أشرت في المقالة السابقة إلى مصادر منتجي رؤية العالم الخارجي في العقلية التراثية، وعددت تلك المصادر لبيان أن هناك مصادر أخرى غير المصدر الأرسطىّ الذي عدّه البعض هو كل شيء أو المصدر الأوحد، وليس الأمر كذلك، فقد تعامل المسلمون مع هذا المنطق الأرسطىّ بالحذف والإضافة، ومع مصادر أخرى.
ومن الصعب -حتى عند أهل التراث- أن نتبيّن - بالضبط- من أين أتت هذه العناصر للرؤية الكونية؛ لأنها قد تأتي من أحد هذه المصادر أو من تفاعلها فيما بينها وأعتقد أن البحث فيها ليس مجديًا في هذا المقام؛ حيث نركز أساسًا على مكونات الرؤية نفسها لا على مصادرها!
هذه الرؤية هي التي عُني بها علم الكلام، وخلاصتها أنها كانت ترى هذا الوجود إما متحيّزًا أو غير متحيّز: والمتحيّز-لغةّ- إما أن يكون المائل المنصرف إلى جانب دون آخر، وإما أنه كل ما له حدود أو يشغل حيّزًا. والمتحيّز- في هذه الرؤية- إما بسيط ويسمى "جوهرًا"، أو مركَّب ويسمى "جسمًا".
فالجسم -مثلًا- كجسم الكائن الحي المركّب من عدة خلايا، بينما ما يمثل الجوهر هو الخلية الوحيدة أو المنفردة. فالجوهر هو أقل حالات المتحيّز، وكانوا يسمونه "الجوهر الفرد"؛ لأنه لا يقبل القسمة، ولو انقسم فنيَ ..وهذا ما تبنتّه الكثير من نظريات الطبيعة أو الفيزياء اليوم في مسألة انشطار الذرة.
وهذا التصور في "الجوهرية" –وإن أمكن أن يكون موجودًا بأكثر من مصدر من المصادر المذكورة- إلا أنه بالأساس مأخوذ عن العقيدة الإسلامية التي تقرر أن الله سبحانه وتعالى وحده ليس قبله شيء وليس بعده شيء، وليس كمثله شيء في الوجود، بل كل شيء مخلوق له، هو سبحانه وتعالى خَلَقه، والتي ترى أن التسلسل باطل، وأن ثمة نهاية لكل موجود في هذا الكون. فليس هناك ما هو "لانهائي" في موجودات الكون إلا إذا كان مقدَّرًا (كالمستقبل) أو وهميًا.. وكل كائنات الكون المحسوس متحيزة بين بداية ونهاية.
ثم "غير المتحيّز" في هذا الوجود فيسمى "العَرَض": وهو شيء موجود في غيره لا يمكن أن يقوم بذاته دون غيره، مثل الصفات والأحوال: "كالفقر والغنى، والصحة والمرض، والسعادة و الحزن، والقوة والذكاء واللون والطول..الخ.
كل هذه الصفات تمثل أعراضًا غير متحيزة بذاتها وتحتاج إلى محلٍ تحل فيه. فلابد لنعرفها من وجود الفقير والغنيّ و الصحيح والعليل والسعيد و الحزين والقوي والأبيض..الخ.
والله سبحانه وتعالى غير ذلك وفوق ذلك ... ومن ثم فهو سبحانه وتعالى غير متحيّز لا هو جسم ولا جوهر، إلا إنه أيضًا ليس بعَرَض! والكلاميون قالوا بضرورة إخراج الحديث عن الله سبحانه وتعالى من هذه القصة وهذه التقسيمة. فحتى إذا قيل إنه "غير متحيّز" فإن عدم تحيّزه سبحانه وتعالى مختلف عن عدم تحيّز غيره!
ومن ثم رأوا أن المعلوم ثلاثة :
وكل يوم نكتشف فيه شيئًا فإنه يدخل من عالم الملكوت إلى عالم الملُك الذي نراه يتزايد عبر التاريخ البشري، كاكتشافنا للكهرباء، الموجات، وكـــ"الفيمتو-ثانية" وآلة التصوير التي نقلت التفاعل الكيميائي من عالم الملكوت إلى عالم الـمُلك (والذرة حتى الآن لا تزال في عالم الملكوت، حتى إن بعض المدارس لا تزال تنكر وجودها بناء على أمور فلسفية و أفكار فيزيقية معينة!).
كل هذه الأمور أثرت في العقلية المسلمة دون أن يقول أرسطو فيها شيئًا، إنما جاءت من اتباع ومتابعة العقيدة المستقرة.
وقد اعتمدوا على فكرة "الجوهر الفرد" هذه من أجل الإثبات العقلي والرياضي للوجود الإلهي ونفي المثيل. فقد نجم عنها رفض "التسلسل اللانهائي" رياضيًا؛ مما أكد القول بأن إلى الله المنتهى، كما نجم عنها رفض مسألة "الدور" والتي تعني أن الأشياء بينها علاقة إيجاد متبادل: هذا أوجد ذاك وذاك أوجد هذا ، بما يؤدي إلى حلقة مفرغة تشبه قصة البيضة والدجاجة كما أشرنا من قبل. فقد رفضوا ذلك على أساس أنه لابد من "بداية"ٍ خلق الله عندها أحد السببيّن فكان سببًا للآخر.
هذا في المتحيِّز، أما العرَض فقد قال أرسطو إن له تسعة أنواع، إلا إن المسلمين رأوا أن التحقيق يصل بهذه التسعة إلى اثنين فقط مرتبطين بسبع صفات (أعراض) أو أكثر، وقد صاغوا تقسيمة أرسطو للأولاد والمتعلمين –ساعتها- في صورة أراجيز بسيطة، فقالوا:
زيد الطويلُ الأزرقُ بنً مالكِ ** في بيته بالأمس كان مُتكي
بيده عودُ قد لواه فالتوى ** فهذه عشر مسائل سُــــوا