عند حدود الله، وأن يأتمر بأمره، وينتهي عن نواهيه، فإن التعامل مع أوامر الله ونواهيه فرع على معرفة الله سبحانه وتعالى والعلم به، فلابد أن يتيقن المسلم أن الله هو الفعال لما يريد، وأنه علي كل شيء قدير، وأنه تقدست ذاته، وسما قدره، لا مثيل له، ولا ند له، ولا ضد له، ولا يعجزه شيء.
فتدبر أيها المؤمن كتاب ربك، واعلم أنه قد أنزله ليخرجك من الضلالة إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، اللهم لا تجعلنا من المعاجزين وارزقنا الاستقامة والإيمان والتسليم، اللهم اجعلنا من الحامدين الشاكرين الصابرين المحتسبين الراضين بقضائك وقدرك يا أرحم الراحمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1- للطعام آداب تهذب النفس وتشير إلى صلاح المتأدب بها وإلى فساد المتخلي عنها، ومن آداب الطعام أن يتخير الإنسان طعاماً متوسط الحرارة، فلا يكون شديد السخونة ولا شديد البرودة، وأن يأكل مما يليه، ولا يملأ بطنه بالطعام، فيترك للنفس والشراب مكاناً، ومن آدابه أن يختار المرء المذاق الحسن، فينتقي الأطيب والأزكى.
وقد أشار القرآن الكريم إلى مثالين لتأكيد ذلك المعنى، الأول: للعُصاة المعاندين لرسولهم، فقال تعالي: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ) [البقرة:61].
فكان من أخلاقهم أنهم تخيروا الطعام الأقل في الجودة والمذاق والقيمة الغذائية علي الطعام الأفضل، بما يشير إلى علاقة بين سوء فهمهم للطعام، وتذوقه، وبين عصيانهم وعنادهم ومشاغباتهم التي وسموا بها عبر القرون، بما يجعلنا نؤكد أن للطعام أثراً في هذا الكون، في تصرفات الإنسان، وفي الاستجابة لأوامر اللَّه، وفي وضعه الاجتماعي والكوني.
وقد جمع القرآن في آية واحدة بين سوء ذوقهم وفهمهم بتخير الطعام الأخس على الأعلى، وبين كبير جُرمهم مع اللَّه بقتل أنبيائه، حيث عقب ذلك بقوله تعالى: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) [البقرة:61].
2- أما المثال الثاني فكان للصالحين وهم أهل الكهف، قال تعالى: (فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا) [الكهف:19].
فهؤلاء الصالحون اهتموا أن يكون الطعام زكيًا طيباً، بل أزكى الأطعمة التي يمكن أن تُشتَرى بهذه القيمة، فكان من الممكن أن تكون طول فترة النوم سبباً في عدم الاهتمام بتخير الطعام الأزكى، وكانت شدة الجوع مبرراً لهم لأكل أي شيء دون تمييز، إلا أنهم أثبتوا أن أخلاقهم عالية مهذبة، ومن أسباب هذا العلو وذلك التهذيب تخيرهم للطعام الأزكى، فكانوا يتخيرون إذا تحدثوا من الكلام أزكاه، رضي اللَّه عنهم، ونفعنا بهم وبسيرتهم في الدنيا والآخرة.
3- وفي ذلك كله إشارة لما في الطعام الزكي الطيب من آثار أخلاقية وسلوكية إيجابية تترتب عليه، كما أن الطعام الذي يأتي من الغصب والسرقة كذلك لا يكون طيباً في نفسه وفي مذاقه، وله من الآثار السلبية على خلق صاحبه وسلوكه.
4- وقد أشار الله في شأن الطعام في القرآن إلى جُرم تحريم الحلال، وأنه لا يقل جُرمًا من تحليل الحرام وذلك لأن كليهما مرجعهما عقلية واحدة، وهي عقلية عدم الاكتفاء بالشرع، إما بالزيادة أو النقصان، فالطيبات من الرزق أحلها اللَّه للناس كافة، فيشترك جميع الخلق في الأكل من مائدة الرحمن، وهي الكون الفسيح، فالكل كفل له رِزْقه، ورَزَقهُ من الطيبات في الدنيا، أما في الآخرة فإن هذا الرزق يكون خالصاً للمؤمنين وحدهم، قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [الأعراف:32].
5- ولقد حرَّم اليهود بعض الأطعمة بناء على أن سيدنا إسرائيل «يعقوب» حرَّمها على نفسه بعض الوقت، ولقد أخبر بالقُرآن أن تحريم هذه الأطعمة حيث كانوا ينكرون على النبي صلى اللَّه عليه وسلم أكله للإبل وهي محرمة عندهم لم يكن بالتوراة، فقال سبحانه: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [آل عمران:93].
6- فللطعام مكانة عظيمة وقد قرنه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بذكر اللَّه باعتبار أنه من مظاهر الفرحة وشكر النعمة خاصة في الأعياد فقال صلى اللَّه عليه وسلم: «أيام أكل وشرب وذكر اللَّه عز وجل» (رواه أبو داود).
هذه قطوف متنوعة تدل على قيمة الطعام والإطعام في الشرع الشريف، وأثره في أخلاق المسلم وسلوكه، فهي علاقة حقيقية ولا يشككنا في ثبوتها أنه لم ينشئ «علم نفس الطعام» حتى الآن، فإن كتاب ربنا ينطق بالحق، وهو كنز يمتلئ بالآيات البينات التي ترشد الإنسان إلى سعادة الدنيا والآخرة.
أمرنا الله عز وجل أن نطعم الطعام للناس لوجه الله تعالى، قال سبحانه: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا) [الإنسان:8-9] بل إن إطعام الطعام لا يقتصر على الفقير والمحتاج والمسكين والأسير –وإن كانوا هم أولى من غيرهم- بل يمتد ليكون سلوكًا اجتماعيًا يشيع في المجتمع فتكثر المودة والمحبة والترابط بين أفراده، ولقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا السلوك فور وصوله المدينة، حيث قال: «يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» «رواه ابن حبان، وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه».
ولعل تلك النصوص توضح أهمية الطعام في الإسلام، ولا يخفى أن قصة آدم عليه السلام في القرآن بينت نكد آكل الطعام المخالف وجعلته سببًا للطرد من الجنة قال تعالى: (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) [الأعراف:22]، وقال الحسن البصري رضي الله تعالى عنه: (كانت بلية أبيكم آدم أكله، وهي بليتكم إلى يوم القيامة).
كما أن الطعام الحلال في نفسه، والذي جاء بطريق حلال يؤهل صاحبه أن يكون من الصالحين، وأن يكون ممن يستجاب دعاؤه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أطب مطعمك تكن مستجاب الدعاء» «رواه الطبراني في الأوسط» وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون:51]، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك» أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، وتحري الطعام الطيب يتم بثلاثة محاور: أن يكون طيبًا في نفسه بأن يكون ممن أباحه الله، وكذلك يكون طعمه طيبا، ويكون قد وصل إلى الناس من طريق حلال «الكسب المشروع».
والإنسان الذي يخرج بالطعام عن مراد الله هو الذي لا يبالي من حلال كسبه أو من حرام، ولا يبالي هل الطعام في نفسه مما أحل الله أم لا؟ وهل الوقت الذي يأكل فيه الطعام مما أباح الله له الأكل «فالمسلم ممنوع من الأكل في نهار رمضان»، فإذا لم يراع كل هذه الأشياء يتدنى بنفسه وبإنسانيته وبشريته من مرتبته كخليفة الله تعالى على الأرض، ويشابه غير البشر من الحيوانات التي تأكل دون أن تراعي أي نظام، غير أن تلك الحيوانات لا تحاسب بعدم مراعتها هذه الأمور، ولقد ذكر ربنا سبحانه وتعالى ذلك الشبه في كتابه فقال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) [محمد:12].
وقد يسأل سائل عن وجه شبه أكل الكفار بالأنعام؟ فالحقيقة وجه الشبه هو أن الحيوان لا يرى قيودًا ولا ضوابط على شهواته ورغباته والتي منها رغبته في الطعام، فيأتي شهواته في أي وقت ومن أي طريق وبأي شكل، وأساس رقي الإنسان أنه يرى أن هناك قيودًا وضوابط على رغباته وشهواته والتي منها رغبته في الطعام فهناك قيود شرعية تبين إطار قضاء تلك الشهوات أو الرغبات، وهناك قيود اجتماعية تحدد له الشكل المقبول في مجتمعه لأدائها، فإذا ألغى الإنسان تلك القيود والضوابط فهو عندئذٍ يتدنى إلى درجة الحيوانات.
وذلك يجعلنا نلاحظ أن الإنسانية والحضارات البشرية كان سموها ورقيها الحقيقي هو الرقي الأخلاقي، والذي يعبر عن الالتزام بالقيود الدينية والاجتماعية، وأن معنى الحرية المغلوط الذي يروج إليه هو في الحقيقة رجعية مقيتة، ولكنها ليست رجعية تؤدي بالإنسان لعصور الظلام فحسب، بل تؤدي به إلى حياة الحيوانات وقوانين الغاب التي نسأل الله ألا تصل إليها البشرية في يوم من الأيام، والحرية بهذا المعنى أجدر بنا أن نسميها التفلت لأنها تعني غياب الحواجز والقيود أمام رغبات الإنسان وشهواته ولفظ الحرية لفظ جميل يجب ألا نستعمله لهذا المعنى القبيح، بل يكون معناه حرية الإنسان في تفكيره وتأمله ورأيه لا بمعنى التفلت.