إن بناء الحضارة عملية فكرية في مقامها الأول تبدأ فور إدراكنا محور هذه الحضارة حيث يجب أن تسير عملية البناء في فلك هذا المحور، فلا تشذ عنه ولا تتعارض معه، وتبدأ عملية البناء من تحديد القواعد وتنتهي عند تحقيق الغايات، فلكل حضارة قواعد أساسية يقوم عليها البناء وغايات عليا تسعى لتحقيقها، وهذه القواعد وتلك الغايات هما طرفا عملية البناء الدائرة حول المحور.
وإذا نظرنا لحضارة الإسلام وجدنا أن محورها كما بينَّا هو النص بشقيه القرآن والسنة، وتبدأ عملية بنائها الفكري بتحديد القواعد الكلية التي سيتم تنظيم الفكر وفقاً لها، ثم تحديد الغايات المقصودة من بناء هذه الحضارة، ثم نرسم خطاً مستقيماً بين القواعد والغايات وهو الخط الفكري للحضارة، ثم يبدأ بعد ذلك البناء المادي الذي يكون في حقيقته انعكاساً واقعياً لما تم بناؤه في الفكر، فمع تحديد القواعد يتكون عقل المسلم فيعرف كيف يفكر؟ وبم يفكر؟ وما القواعد الضابطة له في التفكير؟
وكيف يتعامل مع الأحكام ومع الشريعة، ومع الواقع، ومع الآخر، بل مع نفسه؟ ويتعلم كيف ينظم علاقته مع ربه، ومع الكون، ومع الإنسان، ويتعلم كيف يرى ماضيه، وحاضره، ومستقبله، فإذا أدرك كل هذا استطاع أن يبني حضارة تجوب الآفاق.
وأمهات القواعد في الفكر الإسلامي خمس، وهي التي يدور عليها معظم أحكام الشريعة الإسلامية، وقد نظمها بعضهم في قوله:
خمسٌ محرَّرة قواعد مذهب | * | للشافعي بها تكون خبيرا |
ضررٌ يُزَالُ وعادةٌ قد حُكِّمَتْ | * | وكذا المشقةُ تجلب التيسيرا |
والشك لا ترفع به متيقنا | * | والنية أخلص إن أردت أجورا |
وتفصيل هذه القواعد الكلية الخمس فيما يلي:
القاعدة الأولى: الضرر يزال:
وهذه القاعدة مسوقة لبيان وجوب إزالة الضرر إذا وقع، وأصل هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» (رواه أحمد وابن ماجة)، وتتعلق بهذه القاعدة قواعد فرعية مهمة تؤسس الفكر والحضارة معاً منها: الضرورات تبيح المحظورات، بشرط عدم نقصانها عنها، ومن ثم جاز أكل الميتة عند المخمصة، وجاز التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه، وأخذ مال الممتنع من أداء الدين بغير إذنه، وغير ذلك، ومنها: ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها، ومن ثم فلا يأكل من الميتة إلا بقدر سد الرمق، ومنها: الضرر لا يزال بالضرر، ومنها: إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما، ومنها: درء المفاسد أولى من جلب المصالح، فإذا تعارضت مفسدة ومصلحة، قدّم دفع المفسدة غالباً، لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (رواه البخاري ومسلم).
القاعدة الثانية: العادة محكمة:
وأصل هذه القاعدة قوله تعالى: (خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ) [الأعراف:١٩٩]، ويقول ابن مسعود، رضي الله عنه: «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح» وهو حديث حسن، وإن كان موقوفاً عليه فله حكم المرفوع، لأنه لا مدخل للرأي فيه، وفي السيرة النبوية عدة نماذج توضح لنا كيفية التعايش مع العادات المختلفة، فهناك النموذج المكي قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، وهناك النموذج المكي بعد بعثته، وهناك نموذج الحبشة مع قوم يدينون بدين المسيحية، وهناك نموذج المدينة في عهدها الأول مع تعدد الديانات من يهودية ومسيحية وإسلام، وهناك أخيراً نموذج المدينة في عهدها الأخير قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، وكيف انفتح المسلمون على الشعوب المختلفة فتعايشوا معها واندمجوا بها دون أن يفقدوا هويتهم.
القاعدة الثالثة: المشقة تجلب التيسير:
والأصل في هذه القاعدة قوله تعالى: (يُرِيدُ الله بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ) [البقرة:١٨٥]، وقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج:٧٨]، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الرّفق لا يكون في شيء إلّا زانه، ولا ينزع من شيء إلّا شانه» (أخرجه مسلم)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في بيتي هذا: «اللّهمّ من ولي من أمر أمّتي شيئا فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمّتي شيئا فرفق بهم فارفق به» (أخرجه مسلم)، وعن أبى الدّرداء، رضي الله عنه، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أُعْطِىَ حظّه من الرّفق فقد أعطى حظّه من الخير، ومن حرم حظّه من الرّفق حرم حظّه من الخير» (أخرجه الترمذي في سننه).
القاعدة الرابعة: اليقين لا يُزَالُ بالشك:
واليقين في الاصطلاح: الاعتقاد الجازم المطابق للواقع الثابت عن دليل، أما الشك فهو التردد بين النقيضين، بلا ترجيح لأحدهما على الآخر، ودليل هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أَخَرَجَ منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً» (أخرجه مسلم)، وهوية الإسلام وأصوله من الأمور اليقينية فلاشك فيها، فعدد صلوات اليوم والليلة هي خمس، وعدد ركعات كل صلاة أمر متفق عليه، ومقدار الزكاة محدد ومعلوم، والصيام الواجب في شهر رمضان أمر ثابت، والحج إلى بيت الله الحرام في مكة وغير ذلك من ثوابت الدين أمور يقينية لم يشذ عنها عاقل عبر العصور، أما الخلاف في المسائل الفرعية فهو سعة ورحمة تؤكد عالمية الإسلام وشموليته.
القاعدة الخامسة: الأمور بمقاصدها:
والأصل في هذه القاعدة قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» (صحيح البخاري)، ويندرج تحت هذه القاعدة قضية كبيرة ومحورية في بناء الحضارة وهي قضية التغيّر والتغيير، فالفرق بينهما هو القصد والإرادة التي يلزم منهما وضع الخطة والتنفيذ.حيث إن التغيّر يحدث تلقائياً بتبدل الزمان وتغير الناس بالحياة والموت، وجريان الأحداث وتشابكها، أما التغيير فهو ينظر إلى الواقع ويرى فيه شيئاً لابد أن يتبدل، وهنا يظهر القصد والإرادة لذلك التبديل، ويسعى الإنسان لوضع خطة مناسبة ويقوم بتنفيذها حتى يتم مراده أو بعض مراده من هذا التغيير. وتحت عنوان التغيير يقع المصطلحان (الإصلاح والتجديد)، وهما ليسا ضدين لا يجتمعان، ولا يفرح أحدنا بل ينبغي ألا يصنف نفسه مع الإصلاح في مقابلة التجديد أو مع التجديد في مقابلة الإصلاح، أو أن نصنف الناس بأن هذا مصلح وهذا مجدد. لأن التغيير المنشود يحتاج إلى الإصلاح والتجديد معاً. وفي بعض الأحيان تختلف النسبة فنحتاج إلى الإصلاح بنسبة أكبر من التجديد أو العكس، أو نكون على حد سواء في الاحتياج إليهما معاً وبنسبة متساوية.
محور أي حضارة هو الأساس الذي تقوم عليه تلك الحضارة، فيحدد هويتها ومعالمها، وأساس حضارة الإسلام النص وهذا النص له شقان: الأول القرآن الكريم وهو كلام الله سبحانه وتعالى الحاكم والمنزَّه عن العبث به أو التغيير فيه، وذلك لقوله تعالى: (ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) [البقرة:٢]، ولقوله تعالى: (لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت:٤٢]، ولقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:٩].
والثاني السنة النبوية المشرفة وهي التطبيق المعصوم الدقيق الواضح العملي الذي علمنا مناهج الوصل بين المطلق [الوحي] وبين النسبي [الواقع]، فهي صادرة من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو الموصوف من ربه بأنه (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى) [النجم:٣] والمنعوت من خالقه بأنه (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:١٠٧] والموصوف من ربه بأنه أسوة حسنة، قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب:٢١] والموصوف من ربه بأنه له الطاعة والاتباع، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد:٣٣]، وقال سبحانه: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [آل عمران:٣١]، وعن الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: (أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ) (أخرجه أبو داوود في سننه).
والسنة هي كل ما أُثِرَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير، أما عن قوله -صلى الله عليه وسلم- فيتمثل فيما رواه أَبو هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا) (رواه البخاري ومسلم)، وأما عن فعله -صلى الله عليه وسلم- فيتمثل في أعمال الصلاة ومناسك الحج، وأما تقريره -صلى الله عليه وسلم- فيتمثل فيما يقع من أصحابه في حضرته، أو يبلغه عنهم قول أو فعل، فلا ينكره، بل يسكت، أو تظهر عليه دلائل الرضا والاستبشار. مثل عدم إنكاره أكل الضب على مائدته. وترك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للفعل في بعض الأحوال يكون سنة، إذ لو كان مشروعا فيها لفعله، مثال ذلك تركه الأذان والإقامة لصلاة العيد، وترك الجهر بلفظ النية عند الدخول في الصلاة.
وللسنة أنواع: فمنها ما كان مطابقا لما جاء به القرآن، فيكون مؤكدا له، ويكون الحكم مستمدا من شقي النص، ومثال ذلك جميع الأحاديث الدالة على وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج، والدالة على حرمة الشرك وشهادة الزور وقتل النفس وعقوق الوالدين.
والنوع الثاني من السنة هو ما كان بيانا لما جاء في الكتاب، مصداقاً لقوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل:٤٤]، ويأتي هذا البيان على عدة أوجه منها: تفصيل مجمل الكتاب، فعلى سبيل المثال أمر الله تعالى في كتابه بالصلاة من غير بيان لمواقيتها وأركانها وعدد ركعاتها، ففصلت السنة العملية ذلك، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّى) (أخرجه البخاري)، كما أمر الله تعالى في كتابه الكريم بالحج من غير بيان مناسكه، ففصلت السنة ذلك، وقال صلى الله عليه وسلم: (خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ) (أخرجه البيهقي في السنن الكبرى)، ومن أوجه البيان تقييد مطلق الكتاب، ومثال ذلك قوله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج:٢٩]، فالكتاب يوجب الطواف مطلقا، ولكن السنة العملية قيدته بالطهارة.
والنوع الثالث هو ما كان مشتملا على حكم جديد، ومثاله الحديث الذي أخرجه أبو داوود في سننه، الذي يحرم أكل كل ذي ناب من السبع، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يأتي في هذا الباب -وحاشاه- بما يناقض القرآن، لأنه أعرف الخلق بما يبلغ عن ربه، وأخبرهم بمقاصد الشريعة، وكذلك لعناية الله تعالى به، وعصمته من الزيغ، وتوفيقه إلى الحق، وتسديده إلى الصواب.
ومن أراد أن ينكر السنة ويكتفي بالشق الأول من النص ليكون محور الحضارة، فإن تفكيره يكون شاذا خارجا عن تفكير كل المجتهدين عبر كل العصور وحتى عصرنا الحاضر، وسوف يلاقي من المشكلات الفقهية والعقدية ما لا يستطيع حله على الإطلاق، وقد يضطر صاحبه إلى تغيير هوية الإسلام، وهو يخادع نفسه والآخرين بأنه مازال ينتمي إلى هذا الدين.
ولقد أنكر السنة شُذَّاذٌ من الناس، وهم من غير المتخصصين دائما، فلا يصدق عليهم أبدا أنهم من الجماعة العلمية، بل هي مجموعة من الأهواء التي تتلاطم في أفكار مضطربة في أذهان هؤلاء المُدَّعين. ولذلك نراهم دائما يستدلون بالمتخصصين الذين نقدوا بعض الأحاديث، فيأتي هؤلاء المنكرون -وبغير منهج عقلي أو نقلي- فينزلون هذا النقد منزلة إنكار السنة.
والعجب فيمن ينكر السُّنَّة النبوية أنه رغم جهله بحقيقة السُّنة يكون صادقا مع نفسه، ومع منهجه في الترتيب المنطقي لإنكار السنة النبوية، لأنه يلتزم كل لوازم ذلك الإنكار حتى إنه قد يجد نفسه خارجا عن الإسلام، وهذا هو الذي جعل المخلصين من الأئمة والمجتهدين عبر العصور يتمسكون بالسنة النبوية ويُجْمِعون على حجيتها ويجعلونها الشق الثاني من النص ملازمة للقرآن الكريم ومكونة معه محور حضارة المسلمين.
لكل حضارة محور تدور حوله، ومحور حضارة الإسلام هو النص بشقيه -القرآن الكريم والسنة الشريفة- ومن ثم فقضيتنا وهدفنا في بناء حضارتنا هو كيفية فهم هذا النص وكيفية خدمته على أي نحو كانت الخدمة، فهذا النص وهو يحتل هذه المرتبة الفريدة في فكرنا وهويتنا، هو مصدر المنهج الذي سنبني عليه علومنا ومعارفنا التي ستكون فيما بعد معالم حضارتنا ونهضتنا.
وقد اتفق علماء المسلمين على أن النص هو المصدر الأول والرئيس للتشريع الإسلامي، والتشريع هو سن القوانين التي تُسْتَمَدُّ منها الأحكامُ لأعمال المكلَّفين، والأحكامُ لما يقع بينهم من الأقضية والحوادث، أي أنه هو القانون التي ستقوم عليه الحضارة، وهو إما أن يكون إلهيًّا أو وضعيًّا، والإلهي إما أن يكون إلهيا محضا، وهو الذي سنه الله سبحانه وتعالى بآيات قرآنية وأحاديث ألهمها رسوله أو أقره عليها، أو يكون تشريعا إلهيا باعتبار المرجع والمصدر وهو ما سنه مجتهدو المسلمين، من الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة المجتهدين عبر العصور، استنباطا من نصوص الوحي الإلهي وروحه ومعقوله، فهو تشريع إلهي باعتبار المرجع والمصدر، وهو نفسه ما يطلق عليه أنه تشريع وضعي باعتبار جهود المجتهدين في استنباط الأحكام والتشريعات، وهو يمكن أن يتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وكذلك المصلحة والمآلات.
والنص الذي هو محور حضارة الإسلام له شقان: القرآن الكريم والسنة النبوية، والقرآن هو كلام الله تعالى المنزل على سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين تبيانا لما به صلاح الناس في دنياهم وأخراهم، وهو معجزة سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبرى، تعبدنا الله تعالى بتلاوته، وألهمنا حفظه وكتابته، ويسر أمر نقله بين الأجيال بالتواتر، تحقيقا لوعده حيث قال: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [سورة الحجر:آية ٩]، ولا تُعَد ترجمة القرآن إلى غير العربية ولا تفسيره بها قرآنا، فلا يصح الاستنباط من الترجمة، لأن فهم المراد من الآيات يحتمل الخطأ، والتعبير عنه باللغة الأخرى يحتمل الخطأ أيضاً.
ويرجع إعجاز القرآن إلى فصاحة ألفاظه، وبلاغة أساليبه، وخفته على اللسان، وحسن وقعه في السمع، وأخذه بمجامع القلوب، وإخباره بأمور مغيبة، ماضية أو مستقبلة، واشتماله على أخلاق سامية فاضلة، وشريعة عادلة كاملة، صالحة لكل الناس في جميع البقاع والأجيال، ثم سلامته -مع كل هذا- من التعارض والتناقض، وهذا مصداقاً لقوله تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً) [سورة النساء: آية ٨٢]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لاَ تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسِنَةُ وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ وَلاَ يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعُوهُ أَنْ قَالُوا (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً) هُوَ الَّذِي مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِىَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» (رواه الترمذي).
وقد جاء القرآن ليهذب لغة العرب التي كانت مليئة بالغرائب ووحشي الكلام، وأذكر شعر ابن المطهر الحلي حيث يقارن بين القديم والجديد في لغة العرب، ويظهر من ذلك مدى تهذيب القرآن لتلك اللغة:
إنما الحيزبون، والدردبيس ** والطخا والنخا والعلطبيس
لغة تنفر المسامــع منها ** حيث تتلى وتشمئز النفوس
أين قولك هذا حديث قديم ** من مقالك عقنقل قدموس
وألفاظ القرآن نحو ١٨١٠ ألفاظ تمثل جذور الكلمات القرآنية، في حين أن معجم لسان العرب لابن منظور نحو ثمانين ألف مادة أعني جذراً، أي أن جذور القرآن تمثل نحو اثنين في المائة (تماماً ٢.٢٥%) من جذور لسان العرب، والقرآن أصغر نص مقدس، وعدد كلماته نحو ٦٦ ألف كلمة، منها ١٦٢٠ كلمة لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة، ويقول بعضهم إن الأديب الروسي تولستوي لم يكرر ٤ كلمات في كتابه الحرب والسلام، فعُدَّ ذلك من بلاغته وتمكنه اللغوي، فإذا صح ذلك، فإن هذا التفرد في القرآن الكريم بهذا العدد الضخم من الألفاظ غير المكررة يكون معجزة بمعنى الكلمة. تضاف إلى وجوه إعجازه التي تخرجه عن نظام كلام البشر.
وليس من الفقه في الدين أن يقف المرء عند ظواهر الألفاظ، وينصرف عن تدبر كلام الله، فقد ذم الله المنافقين لوقوفهم عند الظواهر، وانصرافهم عن التدبر، حيث خاطب المؤمنين بقوله: (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) [سورة الحشر: آية ١٣]، وقال تعالى: (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) [سورة النساء: آية ٧٨]، وذلك لأن الوقوف عند الظواهر يبعد عن المقاصد الشريفة، ويبطل حكمة التشريع، وهناك مثال يوضح الفرق الشاسع بين سوء الفهم القائم على الوقوف عند ظواهر الألفاظ وحسن الفهم القائم على استنباط المنهج والمحور الذي ستقوم عليه الحضارة، قال الله تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً) [سورة البقرة: آية ٢٤٥]، فقالت اليهود الواقفون عند الظواهر حينئذ: (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) [سورة آل عمران: آية ١٨١]، بينما قال الصحابي أبو الدحداح -وقد فقه المقصد: إن الله كريم، استقرض منا ما أعطانا [تفسير القرطبي].
إن المناجاة سببٌ لاستجابة الدعاء، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجى ربه ليلاً ونهاراً، فيعلمنا كأمة كيف نعبد ربنا، وكيف نناجيه سبحانه، والمناجاة هي لحظات الصفاء التي يأنس فيها العبد بربه، فتسمو الروح ويشرق القلب وتترقق الأحاسيس والمشاعر، وتشعر النفس بلذة لو علمها الملوك –كما جاء عن أحد الصالحين- لقاتلونا عليها، إلا أن للمناجاة أركاناً غفل عنها كثيرٌ من الناس فحرموا أنفسهم خيراً كثيراً.
أول هذه الأركان: أن نخلص النية لله، والإخلاص من أركان الإيمان التي أمر الله عز وجل بها في كتابه في أكثر من موضع، فقال سبحانه: (قُلْ أَمَرَ رَبِّى بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [الأعراف:٢٩]، وقال تعالى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ) [الزمر:١١]، وعده الله تعالى في كتابه طوقَ النجاة لكل من زل في طريق النفاق والغواية، فقال سبحانه: (إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) [النساء:١٤٥-١٤٦]، وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى».
وقال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام النسائي في سننه: «إنّ اللّه لا يقبل من العمل إلّا ما كان له خالصاً وابْتُغِىَ به وجهه»، فعلى المناجي ربه أن يخلص له المناجاة فلا يسأل أحداً غيره، ولا يستعين بسواه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الترمذي: «إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك بشيء إلا ما كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيءٍ، لم يضروك بشيءٍ إلا ما كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف» يعني تم القضاء فلا ملجأ من الله إلا إليه، فالإخلاص في مبدئه ومنتهاه مبنيٌ على التوحيد الخالص، فلا بد أن تُخرج السوى من قلبك، ولا يبقى فيه إلا الله، وهو أول أركان المناجاة.
أما الركن الثاني فهو: الاستمرار والدوام؛ فعن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ: «أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ». وَقَالَ: «اكْلَفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ» وعن عائشة أيضاً أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أَنه لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَأَنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ أَدْوَمُهَا إِلَى اللَّهِ، وَإِنْ قَلَّ»، وكان كما وصفته السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، «كان عمله دِيمَة» (البخاري)، أي دائماً مستمراً، والديمومة ركنٌ من أركان عمارة الأرض، ونجاح العمل، والشخص الذي يعمل تارة ويترك تارة يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولا أحب أن تكون مثل فلان كان يقوم الليل، ثم تركه»، بل إنه يريد الحفاظ ولو على القليل، لأن هذا من شأنه أن يربي الملكات، ومن شأنه أن يربي الصدق مع الله، ومن شأنه أن يستجيب الله سبحانه وتعالى معه لمناجاة العبد.
والركن الثالث هو: التدبر والتأمل، وقد حُرِمْنا في عصرنا هذا كثيراً من التدبر والتأمل، فالمناجاة تحتاج أن تتحدث مع ربك بعد تفكرٍ وتدبر: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:٢٤]، ويمدح الله تعالى هذه الملكة فيقول سبحانه: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:١٩١] فهؤلاء دعوا الله تعالى بعد الذكر والفكر، فالمناجاة لا بد أن تشتمل على الفكر، والفكر إما أن يكون في كتاب الله المنظور، وهو الكون، وما يشمله، فيتفكر في السماء، والأرض، في النبات، والحيوان، بل في ذات الإنسان.
قال تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [النحل:١٨]، وإما أن يكون في كتاب الله المسطور وهو القرآن، قال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء:٨٢]. إن التفكر نعمةٌ حُرمنا منها، فأصبحت الحياة سريعة لا نقف أمامها ولا نتفكر في أحداثها ومقتضياتها، وأصبحت الأحداث متتالية، فتقدم السعي قبل الوعي، ومراد الله منا أن يتقدم الوعي قبل السعي، قبل أن تسعى يجب أن تتدبر، وأن تتأمل، وأن تتفكر؛ وترقب قول الغزالي في كتابه الإحياء: (كثر الحثّ في كتاب اللّه تعالى على التّدبّر والاعتبار والنّظر والافتكار، ولا يخفى أنّ الفكر هو مفتاح الأنوار ومبدأ الاستبصار، وهو شبكة العلوم ومصيدة المعارف والفهوم، وأكثر النّاس قد عرفوا فضله ورتبته لكن جهلوا حقيقته وثمرته ومصدره).
والركن الرابع في المناجاة هو: أنك تدعو ربك بما في قلبك، تحدثه سبحانه وتعالى وتناجيه، وتكلمه، وتشكو له، وترجوه، وتتضرع إليه، وتتوسل إليه، وتطلب منه.
والركن الخامس والأخير هو: السِّرِّيَّة، فالمناجاة سرٌ بين العبد وربه لا يَطَّلِع عليه أحد، فإذا فعلنا هذه الأركان الخمسة استطعنا العودة إلى الله سبحانه وتعالى فيستجيب لنا، فإذا استجاب الله لنا -لأننا عدنا إليه- تَقَوَّى إيماننا وصلب.
المناجاة غير الدعاء، فالدعاء قد يكون مفرداً، أو يكون في الصلاة، أو في خارج الصلاة، ولكن المناجاة هي جلسة خلوة مع الله تعالى، فالمناجاة تشتمل على الدعاء، وعلى قراءة القرآن، وعلى التأمل، والتدبر، والتفكر، تشتمل على الحديث مع الله، ولما قسّم أهل الله درجات التقوى، كانت هناك درجة تكلموا عنها وعنونوها بأهل الحديث مع الله، وأهل الحديث مع الله هم أهل المناجاة؛ فالمناجاة أعلى من الذكر، وأعلى من التلاوة، وأعلى من الدعاء، وأعلى من الخلوة، لأنها تضم ذلك كله. إلهي.. أقمتنا في دار الدنيا من أجل الابتلاء وأنت غني عنا، فارفق بنا فيما قضيته علينا بما عوَّدتنا من رحمتك بنا.
مرّ التشريع الإسلامي في تاريخه بمراحل عدة، إلا أن أهم مرحلتين في تاريخه هما مرحلة «الاجتهاد»، ومرحلة «التقليد»، حيث إنهما معاً شكَّلتا ما نعيشه من أزمة فكرية تتعلق بالفقه في عصرنا الحاضر، متمثلة في امتلاك تراث عظيم مليء بالكنوز، تم تكوينه ورعايته في عصر الاجتهاد، ووجود هوة عميقة تفصل بيننا وبين هذا التراث والتي تم تكوينها عبر العصور، إلا أن هذا لا يعني أن عصر التقليد خال من الإيجابيات، فله مميزاته إلا أنها ضاعت في نسيج الزمن.
وبتتبع عصر الاجتهاد، نجده يبدأ من أوائل القرن الثاني الهجري، بعد انتهاء عصر الصحابة التابعين، الذي لم يشهد أي تدوين واسع للسُنَّة أو الفقه إلا محاولات قليلة، ويمتد هذا العصر إلى منتصف القرن الرابع، وفي هذا الدور نما الفقه، وازدهر، وكثرت مسائله على نحو لم يعهد مثله من قبل، وهذه الظاهرة ترجع إلى أسباب كثيرة نذكر منها:
أولاً: اتساع البلاد الإسلامية، فقد كانت تمتد من الأندلس إلى الصين، وفي هذه البلاد الواسعة عادات وتقاليد مختلفة تجب مراعاتها، ما دامت لا تخالف نصوص الشريعة، فاختلفت الاجتهادات المبنية على الأعراف، بناء على اختلاف العادات والتقاليد.
ثانياً: ظهور المجتهدين الكبار ذوي الملكات الفقهية الراسخة، فعملوا على تنمية الفقه، وسد حاجات الدولة من التنظيمات والقوانين، وأنشأوا المدارس التي ضمت نوابغ الفقهاء.
ثالثاً: تدوين السُنة، فقد دُوِّنَت السنة، وعرف ما المقبول فيها من حيث الرواية والدراية وما المردود لوضعه أو ضعفه الشديد، فكان في ذلك تسهيل لعمل الفقهاء، وتوفير الجهد عليهم، فقد وجدوا السنة بين أيديهم، يصلون إليها دون كبير عناء، والسنة هي مادة الفقه ومصدره الثاني.
وفي هذه المرحلة أيضاً دُوِّن الفقه، وضُبطت قواعده، وجمعت أشتاته، وألفت الكتب في مسائله، وصار بناؤه شامخاً، وعلمه متميزاً عن غيره قائماً بنفسه.
ومن منتصف القرن الرابع، بدأ عصر التقليد، وهو العصر الذي شهد ركود الفقه، فقد جنح الفقهاء إلى التقليد، مع أن الأصل في الفقيه أن يكون مجتهداً مستقلاً، لا يتقيد بمذهب معين، وإنما يتقيد بنصوص الكتاب والسنة، وما يؤديه إليه اجتهاده المقبول، فهو يستنبط الأحكام الشرعية من مصدريها العظيمين الكتاب والسنة، وما يرشدان إليه من مصادر أخرى، إلا أنه في هذا الوقت ضعفت همم الفقهاء، واتهموا أنفسهم بالتقصير، والعجز عن اللحوق بالمجتهدين السابقين مع رسوخهم في الفقه، وتهيؤ أسبابه لديهم، ووجود مادته بين أيديهم من سنة ونحوها، مما يساعد على الوصول إليه بيسر وسهولة، وكان ذلك من أسباب شيوع التقليد بين الفقهاء إلا القليل النادر.
ونستطيع أن نلخص أسباب ذلك، في هذه المرحلة، فيما يلي:
أولاً: أن المذاهب الإسلامية دُوِّنَت تدويناً كاملاً، مع تهذيب مسائلها، وتبويب مسائلها الواقعية، مما جعل النفوس تستروح إلى هذه الثروة الفقهية، والاستغناء بها عن البحث والاستنباط.
ثانياً: ضعف الثقة بالنفس، والتهيب من الاجتهاد، فقد اتهم الفقهاء أنفسهم بالضعف والعجز والتقصير، وظنوا أنهم غير قادرين على تلقي الأحكام من منابعها الأصلية، وأن الخير لهم، واللائق بهم التقيُّد بمذهب معروف، والدوران في فلكه، والتفقه بأصوله، وعدم الخروج عنه.
وفي هذا العصر، دعا بعضهم إلى سد باب الاجتهاد، لأنه لما كثرت ادعاءات الاجتهاد ممن ليسوا أهله، وخشي الفقهاء من عبث هؤلاء الأدعياء وإفسادهم دين الناس، بالفتاوى الباطلة التي لا تقوم على علم أو فقه، أفتوا بسد باب الاجتهاد دفعاً لهذا الفساد، وحفظا لدين الناس. والحق أن الاجتهاد باق في حكم الشريعة، ولا يزول، إلا أن الاجتهاد لا بد له من توافر شروطه، فمن تتوافر فيه هذه الشروط فله أن يجتهد، ومن لم يحط بها علماً فحرام عليه الإفتاء في شرع الله بغير علم.
ومع ذلك فقد قام الفقهاء في عصر التقليد هذا بأعمال نافعة، منها:
1- تعليل الأحكام المنقولة عن أئمتهم، فليست كل الأحكام المنقولة عن الأئمة نُقِلَ تعليلها معها.
2- استخلاص قواعد الاستنباط من فروع المذهب، للتعرف على طرق الاجتهاد التي سلكها إمام المذهب.
3- الترجيح بين الأقوال المنقولة عن الإمام، فقد يكون الناقل لقوله ناقلاً قولاً رجع عنه، ولم يعلم برجوعه، وقد يكون بين القولين المختلفين فرق دقيق هو سبب اختلاف القولين، وقد يكون مأخذ أحد القولين قياساً والآخر استحساناً، فقام الفقهاء بترجيح هذه الأقوال في ضوء ما عرفوه من أصول المذهب وقواعده.
4- التفريع على القواعد والتخريج على الأقوال في مسائل جديدة أو قديمة رأوا فيها رأياً آخر يناسب العصر ويحقق المصالح ويراعي المقاصد ولا يخرج عن الإجماع.
5- تنظيم فقه المذهب، وذلك بتنظيم أحكامه، وإيضاح مجملها، وتقييد مطلقها، وشرح بعضها، والتعليق عليها، ودعمها بالأدلة، وذكر المسائل الخلافية مع المذاهب الأخرى، وتحرير أوجه الخلاف، وذكر الأدلة لدعم قول المذهب، وبيان رجحانه، ولا شك في أن هذه الأعمال خدمة كبيرة للفقه، وتوسيع له، وتوضيح لمبهمه.
وفي الوقت الحاضر، نشعر بتباشير نهضة فقهية، من مظاهرها: هذا الاهتمام الملحوظ بالفقه الإسلامي في أوساط التعليم الجامعي، ودراسة الفقه الإسلامي دراسة مقارنة، وإظهار مزاياه وخصائصه وكثرة التأليف في مباحثه وظهور المبرزين فيه الجامعين بين الثقافة القانونية والشرعية، وظهور المجامع الفقهية والاجتهاد الجماعي، ونحن نأمل أن يزداد هذا الاهتمام بالشريعة الإسلامية وفقهها حتى تعود إلى مكانتها الأولى، وتسترد سيادتها القانونية وتمد هي والفقهُ الإسلامي الدولةَ بالتشريعات اللازمة في جميع شؤونها، كما كان الأمر في السابق، لكن بشرط أن يكون هذا الاهتمام في الجماعة العلمية ومن خلالها، حتى يظل اهتماماً رصيناً مبتعداً عن أهواء الجهلة وأطماع الحاقدين، والله -تعالى- ولي التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
كلمة المرجعية تقابل في اللغة الإنجليزية authority وهي كلمة تعني السلطة power، وتعني أيضاً المرجع العلمي المعتمد reference ، والمرجعية التي نعنيها هي مرجعية علمية بالأساس، وليست سلطة دينية كما هو موجود بالمسيحية باعتبار أن البابا (عند الكاثوليك في روما بالفاتيكان) هو المصدر الديني الذي يجوز له التشريع.
وهي سلطة لا وجود لها في الإسلام إلا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وانتهت بانتقاله إلى الرفيق الأعلى، وأصبح المروي من الكتاب والسنة هو المصدر الوحيد للتشريع من خلال عملية الاجتهاد التي يقوم بها المجتهدون الذين تتوفر فيهم شروط معينة نص عليها علم أصول الفقه.
ولذلك رأينا المسلمين يهتمون بعلوم التوثيق في نقل الكتاب والسنة وبعلوم الفهم في وضع منهج واضح سُمي علم أصول الفقه، يعالج المصادر والحجية وطريقة التوثيق والفهم، وبيان المساحة القطعية والظنية في عملية الاجتهاد، وكيفية الإلحاق بالمنصوص عليه، وفك التعارض بين ظواهر النصوص، وبيان مقاصد الشريعة، وبيان شروط المجتهد القادر على فعل ذلك.
أما المساحة القطعية في الشريعة فلا خلاف فيها بين أحد من المسلمين، وتسمى الإجماع، وهي ليست محلا للاجتهاد، وتمثل في الوقت ذاته هوية الإسلام، وأما ما دون ذلك فهي مساحة واسعة يجوز فيها الاجتهاد القائم على علم أصول الفقه، ويختلف المجتهدون في بيان الحكم وفي إيقاع هذا الحكم على الواقع، وهو ما يسمى الفتوى باختلاف الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، ومن هنا كانت المبادئ الفقهية التي رُصد منها نحو ثمانين مذهباً في تاريخ التشريع الإسلامي.
ونتاج هذه المذاهب يُسمى الفقه الإسلامي الوسيع، وقد بقيت منها ثمانية مذاهب مازالت لها أتباع يتبعونها إلى يومنا هذا، وهي الأربعة السنية (الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة)، وكذلك الاثنا عشرية (الجعفرية) نسبة إلى جعفر الصادق وعليها شيعة إيران والعراق ولبنان وباكستان والهند، والزيدية وهم شيعة اليمن، والإباضية أتباع ابن إباض وهم منتشرون في سلطنة عمان والجزائر، والظاهرية أتباع ابن حزم الظاهري الأندلسي من علماء القرن الخامس الهجري وبقي له كتابه «المحلى»، وليس له أتباع محددون سوى أفراد يختارونه بين الحين والآخر.
وتعد مصر من خلال الأزهر الشريف أول دولة اعترفت بالمذاهب الثمانية، وقامت بدراستها واعتمادها، ودراسة المقارنة بينها في جامعتها، وذلك بالإضافة إلى أن الأزهر يعد مؤسسة تابعة للدولة، وأنه لديه مجمع البحوث الإسلامية، وهو أول مجمع لدراسة القضايا العامة - وليس الفقهية فحسب- التي تتعلق بالمسلمين في العالم، وكذلك الجامعة الأزهرية التي تضم الآن أكثر من ٤٠٠ ألف طالب، وهي أكبر جامعات الدنيا على الإطلاق وأقدمها على الإطلاق أيضاً، وتشتمل على كل التخصصات في أكثر من ٧٠ كلية، وهي معتمدة لدى جامعات العالم، حتى إن درجة الإجازة العالية (ليسانس) تُعادَل بالماجستير في الدراسات الإسلامية والعربية على جهة الخصوص في كثير من جامعات العالم الكبيرة.
ولدى الأزهر أيضاً تعليم نوعي يبدأ من المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية في أكثر من ٧٠٠٠ معهد تضم مليوناً ونصف مليون طالب، كما أن لديه وافدين من أكثر من ٩٠ دولة، مما جعله مقبولا قبولا عاماً، لدى المسلمين وغير المسلمين في جميع أركان الأرض، وإذا انضم إلى ذلك مواقف الأزهر التي تعبر عن الوسطية، فإنه يكون منفردا في هذا المعنى.
وقد قام الأزهر بالعديد من الإجراءات الدءوبة لتفعيل هذه المرجعية، نذكر منها:
1- إرسال البعثات إلى البلاد الغربية لأعضاء هيئة التدريس للتمكن من اللغة، وللانفتاح على الدراسات الحديثة، بهدف إعداد قادة ودعاة من نوع راق وفريد.
2- تدريس مادة مقارنة الأديان بصورة صحيحة، ومن مصادر الديانات الفعلية، وعمل توأمة مع الجامعات العالمية في هذا الشأن.
3- الاهتمام بتدريس اللغات لخريجي الكليات الشرعية واللغوية، وابتعاث بعضهم للخارج لزيادة المعرفة والاحتكاك.
4- إعادة فتح جامعة الأزهر أمام خريجي الجامعات المصرية الأخرى.
5- فتح جامعة الأزهر لخريجي الجامعات الغربية من أبناء الدول المختلفة.
6- الاهتمام بتدريس المذاهب الثمانية والتخصص فيها، وعمل رسائل الماجستير والدكتوراه في دقائق مباحثها وتاريخها وأصولها.
7- الاهتمام بإنشاء مراكز أبحاث مختلفة في مجالات مختلفة بجامعة الأزهر.
8- الاهتمام الشديد بالتدريب وتنمية المهارات الإدارية والفنية لدى الأساتذة والطلاب والإداريين على حد سواء.
العمل على مقاومة الفكر المتشدد الذي بدأ يبزغ برأسه في المجتمع المصري مُستبدِلا به المنهجَ الوسطى الذي هو صحيح الدين.
وعليه، وبناء على هذه الإجراءات، أصبح الأزهر قادراً على تقديم النصيحة العلمية التي ينبغي أن تصل إلى حد الإلزام لبيان صحيح الإسلام، وللقيام بدور التحكيم، ولحل مشكلات المسلمين في الغرب، ولتقديم اقتراحات للدول والحكومات، ولتصحيح مناهج التعليم، أو الاشتراك في وضعها عندما تتعلق بالمسلمين، ونحو ذلك من الخدمات التي لها أثر في استقرار أوضاع المسلمين في الغرب، وفي شيوع السلام الاجتماعي، وفي اندماج المسلم في مجتمعه، وفي مساعدته لأن يكون مواطنًا صالحًا نافعًا لأهله ووطنه، مشاركًا في بناء الحضارة الإنسانية.
وهنا لابد من الالتفات إلى مسألة المشروعية، وملخصها: أن المسلم يجب عليه أن يلتزم بالمشروعية وموافقة القوانين السائدة في بلاده، وألا يخرج على النظام العام، مما يجعل المشروعية والمرجعية وجهين لعملة واحدة، ومن هنا فإن المرجعية ستلتزم بالمشروعية بحيث تحقق الاندماج التام للمسلم في وطنه. فإن هدف المرجعية هو البحث لإيجاد حلول بواسطة التفاهم بحيث يصبح الأزهر مستودعاً لتفكير المسلم فاصلا بين هوية الإسلام التي لا يمكن التنازل عنها، ومساحة المتاح من المختلف فيه التي يمكن التفاوض بشأنها.
تقوم العلاقة بين الإنسان والكون على التوافق والانسجام، ومنذ هبط الإنسان إلى الأرض ارتبط تطوره العقلي والحضاري بحسن توافقه وتكيفه مع البيئة والكون، وحسن استخدامه وانتفاعه بمفردات الحياة، فلا يحق له بأي حال الإساءة إليه، بل يجب عليه احترامه ورعايته.
والمسلم خاصة يتعامل مع مخلوقات الله من منطلق الشعور بالمساواة معها والمشاركة في العبودية لإله واحد، وترتبط علاقاته بغيره بمدى تعلقه والتفاته إلى ربه، فهو يتوجه بالحب إلى الله، ومن خلال ذلك الحب يتوجه بالحب إلى ما أبدع وصنع، ولذلك نراه يستوي عنده ضعف المخلوقات وقوتها، وحقارتها وعظمتها، لأن نظره لا يتعلق بها بل يتعلق بخالقها القوي الحكيم، فالمسلم يقدس من عالم الأشياء المصحف والكعبة وقبر النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ونحوها، لمكانتها عند الله عز وجل، وتقديسه لها يجمع بين الاحترام والحب.
ولقد أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه درساً في حب الجماد والتفاعل معه ومجاوبته حينما حن إليه الجذع ومال، فعن جابر: كان المسجد مسقوفاً على جذوع من نخل، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر، وكان عليه، فسمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار، حتى جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فوضع يده عليه، فسكن (البخاري)، وعندما مر النبي -صلى الله عليه وسلم- على جبل أحد، وعلى الرغم من أنه كان موطناً أصاب المسلمين فيه قرح وأصاب النبي فيه جرح، واستشهد عليه عمه حمزة بن عبد المطلب، فحزن النبي لذلك، رغم كل ذلك فإنه أشار إليه، وقال: «هذا جبل يحبنا ونحبه (البخاري)، فالجبل أحب المسلمين، والمسلمون يحبون هذا الجبل، على الرغم من أن ما حدث في موقعة أحد كان أدعى لأن يتشاءم المسلمون منه، وفي موقف آخر مع جبل أحد نجد النبي -صلى الله عليه وسلم- يغمزه برجله حينما اهتز من تحته، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: «صعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى «أحد» ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فضربه برجله قال: «اثبت أحد، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيدان» (البخاري).
والإنسان وجميع الموجودات خاضعون لقانون واحد وسنّة واحدة تتحكم في تحركهم وسكونهم، وهذا النظام يعبر عن وحدة الخالق، وتظهر فيه سنن الله في خلقه، فلكل موجود ممكن دورة حياة، تبدأ بالوجود ثم النماء ثم الضمور فالموت، وهو أمر يصيب كل شيء من حولنا، سواء في ذلك الجماد والحيوان والإنسان، حتى النجوم والمجرات لها أعمار وآجال، بانتهائها تدخل في دورة حياة كائنات أخرى، وتفقد صورتها الأولى وتتحول إلى صور أخرى متعددة.
إلا أن الإسلام حرر الإنسان من عبودية عالم الأشياء، وجعله يتحرر من رهبتها أو مراقبتها بتوجس، فأصبح يتعامل معها من منظور السلطة والسيادة، فلا يفوت أي فرصة للانتفاع بما سخره الله فيها، والإنسان لا يستطيع أن يصل من التأمل في الكون إلى معرفة نظامه وقوانينه إلا إذا وثق بنفسه أولا وآمن بأن الكون المشاهد خاضع لإدراكه وبحثه، وبأن ظواهره ليست بالشيء المبهم الغامض الذي لا يفسر، وبأن في مقدوره الاستفادة من الكون واستغلال خيراته، على أوسع نطاق لتأمين حياته ورفاهيته.
والإنسان جزء من الكون، لكنه تميز عليه بعلاقته الخاصة مع الخالق، فهو المكلف بحمل الأمانة التي شق على السموات والأرض والجبال تحملها، لأنها مسؤولية، فارتضت الكائنات أن تكون مسخرة للإنسان يسأل هو عنها.
وقد تميز الإنسان أيضا على بقية المخلوقات بأنه خلق معدًّا لاستيعابها معرفيا، فباستطاعته أن ينقل العالم الخارجي في صورته الكمية والكيفية إلى عالمه الداخلي، فاستحق بقدرته المعرفية أن يحمل أمانة الخلافة.
والملكات والقدرات التي مُنِحها الإنسان وفُضَّل بها إنما هي ليتمكن من الاستفادة بما سُخّر له في الكون من منافع، ولم تكن للسيطرة على الكون والتعالي عليه، والشعور بالسيادة المطلقة فيه، فإن تلك القدرات وهبت للإنسان لتمكّنه من فهم وإدراك سنن الله المودعة سلفا في كونه، وبمعرفتها يتمكن من الانتفاع بخيرات الكون التي سخرها الله له.
إذاً فليست ملكات الإنسان وقدراته هي التي سخرت له الكون ومكنته منه، ولكن الكون سخر للإنسان بإرادة الله وقدرته، وليس لتميزه وقوته دخل في ذلك التسخير، ولا يمكن لإنسان العصر أن يستقر نفسيا ويأخذ وجهته الصحيحة نحو إنجاز رسالته على الأرض إلا إذا عرف حدوده مع خالق هذا الكون ومدبره، ذلك أن الكون كله شأن من شؤون الله تعالى (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [آل عمران:109] فهو تعالى خالق الكون بما فيه الإنسان، وهو الذي ركب العقل في الإنسان، ليعمر به الأرض لا ليدمرها، وليعرف به خالقه لا ليلحد، ولذلك على المرء أن يضع هذا المخلوق المكرم (الإنسان) في إطار الكون كله وقوانينه الحتمية، لا في إطار قدرته الخاصة المحدودة، ليرى أن ليس للإنسان قدرة على توجيه مجرى الحوادث الكونية وفق مشيئته، لأن هذا من شأن خالق الأشياء جميعا ومدبرها (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [الأنعام:102].
هناك احتياج دائم في كل جماعة إلى منظومة من القواعد الضابطة لسلوك الأفراد داخلها، فتتمتع حيالهم بسلطان الأمر والنهي المصحوب دوماً بجزاء يوقَّع جراء المخالفة، وهي منظومة قاعدية ضاغطة على الإرادة الفردية لصالح ضرورات جمعية تحددها أولويات كل جماعة حسب أوضاعها الفلسفية والخلقية والدينية، فضلاً عن موجبات مصالحها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فتتحرك الإرادة الفردية داخل إطار هذه المنظومة من دون إمكان المجاوزة، لذا كانت فكرة النظام العام بقواعدها الآمرة الناهية حداً لسلطان الإرادة في إبرام العقود والاتفاقات، فالاتفاق المخالف للنظام العام أو الآداب يكون باطلاً ولو لم يكن فيه خروج على قاعدة قانونية معينة أو نص تشريعي معين.
ويرتكز النظام العام في الإسلام على أصلين ثابتين، هما: الربانية والإنسانية، ونقصد بـ«الربانية» التوجه والقصد، فالإسلام يجعل توجه الإنسان في غايته النهائية حسن الصلة بالله تعالى، وعدم الخروج عن شرعه، فيجعل الله هو منتهى المقصود لكل البشر، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) [النجم:42] فجميع الغايات والأهداف الإنسانية والاجتماعية العظمى لا تعدو في حقيقتها أن تكون خادمة للهدف الأسمى، وهو تلمس رضاء الله وحسن مثوبته، وللربانية بعد آخر، هو قضية المصدر والمنهج، فالمنهج رباني خالص لكون مصدره وحي الله تعالى المنزل على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا ترجع المنظومة الإسلامية في كل مصادرها إلى كلام الله المحفوظ دون تحريف أو تبديل، وهو ما يعني أن الحاكمية إنما هي لله تعالى، فلا مشرع سواه، وهو الآمر الناهي، المحلل المحرم، المكلف الملزم، فالمجتهد والقانوني الإسلامي هو من يتمكن من الكشف عن حكم الله في المسائل المختلفة وفقاً لمنهج وقواعد منضبطة، وليس هو من يسن ويشرع القوانين ابتداء دون ضوابط.
أما الإنسانية فنقصد بها أن الإسلام رسالة ربانية من جهة الغاية والقصد، وإنسانية من جهة أنها مطلوبة من جماعة البشر، فالإنسان هو المعني بهذه الرسالة، ولذا كان هدف هذه الرسالة هو الحفاظ عليه، واتضح ذلك من خلال تكريم الله تعالى للإنسان وتسخير الكون له، وذلك بغية تحقيق سعادته في الدنيا، وفوزه بالنعيم المقيم في الآخرة.
واهتم المسلمون بالإنسان فجعلوا مقاصد الشريعة التي خاطبته -والتي يخاطب بها الناس أجمعون وتتجاوز الزمان والمكان في جميع الأحوال- خمسة، وهي:
1- حفظ النفس حتى تكون حية قابلة للخطاب.
2- حفظ العقل وعدم الاعتداء عليه بأي تسلط أو إكراه، بل هناك حفاظ عليه في أساسه، وحفاظ عليه في منهج تفكيره، وحفاظ عليه في حريته وإبداعه، حتى في مسائل الإيمان، قال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة:256]، وقال سبحانه: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون:6]، وقال تعالى: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف:29]، بالإضافة إلى حفظه بتحريم كل مسكر ومفتر، قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [البقرة:219]. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر». (أحمد وأبو داود).
3- حفظ الدين، فإن الله يحب المتقين والصابرين والمتوكلين والمحسنين، ولا يحب المفسدين، ولا المتكبرين والخائنين، وهي مبادئ وأسس دستور الإنسان الحضاري.
4- حفظ كرامة الإنسان التي سميت في تراثنا بـ«العرض»، ولقد أحيط بسياج كبير من الضمانات، فحرمت الاحتجاز القسري، والاعتقال العشوائي، والتعذيب للمتهم، وحرمت السب والقذف والاتهام المفتقد للدليل، وحرمت التفرقة العنصرية بجميع أشكالها، وغير ذلك كثير من حفظ حقوق الإنسان في كرامته.
5- حفظ المال في موارده، فلا تكون إلا من حلال وفي مخارجه فلا تكون إلا في خير.
وترتيب هذه الأسس الخمسة: (النفس، العقل، الدين، النسل، المال) هو ترتيب منطقي، وله اعتبار حيث إنه يجب المحافظة أولاً على النفس التي تقوم بها الأفعال، ثم على العقل الذي به التكليف، ثم نحافظ على الدين الذي به العبادة، وقوام العالم، ثم نحافظ بعد ذلك على ما يترتب على حفظ الذات، والعقل، والدين، وهو: المحافظة على النسل الناتج من الإنسان، وما يتعلق أو ما يندرج تحت هذا العنوان الكلي، من المحافظة على العرض، وحقوق الإنسان وكرامته، ثم بعد ذلك نحافظ على قضية الملك، وهي التي بها عمارة الدنيا عند تداولها، ذلك المال الذي إذا ما تدوول فإنه يمثل عصباً من مقومات الحياة.
وهذا النظام العام للإسلام مؤداه أن هذا الدين هو خطاب الله سبحانه وتعالى للبشر، أمر بأوامر، ونهي عن نواهٍ، هذه الأوامر والنواهي مقصدها هو: أن يحافظوا على أنفسهم، وعلى عقولهم في تلك النفوس، وأن يحافظوا كذلك على صلتهم بربهم، تحقيقاً للمقصد الأول من وجود البشرية متمثلة في النفس والعقل وهو: (العبادة) ثم أمرهم بعد ذلك أن يحافظوا على نسلهم، وحقوقهم، وعمارة الأرض، وهو الذي يحقق العمارة والعبادة، والعمارة من خلال تلك العبادة هي التي تقوم بها الدنيا، وتقوم بها الآخرة أيضاً.
وفكرة النظام العام تؤكد لنا أن الإسلام ليس فقط ديناً يختص به من أسلم وآمن بالله ورسوله، ولكنه أيضاً دولة تحافظ على الناس، وتحافظ لهم أيضاً على المقاصد الخمسة، التي منها الدين الذي أباح الله سبحانه وتعالى قبول التعدد فيه داخل هذا النطاق، أو تحت هذه المظلة، فأباح لأهل الكتاب أن يمكثوا بيننا، وأن يصبحوا مواطنين معنا في دولتنا الواحدة، ولغتنا الواحدة، وحضارتنا الواحدة، وآمالنا وآلامنا الواحدة، هذا هو نظام الإسلام كما بينه صلى الله عليه وسلم، وكما نقله إلينا أصحابه وتابعوهم من السلف الصالح رضي الله عنهم وأرضاهم.
الإسلام إطار واضح يمكن تطبيقه في كل عصر، ولقد تمكن المسلمون الأوائل من تطبيقه في العصور الأولى للإسلام مع بساطة المجتمعات وقلة وظائف الدولة، وتمكن المسلمون من تطبيقه مع تعقد المجتمعات وزيادة وظائف الدولة، وفي ظل هذا الإطار الواضح، كفل الإسلام حقوق المسلم السياسية التي يمكن أن نجملها في أربعة حقوق رئيسة:
أولًا: اختيار الحاكم والرضا به، وهو ما كان يعبر عنه في التراث الفقهي بـ«البيعة»، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح:١٠]، كما ذكر الله أمر النساء في البيعة فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الممتحنة:١٢]، فأثبت القرآن الكريم حق المسلم في مبايعة الحاكم، وأنه في هذه الحالة يبايع الله عز وجل لتأكيد أهمية هذا الحق وقدسيته، كما أنه ساوى بين الرجل والمرأة في اختيار الحاكم دون تمييز بينهما.
ثانيًا: المشاركة العامة في القضايا التي تخص عموم الأمة، وهو مبدأ الشورى، والشورى من المسائل التنظيمية الأساسية في المجتمع فلابد من اجتماع كلمة أفراد الجماعة الواحدة للوصول إلى رأي واحد حتى يتم تنفيذه، ومن هنا ظهرت أهمية الشورى كوسيلة للاستفادة من وجهات النظر المختلفة، ومن الخبرات المتعددة، ومن العلوم المتباينة لإنتاج القرار السليم الذي لابد أن يكون موافقا لشرع الله، ومحققا لمصالح الأمة، وقد حث الإسلام على مبدأ الشورى بين الحاكم والرعية، فجعل الله عز وجل أمر الشورى أساساً من أسس الأمة، فالشورى ليست كلمة بل هي منهج حياة، قال تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: ١٥٩]، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [الشورى: ٣٨].
ولم يفرق الدين بين الرجل والمرأة في ذلك، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم زوجته أم سلمة، رضي الله عنها، في موقف عصيب في صلح الحديبية، بعدما كتب معاهدة الصلح مع المشركين، وبعدها أمر المسلمين بأن ينحروا هديهم ويحلقوا لأنهم لن يذهبوا إلى مكة في هذا العام فلم يقم منهم أحد، فيروي عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك فيقول: «فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا. قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل صلى الله عليه وسلم على أم سلمة، رضي الله عنها، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت له أم سلمة رضي الله عنها: يا نبي الله أتحب ذلك، اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا». (أخرجه الإمام أحمد).
وفي عصرنا الحديث لم يعترض علماء الإسلام على ترشيح المرأة في المجالس النيابية، وتمثيل فئة عريضة من الشعب والمشاركة في سن القوانين التنظيمية، ولقد أصدرت دار الإفتاء المصرية الفتوى رقم ٨٥٢ لسنة ١٩٩٧ عن حكم ترشح وعمل المرأة عضوًا بمجلس النواب أو الشعب، وخلصت فيها إلى أنه: لا مانع شرعا من أن تكون المرأة عضوًا بالمجالس النيابية والشعبية إذا رضي الناس أن تكون نائبة عنهم تمثلهم في تلك المجالس، وتكون مواصفات هذه المجالس تتفق وطبيعتها التي ميزها الله بها، وأن تكون فيها ملتزمة بحدود الله وشرعه، كما بين الله وأمر في شريعة الإسلام.
ثالثًا: تولي المناصب المهمة في الحكومة ومؤسسات الدولة، والولاية أمانة، قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ) [الأحزاب:٧٢]، وعن أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلاَ تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا» (أخرجه مسلم)، وجاءت آثار عديدة تؤكد أن هذا الحق لم يقتصر على الرجال فقط، فتولت المرأة السلطة التنفيذية، أو الشرطة، أو ما يسمى في التراث الفقهي الإسلامي «الحسبة»، كما يجوز للمرأة أن تتولى القضاء على قول بعض أهل العلم من علماء المسلمين المعتبرين، فقد ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى جواز أن تلي النساء القضاء فيما يجوز أن تقبل شهادتهن فيه وحدهن أو مع الرجال ؛ لأن في الشهادة معنى الولاية.
رابعًا: نصح الحاكم وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وهي من مهمات الدين، قال تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) [آل عمران:١٠٤]، وقال سبحانه: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران:١١0]، فقرن العقيدة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال: (خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ) [الأعراف:١٩٩]، وعن عائشة رضي اللّه عنها قالت: سمعت رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، يقول: «مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم» (سنن ابن ماجة)، وتساوت المرأة مع الرجل في هذا الحق أيضاً، ويروي لنا التاريخ الإسلامي أمثلة تؤكد ذلك، ففي خلافة عمر رضي الله عنه، يروي لنا قتادة فيقول: «خرج عمر من المسجد.. فإذا بامرأة برزت على ظهر، فسلم عليها عمر فردت عليه السلام، وقالت: هيهات يا عمر! عهدتك وأنت تسمي عميرا في سوق عكاظ ترعى الضأن بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفوت» (راجع الإصابة لابن حجر).
ولعلنا بتلك العناصر الأربعة نكون قد أوضحنا في إيجاز غير مُخِلٍّ حقوق المسلم السياسية، وأنها متساوية بين الرجل والمرأة فلا تمييز بينهما، والله ولي التوفيق.
مبنى الأمن الاجتماعي في دين الإسلام هو العلاقة بين الرجل والمرأة إذ هي أساس المجتمع، وتقنينها وفقاً لقواعد ومفاهيم واضحة هو أفضل سبيل لتحقيق الأمن والسلام الاجتماعي في المجتمع البشري، وقد أقام الله سبحانه وتعالى هذه العلاقة على أساسين هما: المساواة بينهما في أصل الخلقة والعبودية والتكاليف الشرعية، ثم توصية الرجال بالإحسان للنساء كفرض وفضيلة وذلك لرقة طبعها وخجلها أن تطالب بحقوقها.
أما عن مبدأ المساواة فقد ساوى الله جل جلاله بين الرجل والمرأة في أصل الخلقة، فأخبر سبحانه بوحدة الأصل الإنساني الذي خلق منه الرجال والنساء في أكثر من موضع من القرآن الكريم قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:١]، وقال سبحانه: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) [الأعراف:١٨٩].
كما ساوى ربنا بينهما في أصل العبودية له وحده، ولم يفضل جنساً على آخر، بل جعل مقياس التفضيل التقوى والصلاح والإصلاح قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: ١٣].
وساوى الله بين الرجال والنساء في أصل التكاليف الشرعية، من حيث الثواب والعقاب على فعلها وتركها، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) [غافر:٤٠]، وقال سبحانه: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ) [آل عمران:١٩٥]، وقال تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) [النساء:١٢٤]، وقال سبحانه وتعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: ٩٧].
كما ساوى ربنا بينهما في أصل الحقوق والواجبات، قال تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: 288]، وقال تعالى: (لِلرِجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا) [النساء:٧]. ولقد سارت السنة النبوية على نفس المنهج القرآني في تعدد وتنوع النصوص المصرِّحة بمساواة المرأة والرجل في أصل العبودية والحقوق والواجبات، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن النساء شقائق الرجال» (أخرجه أبو داوود والترمذي).
ولم تقتصر نصوص الشرع الشريف على تأكيد المساواة في أصل التكليف، وأصل الحقوق والواجبات، وإنما تعدى الأمر إلى التوصية بالمرأة وذلك لما تتسم به المرأة -كما ذكرنا- من رقة في الطباع، وخجل في الأخلاق، قد يحولان بينها وبين المطالبة بحقوقها ومعاملتها معاملة حسنة، فأوصى الله عز وجل الرجال بهن خيراً وأن يتعاملوا معهن بالمعروف في أكثر من موضع في القرآن الكريم. قال تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء:١٩]، وقال سبحانه: (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُحْسِنِينَ) [البقرة:٢٣٦]، وقال عز وجل: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ) [الطلاق:6].
كما اهتمت السنة النبوية بالحث على التوصية أكثر من تأكيدها لمبدأ المساواة، فأمر بها صلى الله عليه وسلم بصورة صريحة واضحة، فقال: «استوصوا بالنساء خيرًا» (أخرجه البخاري ومسلم)، بل اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم مقياس أفضلية الرجال حسن معاملة المرأة والزوجة بصفة خاصة؛ وذلك لطول معايشتها للرجل وشدة اقترابها منه، فقال صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» (أخرجه الحاكم في المستدرك)، ورغَّب النبي صلى الله عليه وسلم في الإحسان إلى الزوجة بالتوسعة عليها في النفقة، فعن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك» (صحيح مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: «مهما أنفقت فهو لك صدقة حتى اللقمة ترفعها في في امرأتك» (البخاري).
كل النصوص السابقة تؤكد أن المرأة كالرجل في أصل التكليف، وأصل الحقوق والواجبات، وأن الاختلاف الذي بينهما في ظاهر الحقوق والواجبات من قبيل الوظائف والخصائص، وليس من قبيل تمييز نوع على آخر، فلا يعد اختلاف الوظائف والخصائص انتقاصًا لنوع، فمثلا إذا وعد أب أن يكسو أبناءه في العيد، فالظلم هنا أو الانتقاص هو أن يكسو الأبناء دون البنات، ولكن ليس من الظلم أن يفرق بين نوع الملابس التي يلبسها ابنه الذكر، عن تلك الملابس التي تلبسها ابنته الأنثى طبقا لاختلاف الوظائف والخصائص.
فالمرأة تمتاز بخصائص فكرية وعاطفية وفسيولوجية، وتقوم بوظائف تناسب طبيعتها وتكوينها، فهي الزوجة التي تحمل الحياة، وهي الأم التي تربي المولود وترضعه وتحنو عليه، وهذه الوظائف تتناسب مع تلك الخصائص المذكورة، في توافق مبهر مع طبيعة الحقوق التي تتميز بها، والواجبات التي تلتزم بها في منظومة متكاملة، تبرز تميز كل نوع عن الآخر، كما تجعله متكاملا معه، مندمجا، ومكونًا بهذا التكامل وذلك الاندماج الفريد أولى وأهم لبنات المجتمع، وهي الأسرة.