دلت النصوص الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة على أن باب التوبة لا يغلق أمام أحد, وتواترت الأدلة على أن الإنسان مهما فعل من آثام فإن هذا لا يسلبه ثوب التقي إذا أفاق من غفلته وبادر بالرجوع إلى ربه, كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف:201], وقال: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه:82], وهذه الأهمية القصوى للتوبة.
وتأكيدا على فضل الله الواسع في قبول التائبين إليه أوردت لنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم بعضا من القصص في هذا الجانب ليعيش الناس الواقع العملي مدعما بالكثير من شواهد القرآن والسنة في الجانب النظري. فعن أبي سعيد الخدري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا فسأل عن أعلم الأرض فدل على راهب, فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة؟ قال: لا. فقتله, فكمل به مائة. ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم, فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم, ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا, فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم, ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت, فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب, فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط. فقالوا: قيسوا ما بين الأرضين, فإلى أيتهما كان أدنى فهو له, فأوحي الله إلى هذه أن تقربي وأوحي الله إلى هذه أن تباعدي; فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة» (صحيح البخاري 3/1280، ومسلم 4/2118). وهذه القصة أصل عظيم في الدلالة على قبول التوبة من المذنب, وإن تفاحش ذنبه وتعاظم إثمه, طالما صلحت سريرته ووافقتها علانيته. وقد نطقت بذلك آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم, فالله تعالى يقول: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53], وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبو ذهب الله بكم, ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم» (صحيح مسلم 4/2106).
وتدل قصة هذا الرجل على سعه رحمة الله تعالى وأنها تغلب غضبه, أن صدق العبد في التوجه إلى الله يمنحه, فوق قبول الله له، توفيقا وهداية إلى الطريق المستقيم; فما ورد في الحديث من تقريب أرض التوبة يشعر بأن الله لا يقبل التوبة عن عباده فحسب, بل يزيدهم فوق القبول من فضله, وإن كانت الرحمة من الله واسعة كما أرادها رب العزة فمن الخذلان أن يضيق أحد من الناس ما وسعة الله لفساد في عقله وسوء في فكره, وهذا ما أشارت إليه القصة. ويستفاد من هذه القصة أيضا فضل العلم على العبادة, وذلك لأن إنقاذ هذا الرجل التائب من الهلكة ودلالته على طريق الحق كانت على يد العالم, في حين أن العاكف على العبادة قد ضل عن وجه الصواب فعرض نفسه للهلاك بجهله, وكاد العبد التائب أن يقنط بسببه من رحمة الله; ولهذا فإن من أهم فوائد تلك القصة ضرورة التحري عمن يستفتيهم الإنسان في أمر دينه حتى لا يضل, فعن محمد بن سيرين قال: «إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم», وهو ما يمكن أن نسميه الفرق بين الدين كعلم, وهذا شأن العلماء, وبين التدين كسلوك شخصي, وهذا قد يجيده غير العلماء, ولكنه يظل خاصا بصاحبه. وفي إشارة العالم على العابد التائب بمفارقة أرضه والتحويل إلى أخرى فيها رجال صالحون ليعبد الله معهم, فيها ما فيها ما يفيد أن من كمال التوبة مفارقة مواطن المعصية وأصدقاء السوء, ليكون في مأمن من الانزلاق مرة ثانية، وليجد من حول من يقيل عثرته, ويعلي همته; إذ للبيئة أثر كبير في تكوين شخصية الفرد وجدير بالبيان أن نفع التوبة.
في تلك القصة كان منوطا بما بين العبد وربه, وحقوق الله مبنية على المساحة. وهذا من باب الديانة, أمام من باب القضاء فقد أبانت الشريعة الإسلامية أن حقوق العباد مبينة على المشاحة, وهذا شأن أهل القضاء, ثم بعد ذلك: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [الشورى:40]. فيلغتنم كل امرئ باب التوبة المفتوح دائما إلى الله
لقد ذخرت السنة النبوية بالكثير من النصوص ذات الطابع القصصي لترشد الناس نحو مبادئ الدين وتعاليمه السامية, متعاونة في هذا مع وسائل الدعوة الأخرى في إيجاد الفرد الصالح والمجتمع السليم، كما أسهمت القصة في التأكيد على كثير من مبادئ العقيدة والعبادة والأخلاق, بحيث يمكن لأي إنسان -فضلا عن أن يكون عالما- أن يستلهم من نصوص السنة القصصية الصحيحة ما ينفعه في دينه ودنياه.
ولم يكن غريبا أن تحتذي السنة النبوية بالقرآن الكريم في اشتمالها على عدد كثير من القصص, فقد استحوذت القصة على جانب كبير من توجيهات القرآن الكريم, وأسهمت في تأسيس قواعد الدين وتوضيح معالمه, يقول الله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) [يوسف:3] وفي بيان الغاية من سوق القصص في القرآن يقول سبحانه: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف:176], ويقول: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف:111], وإنما اتجه القرآن الكريم إلى أسلوب القصص في ترسيخ مبادئ الدعوة لما له من فوائد في تحقيق المراد من هداية العباد, فضلا عن رغبة العربي في القصص واستملاحه لها, فقد أورد الزمخشري في تفسير قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [لقمان:6], أن النضر بن الحارث كان يشتري كتب الأعاجم ويحدث بما قريشا ويقول: إن محمدا يحدثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدثكم بأحداث رستم وبهرام والأكاسرة وملوك الحيرة, فيستمحلون حديثه ويتركون استماع القرآن, (تفسير الكشاف: 3/39).
وكان لجوء القرآن الكريم إلى استخدام القصة كأسلوب من أساليب الدعوة مشجعا لكل من ارتبط بالقرآن لينهج نهجه في توظيف القصة لخدمة الدعوة, وبدا هذا واضحا في سنته -صلى الله عليه وسلم- فقد ظهر تأثره صلى الله عليه وسلم بقصص القرآن في سلوكه وأخلاقه, ومن أمثلة ذلك ما ورد: أنه صلى الله عليه وسلم قسم يوم حنين الغنائم فآثر ناسا, فقال رجل: والله, إن هذه القسمة ما عدل فيها, وما أريد بها وجه الله, فقال عليه الصلاة والسلام: فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ رحم الله موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر (صحيح البخاري 3/1148).
كما ظهر اقتداؤه صلى الله عليه وسلم بالقصص القرآني في طريقة عرضه, فكان يختار القصص من تاريخ السابقين ليشرح لنا ما يريد من المعاني بالأمثلة التي تجسد الواقع في صورة الماضي المعروف سلفا ليرسخ في ذهن المتلقي فلا ينساه.
وإنما كان هذا الاهتمام البالغ بالقصة لما لها من أثر واضح في التوجيه والتربية وإيصال المفاهيم, إذ الإنسان يولع بالقصص ويميل بفطرته إليها، وإذا ما قص عليه جزء من قصة حرص على متابعة أحداثها ليعرف مدى ما وصلت إليه، فغريزة حب الاستطلاع تعلق عين السامع وأذنه وانتباهه بشفتي القصصي البارع استشرافا لمعرفة ما خفي من بقيتها, ومما يدل على هذا الميل الفطري نحو القصة والرغبة في تتبع أحداثها ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكر قصة موسى مع الخضر قال: وددنا لو أن موسى صبر فقص الله علينا من خبرهما (صحيح البخاري 3/1347).
والقصص أسلوب تربية عملية يشد من أزر المتمسكين بالحق والثابتين عليه، أسوة بمن سبقوهم على الطريق, ومن ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يوجه أصحابه إلى استقراء تاريخ الثابتين على الحق إذا أراد أن يقوي عزائمهم، ويشد من أزرهم في مواجهة الصعاب. فعن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة, قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه, فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه, فيشق اثنتين, وما يصده ذلك دينه, ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه (صحيح البخاري 3/1322).
إن القصة أداة سهلة الفهم تحظى بالقبول من العامة والخاصة على السواء, ومن ثم فقد لازمت الإنسان منذ وجوده, ومازالت تؤدي دورها في عالمنا المعاصر بصورة كبيرة جعلتها صاحبة المكانة الأولى في عالم الأدب اليوم, وما من شك هنا أن إقبال الناس على القصص النبوي وتعلقهم بأحداثها يعمق مضامينها في نفوسهم ويمكنهم من الاستيعاب الجيد والتأثر بالأحداث واستخراج العبر والعظات, فضلا عن استنباط الأحكام الشرعية والقيم النبيلة من السنة النبوية والتي لا تختلف لدى الإنسان عبر الزمان والمكان.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة, ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة, ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة, والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه, ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة, وما اجتمع قوم في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده, ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) (صحيح مسلم).
في هذا الحديث الكريم, جمع لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعا من الوصايا الثمينة, والتي تعد من الأعمدة الرئيسية لبناء المجتمع الإسلامي, المعينة له في أزماته, والمحفزة على توثيق مشاعر الرحمة والمودة فيما بين أفراده.
1- تحث الوصية الأولي على تنفيس الكرب عن الناس, وجعلها صلى الله عليه وآله وسلم في صيغة المفرد النكرة لتعظيم الثواب, فالحساب على مستوي الكربة الواحدة مع الفارق العظيم بين كرب الدنيا وكرب يوم القيامة, وجعلها غير مرتبطة بزمن للحث على فعلها طوال الوقت, واختار الفعل نفس لتأكيد الراحة النفسية المصاحبة لزوال الكرب, وجعل الثواب من الله مباشرة حيث لا توجد واسطة أو حائل, جميع هذه الأمور اجتمعت في الوصية الأولى وهي وصية جامعة مطلقة تصلح لكل زمان ومكان.
2- وفي الوصية الثانية, تناول شكلا آخر من أشكال تنفيس الكرب, وقد أفردها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في وصية بمفردها لتأكيدها والحث عليها وبيان عظم أجرها, فالمعسر في كرب مستمر ومن دعائه صلى الله عليه وآله وسلم اليومي (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر), فاستعاذ عليه الصلاة والسلام من الفقر كأنه بلاء, وقرنه بالكفر وعذاب القبر لشدته على المؤمن, وقد جعل الإسلام سهما من اسم الزكاة للغارمين تأكيدا لأهمية التنفيس عن المسلمين في أزماتهم, والتيسير على المعسر: منه فرض ومنه مندوب, أما الفرض فهو الإنظار أي تأجيل الدين لحين ميسرة كما قال تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) [البقرة:280], والمندوب هو إسقاط الدين عن المعسر, ومن عجائب هذا الفرع أن المندوب هنا له أجر أكبر عند الله من فرضه, وهو خلاف ما عليه أغلب الفروع الفقهية من كون الفرض أكثر ثوابا من المندوب إلا في أربعة فروع هذا منها, والفرع الثاني هو البدء بالسلام الذي هو سنة وهو أثوب من رد السلام الذي هو فرض, والفرع الثالث التطهر قبل الوقت, والرابع ختان الذكور قبل بلوغهم.
3- والوصية الثالثة تأمر بالستر, وهو ضد الفضيحة وعليه مبنى الدين, وفي عصرنا يدعو كثير من الناس إلى ما سماه الشفافية ولها معنى صحيح ومعنى قبيح, والمعنى القبيح هو الدعوة إلى الاستهانة بالفاحشة وسيء القول والأخلاق بدعوى الشفافية, والشفافية بالمعنى الصحيح هي الصدق وليس الفضيحة, قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [ النور:19].
4- والحقيقة الكونية الشرعية هي أن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه, وهي وصية تدل على أن قلب المسلم يتسع للعالمين, وأنه دائما على استعداد أن يتعاون على البر والتقوى, لا على الإثم والعدوان, وأنه كلما تعاون مع أخيه يشعر بأن الله معه.
5- والوصية الخامسة تجعل السعي إلى طلب العلم بكل أشكاله هو سعي في طريق الجنة, وهي بلاغة لا نجدها إلا في كلام أفصح العرب وسيد المرسلين, فشراء الكتاب وحضور المحاضرة والبحث العلمي من موجبات الجنة, قال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الزمر:9], وبين أن العلم لا يعرف الكلمة الأخيرة فقال: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه:114], وأنه لابد للباحث والعالم أن يتعلم أبدا, قال تعالى: (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف:76], وهذا نهايته الخوف من الله: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ) [فاطر:28].
6- والوصية السادسة توصي بجعل المسجد مؤسسة من مؤسسات المجتمع فيها بناء الإنسان قبل البنيان, وفيها الاهتمام بالساجد قبل المساجد, وفيها مفاتيح الخير من علم وذكر وفكر.
7- أما الوصية السابعة, فهي تبين المعيار الذي يجب علينا أن نتخذه لقبول الأشياء وردها وتقويم الناس, والذي يبنى على المساواة لا على الأحساب والأنساب.
هذه هي صورة المجتمع الذي أراده لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وهناك قصور شديد في مجتمعنا المعاصر يشكو منه الكل ويطالبون بالعودة إلى الأزمان التي رأيناها, فقوة الأمم بقوة المجتمعات.. والله من وراء القصد.
لما ولدت السيدة آمنة محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أرضعته سبعة أيام, ثم أرضعته ثويبة الأسلمية مولاة أبي لهب أياما, وأرضعت معه أبا سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي بلبن ابنها مسروح.
وثويبة أرضعت عم النبي حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه, وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلها وهي بمكة, وكانت خديجة تكرمها, وقيل: إن خديجة سألت أبا لهب في أن تبتاعها منه لتعتقها فلم يفعل, فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة أعتقها أبو لهب, وقيل: أعتقها حين بشرته بولادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ورأى أبا لهب بعض أهله في النوم في شر حال, فقال: ما لقيت بعدكم راحة, إلا أن العذاب يخفف عني كل يوم اثنين. ولم نذق بعدكم رخاء غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولد يوم الاثنين, وكانت ثويبة قد بشرته بمولده, قالت له: أشعرت أن آمنة ولدت غلاما لأخيك عبد الله؟ فقال لها: اذهبي, فأنت حرة. فنفعه ذلك (الروض الأنف للسهيلي 99/3) أي: فنفعه فرحه بمولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الإمام ابن الجزري شيخ قراء عصره: (فإذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار لفرحه ليلة مولد محمد صلى الله عليه وآله وسلم فما حال المسلم الموحد من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببشره بمولده وبذل ما تصل إليه قدرته في محبته؟ لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله جنة النعيم. (سبل الهدي والرشاد في سيرة خير العباد للصالحي 366/1).
وفي هذا المعنى يقول الحافظ شمس الدين محمد بن ناصر الدين الدمشقي: إذا كان هذا كافرا جاء ذمه.. وتبت يداه في الجحيم مخلدا أتي أنه في يوم الاثنين دائما..يخفف عنه بالسرور بأحمدا فما الظن بالعبد الذي كان عمره.. بأحمد مسرورا ومات موحدا وبعد الهجرة كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبعث إلى ثويبة من المدينة بكسوة وحلة حتى ماتت بعد فتح خيبر, فبلغت وفاتها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأل عن ابنها مسروح, فقيل: مات. فسأل عن قرابتها فقيل: لم يبق منهم أحد.
ثم أرضعته صلى الله عليه وآله وسلم أم كبشة حليمة بنت أبي ذؤيب عبد الله بن الحارث السعدية, وهي التي أرضعته حتى أكملت رضاعه, ورأت لنبوته وسيادته براهين وآيات, أرضعته بلبن ابنها عبد الله أخي أنيسة وجدامة وهي الشيماء أولاد الحارث بن عبد العزي بن رفاعة السعدي, وأرضعت معه ابن عمه أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب, وكان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, ثم أسلم عام الفتح وحسن إسلامه, وكان عمه حمزة مسترضعا في بني سعد بن بكر فأرضعت أمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جهتين, من جهة ثويبة ومن جهة السعدية.
وقد مست بركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرضعته حليمة في نفسها وولدها ورعيها وقومها وظهرت هذه البركة في كل شيء.
فقد خرجت حليمة من بلدها مع زوجها وابن لها رضيع في نسوة من بني سعد تلمس الرضعاء وكانت سنة مجدبة لم تبق لهم شيئا, قالت: والله ما ننام من بكاء صبينا من الجوع وما في ثديي ما يغنيه, وخرجت علي أتاني الضعيفة العجفاء وقد أصيبت ركبتها, حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء فعرض علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتيم, وإنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي, فأخذناه عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة.
فلما أخذته رجعت به إلى رحلي, فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى روي وشرب معه أخوه حتى روي ثم ناما, وقام زوجي إلى ناقتنا المسنة فإذا هي حامل, فحلب منها فشرب وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعا, فبتنا بخير ليلة.
وفي الصباح خرجنا وركبت أتاني, وحملته عليها معي, فوالله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شيء, حتى قالت صواحبي: أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها يا حليمة والله إن لها لشأنا.
قالت: ثم قدمنا منازلنا من بني سعد وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها, فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به معنا شباعا لبنا, فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب! فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطر لبن وتروح غنمي شباعا لبنا, فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته, وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا. ثم قدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على مكثه فينا, لما كنا نرى من بركته.
فنشأ صلى الله عليه وآله وسلم شطرا من طفولته في بادية بني سعد في الحديبية وأطرافها, وشطرا في المدينة, وعند حليمة شق صدره صلى الله عليه وآله وسلم وملئ حكمة ثم عادت به حليمة إلى أمه.
وبعد أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخديجة قدمت حليمة على مكة, وشكت إليه الجدب, فكلم خديجة بشأنها فأعطتها أربعين شاة, وقدمت مع زوجها بعد النبوة فأسلما.
وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين, وهو على الجعرانة, فقام إليها وبسط لها رداءه فجلست عليه.
لقد صاحب ميلاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بركات ومبشرات أصابت من حوله في زمانه, ونرجو أن تتنزل على محبيه ومتبعيه في زماننا هذا بركات ونفحات في ذكرى مولده الشريف الذي كان نورا ورحمة من رب العالمين على خلق الله أجمعين.
بركته على قومه:
تمثلت في الكشف عن بئر زمزم, الذي طمر قبل ميلاده بسنين عديدة, فكانت تتحمل قريش خلالها المشاق في حمل الماء وجلبه إلى الحرم وما حوله, خاصة في موسم الحجيج الذي تفد فيه قبائل العرب وزوار البيت, وهذه المهمة كانت تسمى بالسقاية.
حتى رأى عبد المطلب جد النبي رؤيا وهو نائم في الحجر تأمره بحفر زمزم, وفيها تحديد لمكانها الذي دفنت فيه عند منحر قريش.
وفي ذلك ربط بين إسماعيل بن إبراهيم ومحمد بن عبد الله عليهما السلام, فإسماعيل ظمئ وهو صغير فالتمست له أمه ماء فلم تجده فتفجر عند قدمه ماء زمزم فكان بداية أمره, وكذلك فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان بداية أخرى لهذه البئر المباركة, فكان مولده بركة على قومه.
بركته على أبويه:
كان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بركة على أبويه إسماعيل بن إبراهيم وعبد الله بن عبد المطلب, فقد كانت نجاتهما من الذبح بإذن الله بمعجزة, وذلك حتى يخرج من نسلهما رسول الله سيد الخلق, فدى الله تعالي إسماعيل بذبح عظيم; قال تعالى: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [الصَّافات:107], وكانت نجاة عبد الله من الذبح آية أيضا, حيث كان سيذبح في وفاء عبد المطلب بنذره, فألهم الله القبائل أن تفديه بمائة ناقة, فلما كبر وتزوج آمنة بنت وهب, أنجبا محمدا عليه الصلاة والسلام, فهو ابن الذبيحين.
ولم يلبث أبوه عبد الله أن توفي بعد أن حملت آمنة وترك هذه النسمة المباركة, ودفن بالمدينة عند أخواله بني عدي بن النجار, وكأن القدر يقول له: قد انتهت مهمتك في الحياة, وهذا الجنين الطاهر يتولى الله عز وجل بحكمته ورحمته تربيته وتأديبه وإعداده لإخراج البشرية من الظلمات إلى النور.
بركته على الكعبة المشرفة:
ففي عام مولده الشريف أتى أبرهة الحبشي منتقما من العرب وحالفا أن يهدم لهم بيتهم المعظم الكعبة, وسار بجيش جرار بكل العتاد الممكن, وأحضر معه فيله لأجل هدم البيت, فجاء عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر, وأمرهم بالخروج من مكة, والتحرز في شعف الجبال والشعاب, ثم قام عبد المطلب، فأخذ بحلقة باب الكعبة, وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده. وجاء أبرهة وتهيأ لدخول مكة, وهيأ فيله وعبى جيشه, فبرك الفيل فضربوه ليقوم فأبى, فضربوه في رأسه فأبى فأدخلوا محاجن لهم في مراقه ليقوم فأبى, فوجهوه راجعا إلى اليمن, فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك, ووجهوه إلى مكة فبرك.
وأرسل الله تعالى عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس لا تصيب منهم أحدا إلا هلك وليس كلهم أصابت, فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا.
وقد نزلت بشأن هذه الحادثة سورة باسم الفيل تذكر قريشا بفضل الله عليهما ورحمته.
قال تعالي: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) [الفيل:1-5].
بركته في بيت أبي طالب:
لما مات عبد المطلب جد النبي وكان قد عهد إلى أبي طالب برعاية ابن أخيه محمد, وكان أبو طالب رجلا فقيرا وله أولاد كثر ولا يكادون يشبعون جميعا من طعام, فلما كفلوا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم بينهم صارت البركة في بيتهم وفي حياتهم وفي كل شيء حتى الطعام, وأحس أبو طالب ببركة محمد فكانوا لا يأكلون إلا وهو بينهم, لأنهم حينئذ فقط يأكلون ويشبعون ويفيض الطعام عليهم.
وفي حادثة أخرى لما أقحطت مكة سنة من السنين وواجه الناس جفافا شديدا, فأهرع الناس إلى أبي طالب يطلبون منه أن يستسقي لهم, فأمرهم أن يأتوه بابن أخيه محمد, فأتوه به وهو رضيع في قماطه, فوقف تجاه الكعبة, وفي حالة من التضرع والخشوع أخذ يرمي بالطفل ثلاث مرات إلى أعلى ثم يتلقفه وهو يقول: يا رب بحق هذا الغلام اسقنا غيثا مغيثا دائما هطلا, فلم يمض إلا بعض الوقت حتى ظهرت غمامة من جانب الأفق غطت سماء مكة كلها, وهطل مطر غزير كادت معه مكة تغرق.
فأنشد أبو طالب قائلا:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه |
* |
يلوذ به الهلاك من آل هاشم |
وأصبـح فينـا أحمـد في أرومة |
* |
حليـم رشيد عادل غير طائش |
ثمـال اليتـامى عصمة للأرامل |
* |
فهـم عنده في نعمة وفواضل |
تقصـر عنهـا سـورة المتطاول |
* |
يوالـي إلاها ليس عنـه بغافل |
كان عبد الله بن عبد المطلب من أحب ولد أبيه إليه, ولما نجا من الذبح وفداه عبد المطلب بمائة من الإبل, زوجه من أشرف نساء مكة نسبا. مشي عبد المطلب بن هاشم بابنه عبد الله فخطب له آمنة فزوجها إياه.
وخطب إلى نفسه في مجلسه ذلك هالة بنت وهيب بن عبد مناف ابنة عم آمنة وتزوجها, فقال الناس: فلج عبد الله على أبيه. لأن وهبا كان أشرف قريش. وحملت السيدة آمنة بنت وهب برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شعب أبي طالب عند الجمرة الوسطى أو الكبرى.
وولد رسول الله في دار أبيه عبد الله, والتي وهبها رسول الله فيما بعد لعقيل بن أبي طالب, فلم تزل في يده حتى توفي, فباعها ولده إلى محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف, فضمها إلى داره التي يقال لها: دار ابن يوسف, حتى أخرجتها الخيزران أم الخليفتين الهادي والرشيد فجعلتها مسجدا يصلي فيه. (تاريخ الطبري 158/2) وهي الدار التي في الزقاق المعروف بزقاق المولد, وهي الآن محل مكتبة مكة المكرمة.
لحظة الميلاد:
حضر ميلاد النبي قابلته الشفاء بنت عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة, وهي أم عبد الرحمن بن عوف وابنة عم أبيه عوف, قالت: لما ولدت آمنة محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وقع على يدي, فاستهل, فسمعت قائلا يقول: رحمك ربك. فأضاء لي ما بين المشرق والمغرب, حتى نظرت إلى بعض قصور الشام. (أبو نعيم في دلائل النبوة).
وحضرت أم عثمان بن أبي العاص فاطمة بنت عبد الله, قالت: شهدت آمنة لما ولدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نورا, وإني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول: ليقعن علي. فلما وضعته خرج منها نور أضاء له الدار والبيت حتى جعلت لا أرى إلا نورا. (الطبراني في المعجم الكبير).
وحضرت حاضنته ودايته أم أيمن بركة الحبشية, تقول عن رعايته: ما رأيت رسول الله شكا جوعا قط ولا عطشا, وكان يغدو إذا أصح فيشرب من ماء زمزم شربة, فربما عرضت عليه الغذاء فيقول: أنا شبعان.
ولما بعث رسول الله آمنت به, ثم أعتقها وأنكحها زيد بن حارثة فأنجبت له أسامة, ولم يطل بها الأجل بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم إلا خمسة أشهر.
وحضرت ثويبة ميلاد النبي, فأسرعت تبشر عمه أبا لهب وكان مولاها, فأعتقها فرحا بمولده, فكان ذلك سببا في تخفيف العذاب عنه.
وأما السيدة آمنة فقالت: رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء لي قصور بصرى من أرض الشام, ثم حملت به فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف ولا أيسر منه, ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء.
وبصرى كانت أول موضع من بلاد الشام دخله نور الإسلام.
قال ابن رجب: وخروج هذا النور عند وضعه إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدي به أهل الأرض, وزالت به ظلمة الشرك منها, كما قال تعالى: (يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة:15-16].
وفي سجوده صلى الله عليه وآله وسلم عند وضعه إشارة إلى أن مبدأ أمره على القرب, قال الله تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [العلق:19] وقال صلى الله عليه وآله وسلم: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. فحال محمد صلى الله عليه وآله وسلم يشير إلى مقام القرب من الحضرة الإلهية.
فما أكرم مولده الشريف عند من عرف قدره وبركته.
قال ابن إسحاق: فلما وضعته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب: أنه قد ولد لك غلام فاته فانظر إليه. فأتاه فنظر إليه وأخذه فدخل به الكعبة; فقام يدعو الله ويشكر له ما أعطاه ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها.
وسماه محمدا, وهذا الاسم لم يكن العرب يألفونه, فسألوه: لم رغب عن أسماء آبائه؟ فأجاب: أردت أن يحمده الله في السماء, وأن يحمده الخلق في الأرض.
وولد صلى الله عليه وآله وسلم مختونا مسرورا مقبوضة أصابع يديه, مشيرا بالسبابة كالمسبح بها.
وروي أن عبد المطلب ختنه يوم سابعه وجعل له مأدبة. وروي أن جبريل عليه السلام ختنه حين شق صدره.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله: من كرامتي على ربي أني ولدت مختونا ولم ير أحد سوأتي (رواه الطبراني وأبو نعيم وابن عساكر من طرق).
وقال الحاكم في المستدرك: تواترت الأخبار بأنه صلى الله عليه وآله وسلم ولد مختونا.
وعن العباس عم النبي قال: ولد رسول الله مختونا مسرورا. فأعجب جده عبد المطلب وحظي عنده وقال: ليكونن لابني هذا شأن. ومختونا: أي مقطوع الختان, ومسرورا: أي مقطوع السرة من بطن أمه.
وروي أبو نعيم عن ابن عباس قال: كان في عهد الجاهلية إذا ولد لهم مولود من تحت الليل وضعوه تحت الإناء لا ينظرون إليه حتى يصبحوا, فلما ولد رسول الله طرحوه تحت برمة, فلما أصبحوا أتوا البرمة فإذا هي قد انفلقت اثنتين وعيناه صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء فعجبوا من ذلك.
وفي انفلاق البرمة عنه صلى الله عليه وآله وسلم إشارة إلى ظهور أمره وانتشاره, وأنه يفلق ظلمة الجهل ويزيلها.