المرأة في الحضارة الإسلامية: نماذج حضارية (٢)
يشهد التاريخ الإسلامي بتولي المرأة العديد من المراكز القيادية في المجتمع الإسلامي، فكما تولت المرأة منصب الحاكم، تولت أيضاً مناصب أخرى لا تقل في أهميتها عن منصب القائد، فتولت مناصب القضاء، والإفتاء والحسبة «السلطة التنفيذية»، وشاركت المرأة كذلك في الحروب وميادين العلم، وأثبتت جدارة وكفاءة سجلها التاريخ بين أوراقه، فعن منصب القضاء اختلف فقهاء المسلمين في حكم تولي المرأة القضاء، فذهب الجمهور إلى عدم جواز توليها القضاء مطلقاً، وذهب الأحناف إلى جواز توليها القضاء فيما تصح شهادتها فيه من الأحكام، وذهب آخرون إلى الإباحة المطلقة لقضاء المرأة في جميع الأحكام، وهم الإمام محمد بن جرير الطبري، وابن حزم الظاهري وابن طراز الشافعي وابن القاسم، ورواية عن الإمام مالك، ورغم ذلك فإن المصادر التاريخية لم تسجل لنا إلا حالة واحدة تولت فيها القضاء امرأة، وهي ثمل قهرمانة شغب أم المقتدر.
وكانت «ثمل» من ربات النفوذ والسلطان في الدولة العباسية أيام المقتدر، فكانت الساعد الأيمن لأم المقتدر، تلي شؤون الدولة وسياستها، وبلغ من اعتماد أم المقتدر على ثمل أن أمرتها تجلس بالرصافة سنة ٣٠٦ هـ للمظالم، وتنظر في كتب الناس يوما في كل جمعة، فأنكر الناس ذلك واستبشعوه وكثر عيبهم له والطعن فيه، فجلست أول يوم فلم يكن لها فيه طائل، ثم جلست في اليوم الثاني وأحضرت القاضي أبا الحسن بن الأشناني فحسن أمرها وأصلح عليها، وخرجت التوقيعات وعليها خطها على سداد، فانتفع بذلك المظلومون، وسكن الناس إلى ما كانوا نافريه من قعودها ونظرها، وكان يحضر في مجلسها القضاة والفقهاء والأعيان، توفيت سنة ٣١٧. «البداية والنهاية، لابن كثير».
وبالإضافة إلى القضاء، وردت آثار في تولي المرأة السلطة التنفيذية، أو الشرطة، أو ما تسمى في التراث الفقهي الإسلامي «الحسبة»، وكان ذلك في القرن الأول، وعلى خلفية هذه الآثار أجاز بعض علماء المسلمين تولي المرأة هذا المنصب القيادي الحساس في الدولة الإسلامية، فروى أبو بلج يحيى بن أبي سليم قال: «رأيت سمراء بنت نهيك وكانت قد أدركت النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها درع غليظ وخمار غليظ بيدها سوط تؤدب الناس وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر». «أخرجه الطبراني في المعجم الكبير».
كما بدأ دور المرأة في الجهاد في الوقت نفسه الذي بدأ فيه دور الرجل، بل إن دور المرأة الفعلي سابق له، فأول من استشهد في سبيل الله كان امرأة هي السيدة سمية زوج ياسر، وكانت أسماء بنت أبى بكر - رضي الله عنها - أولى الفدائيات التي أمَّنت وصول الطعام إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وصاحبه أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، كما أنها تلقّت الأذى من أبي جهل في سبيل كتمان خبرهما.
وقد طلب الشرع الإسلامي من المرأة الدفاع عن وطنها، وأرضها، وشعبها، كما طلب ذلك من الرجل، وقد أقرّ النبي، صلى الله عليه وسلم، مشاركة النساء في الجهاد والغزوات، بل غزت المرأة مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كأم سليم بن ملحان، وأم حرام بنت ملحان، وأم الحارث الأنصارية، والرُّبَيِّع بنت معوذ، وأم سنان الأسلمية، وأم سليط، وليلى الغفارية، وكعيبة بنت سعيد الأسلمية، وحمنة بنت جحش، ورفيدة الأنصارية، وأم زياد الأشجعية.
أما ميدان العلم فنبغ في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي الآلاف من العالمات المبرَّزات والمتفوقات في أنواع العلوم وفروع المعرفة وحقول الثقافة العربية والإسلامية، وقد ترجم الحافظ بن حجر في كتابه «الإصابة في تمييز الصحابة»، لثلاث وأربعين وخمسمائة وألف امرأة، منهن الفقيهات والمحدثات والأديبات. وذكر كل من الإمام النووي في كتابه «تهذيب الأسماء واللغات»، والخطيب البغدادي في كتابه «تاريخ بغداد»، والسخاوي في كتابه «الضوء اللامع لأهل القرن التاسع»، وعمر رضا كحالة في «معجم أعلام النساء»، وغيرهم ممن صنف كتب الطبقات والتراجم، ذكروا تراجم مستفيضة لنساء عالمات في الحديث والفقه والتفسير وكذلك لأديبات وشاعرات.
ولقد تفوقت المرأة المسلمة على الرجل في جوانب كثيرة في علوم الحضارة الإسلامية، خاصة في جانب علم الحديث ومعرفة رواته، ويسجل تلك الشهادة أئمة علم الحديث والمصطلح، فيقول الإمام الذهبي: «وما علمت في النساء من اتهمت ولا من تركوها». «ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للإمام الذهبي». ويؤكد الحافظ بن حجر ذلك الأمر، حيث يقول: «لا أعلم في النساء من اتهمت ولا تركت». «لسان الميزان، للحافظ بن حجر العسقلاني».
لقد كان حرص النساء على طلب العلم الشرعي والاهتمام به منذ عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، فروى أبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، رضي الله عنهما، أن النساء قلن لرسول الله، صلى الله عليه وسلم: «اجعل لنا يوما كما جعلته للرجال. قال فجاء إلى النساء فوعظهن وعلمهن». «أخرجه البخاري».
وكان عطاء بن أبي رباح، رحمه الله، يقول عن السيدة عائشة، رضي الله عنها: «كانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأياً»، «أخرجه الحاكم في المستدرك».
إن الأعداد الهائلة من النساء اللواتي ساهمن في بناء الحضارة الإسلامية ليس بوسعنا أن نستوعبهن جميعهن في عدة سطور، ولكن الأمثلة المذكورة كافية لتأكيد مكانة المرأة في الشريعة الإسلامية، وأنها ساندت الرجل من منطلق مبدأ المساواة -وليس التساوي- في بناء الحضارة وتعمير الكون، فنجحت كحاكمة وقاضية ومحاربة وقائدة الجيوش ومحتسبة وفقيهة.