تكلمنا في المقالة السابقة من مقالات مصادر التشريع عن الفرق بين ما يعتقده النموذج المعرفي الإسلامي من أنه المطلق موجود ووجوده في غاية الأهمية، وما يعتقده الغربي حيث يرى أنن "المطلق" إما غير موجود وإما لا جدوى له.
إلا أن كل هذا يقع في العالم الكامن في النفوس والعقول: عالم الرؤية الكلية التي تؤثر في شتى مناحي الحضارة الملموسة.
وقد يتساءل البعض: أيهما أنتج الآخر: الحياة (الحضارة الملموسة) أم القيم والرؤية الكلية؟ ونحن -في الحقيقة- لا ندري بداية الموضوع من نهايته، هل هذه المفاهيم والرؤى هي التي أنتجت الحضارة أم أن الحضارة هي أنتجت هدّ المفاهيم؟ أم هي دائرة كالذي يسميه المنطقيون بـ"الدور"، كمسألة البيضة والدجاجة؟
ولمزيد من بيان هذه الرؤية أو لرؤى ومصادرها وخصائصها المتفتحة، نعرض لنماذج من تعامل العقلية التراثية مع المطلق وبعض قضاياه:
لقد توقفوا - في التراث - إزاء عدد من الظواهر الشبيهة بقضايا الدور ومسائل النسبي والمطلق، والتي تتضمن ثنائيات عقلية، وازدواجيات وجودية عقيدية تبدو متعارضة، كقضايا الأول والآخر، والعدم والوجود، والذات والصفات، والمتناهي وغير المتناهي، والتي غالبًا ما طُرحت من قبل الآخر الذي اطلعوا عليه مبكرًا، وقد جاءت إجاباتهم عن هذه المسائل مؤشرات جلية على رؤيتهم الكلية للوجود.
فقد قال الآخر المحاوِر: إن إدراك الشيء فرع عن تصوره (وهذا صحيح)، لكنه (الآخر) أراد بكلامه أن يتصور الإله، يريد التجسيد والتصوير.. وهذا منبع الوثنية؛ [فلأجل هذا صنعَ إلهه وجسَّده في حجر أو شجر (أو حتى من العجوة حتى إذا جاع أَكَلَه)، أو في صورة اللورد (يقصد: عيسى عليه السلام).. أو قال إنه حلّ في بوذا أو كونفوشيوس..أو قال: إن هذا الكون ومواده هو ربنا، فيعبدون الطوطم وخلافه..] لذلك دفع بالقول: إن التصديق بالشيء وبوجوده فرع عن تصوره.. فهل يمكن لك -أيها المسلم- أن تصدّق بمن ليس كمثله شيء، لا تدركه الأبصار، ولم يكن له كُفُوًا أحد؟
فردَّ التراثي المسلم من خلال يقينه أن الوجود دال على الواجد والموجِد سبحانه وتعالى، وأن صريح العقل لا يتعارض مع واقع الوجود ولا مع صحيح النقل، فمثلاً قال لهذا الآخر: إنك تصدق -رغمًا عنك- بوجود أشياء كثيرة دون أن تكوِّن تصورًا عنها على الحقيقة، سواء لا تتصوره ابتداء أو انتهاء أو في الحالتين. فعندما يطرق أحدهم الباب طرقات منتظمة.. فإنك تصدّق أن ثمة إنسانًا عاقلًا يقف بالباب..تصدق بوجوده وأنت لا تتصور ذاته أو شخصه. وبالمثل فالكون أبدعه خالق بديع يدلّ عليه خلقه، أومن به دون أن أتصور ذاته.
إلا أن أهل تراثنا قد زادوا على ذلك أن الله سبحانه وتعالى ضرب في الوجود أو الواقع المشهود أمثلة لفهم أشياء يصعب على العقل فك الاشتباك فيها، وهي تردُّ على الذين ينكرون وجود الإله أو صفاته العليا. هذه الأمثلة الوجودية والعقلية اكتشفوا فيها أدوات لحل مشكلات فلسفية وعقدية، وإن كانت هي حقائق من الواقع الملموس أو حقائق رياضية (والحقائق الرياضية عند الكافة تنزل منزلة المسلّمات العقلية).. لقد تمت هذه الإجابات من خلال عملية جماعية تحاورية عبر الزمان. وكانت غاية هذه الأمثلة أو المتصور منها أن تُقرّب المطلق المجرد من المشهود النسبي وتبيِّن الكلي الذهني باستخدام الجزئي المشخَّص..ونمر على بعض من هذه الأمثلة مثل "الدائرة"، و"الشمعة"، و"النقطة"، و"المرآة"، لبيان كيف تضافرت مصادر العقل المسلم، وكيف استخدم كل مصادره –تحت مظلة الوحي والرؤية الكلية المنبثقة عنه- في بناء أفكاره ومناهج علومه.
الدائرة وقضية الذات الواحدة والاعتبارات العديدة: ضرب الكلاميون هذا المثال من الوجود المشهود ليبرهنوا على حقيقة "الغيب": أن الله سبحانه وتعالى ذاته واحدة وصفاته متعددة، فتساءلوا أمام معارضيهم: أين بداية الدائرة؟ بدايتها هي نهايتها! نفس نقطة البداية هي نقطة النهاية؛ أي إن هناك نقطة جمعت بين صفتين تبدوان متعارضتين (كالأول والآخر).. قال القدماء: (هي واحدة بالذات مختلفة بالاعتبار: أي باعتبار اتجاه الحركة على محيط الدائرة يمينًا أو يسارًا)، وهذا نفسه حل المشكلة في الرياضة الحديثة والهندسة التحليلية بفكرة "الاتجاه": سالب وموجب. ولله المثل الأعلى، فله –سبحانه- ذات واحدة (قل هو الله أحد)، وصفات وأسماء -هي الحسنى- متعددة.
النقطة وقضية العدم والوجود: ضرب الكلاميون هذا المثال من الوجود المشهود أيضًا ليبينوا "كيف أوجد الله سبحانه وتعالى الموجودات من العدم" ؟ فقالوا: "النقطة" لها خصائص غريبة جدًا؛ فهي لا اتجاه لها، وإذا سارت أحدثت أشكالًا مختلفة، قد تصنع خطًا (فالخط عبارة عن استمرار نقطة) وقد صنع خطوطًا من أشكال شتى. والنقطة –في حقيقتها- أشبه بـ"العدم"؛ لأنه لا شيء أصغر منها، فكيف يتحول هذا العدم أو شبه العدم إلى وجود وموجودات؟ بهذا يمكن أن نقول إن الكون كان عدمًا ثم تحول إلى الوجود بإرادة عليا، فالشيء العدم قد يستحيل إلى الوجود. ومثال ذلك "النقطة".
والشمعة واستمرار قضية الإيجاد من العدم دون أثر في الموجٍد: قالوا: إن الأشياء إذا أخذنا أجزاء منها تكون بين أمرين: إما أن تنقص بالأخذ منها، وهذه عامة الأحوال. (يتبع)