أسئلة عن المعاق ذهنيًّا
المبـــــــادئ
1- الزواج حق من حقوق المعاق ذهنيًّا؛ ثابت له بمقتضى الجِبِلَّة والبشريّة والطَّبع.
2- أثبت الشرع الشريف سلطة ولاية أمر المجنون للغير؛ ومن التصرفات التي يجوز للولي إيقاعها: تزويج المجنون الذي تحت ولايته؛ لمصلحة إعفافه.
3- ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه ليس للولي أن يطلق زوجة المجنون -وفي معناه المعاق ذهنيًّا- الذي تحت ولايته عليه.
4- الأصل في الولي أنه كما ينوب عن المجنون في إدارة شؤونه فكذلك ينوب عنه فيما يتعلق بإدارة شؤون أسرته.
الســــــــــؤال
اطلعنا على الطلب المقيد برقم 560 لسنة 2010م المتضمن السؤال عن الآتي:
1- حكم زواج المعاقين ذهنيًّا، وإنجابهم بعد ذلك.
2- هل يصح من المعاق ذهنيًّا أن يوقع الطلاق؟
3- مدى ولاية ولي المعاق ذهنيًّا على زوجة المعاق وأولاده.
4- إذا كان الزواج من المعاق ذهنيًّا يخفي غرض الحصول على منفعة مادية من ورائه، هل يكون الزواج حينئذٍ باطلا؟
الجــــــــــواب
أولا: الزواج حق من حقوق المعاق ذهنيًّا؛ ثابت له بمقتضى الجِبِلَّة والبشريّة والطَّبع؛ لأنه إنسان مُرَكَّبٌ فيه الشهوةُ والعاطفةُ، ويحتاج إلى سَكَنٍ ونَفَقَة ورعاية وعناية، شأنه شأن بقية بني جنسه، مع زيادته عليهم باحتياجه لرعاية زائدة فيما يرجع إلى حالته الخاصة.
وكما أن ذلك الحق ثابت له طبعًا، فهو ثابت له شرعًا؛ فإذا كانت الشريعة قد أجازت للمجنون جنونًا مُطبَقًا أن يتزوج، فإن من كان في مرتبةٍ دون هذه المرتبة -كالمعاق إعاقة ذهنية يسيرة- يكون زواجه جائزًا من باب أولى، ولا حرج في ذلك، ما دام المعاق محوطًا بالعناية والرعاية اللازمتين.
والزواج عقد من العقود، متى توفرت فيه أركانه وشرائطه صَحّ وترتبت عليه آثارُه. ومن شروط صِحَّة العقود: أهليةُ المتعاقدَين، فإذا اختَلَّت هذه الأهلية بعارِضِ الجنون أو العَتَه: لم يَصِح للمجنون -ونحوه- أن يُباشِر الزواجَ بنفسه، ولو فَعَله لم يَنعَقد العقد؛ وذلك لأن النكاح تَصَرّفٌ مُتَوقِّف على القصد الصحيح، وهو لا يوجد إلا مع العَقل.
قال العلامة الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 232، ط. دار الكتب العلمية): (لا يَنعقد نكاح المجنون والصبي الذي لا يَعقل؛ لأن العقل من شرائط أهلية التصرف).اهـ.
وبسبب هذا الاختلال في الأهلية فإن الشرع قد أثبت سلطة ولاية أمر المجنون للغير؛ لأجل تحقيق الحفظ والصيانة له، وبموجب هذه السُّلطة يقوم الوليُّ برعاية شؤون المُولى عليه المتعلقة بشخصه.
ومن التصرفات التي يجوز للولي إيقاعها: تزويج المجنون الذي تحت ولايته؛ لمصلحة إعفافه أو إيوائه وحفظه وصيانته.
قال الإمام النووي الشافعي في "الروضة" (5/ 435، ط. دار عالم الكتب): "إن كان المجنون كبيرًا لم يُزَوَّج لغير حاجة، ويُزَوَّج للحاجة، وذلك بأن تظهر رغبته فيهن؛ بدورانه حولهن، وتعلقه بهن، ونحو ذلك، أو بأن يحتاج إلى مَن يخدمه ويتعهده ولا يجد في محارِمه من يُحَصِّل هذا.. أو بأن يتوقع شفاؤه بالنكاح، وإذا جاز تزويجه تولاه الأب، ثم الجد، ثم السلطان، دون سائر العصبات، كولاية المال، وإن كان المجنون صغيرًا لم يصح تزويجه على الصحيح".اهـ.
وقال العلامة البُهُوتي الحنبلي في "كشاف القناع عن متن الإقناع" (5/ 45، ط. دار الكتب العلمية): "أمَّا المجنونة: فلجميع الأولياء تزويجها إذا ظهر منها الميل للرجال؛ لأن لها حاجة إلى النكاح؛ لدفع ضرر الشهوة عنها وصيانتها من الفجور وتحصيل المهر والنفقة والعفاف وصيانة العرض، ولا سبيل إلى إذنها، فأبيح تزويجها، ويعرف ميلها إلى الرجال مِن كلامها وتتبع الرجال وميلها إليهم ونحوه من قرائن الأحوال، وكذا إن قال ثقة من أهل الطب -إن تعذر غيره، وإلَّا فاثنان-: إنَّ علتها تزول بتزويجها، فلكل وليٍّ تزويجها؛ لأن ذلك من أعظم مصالحها؛ كالمداواة، ولو لم يكن للمجنونة ذات الشهوة ونحوها وليٌّ إلا الحاكم زَوَّجَها". اهـ بتصرف.
وغنيٌّ عن البيان أن المقصود من هيمنة الأولياء والأوصياء والكُفلاء هو محض المصلحة للمُولى عليه والموصى عليه والمكفول، لا أن يتحول الأمر إلى تجارة للرقيق الأبيض في صورة استخدام هؤلاء المعاقين استخدامًا غير آدمي وغير أخلاقي.
والأصل أن القيّم والوالدَين أو أحدهما تكون تصرفاته تجاه المعاق مقيدة بالمصلحة، دائرة معها؛ فإن كان في مصلحته من الناحية النفسية أو الصحية أو حتى المادية الزواج فلا يجوز له الحيلولة بينه وبين ذلك، بل قد يمكن التأليف بين الحالات المتشابهة أو القريبة التشابه لإحداث الزواج بينها من خلال الجمعيات الموثوقة والروابط التي تنتظم أمثالَ هؤلاء المعاقين ذهنيًّا، ويكون تأخير القائمين على هؤلاء في جلب مصلحة لهم -حيث توفرت مقدماتها- فيه تقصير وإثم بقدر تحقق تخلفهم عن توصيل هذا الخير الذي يغلب على الظن حصوله للمعاقين.
أما بخصوص الإنجاب فيما بعد: فمرجع ذلك إلى الخبراء وأهل الاختصاص، وهم من يُعرَف من خلالهم درجة المصلحة والمفسدة فيما يترتب على الإنجاب أو عدمه أو تأخيره أو تحديده بحسب المصلحة لكل حالة على حِدَتها، وهؤلاء هم الذين يستطيعون الحكم على قدرة المعاق ذهنيًّا على رعاية الأولاد في المراحل العمرية المختلفة من عدمها، وهل فرص حدوث توريث للمرض الذهني والعقلي قائمة؟ وما نسبة ذلك؟ وهل هذا الإنجاب يؤثر سلبًا على حالة الأب أو الأم؟ وغيرها من النظرات الاختصاصية التي يترجح معها الإنجاب أو عدمه، ويكون ذلك تحت رعاية وعناية وليِّ المعاق، وقد يحتاج الأمر للقاضي عند اللزوم أو التنازع.
ثانيًا: أما بخصوص طلاق المعاق ذهنيًّا: فالأصل في الطلاق أنه حَقٌّ يملكه الزوج وحده؛ لما رواه ابن ماجه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «إنما الطلاق لِمَن أَخَذ بالساق»، فلا يملك أحدٌ غير الزوج طلاق امرأته إلا إذا فوَّضه هو في ذلك، فيجوز حينئذ؛ لأن الأصل أن يتصرف الإنسان بنفسه. لكن هذا الأصل فيمن تصح عبارته. وناقص الأهلية ليس كذلك؛ فلا يصح طلاقه. وقد روى الأربعة عن علي وعائشة -رضي الله عنهما- واللفظ للنسائي أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يَكبُر، وعن المجنون حتى يَعقل أو يُفيق».
وقد اختلف الفقهاء: هل للولي أن يطلق زوجة المجنون -وفي معناه المعاق ذهنيًّا- الذي تحت ولايته عليه؟ فذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه ليس له ذلك. (انظر: المبسوط 25/ 24، ط. دار المعرفة- بيروت، رد المحتار 3/ 25، ط. دار الكتب العلمية؛ أسنى المطالب 2/ 212، ط. دار الكتاب الإسلامي، شرح منتهى الإرادات 3/ 59، ط. عالم الكتب).
ونُقِل عن بعض السلف جوازه (انظر: مصنف ابن أبي شيبة 4/ 27)، وبه قال فقهاء المالكية: (انظر: شرح الخرشي على مختصر خليل 4/ 17، ط. دار الفكر).
وقصر بعض الحنابلة جواز التطليق على الأب دون غيره ممن يملك التزويج من عموم الأولياء؛ كوَصِيّ الأب والحاكم. (المغني، 7/ 41).
والقانون المصري لم يُصَرِّح في مواده بحُكم تطليق ولِيّ المجنون على من تحت ولايته، إلا أن الفقه القانوني سار على مذهب الجمهور (انظر: موسوعة الفقه والقضاء في الأحوال الشخصية للمستشار محمد عزمي البكري، 4/ 20، ط. دار محمود)؛ وقد جاء في المذكرة الإيضاحية لتعديلات قانون الأحوال الشخصية رقم (100) لسنة 1985م أن الأحكام القانونية الخاصة بالأحوال الشخصية إن لم يُنَص عليها، فإنه يُحكَم فيها بأرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة، ما عدا ما استُثنِيَ مِن ذلك.
وهو ما أفتت به دار الإفتاء المصرية سابقًا؛ في عهد الشيخ بكري الصدفي بتاريخ جمادى الأولى 1328هـ، وبنحوه في فتوى أخرى للشيخ حسن مأمون بتاريخ أول رمضان 1378هـ الموافق 10 مارس 1959م.
وعلى ذلك: فليس للولي أن يطلِّق زوجة المحجور عليه لجنون، وإن رأى ذلك فله رفع الأمر إلى القاضي للنظر فيه، فالقاضي وحده هو من يملك إيقاع الطلاق في مثل هذه الحالة إذا تَحَقَّق عنده ما يوجب الطلاق شرعًا.
ثالثًا: أما فيما يتعلق بحدود ولاية ولي المعاق ذهنيًّا على زوجة المعاق وأولاده: فالوليُّ قائم مقام المعاق الذي هو تحت ولايته في رعاية شؤون زوجته وأولاده؛ فسبب نصب الولي هنا: هو صيانة ناقص الأهلية، والتصرف له بما فيه الأَحَظّ له، ولذلك فإنه ينوب عنه فيما كان سيباشره من قرارات وأمور تتعلق بنفسه وأسرته لو كان عاقلا.
وكلام الفقهاء دال على هذا صراحة ولزومًا فيما يتعلق بالمجنون، ولا فرق بين المجنون والمعاق ذهنيًّا؛ بجامع نقصان الأهلية في كلٍّ؛ من ذلك:
ما ذكروه من أن ما يَتَعَلَّق بزوجة المجنون من نفقة وكسوة إنما تستوفيها من وَلِيِّه. كما أنه هو الذي ينظم قَسم المجنون بين زوجاته إن كان له أكثر من زوجة؛ جاء في "مختصر خليل" وشرحه "منح الجليل" للشيخ محمد عليش من كتب السادة المالكية (3/536، ط. دار الفكر): "(و) يجب (على وليّ) الزوج البالغ (المجنون) الذي له زوجتان أو أكثر (إطافته) على زوجتيه أو زوجاته؛ بأن يُدخله على إحداهما عَقِب غروب الشمس، ويبقيه عندها إلى غروب شمس اليوم الذي يليها -أي: الليلة السابقة-، فيخرجه من عندها ويُدخله على أخرى كذلك، وهكذا، كما يجب عليه نفقتهن وكسوتهن؛ لأنها من الحقوق البدنية التي يتولّى وليُّه استيفاءَها له أو تمكينَه منها حتى يستوفِيَها).اهـ.
ومنه: ما قاله شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "شرح منهج الطلاب" (2/ 548- 549، ط. دار الفكر -مع حاشية الجمل-): "(ولو أحرم رقيق) ولو مكاتبًا (أو زوجة بلا إذن) فيما أحرم به (فلمالكِ أمرِه) من سيد أو زوج (تحليلُه) بأن يأمره بالتحلل؛ لأن تقريرهما على إحرامهما يعطل عليه منافعهما التي يستحقها، فلهما التحلل حينئذ".اهـ.
قال العلامة الجمل معلقًا في حاشيته عليه (2/ 548): "(قوله: فلمالك أمره.. إلخ) نعم، لو سافرت معه وأحرمت؛ بحيث لم تُفَوِّت عليه استمتاعًا؛ بأن كان محرمًا، ولم تطل مدة إحرامها على مدة إحرامه، فليس له تحليلها على الأَوجَه. وكذا لو أحرمت بنذر معين قبل النكاح مطلقًا، أو بعده بإذنه، أو بقضاء فوري، ولوليّ زوج أو سيد المنع مطلقًا".اهـ، فهذا النَّص من العلامة الجمل يبين أنه لو قام بالشخص ما يوجب قيام ولاية الغير عليه -كما في المجنون والمعاق ذهنيًّا- فإن هذا الولي له أن يتدخل بمنع زوجة المولى عليه من إكمال الإحرام في الصورة المذكورة، وليس ذلك إلا لأنه يقوم مقام موليِّه في الإذن والمنع.
وقد بحث فقهاء الشافعية أيضًا مسألة هل يمتنع على زوجة المجنون صوم التطوع مع حضوره أو ينوب عنه وليه في الإذن وعدمه؟ أو يقال: إن كان الاستمتاع يضره أذن لها وليه، وإن كان ينفعه أو لا يضره فلا؟ قال العلامة الشهاب الرملي في حاشيته على "أسنى المطالب" (3/ 435، ط. دار الكتاب الإسلامي) بعد أن ذكر هذا: "وفيه احتمالٌ، قاله الأَذرَعي". اهـ.
فكأنَّ ترددهم بين اعتبار الولي في الإذن وعدمه، وبين حكمهم بعدم جواز صوم زوجة المجنون في التطوع مع حضوره، منشؤه تنازع أمرين:
الأول: أن الأصل في الولي أنه كما ينوب عن المجنون في إدارة شؤونه فكذلك ينوب عنه فيما يتعلق بإدارة شؤون أسرته.
والثاني: أن المجنون لا يصح إذنه، وقد تتجدد عليه دواعي الوطء، وهذا أمر لا مدخل لوليه في ضبطه، فلم يمكن رد السماح للزوجة بالصوم إلى إذن الولي، أو يمكن أن يعتبر إذن الولي إذا كان المجنون يتضرر بالوطء؛ لأن الإذن في هذه الحالة سببه حجب الضرر عن المجنون، فهو تصرف بما تقتضيه مصلحته، بخلاف ما إذا كان ينفعه أو لا يضره؛ لاحتمال تجدد الدواعي، وتضرره حينئذ بالامتناع.
ومنه: ما قاله العلامة البهوتي في "شرح منتهى الإرادات" (3/ 147، ط. عالم الكتب): "(ولوَلِيّ مجنونٍ) طَلَّقَ بلا عِوَضٍ دون ما يملكه وهو عاقل ثم جُنَّ (في عدتها رجعتُها، ولو كرهت) المطلقةُ ذلك؛ لقيام وَلِيِّه مقامَه؛ خشية الفوات بانقضاء عدتها".اهـ، وهذا تصريح منه بأن الولي يقوم مقام المجنون الذي تحت ولايته.
رابعًا: أما السؤال عن حكم الزواج من المعاق ذهنيًّا إذا كان يُخفي غرض الحصول على منفعة مادية من ورائه، فنقول: إن هذا ليس زواجًا بين طرفين كاملي الأهلية، بل أحد العاقدين هو ولي لأحد الزوجين نيابة عنه لنقص أهليته، وولايته توجب عليه التصرف بما فيه النفع المحض لموليه، كاكتساب مهر أو تحصيل نفقة أو سكون نفس وعلاج روح، وغير ذلك. فإذا قام الولي بتزويج موليه -مثلا- بأركان تامة ولكن مع علمه أو غلبة ظنه بحصول منفعة مادية للطرف الآخر بلا مقابل مظنون لموليه لكان تصرفه ساقطًا غير معتبر؛ لأنه لم يتصرف له بالأَحَظِّ، ويكون العقد مفسوخًا؛ لتصرفه على غير مقتضى الولاية. فصحة زواج المعاق ذهنيًّا منوطة بكون نصيبه من الزواج هو الأَحَظّ له دائمًا، وإلا لم يقع العقد صحيحًا.
قال العلامة ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج في شرح المنهاج" (7/ 290، ط. دار إحياء التراث العربي) في تزويج المحجور عليه: "(وينكح بمهر المثل)؛ لأنه المأذون فيه شرعًا، أو بأقل منه، فإن زاد لغا الزائد (مَن تليق به) من حيث المصرف المالي، فلو نكح مَن يَسْتَغْرِقُ مهرُ مثلِها مالَه لم يصح النكاح، كما اختاره الإمام وقطع به الغزالي؛ لانتفاء المصلحة فيه، خلافًا للإسنوي. ويظهر أنه لو لم يستغرقه وكان الفاضل تافهًا بالنسبة إليه عرفًا كان كالمستغرِق. ولو زَوَّجَ الوليُّ المجنونَ بهذه لم يصح على الأوجه؛ لاعتبار الحاجة فيه، كالسفيه، وهي تندفع بدون هذه". اهـ.
والله سبحانه وتعالى أعلم