في عصر إسماعيل باشا أراد أن يكمل ما بدأه جده محمد علي باشا في بناء الدولة الحديثة، فأنشأ البرلمان، ودعا إلى الفصل بين السلطات الثلاث، وأقر نظام الانتخاب، وبنى الهياكل الأساسية الحديثة، واستمر في عمليات الاستقلال، وسعى إلى وضع نظام للتقنين المصري.
ولأنه كان حريصا على البعد عن الدولة العثمانية التي قننت الشريعة الإسلامية في صورة المجلة العدلية، الصادرة سنة 1290هـ، فقد فكر في عدة احتمالات، وكلها لا يريد أن يخرج عن الشرع الإسلامي، بل يريد أن يوجد صيغة جديدة يستطيع فيها المسلم أن يضع قدمه في نطاق العالم الحديث.
فكر أن يترجم كود نابليون أول، وكود نابليون ثاني، وأمر رفاعة رافع الطهطاوي أن يفعل ذلك نقلا عن الفرنسية إلى العربية، ولقد تم ذلك، وطبع هذا العمل في مجلدين في المطبعة الأميرية في أواخر القرن التاسع عشر لكنه لم يطبق كقانون في مصر.
وكان حريصًا على إيجاد علاقة بين القانون الفرنسي المأخوذ أساسًا من تشريعات لويس، والتي قيل إنها تأثرت بالفقه المالكي عبر الأندلس، فأمر الشيخ مخلوف المنياوي مفتي الصعيد أن يراجع ما ترجمه رفاعة -رحم الله الجميع- فكتب تقريرا واسعا استفاض فيه حتى صار كتابًا طبع الآن في مجلدين بمصر، تحت عنوان (المقارنات التشريعية) قارن فيه بين القانون الفرنسي، وما يعرفه من الشريعة الإسلامية، ووجد مقاربة بينه وبين الفقه المالكي على وجه الخصوص، ووجد مخالفات قليلة، إلا أن هذا العمل لم يلتفت إليه، وظل حبيسًا بدار الكتب المصرية إلى أن نشره الأستاذ الدكتور محمد سراج عبد الهادي، وشاركه على استحياء كاتب هذا المقال.
وهذا العمل يدل على حرص القيادة السياسية -حينئذ- على عدم الانسلاخ عن الشريعة بالكلية، ولكنها تريد أن تعيش العصر، وأن تجعل بلادها تجد لنفسها موطن قدم في العالم، وهذا أمر محمود في ذاته، ألا ننسلخ عن أنفسنا وهويتنا، وفي نفس الوقت ألا ننعزل عن عصرنا ومن حولنا أخطأنا أو أصبنا، فلنا أجر إن شاء الله.
ولما سمع محمد قدري باشا الذي تولى وزارة الحقانية (العدل) عن نية الخديو إسماعيل هذه، وعن رغبته الشديدة في الاستقلال عن الدولة العثمانية بمجلتها العدلية، سارع فوضع تقنينا على مذهب الحنفية يوازي المجلة العدلية، ويستفيد منها، وإن كان مختلفا بعض الشيء عنها، وظهر هذا في كتابه الكبير (الأحوال الشخصية) في أربع مجلدات، وفي كتابه (دليل الحيران في معرفة أحوال الإنسان) وفي كتابه (العدل والإنصاف في أحكام الأوقاف) والتي لم ينفذ منها شيء أيضا، ولكنها دالة في نفسها على مراد القيادة من عدم الانسلاخ عن الشريعة الغراء، وهذه الكتب أخرجناها أيضًا وكلها في دار السلام بمصر.
وترأس قدري باشا لجانًا بعد رحيل الخديو إسماعيل، والذي لم يقدر له أن يرى كل ذلك المجهود أمامه، وإن كان سببًا في وجوده لوضع القوانين المصرية. قدري باشا العالم الحنفي القدير كتب القانون المصري بنفسه باللغة الفرنسية، ثم ترجمه إلى العربية، فظن كثير من الناس أن مصر قد طبقت القانون الفرنسية، ولم يحدث ذلك أبدًا، وإن أخذت مصر بالتوجه اللاتيني في صياغة هذه القوانين، أو في النظام القضائي إلا أنها لم تطبق القانون الفرنسي بذاته كما هو شائع بين كثير من الأقلام.
وفكرة الكتابة بالفرنسية، ثم الترجمة إلى العربية من شخص واحد، فكرة ترجع إلى ما نوهنا إليه مرات، وهي المعاصرة التي تقتضي توحيد المصطلحات مع عدم الانسلاخ عن الهوية، ولذلك لم يتم التقليد المحض التام، وإن كان قد تم نوع من أنواع الاقتباس للمسائل والصياغات والموضوعات من الآخر.
وصدرت هذه المجموعة سنة 1883م ونصت في مادتها الأولى أنها لا تنفي أي حق مقرر في الشريعة الإسلامية، وظل هذا البند موجودًا حتى سنة 1908م حيث روجعت القوانين مرة أخرى، ورؤي -طبقا لمحاضر الجلسات والمناقشات- رفع هذه العبارة المتعلقة بالشريعة، حيث إنه قد مضى ربع قرن من غير اعتراض أحد على أي مادة في هذا القانون.
وبالرغم مما نقول من هذه الإرادة التي نشير إليها في توصيفنا للتجربة المصرية، إلا أنه واكبتها دعوة مستمرة لتمصير القوانين، وكلمة (تمصير القوانين) كلمة اتسقت مع ليبرالية الدولة وديمقراطيتها، وفي نفس الوقت هي تشير إلى ما تم بعد ذلك فعلاً على مستوى الدستور والقانون والنظام القضائي.
وبدأت حركة التمصير مع عبد الرزاق السنهوري باشا، الذي وضع القانون المدني المصري، ومع صبري أبو علم الذي وضع القانون الجنائي المصري، وهي المجموعات التي انتهوا منها وصدرت وعمل بها من سنة 1949م وحتى يومنا هذا، بعض النظر على التعديلات الجزئية.
أما السنهوري باشا فقد شرح القانون المدني في كتاب ماتع مطول أسماه (الوسيط) صدر في عشرة أجزاء، بين فيه مأخذ كل مادة من الشريعة الإسلامية، أو في صياغتها، أو في موضوعها، من ستة عشر تشريعا مختلفا، من التشريع الهندي، والبلجكي، والإيطالي، والفرنسي ... إلى آخر ذلك. وهو ما يدل دلالة واضحة -بل أكاد أن أقول دلالة قطعية- على ذلك التوجه الذي أراده هؤلاء الآباء من عدم الانسلاخ من الشريعة ومن وضع أقدامنا في موطن قدم في الخريطة العالمية.
يقول السنهوري باشا [في مقاله القانون المدني العربي، مجلة القضاء (نقابة المحامين في العراق) العددان 1 ،2 سبتمبر، عام 1962] : (يمكن القول في طمأنينة : أن القانون المصري الجديد (المدني) يمثل الثقافة المدنية الغربية أصدق تمثيل. يمثلها في أحدث صورة من صورها) ويقول في موضع آخر (استخلاص ما وصلت إليه الثقافة المدنية الغربية في آخر تطوراتها، وهذا ما تحقق بالقانون المدني المصري)
ولذلك نرى السنهوري باشا نفسه وهو يضع التشريع العراقي، ثم يضع التشريع الأردني ينحو بهما أكثر إلى الشريعة الإسلامية بصورتها الموروثة، وكانت فكرة السنهوري باشا هي أن كتب الشريعة ليست صالحة لصياغة جديدة حديثة معاصرة، ولم يكن ذلك اعتراضا على الشريعة، بل هو اعتراض على أسلوب كتابتها، وكان يريد تطوير القانون المدني، ونفذ ذلك في العراقي والأردني، بعد أن حرم لأسباب عن فعل ذلك في مصر.
وتوجه هذا لاقى معارضة شديدة من كثير من علماء الأزهر الشريف، خاصة أصحاب الدراسات القانونية في السربون، ولعل أعظمهم هو عبد الله حسين التيدي الذي ألف كتابًا تحت عنوان (المقارنات التشريعية) في أربع مجلدات أصدرناه أيضا من دار السلام، لتتم هذه المجموعة لدراسة التجربة المصرية، وهو يعارض منهج السنهوري باشا، ويرد عليه، لكن أبدًا لم يكفره، بل اعتبره متبنيًا لنموذج معرفي آخر، مع بقاء نموذجنا المعرفي قادرا على العطاء، ومن الغريب أن لجنة مراجعة مشروع السنهوري باشا، والذي صار بعد ذلك هو القانون المدني المصري لم يكن فيها أحد من أولئك المعارضين.
ولقد طبع ذلك الكتاب قبل صدور القانون بأكثر من سنة في مطبعة عيسى البابا الحلبي، ثم سكت عنه في سائر الدراسات بعد ذلك ونذر، حتى أنه لا يعرف كثير من باعة الكتب والمتخصصين، ويبدو أن التجربة المصرية على كثره مع كتب حولها لم تستوف حقها إلى الآن خاصة من ذلك المدخل الذي نؤكد عليه، وهو أن غرض هذا التجربة في الأساس لم يكن الانسلاخ من الهوية، بقدر ما كان سعيا للمعاصرة، وكما يقول أهل مصر اللهم اجعل كلامنا خفيفًا عليهم. (يتبع)