يبدو أنه يجب علينا الحديث عن مصادر التشريع الإسلامي بين الحين والآخر، لأن كثيرا من الناس يحتاجون إلى ذلك، ولا تستقر هذه المعاني في الأذهان إلا بتكرار القول فيها، ولأن هناك دقائق في ذلك العلم تحتاج دائما إلى مراجعة وإيضاح لمقتضيات العصر المتغيرة المتطورة.
وعندما فكر المجتهدون العظام في مصادر التشريع الإسلامي كان ذلك في صورة أسئلة متتالية كانت الإجابة عليها -حتى مع اختلاف في بعضها- تعبر عن تلك المصادر، وعن كيفية التعامل معها، وكيفية استنباط الأحكام الشرعية منها، وكيفية تطبيقها في الواقع المعيش، وهذه الأسئلة تتمثل في الآتي :
السؤال الأول : ما الحجة التي يعتمد عليها المسلم في تشريعه ؟
والسؤال الثاني : كيف يتم توثيق هذه الحجة ؟
والسؤال الثالث : كيف نفهم ما قد ورد إلينا موثقا، بالطريقة التي تطمئن إليها قلوبنا ؟
والسؤال الرابع : ما مساحة القطعي والظني في هذه الحجة، وبالتالي ما الذي يمكن أن نختلف فيه بناء على أنه ظني، وما لا يمكن أن نختلف فيه بناء على أنه قطعي ؟
والسؤال الخامس : ما موقفنا من المحدثات التي لم يرد بها حجة مباشرة، وهل يمكن أن نستخرج آلية للتعامل مع هذه المحدثات، وما تلك الآلية ؟
السؤال السادس : ما السقف الذي يجب أن يحدنا في التزامنا في تفكيرنا، بحيث لا يترتب عليه شتات أو ضرر لأنفسنا أو للآخرين ؟
والسؤال السابع : كيف نرجح عند التعارض والتعادل الظاهر في ذهن المجتهد بين الحجج المختلفة، فما الذي نقدم، وما الذي نؤخر، وما معيار ذلك ؟
والسؤال الثامن : ما شروط ذلك المجتهد الباحث الذي نتكلم عنه ؟
والسؤال التاسع : كيف ندرك الواقع المعيش حولنا ؟
والسؤال العاشر : كيف نصل بين المطلق والنسبي في حياتنا ؟
إن هذه الأسئلة العشرة يمكن أن نقول بشأنها أنها رحلة في ذهن المجتهد، أما السؤال الأول وهو المتمثل ما الحجة ؟ فقد توصل جميع المجتهدين عبر القرون إلى أن الحجة تتمثل في القرآن الكريم باعتباره الوحي المعصوم المحفوظ الذي هو كلام الله سبحانه وتعالى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وذلك لقوله تعالى : ﴿ ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة :2] ولقوله تعالى : ﴿لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت :42]. ولقوله تعالى : ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر :9].
وفي السنة النبوية المشرفة باعتبارها التطبيق المعصوم الدقيق الواضح العملي الذي علمنا مناهج الوصل بين المطلق [الوحي] وبين النسبي [الواقع]، ولأنها صادرة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الموصوف من ربه بأنه ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى﴾ [النجم :3] والموصوف من ربه بأنه ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء :107] والموصوف من ربه بأنه أسوة حسنة، قال الله تعالى : ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب :21] والموصوف من ربه بأنه له الطاعة والاتباع، قال تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد :33]، وقال سبحانه : ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [آل عمران :31].
ويتبين لنا في إجابة هذا السؤال أن من أراد أن ينكر السنة، فإن تفكيره يكون شاذا خارجا عن تفكير كل المجتهدين عبر كل العصور وحتى عصرنا الحاضر، وسوف يلاقي من المشكلات الفقهية والعقدية ما لا يستطيع حله على الإطلاق، وسيضطر المسكين إلى تغير هوية الإسلام، ويخادع نفسه والآخرين بأنه ما زال ينتمي إلى هذا الدين، ولقد أنكر السنة شذاذ من الناس لا علاقة لهم بالعلم، ولا بأهله فلا يصدق عليهم أبدا أنهم من الجماعة العلمية، بل هي مجموعة من الأهواء التي تتلاطم في أفكار مضطربة في أذهان هؤلاء المدعين.
ومن الأمثلة الصارخة التي رأيناها في عصرنا الحاضر، ولا أظن مثلها قد ورد في عصور سابقة هو مثال المهندس محمد متولي نجيب مؤسس جماعة القرآنيين ومدير هيئة التليفونات توفى يوم الثلاثاء 26 جمادى الأولى 1380 هـ 16 أكتوبر 1960م، وكان قد تولى نظارة المواصلات لمدة أيام في بدايات ثورة يوليو سنة 1952، وألف أكثر من 13 كتابا، هي مجموعة من الهذيان الذي يحتاج إلى فضح هذا التفكير، أنفق عليها ثروته التي ورثها عن أبيه والتي كانت تتمثل في 40 فدانا بمركز قلين بمحافظة كفر الشيخ.
ومن أكبر هذه الكتب كتاب أسماه «الصلاة» ذهب فيه إلى إنكار الصلوات الخمس، بل إنها عشرة السجود فيها قبل الركوع، وأنكر التحيات، ولذلك لم يتبعه أحد على الإطلاق، فترك الإسلام وارتد عنه، وذهب إلى ما ألقىكافرا بالله ورسوله، ولكنه كان صادقا مع نفسه، ومع منهجه في الترتيب المنطقي لإنكار السنة النبوية؛ لأنه التزم كل لوازم ذلك الإنكار فوجد نفسه خارجا عن الإسلام، وهذا هو الذي جعل المخلصين من الأئمة والمجتهدين عبر العصور يتمسكون بالسنة النبوية ويجمعون على حجيتها ويجعلونها مصدرا من مصادر التشريع عند المسلمين.
فالكتاب والسنة إذن هما الحجة، ولكننا نجد محاولات في الشرق والغرب من غير المتخصصين في الشريعة الإسلامية وعلومها تضيق عليهم أنفسهم وأفكارهم، فيقترحون أن ينكروا السنة النبوية أو يحاولوا ذلك، ولكن بصور مختلفة، وبأساليب مبتسرة من أجل ألا يقعوا في ما وقع فيه نجيب؛ ولأنهم في أنفسهم مسلمون مخلصون إلا أنهم قد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت في فهم العصر وفي فهم الإسلام، وفي محاولة التطبيق بينهما.
السؤال الثاني : هو إذا كان الكتاب والسنة المصدرين للتشريع الإسلامي، فكيف وصلا إلينا؟ أما الكتاب فقد وصل إلينا بالتواتر لم يختل فيه حرف واحد، وحفظ عليه على مستوى الأداء الصوتي للحروف ومخارجها والكلمات وطريقة نطقها، ونشأت عدة علوم للحفاظ على هذا الكتاب الكريم كما هو منها : علم النحو والصرف، والقراءات، والتفسير، بل وعلوم اللغة كلها، بل إن المعاجم العربية إنما وضعت للحفاظ على هذه البيئة التي منها ذلك الكتاب العظيم،
لم يحدث في العالم أن حفظ كتابا مقدسا أو غير مقدس الأطفال في الكتاتيب والمنارات، ولم يحدث أبدا أن حفظ غير الناطقين بلغة ما نصا مقدسا بطول القرآن، وهم لا يعرفون لغته، ولا يفهمونها، ولا يزال أحدهم مع صغر سنه وعجمة لسانه يقوم بقومه بالقرآن في الصلاة، ولا يخطئ منه حرفا إنها معجزة ربانية واضحة ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أما السنة ففي لقاء آخر (يتبع)
عرض العناصر...ذكرنا في المقالة السابقة أن مصادر التشريع الإسلامي القرآن والسنة بالأساس، وأن هناك عشرة أسئلة جالت بذهن المجتهد نحاول أن نجيب عنها، وأجابنا على السؤال الأول وهو ما الحجة في دين الله ؟ والسؤال الثاني : كيف وصل إلينا الكتاب والسنة ؟ فتكلمنا عن توثيق القرآن، وفي هذه الحلقة نتكلم عن توثيق السنة.
1- بذل المسلمون جهدا مبدعا وغير مكرر في توثيق كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فأنشئوا علوما كثيرة، ولم يحدث مثل ذلك أبدا لأي نبي أو مفكر أو عالم أو شاعر أو أديب في تاريخ البشرية فهو أمر فريد اختص بكلام النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويحسن بنا أن نفصل كيفية التوثيق في عهد الصحابة والتابعين دلالة على ما حدث بعد ذلك في العصور التالية وإلى يومنا هذا، حتى يعلم الناس بعض الذي حدث، ودقته، وكيف اتبع المسلمون المنهج العلمي بما لا مزيد بعده من الدقة.
كان للصحابة –رضوان الله عليهم- عناية شديدة في رواية الحديث ونقله، فرحل جابر بن عبد الله الأنصاري مسيرة شهر إلي عبد الله بن أُنَيْس في حديث واحد [ذكره البخاري في صحيحه]. وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال : «إني كنت وجارٌ لي من الأنصار في بنى أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلتُ جئتُه بخبر ذلك اليوم من الأمر وغيره، وإذا نزل فعل مثله » [رواه البخاري]
وعن أبى هريرة -رضي الله عنه- أنه قال : «إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حَدَّثْتُ حديثًا، ثم يتلو {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصَّفْقُ في الأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بِشِبَعِ بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون» [رواه البخاري].
2- وإنما اشتد إنكارهم علي أبى هريرة -رضي الله عنه-؛ لأنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من ثلاث سنين؛ فإنه أسلم عام خيبر، ومع ذلك كان أكثر الصحابة رواية لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث روى خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثًا.
ولم تكن رواية الحديث هي الصفة الغالبة علي صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، بل التزمت طائفة من أكابر الصحابة المقربين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الإقلالَ من الرواية عنه صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر الصديق، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة بن الجراح، والعباس بن عبد المطلب، بل كان بعضهم يكاد لا يروى شيئًا كسعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيْل أحد العشرة المبشرين بالجنة.
3- ووجهة نظر هؤلاء المقلين كراهية التحريف، أو الزيادة في الرواية، أو النقصان منها، أو خشيتهم من وقوع الخطأ في الحديث حتى لا ينالهم قوله صلى الله عليه وسلم : «من كذب عَلي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» [رواه البخاري ومسلم] وقد وضع الصحابة بعض الضوابط لقبول الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم وإن لم تدون في عصرهم ومن تلك الضوابط الاحتياط في قبول الأخبار .
4- كان أول من احتاط في قبول الأخبار أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال : «جاءت الجدة إلي أبى بكر -رضي الله عنه- تسأله ميراثها فقال لها أبو بكر ما لك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فارجعى حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال أبو بكر : هل معك غيرك ؟ فقام محمد بن مسلمة، فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر الصديق رضي الله عنه» [رواه أحمد في مسنده والنسائي في سننه]، فكانت رؤية أبى بكر -رضي الله عنه- هي التثبت في الأخبار والتحري، لا سد باب الرواية مطلقًا.
5- ثاني تلك الضوابط التوقف في قبول خبر الواحد والتثبت من نقله، وبذلك الضابط تمسك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه فعن أبى سعيد الخدري قال : «كنت جالسًا في مجلس الأنصار، فأتانا أبو موسى فزعًا أو مذعورًا. قلنا : ما شأنك ؟ قال : إن عمر أرسل إلي أن آتيه، فأتيت بابه فسلمت ثلاثا فلم يرد علي، فرجعتُ. فقال : ما منعك أن تأتينا ؟ فقلت : إني أتيتك فَسَلَّمْتُ على بابك ثلاثًا، فلم يردوا علي، فرجعت وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا استأذن أحدكم ثلاثًا، فلم يُؤذن له فليرجع، فقال عمر : أقم عليه البينة وإلا أوجعتُك. فقال أُبَىُّ بن كعب : لا يقوم معه إلا أصغر القوم. قال أبو سعيد : قلت أنا أصغر القوم. قال : فاذهب به» [رواه مسلم في صحيحه].
فرأى عمر –رضي الله عنه- أن يتأكد عنده خبر أبى موسى بقول صحابي آخر، فهذا دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد، وفي ذلك حث علي تكثير طرق الحديث لكي يترقى من درجة الظن إلي درجة العلم؛ إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوَهَم وذلك نادر علي ثقتين. (يتبع)
عرض العناصر...ذكرنا في المقالة السابقة شدة اعتناء الصحابة رضوان الله عليهم بوضع الضوابط لنقل السنة النبوية المشرفة، ورأينا كيف احتاطوا في ذلك، ورأينا كيف كان يتثبت سيدنا عمر بن الخطاب من خبر الواحد، ويبحث عمن يعضده.
ونكمل الكلام عن اعتناء الصحابة بالتثبت والاحتياط في نقل السنة بدقة بالغة، فقد ورد عن عثمان بن عفان رضي الله عنه ما يدل علي تثبته في الحديث، فعن بُسْر بن سعيد أنه قال : أتى عثمان المقاعد، فدعا بوضوء، فتمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويديه ثلاثًا ثلاثًا، ثم مسح برأسه ورجليه ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا يتوضأ، يا هؤلاء : أكذاك ؟ قالوا : نعم. لنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده» [رواه أحمد في مسنده].
وكذلك التزم الإمام علي بن أبى طالب رضي الله عنه ضابط التثبت من الأخبار عن طريق الاستحلاف فرويه عنه أنه قال : «قال كنت رجلاً إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته» [رواه أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه والترمذي في سننه]. وكل ما رُوى عن الصحابة في ذلك الصدد اقتصر علي التثبت والاستظهار في سبيل المحافظة علي السنة المطهرة.
1- ومن ضوابط النقل عند الصحابة سمة تسمى «اللقيا والسماع» وقد اشتهر صحيح البخاري بأنه هو الذي اشترط هذا الشرط في صحيحه مما جعل صحيحه أعلى كتب السنة توثيقا وضبطا.
إلا أن الصحابة سبقوا البخاري في الاهتمام بهذا الشرط، ففي رحلة جابر بن عبد الله رضي الله عنه إلى عبد الله بن أنيس في طلب حديث واحد دليل على ذلك، حيث كان بإمكانه أن يرسل له رسالة أو يحصل الحديث بأي شكل بغير لقاء، إلا أنهم اعتنوا باللقاء والسماع حتى يثبت النقل.
2- ومن الضوابط كذلك أنهم كانوا يعرضون الأحاديث على القرآن الكريم، ومن ذلك أن بعض الصحابة –رضي الله عنهم- قد رد بعض الأحاديث؛ لأنها في نظرهم تخالف كتاب الله تعالى، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن الميت يُعَذَّب ببكاء أهله عليه، وفهم رضي الله عنه أنه عام وأن التعذيب بسبب بكاء الأهل علي الميت»، فأنكرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ذلك الفهم، واحتجت بقوله تعالى : ﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [الأنعام :164]
ومن ذلك ما روي : أن عمر سمع حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها طلقها ثلاثًا فلم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لها سكنى ولا نفقة. قال عمر : «لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندرى لعلها حفظت أو نسيت. لها السكنى والنفقة، قال الله عز وجل : ﴿لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ [ الطلاق :1]» [رواه مسلم في صحيحه]
3- ومن الضوابط التي اعتنى بها الصحابة في نقل السنة النبوية، عرض السنة على السنة،وذلك فيما ظاهره التعارض بين الأحاديث، ما ورد في اختلاف الصحابة –رضي الله عنهم- فيما يوجب الغسل، فذكروا ما ورد عن عائشة رضي الله عنها، حيث قالت : : «إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم» [رواه أحمد في مسنده، والترمذي في سننه]، وكان قد احتج بعضهم بما روي عن أبى سعيد الخدري –رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنما الماء من الماء» [رواه مسلم].
4- ومنها كذلك عرض السنة على القياس ،ومن ذلك ما روي عن أبي سلمة، عن أبى هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «الوضوء مما مست النار ولو من ثَوْرِ أَقِطٍ، قال : فقال ابن عباس : «يا أبا هريرة أنتوضأ من الدهن ؟ أنتوضأ من الحميم ؟» [رواه الترمذي].
فكل هذه الضوابط التي اعتنى بها الصحابة في نقل السنة النبوية المشرفة إنما تشير إلي مدى اهتمام الصحابة رضى الله عنهم برواية الحديث والعناية به وصيانته.
5- وقد ينظر الناظر في كثرة كتب السنة، وكثرة عدد الأحاديث بها، ويسأل نفسه كم كان عدد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين رووا كل هذه الأحاديث ؟ ولذا فمن تمام الفائدة أن نذكر عدد الصحابة رضوان الله عليهم، ونبين القول في ذلك، إلا أن حصر الصحابة رضي الله عنهم بالعد والإحصاء متعذر؛ لتفرقهم في البلدان، ولأنهم كثرة بالغة، ومن حدهم من العلماء فإنه من باب التقريب.
ذكر كعب بن مالك قال في قصة تخلفه عن غزوة تبوك : والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ، يريد الديوان هذا.
وقد وردت بعض الروايات تذكر عدد الصحابة في بعض المشاهد والغزوات، فعن ابن عباس : «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في رمضان من المدينة ومعه عشرة آلاف، وذلك علي رأس ثمان سنين ونصف من مقدمه المدينة، فسار هو ومن معه من المسلمين إلي مكة يصوم ويصومون حتى بلغ الكَدِيدَ -وهو ماء بين عُسْفَان وقُدَيْد- أفطر وأفطروا وحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع تسعون ألفا من المسلمين» [رواه البخاري].
وسأل رجل أبا زرعة الرازى فقال له يا أبا زرعة أليس يقال حديث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف حديث؟ قال : ومن قال ذا، قَلْقَلَ الله أنيابَه هذا قول الزنادقة، ومَنْ يُحْصِى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مائة ألف وأربعة عشر ألفا من الصحابة ممن روى عنه وسمع منه. قيل : يا أبا زرعة، هؤلاء أين كانوا وسمعوا منه ؟ قال : أهل المدينة، وأهل مكة، ومَنْ بينهما، والأعراب، ومَنْ شهد معه حجة الوداع. (يتبع)
عرض العناصر...تكلمنا في المقالة السابقة عن ضوابط نقل السنة عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفنا أن من تلك الضوابط الاحتياط، والتوقف في قبول خبر الواحد، وعرض السنة على القرآن، وعرضها على السنة، وعرضها على القياس.
ثم ذكرنا شيئا عن عدد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الحلقة نكمل الحديث عن عدد أصحاب النبي صلى الله عليه، ونترجم لمن أكثر منهم من الرواية.
فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرون ولم يكونوا رضى الله عنهم علي درجة واحدة من العلم بالسنة والرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل كانوا متفاوتين؛ لأن منهم المتفرغ الملازم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يخدمه في معظم أوقاته كأنس وأبى هريرة رضى الله عنهما، ومنهم من له مَاشِيَتُه في البادية أو تجارته في الأسواق، وفي ذلك يقول مسروق بن الأجدع التابعى الجليل جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالإخاذ، فالإخاذ يَرْوِى الرجل، والإخاذ يَرْوِى الرجلين، والإخاذ يَرْوِى المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم. (والإخاذ هو بقايا ماء المطر)
وقد أُلِّفَ في الصحابة رضي الله عنهم كتب كثيرة تناولت أحوالهم وعلمهم، وحصر ابن الأثير في كتابه «أُسْد الغابة» وهو من أوسع ما ألف في الصحابة، نحو سبعة آلاف وخمسمائة وأربعة وخمسين صحابيًا، ويُذكر أن الرواة من الصحابة الذين بلغتنا مروياتُهم ألف وثمانمائة صحابي علي وجه التقريب.
وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم سبعة من الصحابة لكل منهم أكثر من ألف حديث، وأحد عشر صحابيًا لكل منهم أكثر من مائتى حديث، وواحد وعشرون صحابيًا لكل واحد منهم أكثر من مائة حديث، وأما أصحاب العشرات فكثيرون يقربون من المائة، وأما من له عشرة أحاديث أو أقل من ذلك فهم فوق المائة، وهناك نحو ثلاثمائة صحابي روى كل واحد منهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديثًا واحدًا.
وقد جمع بَقِىُّ بن مَخْلَدٍ القرطبى 276 في مسنده مرويات الصحابة وذكر عدد مسانيدهم إلا أنه لم يصلنا هذا المسند، ولكن وصلتنا أخباره وبعض ما فيه، وهذه الإحصائية السابقة ذَكَرَها أبو البقاء محمد بن خلف الأحمدى في كتابه البارع «الفصيح في شرح الجامع الصحيح» وهو مخطوط بدار الكتب نقلا عن مسند بَقِىِّ بن مَخْلَد.
ومع هذه الكثرة الكاثرة من الصحابة ومروياتهم إلا أنه قد أكثرت طائفة منهم رواية الحديث واشتهروا بذلك :
1- فمنهم الصحابي الجليل أبو هريرة (المتوفى سنة 59هـ) : وهو عبد الرحمن بن صخر الدوسى اليماني، وقد اشتهر بكنيته حتى غلبت علي اسمه، وهو من أكثر الصحابة حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك لكثرة ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجرأته في السؤال، وحبه للعلم، ومذاكرته لحديث الرسول الكريم في كل حين وفرصة، وقد روى له الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ثلاثة آلاف وتسعمائة وسبعة وخمسين حديثًا، وفيها مكرر كثير باللفظ والمعنى، وروى له الإمام بقى بن مخلد في مسنده خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثًا، وله في الصحيحين خمسمائة وسبعة عشر حديثًا، اتفقا علي ثلاثمائة وستة وعشرين حديثا وانفرد البخاري منها بثلاثة وتسعين حديثًا، ومسلم بثمانية وتسعين حديثا، وكانت وفاته بالمدينة؛ حيث دفن بالبقيع وصلي عليه أكابر الصحابة كابن عمر وأبى سعيد الخدري .
-2 ومنهم الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي (المتوفى سنة 73هـ): وقد اشتهر رضى الله عنهم بحرصه علي اتباع السنة والتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، وبلغت مروياته ألفين وستمائة وثلاثين حديثًا، أخرج له الشيخان البخاري ومسلم مائتين وثمانين حديثًا، اتفقا علي مائة وثمانية وستين حديثا وانفرد البخاري بواحد وثمانين حديثا ومسلم بواحد وثلاثين حديثا وكانت وفاته بمكة المكرمة.
-3 ومنهم الصحابي الجليل أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم الأنصاري الخزرجى (المتوفى سنة 93 هـ)، وهبته أمه أم سُلَيْم بنت مِلْحَان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبله في خدمته، وأقام علي ذلك عشر سنين، فشاهد أنس ما لم يشاهد غيره، وبلغت مروياته ألفين ومائتين وستة وثمانين حديثًا، وأخرج له الشيخان ثلاثمائة وثمانية عشر حديثًا، اتفقا علي مائة وثمانية وستين حديثًا منها، وانفرد البخاري بثمانين حديثًا، ومسلم بسبعين حديثًا، وكانت وفاته في البصرة، وهو آخر من توفي بالبصرة من الصحابة.
-7 ومنهم الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري (المتوفى سنة 74 هـ)، وهو سعد بن مالك بن سنان الأنصاري الخزرجى، استشهد والده في غزوة أحد، فقاسى أبو سعيد شظف العيش، ويُرْوى أنه كان من أهل الصُّفَّة، ثم شهد معظم الغزوات، وكان يحضر حلقات الرسول صلى الله عليه وسلم ، فتحمل عنه الكثير حتى عُدَّ في المكثرين عنه، وبلغت مروياته ألفا ومائة وسبعين حديثًا، أخرج له منها الشيخان مائة وأحد عشر حديثًا، اتفقا علي ثلاثة وأربعين حديثا منها، وانفرد البخاري بستة عشر حديثًا، ومسلم باثنين وخمسين حديثا.
هذه كانت بعض التراجم لمن أكثر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من رواية الحديث الشريف، ولكن قد يقول قائل إن ما سبق من التفصيل بشأن الرواية الشفهية في عهد الصحابة رضوان الله عنهم فهل ثبت أن الصحابة دونوا الأحاديث في مدونات ونقلت مكتوبة من عصرهم إلى عصر من يلونهم ؟
من الثابت أن بعض الصحابة كانوا قد كتبوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن خاص منه، كعبد الله بن عمرو -كما مر- ثم كتب غيرهم جانبًا من حديثه بعد إذنه صلى الله عليه وسلم بالكتابة إذنًا عامًا، غير أن معرفة كل ما تضمنته تلك الصحف لم يكن ميسورا؛ وذلك لأن بعض الصحابة كانوا يحرقون ما لديهم أو يغسلونها قبل وفاتهم، وبعضهم كان يوصى بما عنده لمن يثق به، وكانوا يفعلون ذلك خشية أن تئول تلك الصحف إلي غير أهل العلم. (يتبع).
عرض العناصر...تكلمنا في المقالة السابقة عن عدد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرنا تراجم للمكثرين من الرواية منهم، وتكلمنا عن قضية تدوين السنة من الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهل تم ذلك أم إنهم اكتفوا بالرواية ؟
وكانت الإجابة أن الصحابة رضوان الله عليهم دونوا السنة بشكل مكتوب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأثبتت الأحاديث ذلك، وذكرنا أن منها ما أذن به النبي صلى الله عليه لعبد الله بن عمرو بن العاص.
وفي هذه المرة نكمل ذلك الموضوع ونورد أحاديث أخرى تثبت أن تدوين السنة بدأ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكن تدوينا مقننا ورسميا، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ، قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: «أُكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلاّ حقّ؛ وأشار بيده إلي فيه» [رواه أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان رجل يشهد حديث النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحفظه، فيسألني، فأحدثه فشكا قلة حفظه إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «استعن بيمينك، وأشار بيده إلي الخط» [رواه الترمذي في سننه].
وقد تلقف الصحابة الكرام هذا الإذن النبوي الكريم فشرع كثير، منهم في كتابة الحديث الشريف، فمن الصحابة الكاتبين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد روى البخاري بسنده إلي أبي جحيفة، قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب ؟ قال: لا إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قلت: أو ما في هذه الصحيفة ؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر.
ومن الصحابة الكاتبين عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد أثمرت كتابته هذه صحيفة عبد الله التي أسماها الصادقة، وكانت قريبة جدًا إلي قلبه، فقد قال تلميذه مجاهد: دخلت عليه فتناولت صحيفة تحت رأسه فتمنع عليّ فقلت تمنعني شيئا من كتبك ؟ فقال: هذه الصحيفة الصادقة التي سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه فيها أحد، فإذا سلم لي كتاب الله، وهذه الصحيفة، والوهط: فما أبالي ما كانت عليها الدنيا، والوهط أو الوهطة حديقة كانت لعمرو بن العاص، وآلت من بعده لابنه عبد الله.
ومن الصحابة الكاتبين أبو هريرة رضي الله عنه، ورغم أنه لا يعرف الكتابة، فإنه كان يستكتب لنفسه، وقد حفظت لنا صحيفة من صحفه رواها عنه تلميذه التابعي همام بن منبه، ثم نسبت إليه فقيل عنها: صحيفة همام، وعرفت بذلك واشتهرت به، ولقد سمعها من شيخه أبي هريرة المتوفي سنة 59 هـ علي أرجح الأقوال.
ومعنى ذلك أنها كتبت في منتصف القرن الأول الهجري تقريبا. وهذه الصحيفة تعتبر من الأدلة اليقينية على أن السنة قد شرع في تدوينها منذ مرحلة مبكرة جدا، كما أنها تعتبر وثيقة تاريخية مهمة حيث إنها وصلت إلينا كاملة، وقد تتبع الأستاذ سيد صقر سلسلة رواتها، فقال: وقد رواها عن همام رواة كثيرون، آخرهم معمر بن راشد ثم عبد الرزاق، عن معمر بن راشد، ثم آخر من رواها، عن عبد الرازق إسحاق الدبري، ثم آخر من رواها من إسحاق أبو القاسم الطبراني المتوفي 360 هـ، ومن رواها عن عبد الرازق الإمام أحمد بن حنبل، ولقد أتى بها كاملة في مسنده.
وقد عثر الباحث المحقق الدكتور محمد حميد الله علي نسختين متماثلتين في دمشق وبرلين لهذه الصحيفة، وعدد أحاديث هذه الصحيفة ثمان وثلاثون ومائة حديث، وهي محققة ومطبوعة
وهذه الصحيفة وإن لم تكتب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنها كتبت في عصر الصحابة، كاتبها همام، كتبها عن شيخه أبي هريرة مباشرة، ولذلك جعلناها من صحف الصدر الأول. وهذه الصحيفة من بين الأدلة على أن الصحيحين لم يستوعبا كل الأحاديث الصحيحة، لأنها رويت كلها بإسناد واحد، فدرجة أحاديثها في الصحيفة واحدة، ومع ذلك أخرج البخاري ومسلم بعضها ولم يخرجها كاملة.
ومن الصحابة الكاتبين عبد الله بن أبي أوفي المتوفى بالكوفة سنة 87 هـ، ولقد كتب كتابا إلي عمرو بن عبيد الله بن معمر القرشي أمير فارس عندما وجهه عبد الله بن الزبير إلي حرب الأزارقة، وقد قرأ هذا الكتاب سالم أبو النضر مولي عمرو وكاتبه، وقد حدث بما فيه من أحاديث، وقد روى البخاري في صحيحه بعضها.
والخليفة الأول رضي الله تعالى عنه كتب شيئا من السنة أيضا، فقد ذكر البخاري بسنده إلي أنس بن مالك رضي الله عنه، أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له فريضة الصدقة التي أمر بها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. «من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده إلا حقة، فإنها تقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما..... الخ».
ومن الصحابة الكاتبين، أبو رافع مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له كتاب دفعه إلي أبي بكر بن عبد الرحمن القرشي أحد الفقهاء السبعة.
وكان أنس من الصحابة الكاتبين وقد قابله عتبان بن مالك، فكتب عنه أنس حديث زيارة النبي صلى الله عليه وسلم، له ونص الحديث عند مسلم : روى مسلم بسنده، إلي أنس بن مالك، عن محمود بن الربيع، عن عتبان بن مالك رضي الله عنهم أجمعين، قال أنس قدمت المدينة فلقيت عتبان، فقلت: حديث بلغني عنك: قال: أصابني في بصري بعض الشيء، فبعث إلي رسول الله صلى الله عليه وسلمأني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي، وهو حديث طويل وفي آخره، قال أنس: فأعجبني هذا الحديث، فقلت لابنى، اكتبه، فكتبه». (يتبع)
عرض العناصر...ذكرنا في المقالة السابقة الكاتبين من الصحابة رضوان الله عليهم، وانتهينا فيها من ذكر الصحابي الجليل أنس رضي الله عنه أنه أحد هؤلاء الصحابة، وفي هذه الحلقة نكمل الحديث عن الصحابة الكاتبين، ومنهم الصحابي الجليل أنس بن مالك، فكان الناس إذا أكثروا علي أنس طلبا للسماع، يلقي إليهم كتبا، ويقول: هذه كتب سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرضها عليهم، وكان يقول لبنيه : يا بني، قيدوا العلم بالكتاب.
وقد ورد هذا النص مرفوعا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وورد موقوفا علي كثير من الصحابة منهم عمر بن الخطاب، وأنس، وغيرهم، وقد استعرض ذلك كله الخطيب البغدادي في كتب تقييد العلم.
ومن الصحابة الذين كتبوا، الصحابي الجليل سعد بن عبادة، فقد روى الترمذي: قال: قال ربيعة، وأخبرني ابن سعد بن عبادة، قال: وجدنا في كتاب سعد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد.
وابن حجر في تهذيب التهذيب، يجزم بأن سعد بن عبادة كان من كتاب الجاهلية، ونص ابن حجر في ذلك نقلا، عن ابن سعد: كان في الجاهلية يكتب بالعربية، ويحسن العوم والرمي، وكان من أحسن ذلك يقال له الكامل.
كما أن سمرة بن جندب قد جمع أحاديث كثيرة، ورثها عنه ابنه سليمان ورواها عنه، وهي على ما يظن الرسالة التي بعثها سمرة إلي بنيه، ومن أحاديثها : «بسم الله الرحمن الرحيم من سمرة بن جندب إلي بنيه: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يأمرنا أن نصلي كل ليلة بعد المكتوبة، ما قل أو كثر ونجعله وترًا».
وقد قال ابن سيرين عن هذه الصحيفة، في رسالة سمرة إلي بنيه علم كثير، وقد قال الأستاذ سيد صقر عن صحيفة سمرة هذه: وصلت هذه الرسالة كاملة إلي الحسن البصري المتوفى سنة 110 هـ. وكان يعتمد عليها في روايته، ويبيح نسخها لمن يشاء، ويستمع إلي من يرغب في قراءتها عليه.
وجاء في كتاب العلل، ومعرفة الرجال لأحمد بن حنبل، عن ابن عوف، قال: وجدت عند الحسن كتاب سمرة فقرأته عليه.
وابن عباس رضي الله عنه كان أيضا من الصحابة الكاتبين، وكان عند كريب مولي ابن عباس كتب كثيرة من كتب ابن عباس، ولقد تعددت الراويات في أن كريبا حمل من عند ابن عباس حمل بعير من الكتب، وكان علي ابنه: ابن عبد الله بن عباس، يبعث إلي كريب إذا أراد كتابا من كتب أبيه، فيبعث كريب إلي علي بما يريد، فينسخها ثم يردها إلي كريب مرة ثانية، ويقول الدكتور صبحي الصالح، عن كتب ابن عباس هذه، ويتعاقب الناس علي الرواية عنها، والأخذ منها، حتى امتلأت كتب التفاسير والحديث بمسموعات ابن عباس ومروياته.
ومن الصحابة الذين كتبوا جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وكان له منسك في الحج، كما كانت له حلقة في المسجد النبوي، يلقي إلي تلاميذه من كتبه، وقد روى عنه منسكه في الحج أبو جعفر بن علي بن الحسين، وأخرجه مسلم في صحيحه. وإن أوسع الروايات في وصف حجة الوداع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت من رواية جابر بن عبد الله، وهي تصف تلك الحجة من أول ما عزم علي الحج، وهو بالمدينة إلي أن انتهي من مناسكه صلى الله عليه وسلم، وهذه الرواية عند مسلم.
ويذكر ابن حجر أن أبا ريحانة الأزدي، من الصحابة، كذلك له صحف، فيقول في ترجمته. أبو ريحانة الأزدي من الصحابة الذين نزلوا الشام ومصر، كانت له صحف، وهو أول من طوى الطومار، وكتب فيه مدرجا مقلوبا. وكل تلك الصحف السابقة، غير الصحف التي كان فيها بعض من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، كان يكتبها لهم، لمناسبة من المناسبات، ومن ذلك ما يرويه ابن أبي ليلى، عن عبد الله بن حكيم، قال: قرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب»
وكل ذلك غير تلك الصحف التي كان يكتبها الصحابة لأنفسهم ولغيرهم، ومنها، ما مر عليك ذكره من صحيفة أبي بكر لأنس بن مالك في الصدقة، ومنها ما رواه ابن سعد، وغيره، قال: لما مات محمد بن مسلمة الأنصاري، وجدنا في جراب سيفه كتابا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: «وإن لربكم في أيام دهركم لنفحات، فتعرضوا لها».
وكتبت سبيعة الأسلمية إلي عبد الله بن عتبة، تروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمرها بالنكاح بعد قليل من وفاة زوجها بعدما وضعت.
كل ما سبق يؤكد لنا أن العصر النبوي المبارك لم يكد ينتهي، إلا وقد شرع في تدوين السنة، بل وتم تدوين كثير منها، في صحائف وكتب، وتلك حقيقة علمية توصل إليها كثير من الباحثين.
وقد ناقشت منذ أكثر من شهر رسالة ماجستير باللغة الإنجليزية للباحث سامح مصطفى محمد عسل تحت عنوان : «تدوين السنة النبوية خلال القرن الأول الهجري» عرض فيها الأدلة وتناولها بالشرح والتحليل المفصل عن ذلك الموضوع.
أما التابعون فلم يكن اهتمامهم بنقل السنة أقل من أساتذتهم الصحابة رضوان الله عليهم، فقد تلقى التابعون الرواية علي أيدي الصحابة الأجلاء، وحملوا عنهم الكثير من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفهموا عنهم متى تُكره كتابة الحديث، ومتى تُباح، فقد تأسوا بالصحابة رضي الله عنهم، فمن الطبيعي أن تتفق آراء التابعين وآراء الصحابة حول تدوين وكتابة الحديث، ولذلك فقد ظهرت بعض تلك الأحاديث المدونة والصحف الجامعة للحديث الشريف التي اعتنى بكتابتها أكابر التابعين.
ومن أشهر ما كتب في القرن الأول الصحيفة الصحيحة لهمام بن مُنَبِّه الصنعاني (المتوفى سنة 131هـ) –والتي تكلمنا عنها سابقا-، تلك الصحيفة التي رواها عن أبى هريرة رضي الله عنه، وقد وصلتنا هذه الصحيفة كاملة كما رواها ودونها، وقد طبعت عدة طبعات، منها طبعة بتحقيق الدكتور رفعت فوزي طبعة مكتبة الخانجي 1406 هـ. (يتبع)
عرض العناصر...تكلمنا في المقالة السابقة عن اهتمام التابعين بنقل السنة، وكيف أنهم ساروا على درب الصحابة رضوان الله عليهم، ووقف بنا الكلام أثناء الحديث عن صحيفة همام بن منبه الصنعاني، ومما يزيد من توثيق هذه الصحيفة أن الإمام أحمد قد نقلها بتمامها في مسنده، كما نقل الإمام البخاري عددًا كثيرًا من أحاديثها في صحيحه، وتضم صحيفة همام مائة وثمانية وثلاثين حديثًا، ولهذه الصحيفة أهمية تاريخية؛ لأنها حجة قاطعة علي أن الحديث النبوي قد دون في عصر مبكر، وتصحح القول بأن الحديث لم يدون إلا في أوائل القرن الهجري الثاني ، وذلك أن همامًا لقي أبا هريرة قبل وفاته، وقد توفي أبو هريرة رضي الله عنه 59 هـ، فمعنى ذلك أن الوثيقة دونت في منتصف القرن الأول الهجري.
وهذا سعيد بن جبير الأسدى، (المتوفى سنة 95هـ) كان يكتب عن ابن عباس حتى تمتلئ صحفه، وكان للحسن بن أبى الحسن البصرى كُتُبٌ يتعاهدها، فقد قال إن لنا كُتُبًا كنا نتعاهدها، وممن كتب في هذه الفترة التابعي الجليل عامر بن شراحيل الشعبى المتوفى سنة 103 هـ، فقد روى عنه أنه قال : هذا باب من الطلاق جسيم، إذا اعتدت المرأة وورثت ثم ساق فيه أحاديث.
ويبرز من جيل التابعين عدد آخر من العلماء الذين اهتموا بالحديث واحتفظوا بأجزاء وصحف كانوا يروونها؛ منهم محمد بن مسلم بن تدرس الأسدي (المتوفى سنة 126هـ) والذي كتب بعض أحاديث الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري، وقد وصلت إلينا من آثاره أحاديث أبى الزبير عن غير جابر، جمعها أبو الشيخ عبد الله بن جعفر بن حيان الأصبهاني (المتوفى سنة 369 هـ) وقد طبع بتحقيق بدر بن عبد الله البدر طبعة مكتبة الرشد بالرياض 1417، وأيوب بن أبى تميمة السختياني (المتوفى سنة 131هـ) وقد وصل إلينا بعض حديثه جمعه إسماعيل بن إسحاق القاضى البصرى (المتوفى سنة 282 هـ) وهو مخطوط في المكتبة الظاهرية مجموع 4/2 ويقع في خمس عشرة ورقة وغير هؤلاء كثير.
وهكذا شاعت الكتابة بين مختلف الطبقات في ذلك العصر، حتى إن الأمراء قد ظهرت عنايتهم بالكتابة، فهذا الخليفة الخامس الراشد عمر بن عبد العزيز (المتوفى سنة101 هـ) يروى عنه أبو قلابة قال : خرج علينا عمر بن عبد العزيز لصلاة الظهر ومعه قِرْطَاس، ثم خرج علينا لصلاة العصر وهو معه، فقلت : يا أمير المؤمنين، ما هذا الكتاب ؟ قال : حديث، حدثني به عَوْن بن عبد الله فأعجبني، فكتبته.
ولم يعد أحد ينكر كتابة الحديث في أواخر القرن الأول الهجري وأوائل القرن الثاني، وعليه فقد نشطت الحركة العلمية وازداد التدوين والقراءة علي العلماء، ولكن ذلك كان بشكل فردى، ومع كثرة الكتابة في ذلك العصر إلا أنه قد ظهرت أمور أقلقت العلماء واستنفرت همتهم للحفاظ علي الحديث الشريف فمن تلك الأمور المستجدة :
1- ظهور الوضع بسبب الخلافات السياسية أو المذهبية، حتى إنه ظهرت أحاديث وروايات أنكرها كثير من المتخصصين في الحديث، أمثال الزهرى (المتوفى سنة 124 هـ) حيث يقول : لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق ننكرها لا نعرفها ما كتبت حديثًا ولا أذنت في كتابته. وعلي أثر ذلك اتجه العلماء إلي وضع علم يحفظ الرواية من التحريف أو الكذب، فاهتموا بتمييز الرجال، والحكم عليهم، فكانت تلك بذور علم يسمى علم الجرح والتعديل
2- خشية ذهاب العلم بموت العلماء الحاملين لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك يضيع ميراث النبوة.
وتلك الأمور دفعت العلماء إلي خدمة السنة وكتابتها، حتى إن أولياء الأمر اتجهوا إلي تدوين السنة، فحمل الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز الأموي لواء ذلك الاتجاه، فكتب إلي عامله علي المدينة أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم (المتوفى سنة 117هـ) قال : اكتب إلي بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإني خشيت دروس العلم وذهابه، وأمره في موطن آخر بجَمْع رواية عَمْرَة بنت عبد الرحمن الأنصارية (المتوفية سنة 98هـ) وكانت خالة أبى بكر بن حزم، وقد نشأت في حجر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وجَمْع أحاديث القاسم بن محمد بن أبى بكر (المتوفى سنة 107هـ) وقد تلقى العلم عن عمته عائشة رضى الله عنها، ثم وَسَّعَ الخليفة عمر بن عبد العزيز دائرة أمر كتابة الحديث حتى شملت كل البلدان، فكتب إلي ولاته انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه، وقد شارك العلماء في تلك الخدمة مشاركة فعالة، فقام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (المتوفى سنة 124هـ) بجمع السنن بأمر من عمر بن عبد العزيز، وقد وصلت تلك الصحف التي جمعها ابن شهاب لعمر بن عبد العزيز. قال ابن شهاب : أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن، فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلي كل أرض له عليها سلطان دفترًا، ولكن لم يكتب لعمر بن عبد العزيز رؤية ثمار دعوته تلك كاملة فقد توفي قبل إتمام ذلك الأمر.
وقد عد علماء الحديث أمر عمر بن عبد العزيز بتدوين السنة أول تدوين للحديث ورددوا في كتبهم عبارة وأما ابتداء تدوين الحديث فإنه وقع علي رأس المائة في خلافة عمر بن عبد العزيز، ويفهم من هذا أن التدوين المعتمد من أولياء الأمور كان في عهد عمر بن عبد العزيز أما تقييده وحفظه في الصحف والأجزاء فقد مارسه الصحابة ومَنْ بعدهم من كبار التابعين.
وقد مَهَّدَتْ محاولة ابن شهاب الزهرى لجمع الحديث الطريق لمن بعده من العلماء فظهرت مصنفات منها :
1- كتاب عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج (المتوفى سنة 150 هـ) فقد جمعه بمكة في الآثار وشيء من التفسير عن عطاء بن أبى رباح المتوفى سنة 114، وغيره من أصحاب ابن عباس. (يتبع)
عرض العناصر...
قد مَهَّدَتْ محاولة ابن شهاب الزهرى لجمع الحديث الطريق لمن بعده من العلماء فظهرت مصنفات منها :
1- كتاب عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج (المتوفى سنة 150 هـ) فقد جمعه بمكة في الآثار وشيء من التفسير عن عطاء بن أبى رباح المتوفى سنة 114، وغيره من أصحاب ابن عباس ، كان أحد هذه الكتب، ورغم أن كتاب ابن جريج لم يصل إلينا، إلا أن تلميذه عبد الرزاق بن همام الصنعاني (المتوفى سنة 211 هـ) قد جمع كثيرًا من مروياته في كتابه المصنف؛ حيث أكثر من إيراد رواياته عن ابن جريج باعتباره شيخًا له، كما ذكر عنه كثيرًا من المسائل الفقهية التي وقعت بين ابن جريج وشيخه عطاء، وقد ذكر بعض العلماء أن ابن جريج كان له كتاب السنن علي مثل ما تحتوى كتب السنن مثل الطهارة والصلاة والزكاة وغير ذلك.
2- ومن تلك المصنفات كذلك جامع مَعْمَر بن راشد اليماني (المتوفى سنة 151هـ) ويقع في عشرة أجزاء وصل إلينا منها الخمسة الأجزاء الأخيرة، وهي مخطوطة في تركيا.
3- وموطأ محمد بن عبد الرحمن بن أبى ذئب (المتوفى سنة 158هـ) بالمدينة وكان أكبر من موطأ الإمام مالك بن أنس.
4-وجامع سفيان بن عيينة الهلالي (المتوفى سنة 198هـ) في السنن والآثار وشيء من التفسير، وقد بقى منه أوراق قليلة نحو ست ورقات.
5- ومسند الإمام أبى حنيفة النعمان بن ثابت (المتوفى سنة 150 هـ) وله خمسة عشر مسندًا، وقد أوصلها الإمام أبو الصبر أيوب الخلوتى إلي سبعة عشر مسندًا، كلها تنسب إليه لكونها من حديثه، وإن لم تكن من تأليفه، وقد جمع الخوارزمى أبو المؤيد محمد بن محمود (المتوفى سنة 655 هـ) بين خمسة عشر منها في كتاب سماه «جامع المسانيد» رتبه علي ترتيب الأبواب الفقهية بحذف المعاد وترك تكرير الإسناد، وهو مطبوع في مجلدتين بمطبعة مجلس دائرة المعارف بالهند 1332.
6- وكتاب الآثار لمحمد بن الحسن الشيباني صاحب أبى حنيفة (المتوفى سنة 199هـ) وهو مرتب علي الأبواب الفقهية، وهو مطبوع بالهند 1406 في مجلدة، وأخرى بتحقيق الشيخ أبو الوفا الأفغاني في مجلدتين.
7- ومسند الإمام محمد بن إدريس الشافعي (المتوفى سنة 204 هـ) وليس هو من تصنيفه، وإنما هو عبارة عن الأحاديث التي أسندها الإمام الشافعي مرفوعها وموقوفها، وقد جمعها بعض أصحابه النيسابوريين من كتابه الأم، وغيره من مسموعات أبى العباس الأصم التي كان انفرد بها عن الربيع، وله طبعات كثيرة، ومن أفضلها طبعة في مجلدتين بتقديم مقبل بن هادى طبعة مكتبة ابن تيمية 1416هـ.
8- ثم موطأ الإمام مالك بن أنس بن مالك الأصبحي (المتوفى سنة 179هـ) بالمدينة وطريقة الإمام مالك، فيه أنه جمع الآثار المرفوعة والمرسلات وفقه الصحابة وكبار التابعين وعمل أهل المدينة، وقد رُوى الموطأ بروايات مختلفة، ويختلف عددها لتباين روايات الموطأ عن الإمام مالك وكان دائم التهذيب والتنقيح لموطأه، وأشهر رواياته رواية يحيى بن يحيى الأندلسى (المتوفى سنة 234هـ) وعدد أحاديثها ألف وثمانمائة وخمسة وخمسين حديثًا، وإذا أُطلق موطأ مالك فالمقصود به رواية يحيى، ومنها رواية عبد الله بن مسلمة القعنبى (المتوفى سنة 221هـ) وهي من أكبرها، ومن أكثر الروايات زيادات رواية أبى مصعب أحمد بن أبى بكر القرشى الزهرى المتوفى سنة 242 هـ، وهي مطبوعة بتحقيق الدكتور بشار عواد معروف، طبعة مؤسسة الرسالة في مجلدتين 1412، ومن جملتها رواية محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبى حنيفة، وفيها أحاديث يسيرة يرويها عن غير مالك، وأخرى زائدة علي الروايات المشهورة وهي أيضا خالية من عدة أحاديث ثابتة في سائر الروايات.
ثم جاءت طائفة أخرى من العلماء ألفوا وصنفوا من أشهرهم :
1- وكيع بن الجراح الرؤاسى (المتوفى سنة 197هـ) وله كتاب «الزهد» وهو مطبوع بتحقيق عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائى في مجلدتين، طبعة دار الصميعى 1415.
2- سعيد بن منصور المروزي (المتوفى سنة 227 هـ) بمكة، صاحب السنن، وسننه من مظان المعضل والمنقطع والمرسل وقد طبعت منه قطعة في مجلدتين بتحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي طبعة منشورات المجلس العلمى 1388 وطبع بقيته في خمس مجلدات بتحقيق الدكتور سعد بن عبد الله آل حميد طبعة دار الصميعى 1414.
3 - عبد الرزاق بن همام الصنعاني (المتوفى سنة 211 هـ) وله «الجامع» وكتاب «المصنف» وهذا المصنف مرتب علي الكتب والأبواب الفقهية، وهو مطبوع في إحدى عشرة مجلدة بتحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمى، طبعة المكتب الإسلامي 1403 وأما الجامع فلم يصلنا منه شيء.
4- مصنف أبى بكر بن عبد الله بن أبى شيبة العبسي (المتوفى سنة 235 هـ) وقد جمع فيه الروايات علي طريقة المحدثين بالأسانيد وفتاوى التابعين وأقوال الصحابة، مرتبًا علي الكتب والأبواب علي ترتيب الفقه، وهو مطبوع في أربع عشرة مجلدة بتحقيق عامر العمري الأعظمي، اهتم بطباعته ونشره مختار أحمد الندوى السلفي بومباى، الدار السلفية 1403.
ويمكن القول بأن منهج التدوين في عصر التابعين كان يقوم علي جمع الأحاديث النبوية التي تدور حول موضوع واحد، فكان لكل باب من أبواب السنة مؤلف خاص به، وقد بدأ ذلك علي يد ابن شهاب الزهرى (المتوفى سنة 124هـ) ثم تطور التدوين في القرن الثاني إلي مرحلة أخرى، وهي جمع أحاديث الأبواب وضم بعضها إلي بعض، ومزج الأحاديث بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، واشتهر من بين هذه المؤلفات الموطأ، ومصنفا ابن أبى شيبة، وعبد الرزاق، وقد حملت المصنفات عناوين مثل : مصنف، وسنن، وموطأ، وجامع، وجمعت مادتها الأولى عن الأجزاء والصحف التي دونت قبل مرحلة التصنيف، وكان الغرض من جمع السنة بهذه الطريقة في القرن الثاني هو خدمة التشريع وتسهيل استنباط الأحكام .
ولعلنا في تلك المقالات السبعة الأخيرة أجبنا عن الجزء الثاني من السؤال الثاني، وهو كيف وصلت إلينا السنة موثقة، وفيما يلي من مقالات سوف نجيب عن السؤال الثالث وهو : كيف نفهم ما ورد إلينا موثقا ؟ (يتبع)
عرض العناصر...من خلال ما سبق من مقالات تدوين السنة، يمكن القول بأن منهج التدوين في عصر التابعين كان يقوم علي جمع الأحاديث النبوية التي تدور حول موضوع واحد، فكان لكل باب من أبواب السنة مؤلف خاص به، وقد بدأ ذلك علي يد ابن شهاب الزهرى (المتوفى سنة 124هـ) ثم تطور التدوين في القرن الثاني إلي مرحلة أخرى، وهي جمع أحاديث الأبواب وضم بعضها إلي بعض، ومزج الأحاديث بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، واشتهر من بين هذه المؤلفات الموطأ، ومصنفا ابن أبى شيبة، وعبد الرزاق، وقد حملت المصنفات عناوين مثل : مصنف، وسنن، وموطأ، وجامع، وجمعت مادتها الأولى عن الأجزاء والصحف التي دونت قبل مرحلة التصنيف، وكان الغرض من جمع السنة بهذه الطريقة في القرن الثاني هو خدمة التشريع وتسهيل استنباط الأحكام .
وبهذا نكون قد أجبنا عن أهم سؤالين، وهما : ما هي الحجة ؟ وكيف وصلت إلينا ؟ وفي هذه المرة نجيب عن السؤال الثالث وهو : كيف نفهم ما ورد إلينا موثقا ؟
ويمكن أن نصوغ السؤال بطريقة أخرى وهي : كيف نتمكن من فهم النص الشرعي والتعامل مع التراث الإسلامي ؟ لابد علينا أن نمتلك الأداة الضرورية اللازمة لفهم آليات التعامل مع «الموروث الإسلامي» أو أن نرشد إلى الطريق في ذلك، مع ضرورة حفظ التمييز بين الأصلين المنزّهين (الكتاب والسُّنة)، وبين سائر التراث الذي اجتهد في إنتاجه المسلمون من علوم وفكر، وفقه وفتاوى، ورؤى وواقع تاريخي.
لا شك أن هناك فجوة مشهودة بين أجيال الباحثين الاجتماعيين المعاصرين وبين هذا الموروث الثمين، فكثيرًا ما نقرأ القرآن أو السُّنة أو علوم التراث الإسلامي ولا نفهم دلالات المقروء، ولا تمكننا الاستفادة منها. ومن ثم، فإن أول مطلوب هو «الفهم»، فهو الخطوة الأولى لسائر الخطوات، فلا يمكنني نقد هذا الموروث أو تطبيقه دون فهم. فأنا –كباحث أو كدارس اطَّلعت ُعلى العلوم الاجتماعية أو بعض فروعها- أريد أن أستفيد مما رأيته أو استشعرته في الموروث من منهجية ومضمون في دراستي لهذه العلوم.. وهذا -بعد تحقيق "الفهم"- يحتاج إلى عملية أكبر؛ وهي ما يمكن تسميتها بعملية "التجريد"، ثم تتلوها عملية ثالثة وهي "الاستنباط"؛ استنباط المناهج والقواعد والأدوات التي يمكن بها أن نواصل المسيرة ونكمل البنيان. فليس المراد من الاطّلاع على هذه العلوم والأفكار وما فيها من منهجيات أن نحاكيها، فتتوقف مسيرة العلم، ونذهب في رحلة موات، بل أن نستخلص منها ما نحتاج إليه.
كثيرًا ما يتساءل الباحثون عن آليات تطبيق هذا الموروث في مجالاتهم العلمية والبحثية الحالية، وعن "الحلقة الواصلة" بين الموروث وبين هذه العلوم الحديثة، في حين أن المطلوب أولًا –قبل التطبيق- هو "الفهم". إن تحديد الهدف والخطوات وتمثُّل هذه الخطوات جيدًا، هو أمر مطلوب جدًا من أجل الوعي والاستفادة.. لكن تشوُّف الباحث إلى ما هو أمام، وتعجُّله قطف الثمار قبل النضج –وربما قبل الزرع والإنبات- هو ما يدفعه إلى نوع من القفز وعدم الاتزان.
وفي البداية نقول إن الموروث –بجملته- عبارة عن مكوّنين: نتاج فكري، وواقع تاريخي. النتاج الفكري له "محلٌ" عَمِل الفكر فيه؛ وهو القرآن والسُّنة مصدرا المعرفة الأساسيان عند المسلمين باعتبارهما وحياً. والنتاج الفكري له "ثمرة"؛ وهي ما يخرجه البشر بتفاعلهم مع هذا المحل من رؤًى وأفكار وعلوم ومناهج وأحكام وممارسات. إن محور الحضارة الإسلامية الذي بنيت عليه هو (النص): الكتاب والسُّنَّة، فما معنى المحور؟ معنى المحور أن كل العلوم خادمة له، وقد أنشئت لتخدمه، وهو المعيار للتقويم ، والإطارَ المرجعيّ.
قرأ المسلمُ النصَّ، فلما استعصى عليه أمرٌ ما فيه راح يبحث عن وسائل فهمه، فصار هناك المُعجم وظهرت التراكيب والنحو والصرف.. تساءلَ: هل هذا الكلام معتاد أم معجز؟ ما الذي جعله متميزًا؟ فظهر علم البلاغة.. تساءلَ: إذا كنت قد فهمت دلالات اللفظ (المفردات والتراكيب)، فماذا عن الدليل والمدلول؟ وبالمثل ظهر علم النقل والتوثيق، وهو علم لم يخرج مثله في الأمم؛ وذلك لخدمة الوثوق في النص، وتوالت التصنيفات بين علوم ذاتية كالتفسير والحديث، وعلوم مضمونية كالتوحيد والفقه؛ وتقسيمات أخرى هي من نتاج تعامل العقل المسلم مع النص.
فالفقه –مثلًا- من القرآن إجمالًا، والقليل منه هو من القرآن مباشرةً، فهناك نحو مليون ومائتي ألف مسألة فقهية، بينما الآيات أقل من ذلك بكثير من حيث العدد والحجم، إلا أن القرآن العظيم منه الانطلاق، وإليه العودة، وبه التقويم, وله الخدمة، في علم الفقه وغيره من العلوم التي ورثناها.
الشق الثاني للموروث – والذي يقابل النتاج الفكري– هو الواقع, وهو يتكون من خمسة عوالم: عالم الأشياء، وعالم الأشخاص، وعالم الرموز، وعالم الأفكار، وعالم الأحداث.. فما معنى أن النص الذي هو محور الحضارة له دور في التعامل مع عوالم الواقع؟ إن ذلك يعني أنني عندما أتعامل مع الواقع أضع على عيني نظارة النص. (يتبع)
عرض العناصر...ذكرنا سابقا أن الشق الثاني للموروث –والذي يقابل النتاج الفكري– هو الواقع, وهو يتكون من خمسة عوالم: عالم الأشياء، وعالم الأشخاص، وعالم الرموز، وعالم الأفكار، وعالم الأحداث، فما معنى أن النص الذي هو محور الحضارة له دور في التعامل مع عوالم الواقع؟ إن ذلك يعني أنني عندما أتعامل مع الواقع أضع على عيني نظارة النص.
ففي علم الفلك مثلًا لكي أفهم جيدًا, فإنني أحتاج إلى رصد لعُمر طويل، فكانوا يرصدون في جداول كبيرة وكثيرة، كلها أرقام ومعادلات كجداول اللوغاريتمات بالضبط كما يفعل الفلكيون المعاصرون.. لكن ماذا استفاد أهل التراث في ذلك؟ حين نراجع عمل هؤلاء الأجداد نجدهم قد أخرجوا علماء ذوي فهم عميق جدًا لمواقيت الصلاة واتجاه القبلة
ومواقيت الصيام والحج... إلخ. إن الفلكي المسلم القديم يحب -ولا شك- هذا الفن بغض النظر عن الدين، لكنه كمسلم التفت أيضًا إلى معرفة هذه العلوم لدينه وخدمته.
وفي عالم الأشياء الجمالية أيضًا نجد أن الزخرفة الإسلامية تحرَّجت عن رسم الكائنات الحية، فبدأت بالرسومات الهندسية ثم النباتية فالخطيَّة، ثم خلطت بين كل هذا؛ ليظهر الأرابيسك الإسلامي وفلسفة فنية خاصة.. إذن هناك تقدم وتطور، هناك حضارة حية منتجة. يتأمل الباحث في ذلك فيجد ثلاثة أمور محرِّكة لهذا الإنتاج: معرفة بالله خوفًا من الله حبًا لله. هذا ما بدا في الخط القرآني في عصور الالتزام والاستقامة.
إن الباحث إذا تأمل في الإنتاج الحضاري للزخرفة الإسلامية فإنه سيجد ثلاثة أمور محرِّكة لهذا الإنتاج: معرفة بالله خوفًا من الله حبًا لله. هذا ما بدا في الخط القرآني في عصور الالتزام والاستقامة.
ولكن بعد القرن السابع لوحظ أن الخط القرآني (الذي تُكتب به المصاحف) بدأ يسوء؛ دليلًا على أن المعرفة بالله سبحانه وتعالى بدأت تضعف؛ وبدأ النُّسّاخ ينسون أسباب نشأة هذه الخطوط، وتضاءل تفاعلهم مع القرآن على عكس ما جرى مع ابن مقلة الوزير كما سنرى. وحتى القرن السابع كانت الزخرفة في المصحف قليلة، وهذا نابع عن الخوف (أو التحرُّج).. لكن بعد ذلك بدأت الزخرفة تتزايد مما دل على نقصان الخوف.. وفي القرون الأخيرة بهتت الخطوط والزخارف مما دل أخيرًا على ضياع الحبِّ نفسه. وإذا ما خرج اليوم كتاب فيه هذه الشروط الثلاثة، نجده من رجل ورِع تقيٍّ عاش داخل المسألة.
هذا في عالم الأشياء، فماذا عن عالم الأفكار؟
في عالم الأفكار يظهر مثلًا ابن مقلة المشار إليه.. كان ابن مقلة وزيرًا أقبلَ على قراءة الكتاب الحكيم وانفعل به وتفاعل معه، إلا أنه كان أيضًا فنانًا وعالمًا.. ثلاث صفات جمعها في كونه فنانًا واسع الخيال، وعالمًا بالرياضيات، علاوة على كونه مسلمًا مرتبطًا بالقرآن. ومن علمه بالرياضيات توصل إلى استعمال رائع لما نسميه بالنسبة الطبيعية (ط=22/7) بينما سمَّاه هو بـ" النسبة الإلهية". رأى ابن مقلة أن القرآن نزل على نسبة إلهية فاضلة في نَظْمه وقراءته ومعانيه، فأحسّ أنه لابد أن يُكتب أيضًا بخطٍّ يعود إلى نسبة إلهية فاضلة حتى يوافق الشكلْ فيه المضمونَ، فابتكر أسلوبًا للكتابة من خلال استثمار هذه النسبة الإلهية، ومنها ابتكر قواعد رياضية دقيقة لكتابة الخط القرآني.
هذا الإبداع كان من منطلق خدمة النص.. ونحن الآن نريد أن نقف عند هذا.. أن ندرك أن النص كان محركًا للآداب والعلوم ومنشئًا لها..
وفي عالم الأحداث: هناك التاريخ وعوامل حركته. أريد - وأنا أعالج تاريخ المسلمين- أن أرى في التراث متى حدث التقدم والارتقاء؟ ومتى حدث التراجع والتهاوي؟ وما عوامل ذلك؟ فحتى القرن الرابع كان المسلمون يولِّدون علومًا، ثم تضاءل دورهم إلى أن توقف في القرن السابع وراحت الحضارة تمضي إلى السفول، الأمر الذي يمكن أن نأخذ منه فكرة أعمار الدول والحضارات (كما أشار إليها ابن خلدون)... فكرة عوامل انهيار الحضارة وربطها بعدم توليد العلوم.
إذن الموروث إما مصادر أصلية أو نتاج بشري، والواقع هو العوالم الخمسة، وما نريده في البداية هو الفهم - الفهم الصحيح- وليس النقد أو التجريد أو التطبيق؛ سعيًا للعمل في حقل العلوم الاجتماعية وأعيننا على التراث. وعلى ذكر "الفهم الصحيح", فمع الدعوة للتأمل وتحريك الذهن في مختلف المسائل، ننبه إلى أن هناك سقفًا للفهم الصحيح ينبغي ألا يتم تجاوزه، وهو يشتمل على خمسة حدود لابد من المعرفة بها والالتزام بها في مطالعة التراث:
ونؤكد أن أهم ما يعنينا استخلاصه في هذا التراث هو "المناهج" وطرائق التفكير: كيف كانوا يْعملون عقولهم في واقعهم؟ ولا يهمنا بالضرورة "الموضوعات" أو الجزئيات التفصيلية التي كانوا يفكرون فيها. (يتبع)
عرض العناصر...إذا حاولنا صياغة أسئلة مصادر التشريع بشكل مختلف، فيمكننا أن نسأل ما هي المصادر, وما هي طرق البحث وأدواته, وآليات الاحتجاج والاستدلال، وما هي شروط الباحث ؟ تلك الأمور التي أخذها روجر بيكون وجعلها أصولًا للمنهج العلمي الحديث، وهي لا تتجاوز تعريفات الرازي والبيضاوي لعلم أصول الفقه.
ونحن عندما نسأل علم الاجتماع –مثلا- المعاصر عن "مصادر" علم الاجتماع؟ وما هي المرجعية عند الحكم على الأشياء أو تصورها؟ وكيف نوثّــقها؟ وهل هناك ثوابت ومتغيرات؟ وما مدى القطعي والظني؟ وكيف يمكن أن نْلحق الواقع بالنص؟ فإن عالم الاجتماع المسلم اليوم - في ظل هذا الانفصام بين النص والواقع- لن يعطنا إجابة. إن من يطالع هذا التراث الكنز -اليوم- سوف يْفاجأ بمنهج ضخم وأسئلة جوهرية ربما لا إجابة عنها إلا في هذا التراث نفسه.
ولكي نفهم هذا الموروث جيدًا، يجب علينا -بدايةً- أن نفهم "الرؤية الكلية" لمنتجي هذا التراث، فإن هذه الرؤية قد ضُربت في مقتل في الفلسفة الغربية خلال القرون الأربعة الأخيرة ، إلى أن أخرجها فلاسفة الغرب وتابعوهم في الشرق من حالة الشيوع وأُلفة الناس بها إلى شرانق التخصص والأبراج العاجية، فلم تعد - كما كانت- شائعة بين الناس. فقديمًا كنا نرى الطبيب والرياضي والسياسي وأمثالهم لديهم رؤية معيَّنة للعالم، هذه الرؤية تشتمل على رؤى فلسفية، رؤى معلوماتية أو ثقافية أو موضوعية، فكانت المسألة في غاية التماسك والتشابك، لا تنفصل رؤى العالم في دوائر ضيقة باسم التخصص أو غيره. ونحن في سياقنا الحالي نحتاج للتعرف على نماذج من هذه الرؤى، والبحث عن مصادرها، وبيان كيف تؤثر في العقل العام ومن ورائه العقل العلمي الذي أنتج مثل هذا التراث.
ومن نماذج هذه الرؤى أن العَرب -مثلًا- كانوا يتخيلون العالم على هيئة طائر، منقاره أو رأسه في المشرق (الصين،..)، وهناك جناح الشام وتركيا، وجناح اليمن وما وراءها من جزر بحر العرب والمحيط الهندي، والذيل مراكش (المغرب) ووراءه بحر الظلمات (المحيط الأطلنطي). هذه رؤية معلوماتية كانت سائدة في ظلال بعض الأسقف المعرفية في دراسات الجغرافيا والديموغرافيا، حتى أنهم سمّوا "الشام" بهذا الاسم بمعنى الشأم أي الشِّمال، وسموا "اليمن" بذلك لتعني اليمين، وذلك بالنسبة لفم الطائر الذي تخيلوه. وهذه أمور تقريبًا لم تْكتب في الكتب أو لم تكن صريحة فيها، لكنها كانت شائعة ضمنًا ومسيطرة على عقول كل الناس في هذه الأزمنة.
هذا الطائر –المتخيَّل عند العرب- كان مقسَّمًا على سبعة أقاليم، وسموها "الأقاليم السبعة". والرقم "سبعة" -عند هؤلاء الأقدمين- كانت له دلالة، تشبه "الدلالة النَّسَقية". والدلالة النسقية مفادها الاعتقاد بأن الله سبحانه وتعالى بنى هذا الكون على أنساق، من هذه الأنساق أنه "سبّع" الكثير من الموجودات: كالسماوات، والأرض، والبحار، والأقاليم، وأيام الأسبوع.. إلخ، حتى أنهم في الرياضة يعتبرون الرقم "سبعة" الرقم الكامل؛ لأنه تمام الدورة العددية.. وقد وُجدت مؤلفات قديمة حول الأعداد في الكتاب والسُّنة وغيرهما؛ مثل (الإسعاد في الأعداد) لابن حجر العسقلاني، الذي يُورِد فيه الأحاديث التي ذكرت الأرقام ودلالتها، وكذيك وُجدت كتب حديثة مثل كتابات علي باشا مبارك.
ولطنطاوي جوهري كتاب يُسمى (بهجة العلوم) يحاول فيه أن يكتشف مكونات هذه العقلية؛ بناء على فرضية أن هناك تكوينًا تاريخيًا وثقافيًا نتج عنه هذا الموروث الهائل، فيتكلم عن الموسيقى، والأعداد، والرموز...الخ، كمؤشرات على خصائص ومكونات هذه العقلية.
فمثلًا اكتشف أن أصل الموسيقى عند القدماء هو دورانها بين ساكن ومتحرك، والسكون والحركة وصفان لحالتين تقتسمان وتستوعبان ظواهر الوجود. فالموجودات إما ساكنة وإما متحركة، والموسيقى من هذا الوجود. ثم رأوا أن الموسيقى من وسائل التعبير كاللغة أو الكلام، وأن اللغة تتكون من حروف تتجمع لتكون كلمات فجملاً.
من هنا جرى قياس الموسيقى وتم بناؤها في الحضارة الإسلامية. فقيل إن أجزاءها الأساسية مكوَّنة من حرفين (حركة وسكون) "تِنْ، تِنْ..". وهذان الحرفان باجتماعهما يكونان مجموعات أو جملًا (مازورة) أو ما شابه ذلك. والأمر متواصل مع المتوالية (أو المتتابعة) العددية، والمتوالية الهندسية ولكل موسيقاها.. ثم أقاموا النسب التوليفية بإدخال المتوالية الحسابية مع الهندسية فظهرت نسب موسيقية وهكذا..، وعلى هذا بُنيَ علم الموسيقى عند العرب وفي الحضارة الإسلامية.
فالموسيقى عند المسلمين – وبغض الطرف الآن عن حكمها الشرعي- فيها "نسق" ولها دلالة نسقية، فهي كما تصعد فإنها تهبط: تصعد إلى ما يسمى ﺑـ (الجواب: أعلى درجة للصوت)، ثم تهبط إلى ما يسمى بــ(القرار: أدنى حالة للصوت). هناك اتساق، والاتساق يعني "المطلق"، ويعني أن الذي أنتج هذا كان مؤمنًا بالمطلق، ونَسَبَ القواعد الأساسية التي أقام عليها بناءه إلى "المطلق"؛ أي إلى قواعد خارجه عن ذاتيته وعن ذاتية مجتمعه الضيق.
ومن ثم، فهذا هو الإنسان الذي يمكن أن يفهم معنى العدل المطلق والصدق المطلق والحق المطلق.. على خلاف النموذج الغربي الذي يزعم أن الأشياء كلها نسبية. وهذا هو أسُّ الفارق بين حضارتنا وحضارة الغرب: فرجلنا القديم يقول بضرورة وجود وضرورة إدراك "المطلق" الذي ينبغي أن يقايس عليه حياته، وفي الغرب يقولون إن "المطلق" إما غير موجود وإما لا جدوى له. (يتبع)
عرض العناصر...تكلمنا في المقالة السابقة من مقالات مصادر التشريع عن الفرق بين ما يعتقده النموذج المعرفي الإسلامي من أنه المطلق موجود ووجوده في غاية الأهمية، وما يعتقده الغربي حيث يرى أنن "المطلق" إما غير موجود وإما لا جدوى له.
إلا أن كل هذا يقع في العالم الكامن في النفوس والعقول: عالم الرؤية الكلية التي تؤثر في شتى مناحي الحضارة الملموسة.
وقد يتساءل البعض: أيهما أنتج الآخر: الحياة (الحضارة الملموسة) أم القيم والرؤية الكلية؟ ونحن -في الحقيقة- لا ندري بداية الموضوع من نهايته، هل هذه المفاهيم والرؤى هي التي أنتجت الحضارة أم أن الحضارة هي أنتجت هدّ المفاهيم؟ أم هي دائرة كالذي يسميه المنطقيون بـ"الدور"، كمسألة البيضة والدجاجة؟
ولمزيد من بيان هذه الرؤية أو لرؤى ومصادرها وخصائصها المتفتحة، نعرض لنماذج من تعامل العقلية التراثية مع المطلق وبعض قضاياه:
لقد توقفوا - في التراث - إزاء عدد من الظواهر الشبيهة بقضايا الدور ومسائل النسبي والمطلق، والتي تتضمن ثنائيات عقلية، وازدواجيات وجودية عقيدية تبدو متعارضة، كقضايا الأول والآخر، والعدم والوجود، والذات والصفات، والمتناهي وغير المتناهي، والتي غالبًا ما طُرحت من قبل الآخر الذي اطلعوا عليه مبكرًا، وقد جاءت إجاباتهم عن هذه المسائل مؤشرات جلية على رؤيتهم الكلية للوجود.
فقد قال الآخر المحاوِر: إن إدراك الشيء فرع عن تصوره (وهذا صحيح)، لكنه (الآخر) أراد بكلامه أن يتصور الإله، يريد التجسيد والتصوير.. وهذا منبع الوثنية؛ [فلأجل هذا صنعَ إلهه وجسَّده في حجر أو شجر (أو حتى من العجوة حتى إذا جاع أَكَلَه)، أو في صورة اللورد (يقصد: عيسى عليه السلام).. أو قال إنه حلّ في بوذا أو كونفوشيوس..أو قال: إن هذا الكون ومواده هو ربنا، فيعبدون الطوطم وخلافه..] لذلك دفع بالقول: إن التصديق بالشيء وبوجوده فرع عن تصوره.. فهل يمكن لك -أيها المسلم- أن تصدّق بمن ليس كمثله شيء، لا تدركه الأبصار، ولم يكن له كُفُوًا أحد؟
فردَّ التراثي المسلم من خلال يقينه أن الوجود دال على الواجد والموجِد سبحانه وتعالى، وأن صريح العقل لا يتعارض مع واقع الوجود ولا مع صحيح النقل، فمثلاً قال لهذا الآخر: إنك تصدق -رغمًا عنك- بوجود أشياء كثيرة دون أن تكوِّن تصورًا عنها على الحقيقة، سواء لا تتصوره ابتداء أو انتهاء أو في الحالتين. فعندما يطرق أحدهم الباب طرقات منتظمة.. فإنك تصدّق أن ثمة إنسانًا عاقلًا يقف بالباب..تصدق بوجوده وأنت لا تتصور ذاته أو شخصه. وبالمثل فالكون أبدعه خالق بديع يدلّ عليه خلقه، أومن به دون أن أتصور ذاته.
إلا أن أهل تراثنا قد زادوا على ذلك أن الله سبحانه وتعالى ضرب في الوجود أو الواقع المشهود أمثلة لفهم أشياء يصعب على العقل فك الاشتباك فيها، وهي تردُّ على الذين ينكرون وجود الإله أو صفاته العليا. هذه الأمثلة الوجودية والعقلية اكتشفوا فيها أدوات لحل مشكلات فلسفية وعقدية، وإن كانت هي حقائق من الواقع الملموس أو حقائق رياضية (والحقائق الرياضية عند الكافة تنزل منزلة المسلّمات العقلية).. لقد تمت هذه الإجابات من خلال عملية جماعية تحاورية عبر الزمان. وكانت غاية هذه الأمثلة أو المتصور منها أن تُقرّب المطلق المجرد من المشهود النسبي وتبيِّن الكلي الذهني باستخدام الجزئي المشخَّص..ونمر على بعض من هذه الأمثلة مثل "الدائرة"، و"الشمعة"، و"النقطة"، و"المرآة"، لبيان كيف تضافرت مصادر العقل المسلم، وكيف استخدم كل مصادره –تحت مظلة الوحي والرؤية الكلية المنبثقة عنه- في بناء أفكاره ومناهج علومه.
الدائرة وقضية الذات الواحدة والاعتبارات العديدة: ضرب الكلاميون هذا المثال من الوجود المشهود ليبرهنوا على حقيقة "الغيب": أن الله سبحانه وتعالى ذاته واحدة وصفاته متعددة، فتساءلوا أمام معارضيهم: أين بداية الدائرة؟ بدايتها هي نهايتها! نفس نقطة البداية هي نقطة النهاية؛ أي إن هناك نقطة جمعت بين صفتين تبدوان متعارضتين (كالأول والآخر).. قال القدماء: (هي واحدة بالذات مختلفة بالاعتبار: أي باعتبار اتجاه الحركة على محيط الدائرة يمينًا أو يسارًا)، وهذا نفسه حل المشكلة في الرياضة الحديثة والهندسة التحليلية بفكرة "الاتجاه": سالب وموجب. ولله المثل الأعلى، فله –سبحانه- ذات واحدة (قل هو الله أحد)، وصفات وأسماء -هي الحسنى- متعددة.
النقطة وقضية العدم والوجود: ضرب الكلاميون هذا المثال من الوجود المشهود أيضًا ليبينوا "كيف أوجد الله سبحانه وتعالى الموجودات من العدم" ؟ فقالوا: "النقطة" لها خصائص غريبة جدًا؛ فهي لا اتجاه لها، وإذا سارت أحدثت أشكالًا مختلفة، قد تصنع خطًا (فالخط عبارة عن استمرار نقطة) وقد صنع خطوطًا من أشكال شتى. والنقطة –في حقيقتها- أشبه بـ"العدم"؛ لأنه لا شيء أصغر منها، فكيف يتحول هذا العدم أو شبه العدم إلى وجود وموجودات؟ بهذا يمكن أن نقول إن الكون كان عدمًا ثم تحول إلى الوجود بإرادة عليا، فالشيء العدم قد يستحيل إلى الوجود. ومثال ذلك "النقطة".
والشمعة واستمرار قضية الإيجاد من العدم دون أثر في الموجٍد: قالوا: إن الأشياء إذا أخذنا أجزاء منها تكون بين أمرين: إما أن تنقص بالأخذ منها، وهذه عامة الأحوال. (يتبع)
عرض العناصر...
تكلمنا في المقال السابق أن هناك أمثلة غايتها أن تُقرّب المطلق المجرد من المشهود النسبي وتبيِّن الكلي الذهني باستخدام الجزئي المشخَّص، وذكرنا أن من هذه الأمثلة مثل [الدائرة-النقطة-الشمعة-المرآة] وأن هذه الأمثلة لبيان كيف تضافرت مصادر العقل المسلم، وكيف استخدم كل مصادره –تحت مظلة الوحي والرؤية الكلية المنبثقة عنه- في بناء أفكاره ومناهج علومه. وقد تحدثنا عن الدائرة والنقطة، ونكمل الحديث في هذا المقال عن الشمعة.
والشمعة واستمرار قضية الإيجاد من العدم دون أثر في الموجٍد: قالوا: إن الأشياء إذا أخذنا أجزاء منها تكون بين أمرين: إما أن تنقص بالأخذ منها، وهذه عامة الأحوال وإما أن تزيد بالأخذ منها كالحُفرة، فكيف يقع الأخذ من (أو عن) شيء دون تغير بزيادة أو نقصان في المأخوذ منه؟ أو كيف أوجدَنا الله ولسنا منه وليس منا؟ كيف ولم يطرأ تغيُّر على الإله عز وجل؟ هنا جاء مثال الشمعة (وهو مثال من الوجود الملموس) ليجيب عن حالة الشيء الذي يمكن أن يؤخذ منه فلا تقع زيادة ولا نقصان. فعندنا نقرّب فتيل الشمعة غير مشتعل من فتيل أخرى مشتعل، تضيء الأولى دون نقص ولا زيادة في وزن أو حجم أو شكل الثانية.
وهذا أيضًا جاء ردًا على من سأل مجادلاً: أين الله؟ هل هو خارج الكون؛ فيكون الإله محدودًا بحدود الكون وله نهاية؟ أم هو داخل الكون؟ أم الكون هو الذي يتواجد في الإله؟ بين مزاعم الحلول ومزاعم الاتحادية..الخ.
المرآة وقضية المتناهي وغير المتناهي (اللانهائي): قالوا: إنه لا يوجد في هذا الوجود الحقيقي (المنظور) شيء غير متناهٍ على الحقيقة، فكل شيء في الوجود معدود أو موزون أو يقاس بأي أدوات القياس.. فكيف نصدِّق بالمطلق اللامتناهي الذي هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخِر فليس بعده شيء، وهو بكل شيء محيط؟ فأجاب أهل التراث بسؤال: ماذا إذا وضعنا مرآة في مواجهة أخرى؟ في هذه الحال نجد صورًا (لانهائية) حتى إن العين تكلّ من متابعة هذه الصور، فإذا كان ذلك من صفات المرآة المخلوقة، فكيف الحال في صفات الله الخالق سبحانه وتعالى؟
هكذا وقف الإنسان المسلم التراثي مواقف غريبة، وهو يحاول الإجابة عن هذه التساؤلات وعن أخرى غيرها نجمت عن الاحتكاك الحضاري والتفاعل مع الآخر.. فقال مثلًا: أنا أرى صفات نفسي، وعلمي أتعلمه وأكتسبه كل يوم : (إنما العلم بالتعلم) [رواه البخاري] فهل يفعل الإله ذلك؟ هل ينظر إلى الأحداث -كما يشيع في أساطير اليونان التي تصور آلهة تتابع مسرحية كبيرة.. وتجعل جوبيتر- كبير الآلهة عندهم- مثلًا يتعلم كما يفعل البشر..؟ قال هذا المسلم المتفكر: لا، بل الله بكل شيء عليم. قال تعالى : (عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [سبأ : 3] ، وقال : (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحديد : 22]. قيل: ذلك يعني أن علمه غير نهائي! وهل هناك في حقائق الدنيا ما هو (غير نهائي)؟ إن الـ(مالا نهاية) هي مجرد تصور ذهني.. أي مقدّر، فهل يمكن أن يكون الأمر المقدّر مثل الـ"مالا نهاية" أمرًا محققًا؟ والمقدّر غير محدود، والمحقّق الموجود محدود، وبالتالي له نهاية (نهائي)!
لقد طُرِحت هذه الأمثلة لحل مشكلات فلسفية عقيدية؛ ولإلزام الخصم المجادل بحُجة من مصدره للمعرفة (الوجود المشهود)، علاوة على ما تعكسه هذه الأمثلة من تطور للعقلية التراثية
إلا أننا نحتاج من أجل مزيد من فهم أعمق للعلم الموروث، فلابد من إدراك عناصر تكوين العقلية التي أفرزت هذا النتاج أو العلم! ونفضِّل كلمة (عناصر التكوين العقلي) على كلمة (الرؤية الكلية)؛ إذ أن الأخيرة تعد إحدى تلك العناصر بالإضافة إلى مكونات أخرى للعقلية التراثية. وهذه المكونات ليس يحويها كتاب بعينه، إنما كان يضمرها كافة الناس. ومن ثم فهي لا تعبر عن -ولا تمثل- علم الفقه أو علم الكلام أو علمًا بذاته من العلوم التراثية، إنما تمثل الخلفية التي كانت وراء عقلياتهم وعلومهم. أعتقد أن فهم هذه المكونات يسهم في نقلنا نقلة نوعية في فهم تراثنا، وفي فهم ذاتنا، وكذلك في فهم الآخر.
ومع أن المقصود تتبع العناصر المنهجية في العقلية التراثية دون الوقوف على الجزئيات، فيمكن القول-كذلك- إن كثيرًا من جزئيات هذا الموروث لا تزال مهمة لنا ومطروحة الآن، وضرورية في بناء نموذجنا المعرفي، على الرغم من الزعم السائد بأن عصرنا لم يعد يتحملها الآن! فما الرأي في أن قضية (خلْق القرآن) التي أثيرت في الربع الثاني من القرن الثالث الهجري لا تزال مطروحة بكل قوة، لكن بألفاظ وعناوين مستجدة. فلدينا توجّه معاصر يتبناه أناس من أمثال نصر حامد أبو زيد، سعيد عشماوي، محمد أركون.. يرى أن القرآن زمنيّ تاريخاني!! أليس هذا هو عين القول بمخلوقية القرآن؟ (يتبع)
عرض العناصر...
أشرنا في المقال السابق إلى أن قضية (خلْق القرآن) التي أثيرت في الربع الثاني من القرن الثالث الهجري لا تزال مطروحة بكل قوة، لكن بألفاظ وعناوين مستجدة. وذكرنا أن لدينا توجّه معاصر يتبناه أناس من أمثال : نصر حامد أبو زيد، سعيد عشماوي، محمد أركون.. يرى أن القرآن زمنيّ تاريخاني!! أليس هذا هو عين القول بمخلوقية القرآن ؟ "فالقرآن مخلوق" تعني أنه حادث، والحادث كائن بعد أن لم يكن؛ وبالتالي كان له مكان، فإذا ذهب المكان والمكين (وهما عَرَضان)..بقى القرآنُ تاريخًا، فيقولون: "تاريخانية النصّ".. نفس القصة بعنوان أو مدخل آخر، كأن القضايا لم تنعدم تمامًا..إنما تبدلت الأسماء والمداخل.
ونحن نقول: إن القرآن العظيم مطلق، ليس زمانيًا ولا تاريخيًا.. فالقرآن غض طرىّ كأنه نزل الساعة، يتجاوز الزمان والمكان والأشخاص والأحداث والأحوال.
ومن ثم، يمكن أن نستفيد-مثلًا- من علم الكلام –كما في الأصل المقرر هنا- من الكليات، كما يمكن ألا نعدم فائدة جزئياته في قضايانا الحالية. بل يمكن الزعم أن كل سمات العصر يمكن التعاطي معها من خلال "علم الكلام" التراثي.. لكن ما نحتاج إليه فعلًا هو "ضبط الصياغة الملائمة" كما أشير أعلاه، فالنموذج المعرفي والمداخل والمشكلات..كلها أسماؤها وصياغاتها صارت مختلفة!!
والسؤال الآن: من أين جاء العقل المسلم التراثي بهذه الردود والأحكام التي حكم بها على الوجود بل والغيب من ورائه؟
هذا يدخل فيما نعرفه اليوم بـ"مصادر المعرفة" أو ما يسمى "الابستمولوجي". فمصادر المعرفة عندنا تتمثل في الوحي والوجود. إن المسلم كان يأتي لموضوع العلم ويقبل التعرض لأي موضوع.. مع خصوصية إجاباته عن مسائل هذا العلم.. مستندًا في ذلك إلى مرجعيته ومستفيدًا من القواعد العقلية التي تتوافق مع الإطار الذي يتحرك فيه، فيستخرج أحكامه على المسائل من مصادر متعددة.
فهناك أحكام استخرجها هذا الموروث من النقل (الوحي) ، وأخرى من العقل، وأخرى من العُرف، ومن العادة أو الحس، ومن الفطرة،..الخ، وكل هذه العناصر والمصادر المذكورة - عدا النقل أو الشرع- تسمَّى "الوجود". فـ"الصلاة واجبة": حكم شرع ونقل، و"النار محرقة": حكم عادة أو حسٍّ أو تجربة، و]واحد زائد واحد يساوي اثنين[: حكم عقل، وكذا "عدم اجتماع النقيضين" هو حكم عقل، .. وهكذا.
وتوقُّف عملية المزج والوصل الجميل بين هذين المصدرين (الوحي والوجود) في الزمن الراهن هو الذي أوجد عندنا ازداوجية الفكر والتعليم والثقافة. وافتقادنا لمعرفة عناصر الإدراك العقلي عند هؤلاء المنتجين لهذه العلوم الموروثة (أي كيف كانوا يبنون تصوراتهم؟ كيف كانوا يكتبون ما يتصورونه..؟) هو الذي نراه عند أصحاب العلوم الاجتماعية اليوم، ونسعى لتجاوزه.
ثم إن القول بأن علماء التراث الإسلامي كانوا يجعلون العقل من بين مصادرهم للمعرفة والحكم على الأشياء، يطرح التساؤل حول ما يُقال من إدخالهم المنطق الأرسطي على العلوم الإسلامية، وهذا يحتاج لوقفة مهمة.
ففي كتاب "المقابسات" أورد أبو حيان التوحيدي مناظرات بين أبي سليمان المنطقي وبين أهل النحو واللغة (الذين تميزوا بتأسيسهم علومهم اللغوية على علم عقليّ ما، لكنه من داخل الدائرة الإسلامية، غير مستورد لا عن أرسطو ولا غيره). وجرى في هذه المناقشات جدال، وكانت الغلبة غالبًا لأهل العربية. وبالتأمل نجد أن الذي قاله أهل العربية، هذا هو "المنطق" الذي أخذناه بعد ذلك، وأن منطق أرسطو تقاطعَ معه في مساحة هي "مشترك العقل البشري"، وأن الباقي من أرسطو رُفض، وأن الباقي من قبل علماء العربية استقرَّ.. إلا أن الاسم الذي غلب على ما نستعمله من هذه القواعد، هو الاسم الذي نُقل عن أرسطو: "المنطق".. فالذي بقى من قواعد أرسطو هو الاسم فقط.
لقد أورثنا هذا لبسًا قائمًا إلى الآن، حيث أصبحت كلمة "منطق" تُطلق ويُقصد بها المنطق الأرسطي، وتُطلق ويُقصد بها المنطق العربي، كما تُطلق ويُقصد بها المشترك بين المنطقيْن.. وهكذا. فكأن الأسماء ضاقت علينا فلم نجد للقواعد العقلية العربية اسمًا آخر غير كلمة "المنطق". وقد لاحظ بعض العلماء ذلك، فقام الشيخ الشاب الأخضري بتلخيص المسألة في كتاب اسمه "السُّلَّم"- وكان عمره واحدًا وعشرين عامًا- فقال مثلًا:
وابن الصلاح والنوويُّ حرَّما ** وقال غيرٌ: ينبغي أن يُعلما
والقولةُ المشهورةُ الصحيحةْ ** جوازُهُ لكامــلِ القريحةْ
ممارسِ السُّـنَّةِ والكـتابِ ** ليهتدي بـهِ إلى الصوابِ
ففرَّق الرجلُ بين الكلام المستورد الفارغ، وبين هذه القواعد المقررة التي اشترك فيها العقلاء، والتي ينبغي أن تكون منضبطة بالقرآن والسنَّة وقواعد العربية والقريحة الصحيحة.
وعندما استقر الحال بعد أبي حيان وغيره، استقر العمل لدى أهل السُّـنّة على الأخذ بهذا المنطق، ودخل في الكثير من صياغات الأصول والعلوم الإسلامية بعد القرن السابع بهذا المعنى، وحُمِل كلام المعترضين كابن تيمية وغيره على نقض المنطق الأرسطي، وحُمِل كلام غيرهم من المؤيدين على المنطق العربي، وقد سُمىّ "منطقًا"؛ لأنه تكلم في الموضوع ذاته الذي تكلم فيه المنطق الأرسطي؛ أي تصحيح وترشيد الفهم: التفكير السليم المستقيم:
فنسبة المنطقِ للجَنانِ ** كنسبةِ النحوِ إلى اللسانِ
(يتبع)
عرض العناصر...تكلمنا في المقالة السابقة عن بزوغ علم المنطق وموقف المسلمين منه في بداية الأمر، ثم لما استقر الحال بعد أبي حيان وغيره، استقر العمل لدى أهل السُّـنّة على الأخذ بهذا المنطق، ودخل في الكثير من صياغات الأصول والعلوم الإسلامية بعد القرن السابع بهذا المعنى، وحُمِل كلام المعترضين كابن تيمية وغيره على نقض المنطق الأرسطي، وحُمِل كلام غيرهم من المؤيدين على المنطق العربي، وقد سُمىّ "منطقًا"؛ لأنه تكلم في الموضوع ذاته الذي تكلم فيه المنطق الأرسطي؛ أي تصحيح وترشيد الفهم: التفكير السليم المستقيم.
فالمنطق يمنع الخطأ في الفهم كما يفعل النحو في المنطق اللفظي. فأرسطو أعطانا الفكرة؛ أن نضع آلة قانونية تعصم مراعاتُها الذهنَ عن الخطأ- ثم وضعها المسلم من عنده ومن لغته، وهو يمارس السُّـنَّة والكتاب ليهتدي به إلى الصواب. فتنبَّه! إنك تتعامل مع إطار زمنيّ واسع، مع تغيرات متتابعة مستعرضة، مع مدارس متعددة، مع اصطلاحات قد تتضارب.. فإياك إياك والألفاظ، إياك أن تتوقف إلا عند المعاني..لأنهم قالوا: (من طلب الحقائق من الألفاظ هَلَك) هكذا عبَّر الغزالي، فانظر في معنى المنطق: ما هو حق؟ وما هو باطل؟
والخلاصة أن فهم الموروث الحضاري الإسلامي يحتاج إلى إدراك عناصر تكوين العقلية التراثية أولًا، وهذه المرحلة تحتاج إلى جهد ومثابرة! ثم تتوالى مراحل الاستفادة من: التتبع والاستقراء، ثم التجريد فالتفعيل، في تسلسل بموجبه يمكن أن نستفيد لحياتنا المعاصرة. بعد ذلك لابد من إدراك الواقع وربط النص المفهوم به، فيكون التشغيل أو التطبيق.
هناك العديد من المشكلات التي تواجه عقل الباحث أو طالب العلم المعاصر عند الاقتراب من تراثه. لعل أولاها- تتعلق بالباحث نفسه؛ وتتمثل في ضآلة المعرفة بمعلومات التراث في جزئياته وكلياته، وثانيتها-وهي التي نقف عندها- تتعلق بالمسافة بين التراث وبين العلم الحديث؛ وتتمثل في كمّ المصطلحات الملتبسة بين لغة العلوم الاجتماعية والإنسانية المعاصرة وبين النصوص التراثية، بل ونصوص الأصليْن (الكتاب والسُّنة) نفسها.
إن ثمة أفكارًا ومفاهيم شائعة حول التراث الإسلامي ونموذجه المعرفي، ليست سوى تلبيسات طرأت من منهجيات العلوم الحديثة، من قبيل قضية الإطلاق والنسبية. فلا يمكن القول إن النموذج المعرفي الإسلامي مطلق وإن الغربي نسبي، هذا الكلام باطل. وبطلانه يتمثل في أن القول "بالنسبية" كأساس هو أيضًا إطلاق؛ حيث يمثل منطلقًا لا نقاش فيه. وبالتالي مهما أنكر هؤلاء الإطلاقَ فهم يقعون فيه، ولابد علينا من فك هذا الاشتباك!
وكذلك قضية القيمية والمادّية، ودعوى أن النموذج الإسلامي قيمي، وأن النموذج الغربي مادي غير قيمي، هو كلام خطأ ملتبس؛ لأن النموذج الغربي قيمي أيضًا. الفارق بين النموذجين أن النموذج الإسلامي يعتمد الوحي مصدرًا لمعرفته والآخر لا يعتمد الوحي. أو أن المعرفة الإسلامية قائمة على مصدرين: الوحي والوجود..في حين أن المعرفة الأخرى قائمة على الوجود وحده. ليس الخلاف في التناول العلمي بقيم أو بدون، فالقيم لازمة والتحيز حتم، لكن الفارق يدور حول: من الذي سوف يحدّد هذه القيم؟ فالغربي -ومن على شاكلته- يصطدم معي فعلاً في نموذجي حين أقول: إنني اعتمد على الوحي في معرفتي. يقول: لا مانع أن تؤمن بالوحي؛ لأن نموذجي (أي الغربي) يقول: أنت حر في إيمانك، أما أن تجعل الوحي مصدرًا للمعرفة فلا.. فالوحي مصدر إيمان فقط.
ثم قضية الدين (أو الإيمان) والعلم: هم يفرقون بين المعرفة والإيمان، ويجعلونها ثنائية متقابلة، ويجعلون مسألة الإيمان خارج العلم، ويقصرون العلم على مفهوم الـ Science. والواقع أن العلم (الساينس) كلمة موضوعة بازاء "العلم التجريبي الذي لا يثبت إلا بالمشاهدة"، وإذا جرى تعميم هذا المفهوم على كل ما هو "علم وعلمي"، فإن مسألة وجود الله سبحانه وتعالى تعد مسألة غير علمية؛ لأننا لم نشهد الله سبحانه وتعالى وقضية الألوهية لا تدخل المعمل.
أما عندنا فهذا غير مقبول؛ لأن "العلم" عندنا هو "الإدراك الجازم المطابق للواقع الناشئ عن دليل، سواء كان في المعمل أو في العقل أو بالعادة…الخ". و"العلم" عندنا غير المعرفة؛ لأن العلم لا يستدعي سبق الجهل على خلاف "المعرفة" التي تستدعي ذلك.
فالمشكلة في اللبس الكائن من عدم إمكان ترجمة كلمة "علم" العربية إلى كلمة غير "ساينس" تؤدي المعنى الواسع عندنا، وبالتالي نحتاج إلى ترجمتها شرحًا في جُمَل لا في كلمة واحدة. وبالمثل يقع اللبس من أن "ساينس" التي تعني "العلم الإمبريقي" تترجم عندنا "العلم"!!
ومشكلة الترجمة واختلاف أوعية اللغات المختلفة مشكلة كبيرة لابد من الانتباه لها، سواء في تناول التراث الإسلامي أو تناول العلوم الحديثة ذات الارتباط الوثيق بالآخر.
فالمفاهيم الإسلامية لم تُترجم إلى اللغات الأخرى، ولم يُبذَل فيها ما بُذل مثلاً في إعداد الترمنولوجي الهندوكي الذي نقل إلى فهم الآخرين في قواميس كبيرة ؛ حيث إن دارس الفلسفة والأديان والمجتمعات في الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرهما يسهل عليه أن يفهم الترمنولوجي الهندوكي حتى بالحكاية الصوتية. وعندما جاء "رينيه جينو"* الفرنسي ليترجم عن الإسلام لم يجد ما يترجم به سوى الترمينولوجي الهندوكي. (يتبع)
_____________________
* مفكر فرنسي أسلم، وسمى نفسه الشيخ عبد الواحد يحي، ولد 1886م وتوفي 1951، وأسلم على يديه أعداد كبيرة في الغرب.
عرض العناصر...ذكرنا في المقالة السابقة أن المفاهيم الإسلامية لم تُترجم إلى اللغات الأخرى، ولم يُبذَل فيها ما بُذل مثلاً في إعداد الترمنولوجي الهندوكي الذي نقل إلى فهم الآخرين في قواميس كبيرة؛ حيث إن دارس الفلسفة والأديان والمجتمعات في الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرهما يسهل عليه أن يفهم الترمنولوجي الهندوكي حتى بالحكاية الصوتية. وعندما جاء "رينيه جينو"* الفرنسي ليترجم عن الإسلام لم يجد ما يترجم به سوى الترمينولوجي الهندوكي.
وفي هذه المرة نجلي هذا المعنى فمثلا استخدم رينيه جينو كلمة جورو الهندوكية لترجمة كلمة شيخ الطريقة حيث لم يجد مقابلا لها فرنسيا وعندما جئنا نحن لننقل عن الرجل لم نجد في القواميس الفرنسية هذه الكلمة "جورو".
هذا ما نحاول أن نقوم به نحن حاليًا إزاء نحو ثلاثمائة مصطلحًا دخلت الإنجليزية من قبيل Haj, Jihad, Umma, Ulama ... . والترجمات الصوتية عن العربية الموجودة حاليًا في الغرب لم تؤخذ لا من اللغة العربية ولا من الأصول أو العلوم الإسلامية، إنما من الحياة المشهودة في بلاد المسلمين ومن العقليات القائمة.. وهذا مكمن خطر يزيد من تعميق هوة سوء الفهم المتبادل. هم يرون مسلمين يتقاتلون فيترجمون ذلك تحت كلمة JIHAD وهو نوع من التحريف، فلا يكون في تعريف الـ JIHAD إلا نوع من الإرهاب والإفساد في الأرض وحب سفك الدماء. وقِس على ذلك تعبيرات "الإيمان" و"الدين" و"السياسة" و"النبي" و"الخلافة" و"الأمة" و"العلم"
والخلاصة أنه لا يوجد قاموس مفردات Vocabulary أو Glossary إسلامي.. هم صدّروا إلينا كلمات كثيرة سيما مع التقنيات المستوردة من قبيل الــ تي في، الكمبيوتر، البرلمان، التيك آواي.. نستعملها في العربية كما هي وبذات المعاني التي يقصدونها، فلماذا لا نقول عن العلم "ELM" إذا لم نجد في الإنجليزية ما يقابل ما عندنا..؟ المسلمون الأوائل صنعوا الجسر بينهم وبين الآخر على أساس مما عند المسلمين أنفسهم، فعرّبوا الآخرين، بينما نحن اليوم -وفي هذه اللحظة التاريخية- نصنع الجسر من عندهم، وندّعى أنه مزيج مما عندنا وعندهم. نحن نتوسل إلى لغاتهم كي تقبل كلماتنا ومفرداتنا لتوضع في أوعيتهم!
هذه المشكلة الكبرى في عدم الفهم التام لهذه القضية. فالمطلوب الآن في ظل المغلوبية الحضارية، وتبعية حضارة المغلوب لحضارة الغالب، أن نـتعرف إلى الآخر الغالب وإلى لغته.
وبالنسبة للمصطلحات الملتبسة بين دارس العلوم الاجتماعية والإنسانية المعاصر وبين النصوص التراثية، فقد يرى البعض أن ثمة ضرورة لوجود وسيط يقف بين دارس العلوم الاجتماعية ودارس العلوم الشرعية لفض مضامين هذه المفاهيم. لكننا –في هذا السياق الذي نحن بصدده- نسعى لما هو أعمق وأبعد من ذلك, نريد أن يكون الدارس هو المنتِج نفسه للمعرفة وللعلم وللمفهوم, والقادر على نقله والتعامل به، وإن كان الأمر مشتملاً على الكثير من العقبات والصعوبات.
تتألف أداة التعامل مع العلوم التراثية لتأسيس "الفهم" من مكونات عدة، لعل من أهمها مكوّنيْن رئيسيْن: الأول- عناصر الرؤية للعالم الخارجي عند الكاتبين للتراث الإسلامي، والثاني- الأداة اللغوية التي يمكن أن نفهم النص التراثي بها.
أولًا – عناصر الرؤية للعالم الخارجي:
لكي أستكشف عناصر الرؤية التراثية للكون والوجود والإنسان والحياة، أحتاج أن أقوم برحلة في العقلية التراثية: عقلية الماوردي والجويني والغزالي والنووي وابن تيميه وابن حجر، والسيوطي ...الخ، هؤلاء الذين عاشوا في الزمن التراثي، والذين حازوا –ولابد- أدوات لفهم القرآن والسُّنَّة، وأيضًا حازوا رؤى معينة للعالم الخارجي.
تلخّص الرؤية منتجي التراث للعالم الخارجي في عناصر معينة، وذلك بصرف النظر عن مصادرها؛ لأن مصادرها شديدة التركيب كما أشرنا من قبل: بعضها من العقائد الإيمانية، وبعضها مستقًى من مطلق التأمل والتفكّر في الكون والأشياء وما وراءها، أو من خلاصة الفلسفة القديمة، أو من الاختلاط بحضارات أخرى تداخلت مع حضارة المسلمين كالهندية و الصينية و الفرعونية والفينيقية والآشورية والبابلية... وأخيرًا الحضارة اليونانية بتنوعاتها، دون الوقوف فقط عند مدرسة أرسطو الأكثر شهرة- حيث كانت ثمة مجموعة كبيرة من الأفكار التي وردت عن أمثال فيثاغورث وسوفوكليس وسقراط وأفلاطون وغيرهم.
وهذا الترتيب للمصادر ليس مقصودًا بالضرورة، إنما ذكرتها لبيان أن هناك مصادر أخرى غير المصدر الأرسطىّ الذي عدّه البعض هو كل شيء أو المصدر الأوحد، وليس الأمر كذلك، فقد تعامل المسلمون مع هذا المنطق الأرسطىّ بالحذف والإضافة، ومع مصادر أخرى.
ومن الصعب -حتى عند أهل التراث- أن نتبيّن - بالضبط- من أين أتت هذه العناصر للرؤية الكونية؛ لأنها قد تأتي من أحد هذه المصادر أو من تفاعلها فيما بينها.. (يتبع)
________________________
* مفكر فرنسي أسلم، وسمى نفسه الشيخ عبد الواحد يحي، ولد 1886م وتوفي 1951، وأسلم على يديه أعداد كبيرة في الغرب.
عرض العناصر...
أشرت في المقالة السابقة إلى مصادر منتجي رؤية العالم الخارجي في العقلية التراثية، وعددت تلك المصادر لبيان أن هناك مصادر أخرى غير المصدر الأرسطىّ الذي عدّه البعض هو كل شيء أو المصدر الأوحد، وليس الأمر كذلك، فقد تعامل المسلمون مع هذا المنطق الأرسطىّ بالحذف والإضافة، ومع مصادر أخرى.
ومن الصعب -حتى عند أهل التراث- أن نتبيّن - بالضبط- من أين أتت هذه العناصر للرؤية الكونية؛ لأنها قد تأتي من أحد هذه المصادر أو من تفاعلها فيما بينها وأعتقد أن البحث فيها ليس مجديًا في هذا المقام؛ حيث نركز أساسًا على مكونات الرؤية نفسها لا على مصادرها!
هذه الرؤية هي التي عُني بها علم الكلام، وخلاصتها أنها كانت ترى هذا الوجود إما متحيّزًا أو غير متحيّز: والمتحيّز-لغةّ- إما أن يكون المائل المنصرف إلى جانب دون آخر، وإما أنه كل ما له حدود أو يشغل حيّزًا. والمتحيّز- في هذه الرؤية- إما بسيط ويسمى "جوهرًا"، أو مركَّب ويسمى "جسمًا".
فالجسم -مثلًا- كجسم الكائن الحي المركّب من عدة خلايا، بينما ما يمثل الجوهر هو الخلية الوحيدة أو المنفردة. فالجوهر هو أقل حالات المتحيّز، وكانوا يسمونه "الجوهر الفرد"؛ لأنه لا يقبل القسمة، ولو انقسم فنيَ ..وهذا ما تبنتّه الكثير من نظريات الطبيعة أو الفيزياء اليوم في مسألة انشطار الذرة.
وهذا التصور في "الجوهرية" –وإن أمكن أن يكون موجودًا بأكثر من مصدر من المصادر المذكورة- إلا أنه بالأساس مأخوذ عن العقيدة الإسلامية التي تقرر أن الله سبحانه وتعالى وحده ليس قبله شيء وليس بعده شيء، وليس كمثله شيء في الوجود، بل كل شيء مخلوق له، هو سبحانه وتعالى خَلَقه، والتي ترى أن التسلسل باطل، وأن ثمة نهاية لكل موجود في هذا الكون. فليس هناك ما هو "لانهائي" في موجودات الكون إلا إذا كان مقدَّرًا (كالمستقبل) أو وهميًا.. وكل كائنات الكون المحسوس متحيزة بين بداية ونهاية.
ثم "غير المتحيّز" في هذا الوجود فيسمى "العَرَض": وهو شيء موجود في غيره لا يمكن أن يقوم بذاته دون غيره، مثل الصفات والأحوال: "كالفقر والغنى، والصحة والمرض، والسعادة و الحزن، والقوة والذكاء واللون والطول..الخ.
كل هذه الصفات تمثل أعراضًا غير متحيزة بذاتها وتحتاج إلى محلٍ تحل فيه. فلابد لنعرفها من وجود الفقير والغنيّ و الصحيح والعليل والسعيد و الحزين والقوي والأبيض..الخ.
والله سبحانه وتعالى غير ذلك وفوق ذلك ... ومن ثم فهو سبحانه وتعالى غير متحيّز لا هو جسم ولا جوهر، إلا إنه أيضًا ليس بعَرَض! والكلاميون قالوا بضرورة إخراج الحديث عن الله سبحانه وتعالى من هذه القصة وهذه التقسيمة. فحتى إذا قيل إنه "غير متحيّز" فإن عدم تحيّزه سبحانه وتعالى مختلف عن عدم تحيّز غيره!
ومن ثم رأوا أن المعلوم ثلاثة :
وكل يوم نكتشف فيه شيئًا فإنه يدخل من عالم الملكوت إلى عالم الملُك الذي نراه يتزايد عبر التاريخ البشري، كاكتشافنا للكهرباء، الموجات، وكـــ"الفيمتو-ثانية" وآلة التصوير التي نقلت التفاعل الكيميائي من عالم الملكوت إلى عالم الـمُلك (والذرة حتى الآن لا تزال في عالم الملكوت، حتى إن بعض المدارس لا تزال تنكر وجودها بناء على أمور فلسفية و أفكار فيزيقية معينة!).
كل هذه الأمور أثرت في العقلية المسلمة دون أن يقول أرسطو فيها شيئًا، إنما جاءت من اتباع ومتابعة العقيدة المستقرة.
وقد اعتمدوا على فكرة "الجوهر الفرد" هذه من أجل الإثبات العقلي والرياضي للوجود الإلهي ونفي المثيل. فقد نجم عنها رفض "التسلسل اللانهائي" رياضيًا؛ مما أكد القول بأن إلى الله المنتهى، كما نجم عنها رفض مسألة "الدور" والتي تعني أن الأشياء بينها علاقة إيجاد متبادل: هذا أوجد ذاك وذاك أوجد هذا ، بما يؤدي إلى حلقة مفرغة تشبه قصة البيضة والدجاجة كما أشرنا من قبل. فقد رفضوا ذلك على أساس أنه لابد من "بداية"ٍ خلق الله عندها أحد السببيّن فكان سببًا للآخر.
هذا في المتحيِّز، أما العرَض فقد قال أرسطو إن له تسعة أنواع، إلا إن المسلمين رأوا أن التحقيق يصل بهذه التسعة إلى اثنين فقط مرتبطين بسبع صفات (أعراض) أو أكثر، وقد صاغوا تقسيمة أرسطو للأولاد والمتعلمين –ساعتها- في صورة أراجيز بسيطة، فقالوا:
زيد الطويلُ الأزرقُ بنً مالكِ ** في بيته بالأمس كان مُتكي
بيده عودُ قد لواه فالتوى ** فهذه عشر مسائل سُــــوا
عرض العناصر...
انتهينا في آخر مرة تكلمنا فيها في هذه السلسلة عند الحديث عن العَرَض وأن أرسطو قال أن العرض له تسعة أنواع، إلا إن المسلمين رأوا أن التحقيق يصل بهذه التسعة إلى اثنين فقط مرتبطين بسبع صفات (أعراض) أو أكثر، وقد صاغوا تقسيمة أرسطو للأولاد والمتعلمين –ساعتها- في صورة أراجيز بسيطة، فقالوا:
زيد الطويلُ الأزرقُ بنً مالكِ ** في بيته بالأمس كان مُتكي
بيده عودُ قد لواه فالتوى ** فهذه عشر مسائل سُــــوا
زيد: الشخص وهو الجوهر أو الجسم المتحيّز، وهو على الجوهرية لا الجسمية، بينما الأعراض التسعة هي:
الطويل: |
الكمّ، ومنه المتصل (كالمتر...) و المنفصل (كعدد حبات القمح). |
الأزرق: |
الكيف، كاللون والصحة و الذكاء... وغيرها. |
ابن مالك: |
النسبة، المنسوب إلى مالك. |
في بيته: |
المكان. |
بالأمس: |
الزمان. |
متُكئ: |
الوضع: كراكع وساجد. |
بيده: |
الملِك، مثل "عندي" و"لي". |
لواه: |
الفعل. |
فالتوى: |
أثر الفعل. |
هذا ما قالوه عن أرسطو، غير أنهم قالوا إن هذا كله يمكن أن يسمى "النسبة". وهذه النسبة لا تقتصر على هذه التسع فقط، فقد تكون أكثر منها بكثير. الأمر الذي يبين لنا أن تعاملهم مع معارف الآخرين قام كعملية انتقائية، لا كتقليد أعمى.
وإذا استطعنا أن نحدد هذه العشرة (المتحيّز و العَرضَ بصفاته التسع)، أمكننا أن نحدد ونشخص الوقائع والأحوال تشخيصًا كاملًا في لحظتها الآنية بما يقارب الصورة الفوتوغرافية. لقد أفاض ذلك على المسلمين الكثير في توصيف ظواهر الواقع ورصدها، وهي المهمة الأساسية التي تشغل بال الباحث في العلوم الاجتماعية الإنسانية الحديثة بدرجة كبيرة.
إن هذا الاستعراض لجانب رئيس من كيفية إدراك الموروث الإسلامي للوجود من حوله وأثره على إدراك الوقائع الجزئية، يدفعنا لإعادة النظر في هذا الموروث وسبر أغواره. إن تعبيراته في مجال الرؤية الكلية -على اختصار عباراتها- قد تنْبِئ بأن الكثير من نظريات القرن العشرين ومكتشفاته قال بها المسلمون، لكن بألفاظ أخرى معبرة عن لغتهم التي نسعى لفهمها والاقتراب منها.
فمثلاً، لماذا يُعد الضوء –بالأساس- هو أسرع شيء في حركته؟ إجابة النظريات الحديثة -كما في نظرية "الفوتونات"- تدور حول أن الضوء لا يسير في خطوط مستقيمة إنما في تموّجات وفي تقطعات، وهذا يعني أن هذا الضوء يفنى ثم يأتي غيره في لحظات تقدر بالفيمتو-ثانية وأقل. وهذا نفس ما قررته الرؤية التراثية الإسلامية لكن بألفاظ مختلفة: أن كل الأعراض -ومنها الضوء- غير ثابتة، تفنى وتحيا في ما يقترب من اللازمن.
وكذلك استخلص المسلمون عقليًا من مجموع المصادر السابقة التي نوهنا بها، وبناء على العقيدة الإسلامية التي تقول: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن : 29]، استخلصوا نظرية أساسية تسمى "نظرية الإيجاد والإمداد".
فهناك إيجاد (أي خلْق) (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) [مريم : 67]، وهناك إمداد، وهذا الإمداد (كُن فَيَكُونُ) [البقرة : 117], مستمر متواصل لا ينقطع، ولو أن الله سبحانه وتعالى قطع هذا الإمداد لأفنى المقطوع عنه، وليس معنى ذلك أن يموت، فالموت خلْق جديد (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ) [الملك : 2]، بل يفنى أي يصير إلى عدم محض،. فالله سبحانه وتعالى لا يزال خالقًا، وقطعه الإمداد –ولله سبحانه وتعالى المثل الأعلى- هو كقطع التيار الكهربائي عن المصباح فتختفي الصور وينطفئ نور الشاشة.
فالإمداد هو الذي يحفظ الإيجاد ويعطيه الحيوية، وهو من الله وحده لا يشاركه فيه أحد، ومن هذا فهموا معنى (لا حول ولا قوة إلا بـالله) بمعنى انقطاع كل قدرة أو حول أو طاقة إلا بعون الله ومدده، وفهموا دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تكلني إلى نفسي طرفة عين) [رواه النسائي] لأنه لو أوكلني إلى نفسي فسوف أفنى، فلا حول لي و لا قوة في أن أوجد نفسي أو أن أبقيها إلا بالله العلي العظيم، وإذا وصل معتقد الفرد إلى هذا، وصل إلى درجات التوكل والتفويض، والانصراف إلى الله بكلية القلب والفكر والهمة في العبادة والحياة. فأنا منه وإليه، ومن ذلك أيضًا نفهم المناجاة النبوية: (لبيك وسعديك, والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك) [رواه مسلم].
كانت هذه هي العقيدة السائدة حتى القرن التاسع عشر الميلادي، لكنها كانت حاضرة بالأساس في النخبة. فالأمة اليوم جهِلت وتحولت إلى أمة أميَّة تجهل دينها وقرآنها، تقريبًا منذ ما بعد القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)؛ حيث انتهى عصر توليد العلوم وبدأ عصر الزخم العقيم. فعلى سبيل المثال يقيم (الفخر الرازي) حفلًا ضخمًا ليعرض فيه ألف دليل على وجود الله سبحانه وتعالى بينما كان تعليق إحدى العجائز على ذلك: أكان لديه ألف شكًّ في وجود الله؟ فهذا مما نقصده بالزخم العقيم.
ومن ناحية أخرى، فلابد من ملاحظة أن أسس بناء الحضارات شيء، وما تقوم عليه هذه الحضارات من فلسفة ورؤى شيء آخر. لكن هناك خلطًا شائعًا بين الفلسفة المؤسسة للحضارة وبين الواقع الماثل لها؛ الأمر الذي يثير العديد من الجدالات. فالتقدم الحضاري له قوانينه، والتميز الحضاري له قواعده.
عرض العناصر...
إن أسس بناء الحضارات شيء، وما تقوم عليه هذه الحضارات من فلسفة ورؤى شيء آخر. لكن هناك خلطًا شائعًا بين الفلسفة المؤسسة للحضارة وبين الواقع الماثل لها؛ الأمر الذي يثير العديد من الجدالات. فالتقدم الحضاري له قوانينه، والتميز الحضاري له قواعده.
وقد تقدم المسلمون وهم يجيبون عن هذه الأسئلة الكبرى كأسئلة كلية أولية، وكذلك تقدم الغرب دون أن يجيب عنها! فهذه القضية وإن كانت تؤثر في صبغة الحضارة، إلا أن عملية البناء الحضاري لها وسائل أخرى. فالرؤية الكلية الخاصة بالمسلم تطلب منه أن يعبد الله، ومن ثم فإنني أبني كل حضارتي على: عبادة الله عز وجل فهي حضارة تعبُّد، وعلى عمارة الكون: ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود : 61] ومن ثم إذا تعارضت عملية البناء مع العمران وكانت ذات مفاسد، فإن منظوري يمنعني من المضي في هذا السبيل ويضطرني للبحث عن غيره، فمثلا لا أخترع الطائرة الخارقة للصوت التي تفسد الأوزون وأبحث عن درء المفاسد قبل جلب المنافع!
وليس معنى هذا أن الآخر -الذي جعلها أسئلة نهائية وعاش بالشك- قد تقدم وبنى حضارته لأنه هكذا، فالأساس هو السعي والجدية والاتساق. والغربي المعاصر سعى وعمّر دنياه على فلسفات ومفاهيم البراجماتية والتقنية والمادية، وسيادة مفهوم "السوق" وغيره، وانتهى إلى بناء هذه الحضارة بالحال التي هي عليها، وبنى حضارته بالجدية: أن يعمل بإتقان، أن يجيد العمل في فريق وبروح الجماعة، ولأهداف محددة، وبوسائل ملائمة...الخ. . وفي الغرب اتسق واقعهم مع فلسفتهم حتى لو كانت فلسفة كفر وإلحاد، وبالاتساق يأتي الاستمرار.
وقد خفت صوت الحضارة الإسلامية وخَبَت نارها لاختفاء الروح الجادّة منها بعدما كانت سائدة شائعة في الأوائل كما نلحظه من مطالعة تراثهم، حيث بلغوا قمة المحبة والخوف والمعرفة في تعلقهم بربهم ودينهم، وغاية الإتقان والجهد والتأنّي في بناء دنياهم على أساس ذلك.
واستكانت الحضارة الإسلامية عندما فقدت (الاتساق): الاتساق بين العقيدة والسلوك، بين الرؤية والنظام السائد: سياسّيا كان أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا.
إن أسس الحضارة الإسلامية تراجعت بعد نحو الألف عام التي كان المسلمون فيها ينتجون حضارة وعلومًا، فبهتت خطوط المصحف وهبطت الفنون وتشرذم البرنامج اليومي للمسلم، ليس لأن الفلسفة والرؤية المؤسِّسة كانت معيبة أو معاكسة لحركة التقدم، بل لمخالفة المسلمين لسنن التقدم الحضاري المشار إلى بعض منها.
ومن حيث البقاء فهناك حضارات بادت وعقمت؛ لأنها قدمت البنيان على الإنسان، أما حضارة الإسلام فقد بقيت -وإن تراجعت- لأنها قدمت الإنسان على البنيان، وهذا ليس له علاقة بالتقدم.
لكن لماذا اختفت هذه العقلية التراثية؟ وما المشكلة التي آلت إلى الانفصال بين النص والواقع؟ إن المشكلة أن الإنسان المالك للنموذج المعرفي والمرجعية لم يعد يتعرض للمشكلات الواقعية وجذورها وما ورائياتها، حدث هذا في مصر منذ عصر محمد علي ومشروعه حين فصل بين نوعي التعليم: مدني وديني،.. ومنذ أن قيل لرجل العلم الشرعي: إنك رجل دين لا رجل دنيا؛ ومن ثم يجب أن تبقى معزولاً عن مثل هذه الأشياء التي تجري في الواقع.
اليوم يقال له : لماذا لا تجتهد في إعطاء الحكم الإسلامي والحل الإسلامي لهذه المشكلات ؟ وأين هو منها ؟ وبالمثل يُفعل مع الواقعي المتصرّف أو دارس العلوم الاجتماعية الحديثة، حين يُطالب بأن يكون إسلاميًا وهو منعزل تمامًا عن تعلم أي شيء في هذا!
لقد آل ذلك إلى غياب الشريعة الإسلامية ومن بعدها ضعف العقيدة في واقع الأمة. فعلى سبيل المثال لما جاء الخديوي إسماعيل –في مصر- ساعيًا بالأساس للتحرر من الدولة العثمانية والتي كانت لها ظلالها المعنوية الكثيرة كدولة خلافة إسلامية، ولما رآها تدعو إلى تطبيق الشريعة على النسق الذي ظهر في "مجلة الأحكام العدلية"، ومع سعيه هو للانفصال دعا "مجدي صالح باشا"، فأقام تقنينًا للشريعة الإسلامية إلا أنه لم يعُمل به حتى بعدما تم طبع ترجمته؛ لأنه ظل حبيس الأدراج.
أمر آخر له أهميته في فهم التراث وهو ما يسمى بالفلسفة اللغوية إذ تلعب دورًا مهمًا جدًا في فهم التراث، فبعد فهم التصور الكلي الذي سيطر على الأذهان تلقياً وأداءً وفهماً للكون و الإنسان والحياة. فاللغة موروث وليست مخترعاً، أي إن وضع الألفاظ بإزاء المعاني أمر يرثه الإنسان و لا يصطنعه. ومن أجل ذلك كان لابد عليه أن يدرك ذلك الوضع، فيفهم دلالات الألفاظ، وقد اهتم المسلمون القدماء جداً بهذه القضية: قضية دلالات الألفاظ.
ودلالات الألفاظ جعلتهم يتكلمون عن قضية "الجذور اللغوية" التي هي موجودة في المعاجم، لبناء النظام الصرفي الذي يُخرِج من هذه الجذور الفعلَ الماضي، والمضارع و الأمر، واسم الفاعل واسم المفعول، والمصدر، والصفة المشبًّهة، واسمي المكان والزمان ... وسائر أنواع التصاريف اللغوية التي تستعمل في مواطن شتى. وهذا درسوه بتفصيل كبير جدًا، وكشفوا من خلال هذه الدراسات أشياء كثيرة، نسميها الفلسفة اللغوية.
عرض العناصر...
تلعب «الفلسفة اللغوية» دورًا مهمًا جدًا في فهم التراث، بعد فهم التصور الكلي الذي سيطر على الأذهان تلقياً وأداءً وفهماً للكون والإنسان والحياة. فاللغة موروث وليست مخترعاً، أي إن وضع الألفاظ بإزاء المعاني أمر يرثه الإنسان ولا يصطنعه. ومن أجل ذلك كان لابد عليه أن يدرك ذلك الوضع، فيفهم دلالات الألفاظ، وقد اهتم المسلمون القدماء جداً بهذه القضية: قضية دلالات الألفاظ.
ودلالات الألفاظ جعلتهم يتكلمون عن قضية «الجذور اللغوية» التي هي موجودة في المعاجم، لبناء النظام الصرفي الذي يُخرِج من هذه الجذور الفعلَ الماضي، والمضارع و الأمر، واسم الفاعل واسم المفعول، والمصدر، والصفة المشبًّهة، واسمي المكان والزمان ... وسائر أنواع التصاريف اللغوية التي تستعمل في مواطن شتى. وهذا درسوه بتفصيل كبير جدًا، وكشفوا من خلال هذه الدراسات أشياء كثيرة، نسميها الفلسفة اللغوية.
والحقيقة أن دراسة هذه الفلسفة اللغوية بمثل هذه الخطوات التي سوف نــتـعرض لها يجعل الإنسان أكثر فهماً سواء للنصوص الشرعية أو للكتابات التراثية. ولنبدأ من المكون الأساس للكلمة وهو الحرف. والحرف له نوعان: حروف المباني، وحروف المعاني.
حروف المباني:
حروف المباني ثمانية وعشرون حرفاً في لغة العرب، وكانت قديماً مصاغة في صورة تسمى "الأبجدية"؛ لأنها كانت تبدأ بكلمة "أبجد":(أبجد هوًّز حُطّى كَلَمُن، سعفص قرشت ثخذُُُ ضظغُ). ثم تم تطويرها فيما بعد، حتى وصلنا إلى نظام يُسّمى النظام الهجائي أو الألفبائي، وهو النظام الذي تعلمنا عليه حديثًا (أ،ب،ت،....،هـ،و،ي)، وسمّي الهجائي لأنها الحروف التي نتهجَّى الكلمة بها.. هذه الحروف تسمى حروف المباني، وهي لا معنى لها، فالألف وحدها لا معنى لها في اللغة العربية!
وبالمناسبة، تشترك اللغات السامية في اثنين وعشرين حرفاً، وتنفرد العربية عن بعض اللغات السامية في ستة حروف. والأبجدية أيضاً كانت تشير إلى هذا فمن (أبجد) حتى (قرشت) هذه هي الاثنين والعشرين حرفاً التي تشترك فيها العربية مع العبرية والآرامية والسُّريانية والحبشية وهكذا. أما (ثخذُ ضظغُ) فتنفرد بها العربية عن اللغات الأخرى. ولذلك يسمّون هذه الحروف الستة بـ«الحروف الروادف»؛ لأنها مُردَفة أي ملحَقة. وهذه الاثنان والعشرون حرفًا المشتركة –تقريبًا- هي الحروف اللاتينية أيضاً، مع إسقاط الحاء وإضافة الثاء.
فهذه حروف المباني التي يهتم بها الذين يدرسون "الأداء الصوتي" ودارسو "التجويد". وقد صنفها القدماء واستنبطوا لها صفاتٍ ومخارجَ، وحقًّا ومستحقًا: الحق يعني إخراج الحرف من مخرجه الخاص به: من الحلق ومن وسط اللسان، ومن طرف اللسان، ومن مجموعة الأسنان، ومن الشفتين، ومن الخيشوم أو الأنف. والمستحق مراعاة موضع الحرف من الحروف المجاورة له وأثر نطق الحروف على بعضها البعض. ولهذا، فإن من الإعجاز أن القرآن الكريم ورد إلينا بالأداء الصوتي نفسه الذي تركه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي بالطريقة الصوتية المعيَّنة التي تجعل كل حرف له اعتبار. وهناك جدول يحفظه رجال التجويد، وله أداءات مفردة، وأداءات مركّبة، ثم يتراكب ثم نتعلم علم التجويد في أحكام التنوين والنون الساكنة وأحكام الميم والراء واللام، وحروف المد.. وغير ذلك.
فحروف المباني –وإن لم تكن لها معانٍ في ذاتها- إلا أن الأداء الصوتي الصحيح لها هو من الضرورة بمكان في ثقافة أمية اعتادت على نقل تراثها مشافهة، ونقلت بهذه الطريقة كتاب الله عز وجل وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد ارتبط بذلك فنون الفصاحة والخطابة والبيان في التراث الإسلامي، وهي فنون لا تزال لها مكانتها، بل وتعد من المهارات الاجتماعية والسياسية التي تدرس ويعنى بها في الحضارات المختلفة.
حروف المعاني :
وهي الحروف التي يؤدي كل واحد منها معنًى معينًا، وهي في اللغة العربية تسعون حرفاً، على خمسة أقسام:
منها ما هو حرف واحد مثل: الواو، الباء، الكاف، الفاء، اللام...، ومنها ما هو حرفان مثل: من، في، عن، لن، إنْ ...، ومنها ما هو مكون من ثلاثة حروف مثل: إلى، على، ثمَّ، إنَّ...، ومنها المكون من أربعة مثل: لعلّ، كأنَّ، ومنها ما هو من خمسة مثل: لكنَّ (وهي تُنطق: لاكنَّ بألف مدٍّ، لا تكتب، وبشدّة على النون). وليس هناك ما هو مكوّن من أكثر من خمسة حروف.
هذه التسعون حرفاً، إما أن لهم عملاً أو ليس لهم عمل، أي إما أن تؤثر فيما بعدها أو لا تؤثر، فبعضها يَجرُّ، وبعضها يَنصبِ، وبعضها يَجزم، وبعضها لا عمل له ولا أثر. لكن الأثر شيء والمعنى شيء آخر. فهذه الحروف تَسُتعمل في ستة وخمسين معنى. والمعاني الستة والخمسون منها: الابتداء, والغاية، والانتهاء، والتبعيض، والظرفية، والاستعلام، والاستفهام، والقَسَم، والتحضيض، والتمني، والترجّي، والتأكيد، وهكذا.
وعندما نرسم جدولاً فيه الـتسعون حرفاً بصورة رأسية تقابلها الـست والخمسون وظيفة بصورة أفقية، نجد أن الحرف الواحد قد يدل على معنى أو اثنين أو حتى قد يدل على نحو خمسة عشر معنى! فمثلا "الباء" تدل على أشياء كثيرة منها: المصاحبة، الملابسة، الابتداء، الظرفية، السببية.
عرض العناصر...تكلمنا فيما سبق عن الفلسفة اللغوية وعلمنا الفرق بين حروف المباني، وحروف المعاني، ورأينا أن فهم فلسفة حروف المعاني هذه ينقل الإنسان إلى أعماق أخرى، وترتقي بتعامله مع التراث الذي كُتب بالعربية –وعلى يد فقهاء لغة مدركين لفلسفتها- إلى آفاق عالية، حتى يجد الإنسان وكأنه قد انفتح على نور بعد الظلام.. لأن الانبهار الشديد بالقرآن –الذي يجب أن يتمتع به المؤمن- يأتي من إدراكه وفقهه لمجموعة من القواعد الأساسية، أولها إدراك فلسفة اللغة وفلسفة الحروف. وقد أدرك ابن هشام هذه المسألة، وأن اللغة العربية يمكن أن يكون لها مدخل من حروف المعاني، فألف كتابًا ماتعًا أسماه "منع اللبيب عن كتب الأعاريب": أي دعك من كتب النحو والإعراب هذه وتعالَ نفهم العربية جيداً بطريق أخرى. وهو كتاب يجعل المدخل لفهم العربية قضية حروف المعاني.
ثم هناك قضية الفارق بين الأثر وبين المعنى في الحرف : والأثر هو ما يصنعه الحرف بما بعده من حالات الإعراب "الجزم ، النصب، الجر...". فهناك عشرون حرفّا من التسعين تجّر ما بعدها وتسمى حروف الجرّ:
هاك حروف الجر وهي: من، إلى، ** حتى، خلا، حاشا، عدا، في، عن، على
من، منذ، ربَّ، اللام، الكاف، واوٌ ، وتا ** والباء، والكاف، ولعل، ومتــى
وهناك حروف أخرى تنصب وتسمى حروفاً ناصبة، كأن تنصب المبتدأ وترفع الخبر على خلاف (كان) وأخواتها، وهي:
أما كان وأخواتها فترفع المبتدأ وتنصب الخبر.
ترفع كان مبتدًا اسمًا، والخبر ** تنصبه، كــــ" كان سيدًا عمر"
هذه الحروف أيضاً مقسمة إلى أقسام: منها ما يدخل على الفعل ومنها ما يدخل على الاسم ومنها ما يدخل على كل منهما، ومنها ما له أثر ومنها ما ليس له أثر، ومنها ما له معنى واحد ومنها ما له أكثر من معنى أو وظيفة.
فـ"هل": لا أثر لها، ومعناها أو وظيفتها الاستفهام، وتدخل على الفعل والاسم، و"في": من حروف الجر باعتبار الأثر، ومن حروف الظرفية باعتبار المعنى، ولا تدخل إلا على الاسم، و"لم": من حروف الجزم باعتبار الأثر، وهي تنفي باعتبار المعنى، وتدخل على الفعل فقط.
ولكل حرف استعمالاته الممكنة ولا يمكن استعماله في غيرها، فلا يصح أن نأتي بحرف مثل (الكاف) للاستفهام؛ لأن الكاف لا تستعمل للاستفهام، ولا يمكن أن نستعمل الحرف (في) للسببية؟
والحرف يستعمل في معنى معين بشكل مكثف أو أكثر تداولاً، ثم بصورة أقل قد يستعمل في معانٍ أخرى. فالباء –مثلاً- هي في الأصل للسببية، أما عبارة (ببدر) التي جاءت فيها للظرفية فهي قليلة؛ ولذلك ليس هناك سوى هذا المثال.
فهل يمكن أن يستعمل اللفظ أو الحرف في معنيين مختلفْين حقيقةً؟ نعم، وهذا ما يُسمى بالمشترك، حيث يكون معنياه على الحقيقة وليس فيه مجاز. وسوف نتعرض له لاحقًا.
التعـلق:
هذه الحروف حروف معانٍ؛ بمعنى أنها مرتبطة في التكوين للجملة العربية بفعل. وهذا ينقلنا إلى شيء آخر. فنحن حتى الآن نتكلم في المفرد؛ أي في الألفاظ، في الحروف، مبانٍ ومعانٍ، كألفاظ وحروف مفردة، لكن عندما تتحول إلى التركيب في جملة فإنها تتحول إلى قصة أخرى، لابد من الوقوف عليها من أجل الفهم الأعمق الذي نحن بسبيله. هذه الحروف -في التركيب- لابد أن تتعلق بفعل أو ما يقوم مقام الفعل، سوف نرى -لاحقًا أيضًا- لماذا الفعل أو ما يقوم مقام الفعل؟ و ما هو الذي يقوم مقام الفعل في الواقع المعيش؟ إنه منطق أتوا به من التجربة الخارجية، حتى أصبحت اللغة كأنها كائن حيّ في نموها وفي تفاعلها.
فكل حرف له فعل مختص به، هذه أول حقيقة. فالأفعال نوعان: فعل يتعدَّى إلى المفعول ويرتبط به مباشرة، وفعل يرتبط بالمفعول عن طريق حرف، وهذا النوع الثاني -الذي يسمى الفعل اللازم- فيه لكل فعل حرف، أو قل لابد لكل حرف من فعل.
ومن ثراء اللغة وعمقها ما يسمى بالتضمين والإضمار: أي إنهم قد يستعملون أحياناً حرفاً آخر مع الفعل وليس الحرف الخاص به، وهم يعنون بذلك أن هذا الفعل قد امتلأ بفعل آخر وأصبح أمامي فعلان: فعل أنطق به وفعل آخر أضمنه مع معنى الفعل الأول. من أين أتى إدراكي لهذا الفعل الآخر الكامن؟ جاء من الحرف.
يقول ربنا سبحانه وتعالى : ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ [البقرة : 14]. وبالبحث في اللغة نجد أن "خلا" ترتبط بحرف (الباء) وليس (إلى)، وفي الحديث (لا يَخْلُوَنَّ رجلٌ بامرأة) [رواه مسلم] وهو في كلام العرب وشِعرهم قد استقر على ذلك. فكأن أصل القول هو: "وإذا خلو بشياطينهم"،. فماذا عن (خلوا إلى)؟
الحقيقة أن الفعل قد تشبَّع بفعل آخر يأتي معه الحرف (إلى) وهو (الاطمئنان)؛ لأن مما يصلح في هذا السياق (اطمأن إلى). وبالتالي فالعبارة تكون عند فكّها: "وإذا خلوا باطمئنانٍ إلى شياطينهم قالوا إنا معكم". من أين جئت بالاطمئنان؟ من الحرف.
عرض العناصر...يقول ربنا سبحانه وتعالى : ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ﴾ [البقرة : 14]. وبالبحث في اللغة نجد أن "خلا" ترتبط بحرف (الباء) وليس (إلى)، وفي الحديث (لا يَخْلُوَنَّ رجلٌ بامرأة) [رواه مسلم] وهو في كلام العرب وشِعرهم قد استقر على ذلك. فكأن أصل القول هو: "وإذا خلو بشياطينهم"،. فماذا عن (خلوا إلى)؟ هناك فهم أعمق للخلو. ولو لم أكن أعرف إزاءها قاعدة التضمين (تضمين فعل آخر يعبر عنه حرف) لم أكن لأصل إلى هذا المعنى العميق الذي يصور حالة نفسية من العناد، حالة من النية المبيّتة، من استقرار النفاق في قلوبهم باعتباره أمراً مطمأنًا إليه لا رجعة فيه. هذا يعطيني أحكامًا وتصورات أخرى غير تلك المفهومة من مجرد أن أحدهم خلا بآخر. وكل ذلك في كلمة واحدة، بل في حرف واحد هو (إلى).
ومن التعلق في التركيب أيضاً نجد (بسم الله الرحمن الرحيم)؛ حيث نجد حرف (الباء)، ونعتقد تلقائيًا أن هذا الحرف سيكون متعلقاً بفعل، فأين الفعل هنا؟ غير موجود! إذن لابد أن أقدَّره أي أتخيله. ويأتي هنا نوع من أنواع الوعي والفهم العميق للمناسبة التي لابد فيها أن أقدّر شيئاً غير موجود أمامي، وهذا ما يسمونه (الإضمار). وما الذي يكشف لي ذلك ويدفعني إليه؟ إنها القاعدة التي ذكرناها: إنه لابد لكل حرف في اللغة العربية أن يتعلق بفعل. فأين الفعل؟ ما المناسب؟
يمكن أن يكون التقدير عامًّا غير محدد المجال: نبدأ أو أبدأ بسم الله الرحمن الرحيم، ويمكن أن يكون تقديرًا خاصًّا محدد المجال: أقرأ أو تقرأ بسم الله الرحمن الرحيم.
وقد يكون التقدير بالفعل "أبدأ، أقرأ..."، أو بما يقوم مقام الفعل كالمصدر مثلاً: ابتدائي أو قراءتي باسم الله. وقد يكون المقدَّر مقدماً: "ابدأ باسم Q"، أو يكون مؤخراً: "باسم Q أبدأ". ثمانية احتمالات. وهذه الاحتمالات الثمانية أتخير منها الأرجح والأنسب.
إذن الحروف لها قصة كبيرة أخرى. إننا ينبغي ألا نقف فقط عند أثر الحرف، و لا حتى عند وظيفته، بل ينبغي أيضاً أن نبحث في سائر قضايا اللفظ: قضايا الاشتقاق، وقضايا الاشتراك، وقضايا الحقيقة والمجاز، بل نبحث أيضاً في الجملة: التركيب والسياق والسباق
واللحاق وغيرها. وما هذا الاستعراض إلا محاولة لاستفزاز العقل المعاصر لارتياد هذه الرحلة الضرورية
أول أحوال اللفظ "الاشتقاق":
عندما جمعنا الكلام العربي وجدناه غالباً ما يتكون من ثلاثة حروف. بالطبع وجدنا بعضاً من الكلمات التي تتكون من حرفين ومن حرف مثل الحروف (و، أو)، لكن الكلمة في الأغلب أصلها ثلاثة حروف. ووجدنا عندنا ثمانية وعشرون حرفاً نريد أن نكوّن منها كلمات من ثلاثيات؛ (أي كل كلمة ثلاثة حروف)، فإنه بالتباديل والتوافيق يظهر لدينا نحو خمسمائة مليون احتمال لكلمات, هذا في إمكانية أن أكّون ثلاثيات. لكن ما ورد إلينا من لسان العرب لا يزيد عن ثمانين ألف جذر لغوي، والباقي مهمل.. فالذي استعمله العرب من المتاح أقل بكثير جداً من الذي أهملوه، كأن المستعمل نحو اثنين في الألف (0.2%) من المتاح.
هذه الثمانون ألف جذر تكون ما يقرب من مليوني كلمة إلا قليلاً. فالجذر هو الثلاثي (أَكَلَ) والكلمة هي الجذر ومشتقاته: (آكل، آكل، مأكول، أكلة، مأكلة...الخ).
وعندما نقارن العربية باللغة الإنجليزية -باكسفورد مثلاً- نجد أن الكلمات التي تقابل ما عندنا نحو (860) ألف كلمة غير الذي دخل في الإنجليزية من الجرمانية والعربية واللاتينية وغيرها، هذا في اكسفورد الكبير (الذي يبلغ نحو خمسة وعشرين مجلداً). الكلمات في وبستر لا تزيد عن مائة ألف كلمة ( كلمة لا جذر)،و الكلمات في (مايكل ويست) نحو أربعة وعشرين ألفًا. أما في اللغة العربية فلدينا: ثمانون ألف جذر في لسان العرب لابن منظور، وهو أكبر موسوعة موجودة في هذا الباب. منها ثلاثون ألف جذر، في المعجم الوسيط الذي أصدره مجمع اللغة العربية في مصر. وأربعون ألفاً في القاموس المحيط للفيروزآبادي.
كم جذر من هذه الجذور يشتمل عليها القرآن الكريم؟ يحوي القرآن (1840) جذرًا؛ أي أقل من2.5 ٪ من الجذور المستعملة في اللغة. وهذا ينبئ أن الأمر سهل شيئاً ما، لأنني لو أتيت بهذه الجذور الــ(1840) وتعاملت معها بهذا العمق، فسوف أتمكن من فهم القرآن بعمق أكثر، وأتمكن –مع بعض قواعد المستويات المختلفة للفهم- أي أن أفهم فهماً آخر.
ومن ناحية أخرى، فإنه بعد الجذر تأتي الفروع، والفروع تسمى المشتقات، والتفريع يسمى الاشتقاق، وهذا الاشتقاق يتم على قواعد وأوزان فيما يسمى بالصرف أو التصريف. وهذه الأوزان لها معانٍ ودلالات عامة في كل الكلام. فالوزن يمكن أن يستعمل لقضية أو معانٍ معينة مثل: ما كان على وزن "فعْلَلَة" له علاقة بالصوت: صلصلة، سَلْسلة، بلَبلة، جلجلة...الخ، وما كان على وزن "تفاعَلَ" يعبر عن علاقة بين طرفين، مثل: تبايع، تشاجَر، تقاتَلَ...الخ.
عرض العناصر...الاشتراك في اللغة العربية هو أن اللفظ الواحد يحتمل أكثر من معنى، والارتباط أن المعنى الواحد تعبر عنه الألفاظ المتعددة، والافتراق يعني أن هناك فرقًا بين معنيين للفظين رغم التشابه.
فعلى سبيل المثال، هناك فرق بين الفقير والمسكين رغم التشابه الظاهر، ورغم استخدامنا اللفظين كمترادفين في كثير من الأحوال. فليس من المعقول أن يقول الله سبحانه وتعالى ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ﴾ [التوبة : 60]، ويكون الفقير هو المسكين، والمسكين هو الفقير، لابد أن يكون هناك فرق. فكأن الفقير هو المعدِم، كالذي يملك دَخْلَ فردين وهو يعول عشرة أفراد، فالفجوة كبيرة، والمسكين أحسن حالاً كالذي معه دخل سبعة أفراد ويحتاج لكفاية عشرة.
هنا شيء لطيف، يقولون: إذا اللفظان في الذكر قد اجتمعا، فإنهما قد افترقا في المعنى. وإذا في الذكر افترقا، ففي المعنى قد اجتمعا.
الكذب والبهتان والافتراء، ما الفرق؟ إذا افترقت هذه الألفاظ اشتركت في التعبير عن معنى الكذب، وإن كانت بدرجات وصور مختلفة. فالكذب حكاية عن الواقع بما هو غير الواقع؛ أي بالتغيير فيه. أما الافتراء فحكاية عن أمر لم يحدث من الأصل؛ أي يقوم المفتري بتأليف القصة. أما البهتان ففيه إيقاع الإيذاء على المكذوب عليه. فإذا ذكرت هذه الألفاظ متلازمة، تبين الفرق واضحًا، وإذا ذكرت كل واحدة على حدة فتعطي معنى الكذب .. وهكذا.
وهذه الجزئية يمكن أن نضعها في الخصائص اللغوية، فهناك الاشتراك، والارتباط، والفروق.. وقد ألف القدماء في هذا الباب كتبًا تحت عنوان "الفروق"، وهو مبحث يحتاج إلى دراسة متعمقة للمضي في رحلة التعرف على العقل التراثي المسلم.
اللفظ بين الحقيقة والمجاز:
أيضًا من خصائص اللفظ العربي الحقيقة والمجاز. عندما أقول: رأيت أسدًا للحيوان المفترس، فهذا حقيقة، وإذا قلت: رأيت أسدًا لأعني شخصًا شجاعًا فهذا يعتبر مجازًا. إذًا الاستعمال يؤثر في اللفظ. وهذا باب واسع تـتبين بعض معالمه في مواضع تالية.
هذا عن خصائص اللفظ في اللغة العربية بشكل رمزي، لكنها في الواقع قصة كبيرة تحتاج إلى اجتهاد من الباحث المعني بمطالعة التراث.
التركيب: الجملة العربية
لابد أن ندرس التراكيب اللغوية. فالجملة العربية مكونَّة من ركنين ظاهرين وركن ثالث خفي:
مثال: المؤمنون مفلحون، وقد أفلح المؤمنون. فقضية الفلاح أسندت إلى (المؤمنين). المؤمنون مسند إليه، أو موضوع أتحدث عنه، والمسند (مفلحون، وقد أفلح). وفي النهاية عندي ثلاثة عناصر: اثنان ظاهران وهما المسند والمسند إليه، وثالث معنوي وهو عملية الإسناد نفسها.
النحو:
العرب لهم الفضل في نطق هذه الجملة بطريقة صحيحة منضبطة على وجوه الإعراب؛ أي علم النحو. والنحو أو الإعراب هو الضابط الذي يمنح الجملة معناها، وهو قادم من المعنى أيضًا، كما قالوا: "الإعراب وليد المعنى". فالمعنى يتخلق في الذهن كتصور، ثم يريد المرء أن يخرجه في كلام، فتبدأ عملية "التعبير" التي لابد أن تتكون على أرضية اللغة.
فتبدأ بإدراك حروف البناء (حروف المباني) ومنها تكوِّن اللفظ بالصرف (تطوير المشتقات من الجذر اللغوي الثلاثي غالبًا)، ثم تتحرى حال اللفظ في علاقته بسائر الألفاظ (الاشتراك والارتباط والافتراق و...) وتتحرى عادة الاستعمال (الحقيقة والمجاز، التقديم والتأخير...) ووظائف الألفاظ (المعاني والدلالات)، ثم تركيب الجملة بضم المسند إلى المسند إليه. وهذا التركيب أو الضم الأخير ليس مجرد رص كلمات إلى جوار بعضها البعض، فقد لا تؤدي المعنى المطلوب.
ففي المثال السابق لا يصح أن نقول: مفلحون المؤمنون، ولا أن نقول: قد المؤمنون أفلح. فهذه تراكيب غير صحيحة، والسبب عدم تحري قواعد النحو التي "تُعرب" عن المعنى وتخرجه واضحًا عند تجميع الألفاظ، على نحو منضبط.
وهناك قواعد للإعراب وأدوات وآليات يسهل التدرب عليها، وهي تستوعب كافة أحوال الجملة العربية، وأحوال الألفاظ (الحرف والفعل والاسم) فيها: كالفعل متى يكون مرفوعًا؟ ومتى يكون منصوبًا أو مجزومًا؟ فهناك أدوات ناصبة، وأدوات جازمة، وهي أدوات تمنح الفعل شكلاً من النصب والجزم كما تمنحه معنًى من النفي أو الأمر أو النهي أو التعليل...الخ.
كذلك الاسم يقع بين الرفع والنصب والجر حسب حالته في الجملة وما يتقدمه من أدوات وكلمات. فهو مرفوع على أنه مبتدأ، أو اسم لـ"كان وأخواتها" التي ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، أو خبر لــ"إنَّ وأخواتها" التي تنصب المبتدأ وترفع الخبر. وما إلى ذلك.
عرض العناصر...