بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه. وبعد، فلا شك أن القرآن قد بلغ المرتبة العليا في البلاغة والإيجاز، وقد اشتمل على معانٍ وأسرار يخفى علينا كثير منها ولا يعلمها إلا مَن هو كلامه ومَن أُنْزِل عليه الوحي ببيانها.
والقرآن يشتمل على آيات مجملة، ولابد للعمل بها من شرح يُبيِّنها ويوضحها ويؤولها ويفسرها، وكذلك أخرى عامة ومطلقة تحتاج إلى بيانٍ يُظْهِر ما خُصَّت وقُيِّدت به هذه الآيات، ولابد أن يكون هذا الشرح والبيان من عند الله تعالى؛ فهو الذي كلَّف العباد، وهو العليم بالمراد من كتابه، فلا اطلاع لغيره عليه.
وهذا الشرح والبيان هو السنة التي نزل بها الوحي، أو أقر اللهُ رسولَه عليها إن كانت عن اجتهاد منه؛ ولذلك قال الله تعالى:﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنِّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل:44]، وقد بيَّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» ([1])، أي: من السنن ([2]).
وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كَتِابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ» ([3]). وقد زكَّاه الله في أقواله وأفعاله في كتابه بقوله:﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3- 4]، يقول الإمام ابن عاشور: «و (ما) نافية نفت أن ينطق عن الهوى. والهوى: ميل النفس إلى ما تحبه أو تحب أن تفعله دون أن يقتضيه العقل السليم الحكيم، ولذلك يختلف الناس في الهوى ولا يختلفون في الحق، وقد يحب المرء الحق والصواب، فالمراد بالهوى إذا أُطلِق أنه الهوى المجرد عن الدليل، ونفي النطق عن هوى يقتضي نفي جنس ما يَنْطق به عن الاتصاف بالصدور عن هوى سواء كان القرآن أو غيره من الإرشاد النبوي بالتعليم والخطابة والموعظة والحكمة، ولكن القرآن هو المقصود لأنه سبب هذا الرد عليهم، وتنزيهه صلى الله عليه وسلم عن النطق عن هوى يقتضي التنزيه عن أن يفعل أو يحكم عن هوى؛ لأن التنزه عن النطق عن هوى أعظم مراتب الحكمة؛ ولذلك ورد في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه يمزح ولا يقول إلا حقًّا» ([4]).
فلا انفكاك للقرآن عن السنة ولا يمكن الفصل بينهما؛ لأنها بيانه وشرحه وتوضيحه، فكل ما وصل إلينا من الدين إنما هو عن طريق سيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وفي مقدمة ذلك القرآن نفسه، فإن قرآنية القرآن لم تثبت لدينا إلا بواسطة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم.
وعدم العمل بالسنة في بيان القرآن ليس إلا رفضًا للقرآن نفسه بتعطيل آيات كثيرة منه؛ فقد فَرَضَ الله في كتابه طاعةَ رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقال سبحانه وتعالى:﴿قٌلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 32]، وقال أيضا:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [النساء: 59]، وقال أيضا:﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ [النساء: 80]، وكذلك أمرنا سبحانه وتعالى بالانتهاء إلى حُكْمِه فيما حَكَمَ فيه والتسليم له في قضاءه؛ قال تعالى:﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]، والمراد: فوربك لا يؤمنون حتى يجعلوك حَكَمًا بينهم في جميع أمورهم، لا يُحِكَّمون أحدًا غيرك فيما اختلف بينهم واختلط، ثم لا يجدون في أنفسهم إثما بإنكارهم ما قضيت، وينقادوا لأمرك وقضائك انقيادا لا يخالفونه في شيء ([5])، وقال تعالى أيضا:﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 36]، فكلُّ مَن قَبِلَ عن الله فرائضه في كتابه قَبِلَ عن رسول الله سننه بفرض الله طاعة رسوله على خلقه والانتهاء إلى حكمه، وكلُّ مَن قَبِلَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فَعَنِ الله قَبِل ([6]).
وق قال صلى الله عليه وسلم في ذم هؤلاء : «يُوشِكُ الرَجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ مِثْلَ الَّذِي حَرَّمَ اللهُ» ([7]).
وقد حُكي أن الشافعي كان جالسًا في المسجد الحرام فقال: «لا تسألوني عن شيء إلا أجبتُكم فيه من كتاب الله تعالى. فقال رجل: ما تقول في المحْرِم إذا قتل الزُّنْبُور؟ فقال: لا شيء عليه. فقال: أين هذا في كتاب الله؟ فقال: قال الله تعالى:﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الأحزاب: 7]. ثم ذكر إسنادًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عَلَيكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» ، ثم ذكر إسنادًا إلى عمر رضي الله عنه أنه قال: «للمُحْرِمِ قَتْلُ الزُّنْبُورِ». قال الواحدي: فأجابه من كتاب الله مستنبطًا بثلاث درجات ([8]).
قال الإمام الفخر الرازي: «قال الواحدي: وقد روي في حديث العسيف الزاني: أن أباه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اقض بيننا بكتاب الله. فقال صلى الله عليه وسلم: "لأقضين بينكما بكتاب الله ". ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف، وبالرجم على المرأة إن اعترفت. قال الواحدي: «وليس للرجم والتغريب ذكر في نص الكتاب، وهذا يدل على أن كل ما حَكَمَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم فهو عين كتاب الله» ([9]).
قال ابن القيم: «والسنة مع القرآن على ثلاثة أوجه :
أحدها: أن تكون موافقةً له مِن كلِّ وجه فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتظافرها.
الثاني: أن تكون بيانًا لما أُرِيد بالقرآن وتفسيرًا له.
الثالث: أن تكون موجِبةً لحُكْمٍ سَكَتَ القرآنُ عن إيجابه، أو محرِّمةً لما سكت عن تحريمه.
ولا تخرج عن هذه الأقسام، فلا تُعَارِض القرآنَ بوجهٍ ما، فما كان منها زائدًا على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم تجب طاعتُه فيه ولا تحل معصيتُه وليس هذا تقديمًا لها على كتاب الله، بل امتثال لما أمَر اللهُ به من طاعة رسوله، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطاع في هذا القسم لم يكن لطاعته معنًى، وسقطت طاعته المختصة به، وإنه إذا لم تجب طاعته إلا فيما وافق القرآن لا فيما زاد عليه لم يكن له طاعة خاصة تختص به، وقد قال الله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ وكيف يمكن أحدًا من أهل العلم ألَّا يقبل حديثًا زائدًا على كتاب الله، فلا يَقْبَل حديثَ تحريم المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا حديث التحريم بالرضاعة لكل ما يَحرم من النسب، ولا حديث خيار الشرط، ولا أحاديث الشفعة، ولا حديث الرهن في الحضر مع أنه زائد على ما في القرآن، ولا حديث ميراث الجدة، ولا حديث تخيير الأمَة إذا أُعْتِقت تحت زوجها، ولا حديث منع الحائض من الصوم والصلاة، ولا حديث وجوب الكفارة على مَن جامع في نهار رمضان، ولا أحاديث إحداد المتوفَّى عنها زوجُها مع زيادتها على ما في القرآن من العدة».
ثم قال: «ولو تتبعنا هذا لطال جدًّا، فسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلُّ في صدورنا وأعظم وأفرض علينا ألَّا نقبلها إذا كانت زائدةً على ما في القرآن، بل على الرأس والعينين، وكذلك فرض على الأمَّة الأخذ بحديث القضاء بالشاهد واليمين وإن كان زائدًا على ما في القرآن وقد أخذ به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمهور التابعين والأئمَّة». ثم قال : «بل أحكام السنة التي ليست في القرآن إن لم تكن أكثر منها لم تنقص عنها، فلو ساغ لنا رَدُّ كل سنة زائدة كانت على نص القرآن لبطلت سننُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلُّها إلا سنَّة دل عليها القرآن، وهذا هو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيقع ولابد من وقوع خبره» ([10]).
ودعوة الاستغناء عن السنة في فهم وتوضيح الكتاب تعني: إلغاء لوظيفة من وظائف النبوة، نَصَّ عليها القرآن نصًّا قاطعًا، لا يحتمل شبهة تأويل أو تأوُّل كما في قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل :44]. فـ"التبيين" هنا غير "التبليغ" الذي هو الوظيفة الأولى للنبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغَ مَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغَتَ رِسَالَتَهُ﴾ [المائدة:67].
"والتبيين" و "التبليغ" وظيفتان جاء بهما القرآن الكريم، فعبَّر عن "التبليغ" بهذا اللفظ "ما أُنْزِلَ إِلَيكَ" وعبَّر عن "التبيين" بلفظ مختلف "ما نُزِّل إليهم"، وبينهما فروق لها دلالتها، مردها إلى الفرق بين الوظيفتين.
"فالتبليغ": تأدية النص، تأدية "ما أُنْزِلَ" كما "أُنْزِلَ" دون تغييرٍ ما على الإطلاق، لا بزيادة ولا نقصان، ولا تقديم ولا تأخير.
و"التبيين" إيضاح، وتفسير، وكشف لمراد الله من خطابه لعباده، حتى يتسنَّى لهم إدراكه، وتطبيقه، والعمل به على وجه صحيح.
و"التبليغ": مسئولية المبلِّغ وهو المؤتمن عليها، و"التبيين": مهمة، فرضتها حاجةُ الناس لفَهْمِ ما خُوطبوا به، وبُلِّغوه، وإدراك دلالته الصحيحة ليطبقوه تطبيقًا صحيحًا.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم مؤهل لأن يقوم بالوظيفتين: وظيفة البلاغ، ووظيفة التبيين على سواء.
- واختلاف الناس في فهم القرآن ما بين مصيب ومخطئ، واختلافهم في درجات الإصابة، ودركات الخطأ- برهان بيِّن على حاجتهم إلى "تبيين" لكتاب ربهم، وهو ما قام به رسول الله الذي أُنْزِل عليه هذا الكتاب ([11]).
فالاستقلال بفهم الشريعة وتفاصيلها وجميع أحكامها من القرآن وحده متعذر من غير بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيتضح من الأمثلة الآتي ذكرها، فلابد لنا من النظر في السنة التي نزل بها الوحي أو استنبطها النبي باجتهاده من القرآن وأقره الله عليها؛ حتى نتمكَّن مِن فهم مراد الله تعالى، واستنباط تفاصيل الأحكام من القرآن؛ لأن السنة السبيل الوحيد إلى ذلك.
ولو لم تكن السنة حجة وبيان لـمَا وَجَبَ ولـمَا صَحَّ لأحد من المجتهدين أن ينظر فيها، ويستعين بها على ذلك، ولما فَهِم أحدٌ ما كُلِّف به- فتتعطل الأحكام، وتبطل التكاليف.
ومن الأمثلة التي تبيِّن مدى احتياج القرآن في بيانه للسنة:
- قال الله تعالى : ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾[البقرة: 43]. فهذا يُفْهَم منه وجوبُ كلٍّ من الصلاة والزكاة. ولكن ما هي ماهية هذه الصلاة التي أوجبها و ما كيفيتها؟ وما وقتها؟ وما عددها؟ وعلى مَن تجب؟ وكم مرة تجب في العمر؟
وما هي ماهية الزكاة؟ وعلى مَن تجب؟ وفي أي مال تجب؟ وما مقدارها؟ وما شروط وجوبها؟
- وقال سبحانه وتعالى : ﴿فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ [الروم: 17]. ففهمنا من ذلك وجوب التسبيح ووقته على سبيل الإجمال. ولكن ما المراد بهذا التسبيح؟ أهو الصلاة في قوله :﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أم شيء آخر كالنطق بـ"سبحان الله"؟
- وقال تعالى : ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ [المزمل: 20]. ففهمنا وجوب قراءة ما تيسَّر، ولكن ما المراد من القراءة؟ أهي الصلاة أم قراءة القرآن؟ وإذا كان المراد الصلاة فهل يكفي ركعة ؟ وإذا كانت تكفي فما هي الأفعال التي تشتمل عليها هذه الركعة؟
- وقال تعالى :﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا﴾ [الحج: 77]. ففهمنا وجوب الركوع والسجود، ولكن ما هي كيفيتهما؟ وما المراد بهما؟ أهو الصلاة أم شيء آخر؟ وإذا كان المراد بهما الصلاة، فهل يتساوى عدد الركوع والسجود فيها أم يزيد أحدهما على الآخر؟
- وقال تعالى:﴿إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].فما المراد بهذه الصلاة؟ أهي عين الصلاة التي أوجبها الله علينا في قوله :﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أم شيء آخر ؟ فما هو بالنسبة لله والملائكة ولنا؟
- وقال تعالى :﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [التوبة: 34]. فَفُهِمَ منه تحريم الكنز وعدم الإنفاق.
ولكن ما المراد بهذا الإنفاق المقابل للكنز؟ أهو إنفاق جميع المال - كما فهمه الصحابة حين نزول الآية - أم إنفاق بعضه؟ وما مقدار هذا البعض؟
- وقال تعالى:﴿وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ﴾ [البقرة: 196]. ففهمنا وجوب إتمامهما.
ولكن ما المراد بهما؟ أهو جميع ما كان يفعله العرب في الجاهلية أم شيء آخر؟ فما هو؟ وكم مرة يجب في العمر؟
- وقال تعالى:﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيَمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82]. فما المراد بالظلم الذي جعل الله انتفاءه شرطا للأمن وللاهتداء؟
- وقال تعالى:﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [المائدة: 38]. ففهمنا وجوب قطع يد كل منهما.
ولكن ما هي هذه السرقة الموجبة للقطع؟ أهي السرقة اللغوية بجميع أنواعها أم شيء آخر؟ إن كان شيء آخر فما هو؟ وما شروطه؟ وما نصاب المال الذي توجب سرقته القطع؟ وما كيفية هذا القطع؟ أتقطع اليد من مفصل الكتف أم من مفصل المرفق أم من مفصل الكوع؟ وهل يتكرر القطع عند تكرر السرقة؟ وهكذا، وفي القرآن الكثير من ذلك ([12]).
ويؤيد ما ذكرنا قول ابن حزم رحمه الله: «في أيِّ قرآن وُجِد أن الظهر أربع ركعات، وأن المغرب ثلاث رَكَعَات، وأن الركوع على صفة كذا، والسجود على صفة كذا، وصفة القراءة فيها والسلام، وبيان ما يُجْتَنَب في الصوم، وبيان كيفية زكاة الذهب والفضة، والغنم والإبل والبقر، ومقدار الأعداد المأخوذ منها الزكاة، ومقدار الزكاة المأخوذة، وبيان أعمال الحج من وقت الوقوف بعرفة، وصفة الصلاة بها وبمزدلِفة، ورمي الجمار، وصفة الإحرام، وما يُجْتَنَب فيه، وقطع السارق، وصفة الرَّضاع المحرم، وما يحرم من المآكل، وصفتا الذبائح والضحايا، وأحكام الحدود، وصفة وقوع الطلاق، وأحكام البيوع، وبيان الربا، والأقضية والتداعي، والأيمان، والأحباس، والعمرى، والصدقات وسائر أنواع الفقه؟ وإنما في القرآن جمل لو تُركنا وإياها لم ندر كيف نعمل بها؟ وإنما المرجوع إليه في كل ذلك النقلُ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الإجماع إنما هو على مسائل يسيرة، قد جمعناها كلَّها في كتاب واحد، فلابد من الرجوع إلى الحديث ضرورة، ولو أن امرأ قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن، لكان كافرًا بإجماع الأمَّة، ولكان لا يلزمه إلا ركعةٌ ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل، وأخرى عند الفجر؛ لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة، ولا حد للأكثر في ذلك، وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال، وإنما ذهب إلى هذا بعضُ غالية الروافض ممن قد اجتمعت الأمَّة على كفرهم. وبالله التوفيق.
ولو أن امرأ لا يأخذا إلا بما اجتمعت عليه الأمَّةُ فقط ويترك كلَّ ما اختلفوا فيه مما قد جاءت فيه النصوصُ لكان فاسقًا بإجماع الأمَّة، فهاتان المقدمتان توجبان بالضرورة الأخذ بالنقل» ([13]).
آيات يتوهم من ظاهرها صدق شبهة الاكتفاء بالقرآن :
إن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38].
والمراد من الكتاب في الآية اللوح المحفوظ وليس القرآن، فإن اللوح المحفوظ هو الذي حوى كل شيء، وهو المشتمل على جميع أحوال المخلوقات على التفصيل التام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «جَفَّ القَلَمُ بَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ» ([14]).
يقول الإمام الطاهر بن عاشور: « وجملة ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ معترضة لبيان سعة علم الله تعالى وعظيم قدرته، فالكتاب هنا بمعنى المكتوب، وهو المكني عنه بالقلم المراد به ما سَبق في علم الله وإرادته الجارية على وفقه كما تقدم في قوله تعالى :﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهَ الرَّحْمَةَ﴾ [ الأنعام: 12]. وقيل: الكتاب القرآن، وهذا بعيد إذ لا مناسبة بالغرض على هذا التفسير، فقد أورد: كيف يشتمل القرآن على كل شيء؟ ([15]).
ويؤيد أن المراد من الكتاب في الآية هو اللوح المحفوظ قوله سبحانه وتعالى قبله: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بَجَنَاحِيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ﴾. فإن أظهر الأقوال في معنى المثلية هنا أن أحوال الدواب من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاء موجودةٌ في الكتاب المحفوظ مثل أحوال البشر في ذلك كله ([16]).
وأما قوله تعالى : ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين﴾ [النحل :89] قال الشوكاني في فتح القدير: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ﴾ أي : القرآن ... ومعنى كونه﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ أن فيه البيان لكثير من الأحكام، والإحالة فيما بقي منها على السنة، وأَمَرَهم باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يأتي به من الأحكام، وطاعته كما في الآيات القرآنية الدالة على ذلك، وقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنِّي أُوتِيتُ القُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ»([17]).
يقول الإمام ابن عاشور: « و﴿كُلِّ شَيْءٍ﴾ يفيد العموم، إلا أنه عموم عرفي في دائرة ما لمثله تجيء الأديان والشَّرائع من إصلاح النفوس، وإكمال الأخلاق، وتقويم المجتمع المدني، وتبين الحقوق، وما تتوقَّف عليه الدعوة من الاستدلال على الوحدانيةِ وصدقِ الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يأتي في خلال ذلك من الحقائق العلمية والدقائق الكونية، ووصف أحوال الأمم، وأسباب فلاحها وخسارها، والموعظة بآثارها بشواهد التاريخ، وما يتخلَّل ذلك من قوانينهم وحضاراتهم وصنائعهم.
وفي خلال ذلك كله أسرار ونكت من أصول العلوم والمعارف صالحة لأن تكون بيانًا لكل شيء على وجه العموم الحقيقي إن سلك في بيانها طريق التفصيل واستنير فيها بما شَرَحَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم وما قفاه به أصحابه وعلماء أمَّته، ثم ما يعود إلى الترغيب والترهيب من وصف ما أعد للطائعين وما أعد للمعرضين، ووصف عالم الغيب والحياة الآخرة، ففي كل ذلك بيان لكل شيء يُقصَد بيانه للتبصُّر في هذا الغرض الجليل، فيؤول ذلك العموم العرفي بصريحه إلى عموم حقيقي بضمنه ولوازمه، وهذا من أبدع الإعجاز» ([18]).
فالبيان في القرآن على نوعين: بيان بطريق النص القرآني، وذلك: مثل بيانه أصول الدين وعقائده، وبيانه وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج، وحل البيع والنكاح، وحرمة الربا والفواحش، وحل أكل الطيبات وحرمة أكل الخبائث.
وبيان بطريق الإحالة على دليل من الأدلة الأخرى التي اعتبرها الشارع في كتابه أدلة وحُججًا على خلقه. فكلُّ حُكْمٍ مما بيَّنته السنة أو الإجماع أو القياس أو غير ذلك من الأدلة المعتبرة، فالقرآن مبيِّن له؛ لأنه بيَّن مُدْرَكَه ([19]) ووجهنا نحوه، وأرشدنا إليه، وأوجب علينا العمل به، ولولا إرشاده لهذا المُدْرَك، وإيجابه العمل بمقتضاه لما علمنا ذلك الحكم وعملنا به. فالقرآن إذًا هو أساس التشريع، وإليه ترجع جميع أحكام الشريعة الإسلامية بهذا المعنى ([20]).
وبهذا يتبين أنه لا وجه لمن يريد فتنة المسلمين وهدم الدين بدعوى الاكتفاء بالقرآن، وهو في الأساس يريد إزاحة السنة، وبعد ذلك يبدأ في إزاحة القرآن، وينبغي على المسلم التمسك بدينه كما نقل إليه من لدن النبي صلى الله عليه وأصحابه، حتى يومنا هذا، كما أن في تلك الدعوة مخالفة صريحة للقرآن الذي يدعي بعضهم الاكتفاء به، والله تعالى أعلى وأعلم.
_________________________________________
([1]) أخرجه أحمد 4/130، وأبو داود 4/200.
([2]) انظر: شرح ابن بطَّال للبخاري 8/401، تأويل مختلف الحديث لابن قيبة ص 166.
([3]) أخرجه مالك في الموطأ 2/899 ، والحاكم في المستدرك 1/171 حديث، والبيهقي في السنن الكبرى 10/114.
([4]) انظر: التحرير والتنوير 27/93.
([5]) انظر: فتح القدير للشوكاني1 /729. بتصرف.
([6]) الرسالة للشافعي ص 33. بتصرف.
([7]) أخرجه أحمد 4/132، والترمذي 5/38. وقال: حسن غريب، وابن ماجه 1/6 حديث واللفظ له، والبيهقي في السنن الكبرى 7/76.
([8]) انظر : تفسير الرازي 12/227، وحجية السنة للشيخ لعبد الغني عبد الخالق ص 388.
([10]) إعلام الموقعين عن رب العالمين 2/221.
([11]) السنة بيانا للقرآن، للدكتور إبراهيم الخولي ص 4- 5.
([12]) حجية السنة، للشيخ عبد الغني عبد الخالق ص (323).
([13]) الإحكام في أصول الأحكام (2/207).
([14]) جزء من حديث ابن عباس رضي الله رواه الطبراني في المعجم الكبير 11/223، والبيهقي في شعب الإيمان 7/203.
([15]) التحرير والتنوير 7/217.
([16]) حجية السنة، للشيخ عبد الغني عبد الحالق ص 385.
([17]) رواه أحمد في مسنده 4/130.
([18]) التحرير والتنوير 14/253.
([19]) المدرك: مكان الإدراك وهو الدليل، لأن الدليل محل إدراك الحكم، فالسنة مُدْرَك من مدارك الشرع، وهي مواضع طلب الأحكام. انظر: حاشية العطار على شرح المحلي لجمع الجوامع 2/250، والمصباح المنير ص 192- 193.
([20]) حجية السنة، للشيخ عبد الغني عبد الخالق ص 385.