طباعة

ما حكم قراءة القرآن الكريم على القبر أثناء الدفن وبعده ، وحكم تلقين الميت أيضًا ؛ حيث إن هناك من يعترض على ذلك بكونه بدعة لم يأت بها قرآن ولا سنة ولا خبر يُتَّبَع ، وبأن القرآن لم ينـزله الله تعالى لقراءته على المقابر .

الأمر الشرعي بقراءة القرآن الكريم على جهة الإطلاق ، ومن المقرر أن الأمر المطلق يقتضي عموم الأمكنة والأزمنة والأشخاص والأحوال ؛ فلا يجوز تقييد هذا الإطلاق إلا بدليل ، وإلا كان ذلك ابتداعًا في الدين بتضييق ما وسَّعه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم .
وعلى ذلك : فقراءة القرآن الكريم عند القبر حالة الدفن وبعده مشروعة ابتداءً بعموم النصوص الدالة على مشروعية قراءة القرآن الكريم ، بالإضافة إلى أنه قد وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآثـار كثيرة عن السلف الصالح في خصوص ذلك ذكرها الإمـام أبـو بكر الخلاَّل الحنبلي [ ت311 هـ] في جزء " القراءة على القبور " من كتاب " الجامع " ، ومثلُه الحافظ شمس الدين بن عبد الواحد المقـدسي الحنبلي في جزءٍ أَلَّفه في هذه المسألة ، والإمام القرطبي المالـكي [ ت 671 هـ ] في كتابه " التذكرة في أحـوال الموتى وأمور الآخرة " ، والحافظ السيوطي الشـافعي [ ت 911 هـ ] في " شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور " ، والحافظ السيد عبد الله بن الصِّدِّيق الغماري [ ت 1413 هـ ] في كتابه " توضيح البيان لوصول ثواب القرآن " ، وغيرهم ممن صنف في هذه المسألة .
1
-  فمن الأحاديث الصحيحة الصريحة في ذلك :
ما رواه عبد الرحمن بن العلاء بن اللَّجْلاَجِ ، عن أبيه قال : قال لي أبي – اللَّجْلاَجُ أبو خالد – : يا بُنَيَّ ! إذا أنا متُّ فأَلْحِدْني ، فإذا وضَعْتَني في لحدي فقل : بسم الله ، وعلى ملة رسول الله ، ثم سُنَّ عليَّ التراب سنًّا – أي ضَعْه وضعًا سهلاً – ، ثم اقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها ؛ فإني سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقولُ ذلك(1) .
وقد رُوي هذا الحديث موقوفًا على ابن عمر رضي الله عنهما . كما أخرجه الخلاَّل في جزء " القراءة على القبور " والبيهقي في " السنن الكبرى " وغيرهما ، وحسّنه النووي ، وابن حجر .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا مات أحدُكم فلا تحبسوه ، وأَسْرِعوا به إلى قبره ، وليُقْرَأْ عند رأسه بفاتحة الكتاب ، وعند رجليه بخاتمة سـورة البقرة في قبره »(2) .

قال الحافظ في الفتح ، وفي روايـة « بفاتحة البقرة » بدلاً من « فاتحة الكتاب » . وفي المسألة أحاديث أخرى ، لكنها واهية الأسانيد :
منها حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قـال : « من مر على المقابر ، وقرأ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } إحدى عشرة مرة ، ثم وهب أجره للأموات ، أُعْطِيَ من الأجر بعدد الأموات (3)« خرَّجه الخلاَّل في "القراءة على القبور" والسمرقندي في "فضائل قل هو الله أحد" والسِّلَفِي .

 ومنها حـديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قـال رسول الله صلى الله عليه وآلـه وسلم : « مَنْ دخـل المقـابر ، ثم قرأ فاتحة الكتاب و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } و { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } ، ثم قـال : اللهم إني قد جعلتُ ثوابَ ما قرأتُ من كلامِكَ لأهل المقابر من المؤمنين والمؤمنات ، كانوا شُفَعاء له إلى الله تعالى » . خرَّجه أبو القاسم الزنجاني في " فوائده "(1) .
ومنها حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « مَنْ دخل المقابر ، فقرأ سورة يس ، خفَّف الله عنهم ، وكان له بعددِ من فيها حسنات (2) .
قال الحافظ شمس الدين بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي في جزئه الذي ألَّفه في هذه المسألة : " وهذه الأحاديث وإن كانت ضعيفة ، فمجموعها يدل على أن لذلك أصلاً ، وأن المسلمين ما زالوا في كل في كل مصر وعصر يجتمعون ويقرأون لموتاهم من غير نكير ؛ فكان إجماعًا " ا هـ .

2 -  وجاءت السنة بقراءة سورة ( يس ) على الموتى ، في حديث معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : « اقْرَءُوا (يس) عَلَى مَوْتَاكُمْ »(3).
قال القرطبي في " التذكرة " : " وهذا يحتمل أن تكون هذه القراءة عند الميت في حال موته ، ويحتمل أن تكون عند قبره " ا هـ .
قال الحـافظ السيوطي في " شرح الصدور" : " وبالأول قال الجمهور كما تقـدم في أول الكتاب ، وبالثاني قال ابن عبد الواحد المقدسي في الجزء الذي تقدمت الإشارة إليه ، وبالتعميم في الحالتين قال المحب الطبري من متأخري أصحابنا " ا هـ .
وقال ابن حجـر الهيتمي في "الفتاوى" : " أخذ ابن الرفعة وغيره بظاهر الخبر ، وتَبِعَ هؤلاء الزركشيُّ فقال : لا يَبْعُدُ – على القول باستعمال اللفـظ في حقيقته ومجازه – أنه يُنْدَبُ قراءتها في الموضعين " ا هـ .
3
-  كما جاء الشرع الشريف بقراءة سورة الفاتحة على الجنازة ؛ وذلك لأن فيها من الخصوصية في نفع الميت وطلب الرحمة والمغفرة له ما ليس في غيرها ، كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « أُمُّ القرآنِ عِوَضٌ عن غيرها ، وليس غيرُها عِوَضًا عنها »(1) رواه الدارقطني وصححه الحاكم .

 وبوَّب لذلك الإمام البخاري في صحيحه بقوله (باب قِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْجَنَازَةِ ) ، وهذا أعم من أن يكون في صلاة الجنازة أو خارجها :

فمن الأحاديث ما يدل على أنها تُقرأ في صلاة الجنازة .

 ومنها ما يدل على أنها تُقرأ عند الدفن أو بعده كحديث ابن عمر السابق عند الطبراني وغيره .

 ومنها : ما يدل بإطلاقه على كلا الأمرين ؛ كحـديث أم عفيف النهدية رضي الله عنها قـالت : « بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين بايع النساء ؛ فأخذ عليهن أن لا تُحَدِّثْنَ الرَّجُل إلا مَحْرَمًا ، وأَمَرَنَا أن نقرأ على مَيِّتِنا بفاتحةِ الكتاب »(2).

 وحديث أم شريك رضي الله عنها قالت : « أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ نَقْرَأَ عَلَى الْجِنَازَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ »(1)
4
-  واستدل العلماء على قراءة القرآن عند القبر أيضًا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ : « إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ » ثُمَّ قَالَ : « بَلَى ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ ، وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ » قَالَ : ثُمَّ أَخَذَ عُودًا رَطْبًا فَكَسَرَهُ بِاثْنَتَيْنِ ، ثُمَّ غَرَزَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَبْرٍ ، ثُمَّ قَالَ : « لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا »(2).
قال الخطّابي : "  فيه دليل على استحباب تلاوة الكتاب العزيز على القبور ؛  لأنه إذا كان يُرْجَى عن الميت التخفيفُ بتسبيح الشجر ،  فتلاوة القرآن العظيم أكبرُ رجاءً وبركة " (3) ا هـ .
وقال القرطبي في " التذكرة " : " وقد استدل بعض علمائنا على قراءة القرآن على القبر بحديث العسيب الرطب الذي شقّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم باثنين ... قالوا : ويُستفاد من هذا غرس الأشجار وقراءة القرآن على القبور ، وإذا خُفِّفَ عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن " ، قال : " ولهذا استحب العلماء زيارة القبور ؛ لأن القراءة تُحْفَةُ الميت من زائره " ا ه(4)ـ .
وقال النووي في " شرح مسلم " : " واستحب العلماء قراءة القرآن عند القبر لهذا الحديث ؛ لأنه إذا كان يُرجى التخفيفُ بتسبيح الجريد فتلاوة القرآن أولى ، والله أعلم " ا هـ(1) .
5
-  وقد صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الجنازة على القبر غير مرة كما جاء في الصحيحين وغيرهما ، والصلاة مشتملة على قراءة الفاتحة والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذكر والدعاء ، وما جاز كله جاز بعضه . (2)
كما أخذ العلماء وصول ثواب القراءة إلى الميت من جواز الحج عنه ووصول ثوابه إليه ؛ لأن الحج يشتمل على الصلاة ، والصلاة تقرأ فيها الفاتحة وغيرها ، وما وصل كله وصل بعضه ، وهذا المعنى الأخير وإن نازع فيه بعضهم إلا أن أحدًا من العلماء لم يختلف في أن القارئ إذا دعا الله تعالى أن يهب للميت مثل ثواب قراءته فإن ذلك يصل إليه بإذن الله ؛ لأن الكريم إذا سُئِل أعطَى وإذا دُعِيَ أجاب .
6
-  وعلى ذلك جرى عمل المسلمين جيلاً بعد جيل وخلفًا عن سلف من غير نكير ، وهذا هو المعتمد عند أصحاب المذاهب المتبوعة ، حتى نقل الحافظ شمس الدين بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي الإجماع على ذلك – كما سبق  -  ، ونقله أيضًا الشيخ العثماني في كتابه " رحمة الأمة في اختلاف الأئمة " ، ونص عبارته في ذلك : " وأجمعوا على أن الاستغفار والدعاء والصدقة والحج والعتق تنفع الميت ويصل إليه ثوابه ، وقراءة القرآن عند القبر مستحبة " ا هـ .
ومن الآثار في ذلك عن السلف الصالح :
ما أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنَّف " عن الإمام الشعبي رحمه الله قال : " كانَتِ الأنصارُ يقرأون عند الميِّتِ بسورة البقرة "(1) .

 وأخرجه الخلاَّل في " القراءة على القبور " بلفظ : " كانت الأنصارُ إذا مات لهم مَيِّتٌ اختلفوا إلى قبره يقرأون عنده القرآن " .

وأخرج الخلاَّل عن إبراهيم النخعي رحمه الله قال : " لا بَأْسَ بقراءةِ القرآنِ في المقابِر " . وأخرج أيضًا عن الحسن بن الصَّبَّاح الزعفراني قال : سأَلْتُ الشافعيَّ عن القراءة عند القبور ، فقال : " لا بَأْسَ بِهَا " .
وأخرج أيضًا عن عليِّ بن موسى الحداد قال : كنت مع أحمد بن حنبل ومحمد بن قدامة الجوهري في جنازة ، فلما دُفِن الميِّتُ جلس رجلٌ ضريرٌ يقرأ عند القبر ، فقال له أحمد : يا هذا ! إن القراءة عند القبر بدعة ، فلما خرجنا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل : يا أبا عبد الله ! ما تقول في مُبَشِّرٍ الحَلَبِيّ ؟ قال : ثقة ، قال – يعني أحمد – : كتبتَ عنه شيئًا ؟ قال : نعم ؛ أخبرني مُبَشِّرٌ عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه : أنه أوصى إذا دُفِن أن يُقْرَأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها ، وقال : سمعت ابن عمر رضي الله عــــــنهما يوصي بذلك .فقال له أحمد : فارجع وقل للرجل يقرأ(1).
وأخرج أيضًا عن العباس بن محمد الدُّوري أنه سأل يحيى بن معين عن القراءة على القبر ، فحدَّثه بهذا الحديث .
وقد نص أصحاب المذاهب المتبوعة على ذلك :
فجاء في " الفتاوى الهندية " على مذهب السادة الحنفية : " ويُستحب إذا دُفِن الميت أن يجلسوا ساعة عند القبر بعد الفراغ بقدر ما يُنحر جزور ويقسم لحمها ؛ يَتْلُونَ ، ويَدْعُون للميت " ا هـ(1) .

 وذكر أن ذلك قول الإمام محمد بن الحسن رحمه الله ، وأن مشايخ الحنفية أخذوا به .
وأما السادة المالكية : فالمُعْتَمَـدُ عندهم استحبابُ ذلك ؛ ففي حاشية الدسوقي على "الشرح الكبير" : " ذهب ابن حبيب إلى الاستحباب وتأوَّل ما في السماع من الكراهة قائلاً : إنما كره ذلك مالك إذا فعل ذلك استنانًا ، نقله عنه ابن رشد،  وقاله أيضًا ابن يونس ، واقتصر اللخمي على استحباب القراءة ولم يعول على السماع ، وظاهر " الرسالة " أن ابن حبيب يستحب قراءة يس ، وظاهر كلام غيرهما أنه استحب القراءة مطلقًا " ا هـ (2) .
وجاء في "النوازل الصغرى" لشيخ الجماعة سيدي المهدي الوزّاني المالكي : " وأما القراءة على القبر : فنص ابن رشد في " الأجـوبة " ، وابن العـربي في " أحكام القرآن " لـه ، والقـرطبي في " التذكرة " على أنه ينتفع بالقراءة ، أعني الميت ، سواء قرأ في القبر أو قرأ في البيت " ا هـ .

 ونقله عن كثيرين من أئمة المالكية ؛ كأبي سعيد بن لُبٍّ ، وابن حبيب ، وابن الحاجب ، واللخمي ، وابن عرفة ، وابن المواق ، وغيرهم .
أما السادة الشافعية : فقد قال الإمام النووي في " المجموع " : " قال أصحابنا : ويُستحب للزائر أن يُسلِّم على المقابر ، ويدعو لمن يزوره ولجميع أهل المقبرة ، والأفضل أن يكون السلام والدعاء بما يَثْبُتُ في الحديث ، ويُسْتَحَبُّ أن يقرأ من القرآن ما تيسَّر ويدعو لهم عقبها ، نصَّ عليه الشافعيُّ ، واتفق عليه الأصحاب " ا ه(1)ـ .
وقال في " الأذكار " : " ويُسْتَحَبُّ أن يقعد عنده بعد الفراغ ساعةً قدر ما يُنحر جزور ويقسم لحمها ، ويشتغل القاعدون بتلاوة القرآن ، والدعاء للميت ، والوعظ ، وحكايات أهل الخير ، وأحوال الصالحين . قال الشافعي والأصحاب : يُستحب أن يقرأوا عنده شيئًا من القرآن ؛ قالوا : فإن ختموا القرآن كله كان حسنًا " ا هـ(2) .
وقال في " رياض الصالحين " : " قال الشافعي رحمه الله : ويُستحب أن يُقرأ عنده شيءٌ من القرآن ، وإن ختموا القرآن عنده كان حسنًا " ا هـ(3) .
وكذلك السادة الحنابلة ؛ صرحوا بجواز ذلك .
قال العلامة المرداوي في "الإنصاف" : " قوله ( ولا تُكره القراءة على القبر في أصح الروايتين ) وهذا المذهبُ ، قاله في "الفروع" ، ونصّ عليه – يعني الإمام أحمد – ، قال الشارح : هذا المشهور عن أحمد ، قال الخلاَّل وصاحبُه : المذهب رواية واحدة : لا تكره ، وعليه أكثر الأصحاب ؛ منهم القاضي ، وجزم به في "الوجيز" وغيره ، وقدّمه في "الفروع" ، و"المغني" ، و"الشرح" ، وابن تميم ، و"الفائق" ، وغيرهم " ا هـ .
والمتصفح لكتب السير والتراجم والتواريخ يرى عمل السلف على ذلك وتتابع الأمة عليه من غير نكير ، بما في ذلك السادة الحنابلة وأصحاب الحديث ، ويكفينا في ذلك ما ذكره الحافظ الذهبي في " سير أعلام النبلاء " في ترجمة أبي جعفر الهاشمي الحنبلي [ ت 470 هـ ] شيخ الحنابلة في عصره ، قال : " ودفن إلى جانب قبر الإمام أحمد ، ولزم الناس قبره مدةً حتى قيل : خُتِم على قبره عشرة آلاف ختمة " ا هـ(1) .
حتى إن الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى – وهو الذي ادّعى أن قراءة القرآن على القبر بدعةٌ مخالفًا بذلك ما عليه عمل السلف والخلف – قد ذكر أهل السير في ترجمته أن الناس اجتمعوا لختم القرآن له على قبره وفي بيوتهم كما ذكره ابن عبد الهادي الحنبلي وغيره ، والتاريخ محنة المذاهب كما يقولون .
كما أن تلقين الميت مستحب أيضًا ؛ لما رُوي عن راشد بن سعد وضمرة بن حبيب وحكيم بن عمير وهم من قدماء التابعين من أهل حمص ، قالوا : " إذا سُوِّيَ على الميت قبرُه وانصرف الناس عنه كانوا يستحبون أن يقال للميت عند قبره : يا فلان قُلْ لا إله إلا الله ، اِشْهَدْ أن لا إله إلا الله ، ثلاث مرات ، يا فلان قل ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم ينصرف "(2).
ورُوي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نصنع بموتانا ؛ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : « إذا مات أحدٌ من إخوانكم فسوَّيتُمُ التراب على قبْرِهِ فَلْيَقُمْ أَحدُكُم على رأسِ قبْرِهِ ثم ليقل : يا فـلان ابن فلانة ، فإنه يَسْمَعُهُ ولا يُجِيبُ ، ثم يقول : يا فلان ابن فلانة ، فإنه يَسْتَوِي قاعدًا ، ثم يقول : يا فلان ابن فلانة ، فإنه يقول : أَرشِدنا يرحمك الله ، ولكن لا تشعرون ، فَلْيَقُلْ : اذكر ما خَرَجْتَ عليه من الدنيا ؛ شهادةَ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسولـه ، وأنك رضيت بالله ربًّا ، وبالإسلام دينًا ، وبمحمد نبيًّا ، وبالقرآن إمامًا . فإنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا يأخذ كل واحدٍ بيـد صاحبه ويقول : انطلق بنا ؛ ما يُقْعِدُنا عند من لُقِّنَ حُجَّتَهُ ! ويكون الله تعالى حُجَّتَهُ دُونَهُمَا » فقال رجل : يا رسول الله ! فإن لم يعرف أمه ؟ قال : « يَنْسُبُهُ إلى أُمِّهِ حَوَّاءَ : يا فلان ابن حَوَّاءَ »(1) .

 قال الحـافظ ابن حجر رحمه الله : وإسناده صالح وقد قوّاه الضياء في أحكامه ا هـ .

 وقال الإمام النووي في " الروضة " : " والحديث الوارد فيه ضعيف ، لكن أحاديث الفضائل يُتسامح فيها عند أهل العلم من المحدِّثين وغيرهم ، وقد اعتضد هذا الحديث بشواهد من الأحاديث الصحيحة ، كحديث « اِسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ » ووصية عمرو بن العاص رضي الله عنه . ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا التلقين من العصر الأول وفي زمن من يُقتدَى بـه " . ا هـ .
وقد قال تعالى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ } [الذاريات :55] ، وأحـوج ما يكون العبد إلى التذكير في هذه الحالة .
وقال ابن القيم في كتاب " الروح " : " جرى عليه عمل الناس قديمًا وإلى الآن ، والحديث وإن لم يثبت فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار كافٍ في العمل به ، وما أجرى الله سبحانه وتعالى العادة قط بأن أمة طَبَّقَتْ مشارق الأرض ومغاربها وهي أكمل الأمم عقولاً وأوفرها معارف تُطْبِقُ على مخاطبة من لا يسمع ولا يعقل وتستحسن ذلك لا ينكره منها منكِر ، بل سَنَّهُ الأولُ للآخر ، ويقتدي فيه الآخرُ بالأول " ا هـ(1) .

____________________________________________________

(1)  أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ( 19 / 220 ح 491 ) عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد : ورجاله موثقون .

(2)  أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ( 12 / 444 ح 13613 ) عن ابن عمر ، والبيهقي في شعب الإيمان ( 7 / 16 ح 9294 ) بإسناده .

(3)  أخرجه الخلال في فضائل سورة الإخلاص ( 1 / 101 ح 54 ) عن علي بن أبي طالب .

(1)  ذكره المباركفوري في تحفة الأحوذي ( 3 / 275 ) عن أبي القاسم سعد بن علي الزنجاني في فوائده عن أبي هريرة .

(2)  انظر المرجع السابق .

(3)  أخرجه أحمد في مسنده ( 5 / 26 ) معقل بن يسار ، وأبو داود في كتاب الجنائز ، باب القراءة عند الميت ( 2131 ) بإسناده ، وابن ماجه في كتاب الجنائز ، باب ما جاء في الأوقات التي لا يصلى فيها على الميت ولا يدفن ( 1522 ) بإسناده ، وابن حبان في صحيحه ( 7 / 269 ) بإسناده .

(1)  أخرجه الدارقطني في سننه ( 1 / 322 ح 20 ) عن معقل بن يسار ، والحاكم في المستدرك على الصحيحين ( 1 / 363 ) بإسناده ، وقال : قد اتفق الشيخان على إخراج هذا الحديث عن الزهري من أوجه مختلفة بغير هذا اللفظ ورواة هذا الحديث أكثرهم أئمة وكلهم ثقات على شرطهما ولهذا الحديث شواهد بألفاظ مختلفة لم يخرجاه وأسانيدها مستقيمة .

(2)  أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ( 25 / 168 ح 410 ) عن أم معقل ، والهيثمي في مجمع الزوائد ( 3 / 32 ) بإسناده ، وقال : رواه الطبراني في الكبير وفيه عبد المنعم أبو سعيد وهو ضعيف .

(1)  أخرجه ابن ماجه في كتاب الجنائز ، باب ما جاء في القراءة على الجنازة (1496 ) عن أم شريك الأنصارية .

(2)  أخرجه البخاري في كتاب الوضوء ، باب ما جاء في غسل البول ( 218 ) عن ابن عباس ، ومسلم في كتاب الطهارة ، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه ( 292 ) بإسناده .

(3)  ذكره العيني في عمدة القاري ( 3 / 118 ) وقال : اختلف الناس في هذا المسألة فذهب أبو حنيفة وأحمد رضي الله تعالى عنهما إلى وصول ثواب قراءة القرآن إلى الميت .

(4)  القرطبي في التذكرة .

(1)  ذكره النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 3 / 202 ) .

(2)  المرجع السابق .

(1)  ذكره ابن أبي شيبة في مصنفه ( 2 / 445 ح 10848 ) .

(1)  اخرجه بنحوه الهيثمي في مجمع الزوائد ( 3 / 44 ) ولفظه : عن عبد الرحمن ابن العلاء بن اللجاج قال : قال لي أبي : يا بني إذا أنا مت فألحد لي لحدا ، فإذا وضعتني في لحدي فقل : بسم الله وعلى ملة رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ، ثم سن التراب على سنا ، ثم أقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها ؛ فإني سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يقول ذلك . وقال : رواه الطبراني في الكبير و رجاله موثقون .

(1)  الفتاوى الهندية .

(2)  حاشية الدسوقي على الشرح الكبير .

(1)  النووي في المجموع .

(2)  النووي في الأذكار ، والمناوي في فيض القدير ( 5 / 151 ).

(3)  النووي في رياض الصالحين ( 1 /  238 ) باب الدعاء للميت بعد دفنه والقعودعند قبره ساعة للدعاء له والاستغفار .

(1)  ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء ( 18 / 547 ) .

(2)  ذكره السيوطي في الدر المنثور ( 5 / 39 ) وعزاه إلى سعيد بن منصور عن راشد بن سعد وضمرة بن حبيب وحكيم بن عمير ، واشوكاني في نيل الأوطار ( 4 / 138 ) بإسناده .

(1)  أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ( 8 / 249 ح 7979 ) عن أبي أمامة .

(1)  ابن القيم في الروح ( 1 / 13 ) .

عدد الزيارات 28300 مرة
قيم الموضوع
(4 أصوات)