السؤال: ما هي شرعية وثيقة التأمين على الأسرة ، فأنا لا أملك عملًا ثابتًا ، وليس لي تأمين من الحكومة أو غيره ، وسمعت أن هناك إحدى الشركات الحكومية تقوم بعمل وثيقة تأمين على الأسرة بحيث أدفع شهريا 100 جنيه لمدة عشر سنوات بعدها أستردها عشرين ألف جنيه ، وفي حالة الوفاة يسترد الورثة المبلغ الذي دفعته بالإضافة للأرباح حتى تاريخ الوفاة ، فهل في هذا شبهة ، أنا أود أن أترك أولادي وهم في يسر و ليس عسرًا ؟ .
الجواب: لما كان التأمين بأنواعه المختلفة من المعاملات المستحدثة التي لم يرد بشأنها نص شرعي بالحل أو بالحرمة - شأنه في ذلك شأن معاملات البنوك - فقد خضع التعامل به لاجتهادات العلماء وأبحــــــــــــاثهم المستنبطة من بعض النصوص في عمومها ؛ كقوله تعالى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة:2) .
وكقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عَنهِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ ، مَثَلُ الْجَسَدِ ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى "(1).
والتأمين على ثلاثة أنواع : -
الأول : التأمين التبادلي : وتقوم به مجموعة من الأفراد أو الجمعيات لتعويض الأضرار التي تلحق بعضهم .
الثاني : التأمين الاجتماعي : وهو تأمين من يعتمدون في حياتهم على كسب عملهم من الأخطار التي يتعرضون لها ، ويقوم على أساس فكـــــرة التكــافل الاجتماعي ، وتقوم به الدولة .
الثالث : التأمين التجاري : وتقوم به شركات مساهمة تنشأ لهذا الغرض .
والنوع الأول والثاني يكاد الإجماع أن يكون منعقدا على أنهما موافقين لمبادئ الشريعة الإسلامية ؛ لكونهما تبرعا في الأصل ، وتعاونا على البر والتقوى ، وتحقيقا لمبدأ التكافل الاجتماعي والتعاون بين المسلمين دون قصد للربح ، ولا تفسدهما الجهالة ولا الغرر ، ولا تعتبر زيادة مبلغ التأمين فيهما عن الاشتراكات المدفوعة ربا ؛ لأن هذه الأقساط ليست في مقابل الأجل ، وإنما هي تبرع لتعـــــــويض أضرار الخطر .
أما النوع الثالث : وهو التأمين التجاري - ومنه التأمين على الأشخاص - فقد اشتد الخلاف حوله واحتد :
فبينما يرى فريق من العلماء أن هذا النوع من التعامل حرام لما يكتنفه من الغرر المنهي عنه ، ولما يتضمنه من القمار والمراهنة والربا .
يرى فريق آخر أن التأمين التجاري جائز وليس فيه ما يخالف الشريعة الإسلامية ؛ لأنه قائم أساساً على التكافل الاجتماعي والتعاون على البر وأنه تبرع في الأصل وليس معاوضة .
واستدل هؤلاء الأخيرون على ما ذهبوا إليه بعموم النصوص في الكتاب والسنة وبأدلة المعقول .
أما الكتاب : فقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } ( المائدة:1) .
فقالوا : إن لفظ العقود عام يشمل كل العقود ومنها التأمين وغيره ، ولو كان هذا العقد محظورا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم . وحيث لم يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم فإن العموم يكون مرادًا ويدخل عقد التأمين تحت هذا العموم .
وأما السنة : فقد روي عن عمر بن يثربي قال : شهدت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمنى وكان فيما خطب : لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه(1) .
فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم طريق حل المال أن تسمح به نفس باذله من خلال التراضي ، والتأمين يتراضى فيه الطرفان على أخذ مال بطريق مخصوص ، فيكون حلالاً .
ومن المعقول قياس التأمين على المضاربة التي هي باب مباح من أبواب التعامل في الشريعة الإسلامية وذلك على أساس أن المؤمن له يقدم رأس المال في صورة أقساط التأمين ، ويعمل المؤمن فيه لاستغلاله ، والربح فيه للمؤمن له هو مبلغ التأمين، وبالنسبة للمؤمن الأقساط وما يعود عليه استغلالها من مكاسب .
كما استدلوا أيضًا بالعرف فقد جرى العرف على التعامل بهذا النوع من العقود ، والعرف مصدر من مصادر التشريع كما هو معلوم .
وكذا المصلحة المرسلة .
كما أن بين التأمين التجاري والتأمين التبادلي والاجتماعي المجمع على حلهما وموافقتهما لمبادئ الشريعة وجوه شبه كثيرة ، مما يسحب حكمهما عليه ، فيكون حلالا .
وعقد التأمين على الحياة - أحد أنواع التأمين التجاري - ليس من عقود الغرر المحرمة لأنه عقد تبرع وليس عقد معاوضة فيفسده الغرر ؛ لأن الغرر فيه لا يفضي إلى نزاع بين أطرافه ، لكثرة تعامل الناس به وشيوعه فيهم وانتشاره في كل مجالات نشاطهم الاقتصادي ، فما ألفه الناس ورضوا به دون ترتب نزاع حوله يكون غير منهي عنه .
والغرر يتصور حينما يكون العقد فرديا بين الشخص والشركة , أما وقد أصبح التأمين في جـميع المجالات الاقتصادية وأصبحت الشركات هي التي تقوم بالتأمين الجماعي لمن يعملون لديها ، وصار كل إنسان يعرف مقدما مقدار ما سيدفعه وما سيحصل عليه - فهنا لا يتصور وجود الغرر الفاحش المنهي عنه . كما لا يوجد في عقد التامين التجاري شبهة القمار ؛ لأن المقامرة تقوم على الحظ في حين أن التأمين يقوم على أسس منضبطة وعلى حسابات مدروسة ومحسوبة .
وبدراسة وثائق التأمين التجاري بجميع أنواعه الصادرة عن شركة الشرق للتأمين وغيرها من الشركات الأخرى تبين أن أكثر بنودها ما هي إلا قواعد تنظيمية مقررة من قبل شركات التأمين إذا ارتضاها العميل أصبح ملتزما بما فيها ، وأن أكثر هذه البنود في مجموعها لا تخالف الشريعة الإسلامية ، غير أن هناك بعض البنود يجب إلغاؤها أو تعديلها لتتمشى مع أحكام الشريعة وتتفق مع ما قررته قيادات التأمين في محضر اجتماعهم برئاسة مفتي الجمهورية بدار الإفتاء المصرية المؤرخ 25 / 3 / 1997 وذلك في البنود التالية :
البند المتضمن : -
1 - رد قـــيمة الأقساط بالكامل إذا كان المؤمن عليه على قيد الحياة عند انتهاء مدة التأمين ) يجب تعديل هذا البند إلى :
رد قيمة الأقساط بالكامل إذا كان المؤمن عليه على قيد الحياة عند انتهاء مدة التأمين مع استثماراتها بعد خصم نسبة معينة نظير الأعمال الإدارية التي تقوم بها الشركة ) .
2 - المادة العاشرة المتضمنة : أنه إذا حدث بالرغم من إرسال الخطاب المسجل لم يسدد العميل في المهلة المحددة وكانت أقساط السنوات الثلاث الأولى لم تسدد بالكامل يعتبر العقد لاغيا وبغير حاجة إلى إنذار وتبقى الأقساط المدفوعة حقا مكتسبا للشركة .
يجب تعديل هذه المادة إلى : )وترد الأقساط المدفوعة إلى العميل بعد خصم نسبة لا تزيد على 10 % في المائة مقابل الأعمال التي قامت بها الشركة . حتى لا تستولي الشركة على أموال الناس بالباطل .
3 - المادة الثالثة عشر الفقرة الأولى المتضمنة : يسقط الحق في المطالبة بأي حق من الحقوق الناشئة عن عقد التأمين إذا لم يطالب به أصحابه ، أو لم يقدموا للشركة المستندات الدالة على الوفاة .
هذه الفقرة يجب إلغاؤها ؛ حيث إن الحق متى ثبت للعميل لا يسقط بأي حال من الأحوال حتى ولو لم يطالب به صحابه .
وبعد مرور عشر سنوات يسلم المال إلى بيت مال المسلمين .
الفقرة الثانية من نفس المادة المتضمنة :
كما يسقط بالتقادم حق المستفيدين في رفع الدعاوي ضد الشركة للمطالبة بالحقوق الناشئة عن هذا العقد بمضي ثلاث سنوات من وقت حدوث الوفاة .
يجب تعديل هذه الفقرة إلى :
يسقط الحق بعد مضي ثلاث وثلاثين سنة وهي مدة التقادم في رفع الدعوى في الحقوق المدنية عند الفقهاء في الشريعة الإسلامية .
وفي واقعة السؤال :
فإن التأمين بكل أنواعه أصبح ضرورة اجتماعية تحتمها ظروف الحياة ولا يمكن الاستغناء عنه ؛ لوجود الكم الهائل من عمال المصانع والشركات الاقتصادية العامة والخاصة ، وأصبحت الشركات تحافظ على رأس المال حتى يؤدي وظيفته المنوطة به في المحافظة على الاقتصاد الذي هو عصب الحياة ، وتحافظ على العمال بغرض تأمين حياتهم حالا ومستقبلا ، وليس المقصود من التأمين هو الربح أو الكسب غير المشروع .
وإنما هو التكافل والتضامن والتعاون في رفع ما يصيب الأفراد من أضرار الحوادث والكوارث ، وليس التأمين ضريبة تحصل بالقوة ، إنما هو تكاتف وتعاون على البر والإيثار المأمور بهما في الإسلام .
وقد أخذت دول العالم بنظام التأمين بغية الرقي بأممهم والتقدم بشعوبهم ، ولم يغلق الإسلام هذا الباب في وجوه أتباعه ؛ لأنه دين التقدم والحضارة والنظام . وإنما وجد من علماء المسلمين قديما وحديثا في كل بلاد العالم الإسلامي من أجازوه وأباحوه ، ولهم أدلتهم التي ذكرنا طرفا منها .
ونحن نرى أنه لا مانع شرعًا من الأخذ بنظام التأمين بكل أنواعه ، ونأمل توسيع دائرته كلما كان ذلك ممكنا ليعم الأفراد الذين لم يشملهم التأمين .
ويكون الاشتراك شهريًّا أو سنويًّا بمبلغ معقول ، ويكون إجباريًّا ليتعود الجميع على الادخار والعطاء ، على أن تعود إليهم الأموال التي اشتركوا بها ومعها استثماراتها النافعة لهم ولأوطانهم ؛ فالأمم الراقية والمجتمعات العظيمة هي التي تربي في أبنائها حب الادخار والعمل لما ينفعهم في دينهم ومستقبل حياتهم .
_______________________________________________________
(1) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة ، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (2586 ) عن مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : .. به .
(1) أخرج مسند الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ( 3 / 423 ) عن عبد الله حدثني أبي ثنا أبو عامر ثنا عبد الملك يعني بن حسن الحارثي ثنا عبد الرحمن بن أبي سعيد قال سمعت عمارة بن حارثة الضمري يحدث عن عمرو بن يثربي الضمري قال شهدت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم : .. به .