حكم ثبوت المحرمية بإنزال لبن الرضاعة بالأدوية أو بالأجهزة الصناعية
السؤال
هل تثبت المحرمية بالرضاعة إذا كان إدرار اللبن بسبب دواء ونحوه، وليس بسبب ولادة؟ وهل يكون الحكم واحدًا لو كانت صاحبة اللبن ليست ذات زوج كأن تكون بكرًا أو مطلقة؟
الجواب
تحريم النكاح بالرضاع كالتحريم بالنسب؛ وذلك لما رواه الشيخان عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «يَحْرُم من الرضاعة ما يَحْرُم مِن النَّسَب»، وكذلك فإن الرضاع يفيد جواز الخلوة والنظر، دون سائر أحكام النسب من الميراث والنفقة والولاية على النفس والمال، فلا تثبت بالرضاع؛ يقول شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" [3 /415، ط. دار الكتاب الإسلامي]: "وتأثيره -أي: الرضاع- تحريم النكاح ابتداء ودوامًا، وجواز النظر والخلوة وعدم نقض الطهارة باللَّمس، وإيجاب الغرم وسقوط المهر، دون سائر أحكام النَّسب؛ كالميراث والنَّفقة والعتق بالملك وسقوط القصاص وَرَدِّ الشهادة" اهـ.
ولا خلاف بين الفقهاء في أنه يحرم على الرضيع من النساء من يحرمن عليه من النسب، وهن السبع اللاتي ذكرن في قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 23]، فتحرم المرضعة على الرضيع؛ لأنها أمه، وآباؤها وأمهاتها من النسب أو الرضاع أجداده وجداته. وفروع المرضعة من الرضاع كفروعها من النسب، فأولادها من نسب أو رضاع إخوته وأخواته، سواء كانوا من صاحب اللبن -وهو زوج المرضعة الذي كان نزول اللبن بسببه- أم من غيره، وسواء من تقدمت ولادته عليه ومن تأخرت عنه؛ لأنهم إخوته وأخواته؛ لقوله تعالى: ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ [النساء: 23]، فقد أثبت سبحانه وتعالى الحرمة والأُخُوة بين بنات المرضعة وبين الرضيع مطلقًا، من غير فصل بين أخت وأخت، وكذا بنات بناتها، وبنات أبنائها، وإن سفلن. وإخوتها وأخواتها من نسب أو رضاع أخواله وخالاته. وأبو صاحب اللبن جد الرضيع، وأخوه عمه، وكذا الباقي من أقارب صاحب اللبن على هذا القياس؛ فأمه جدته، وأولاده إخوته وأخواته وإخوته أعمامه وعماته؛ لما مر أن الحرمة تسري إلى أصول صاحب اللبن وفروعه.
ويشترط لحصول التحريم بالرضاع ألا يبلغ الرضيع حولين، فإن بلغ حولين لم يؤثر إرضاعه في التحريم؛ وذلك لقوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ [البقرة: 233]، فجعل الله الحولين الكاملين تمام الرضاعة، وليس وراء تمام الرضاعة شيء [بدائع الصنائع 4 /6، ط. المكتبة العلمية]، ولما رواه البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «إنما الرضاعة من المجاعة»، ولما رواه الترمذي -وقال: هذا حديث حسن صحيح- عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام».
وهذا هو مذهب جماهير العلماء؛ قال الإمام الترمذي -بعد أن روى الحديث السابق- [3 /450، ط. الحلبي]: "والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم؛ أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين، وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئًا" اهـ.
وقال الإمام النووي في "شرحه لصحيح مسلم" [10 /30، ط. دار إحياء التراث العربي]: "وقال سائر العلماء من الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار إلى الآن: لا يثبت إلا بإرضاع من له دون سنتين، إلا أبا حنيفة فقال: سنتين ونصف. وقال زفر: ثلاث سنين، وعن مالك رواية: سنتين وأيام" اهـ.
ويشترط لحصول التحريم أيضًا: أن تكون الرضعات خمسًا متفرقات فما فوقها، فما دون الخمس رضعات لا يؤثر في التحريم؛ لما رواه مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان فيما أنزل من القرآن: (عشر رضعات معلومات يحرمن)، ثم نسخن بـ(خمس معلومات)، فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهن فيما يقرأ من القرآن».
قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب شرح روض الطالب" [3 /417]: "ولا أثر لدون خمس رضعات، روى مسلم عن عائشة -رضي الله عنها-: كان فيما أنزل الله في القرآن: (عشر رضعات معلومات يحرمن)، فنسخن (بخمس معلومات)، فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهن فيما يقرأ من القرآن؛ أي يتلى عليكم حكمهن أو يقرؤهن من لم يبلغه النسخ لقربه، والمعتمد في التعدد العرف" اهـ.
وقال الإمام الرملي في "نهاية المحتاج" [7 /176، ط. مصطفى الحلبي]: "وشرط الرضاع المحرم: خمس رضعات أو أكلات من نحو خبز أو عجن به، أو البعض من هذا والبعض من هذا؛ لخبر مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- بذلك، والقراءة الشاذة يحتج بها في الأحكام كخبر الواحد على المعتمد، وحكمة الخمس: أن الحواس التي هي سبب الإدراك كذلك، وضبطهن بالعرف؛ إذ لم يرد لهن ضبط لغة ولا شرعًا" اهـ بتصرف.
وقال العلامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" [5 /149، ط. دار الكتب العلمية]: "ويجب في شهادة الإرضاع تذكر الوقت الذي وقع فيه الإرضاع، وهو قبل الحولين في الرضيع، وتذكر العدد، وهو خمس رضعات، ولا بد أن يقول: متفرقات؛ لأن غالب الناس -كما قال الأذرعي- يجهل أن الانتقال من ثدي إلى ثدي، أو قطع الرضيع للهو وتنفس ونحوهما وعوده رضعة واحدة" اهـ.
والتحريم يحصل بمجرد اللبن دون شرط الزوجية، لأن العلة في تحريم الرضاع هي الجزئية؛ بمعنى أن جزءًا من المرضعة صار جزءًا من الرضيع؛ قال السرخسي في "المبسوط" [5 /132، ط. دار المعرفة]: "بلغنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس، وذكر عروة عن عائشة -رضي الله عنهما- هذا الحديث قال: «يحرم بالرضاع ما يحرم بالولادة» رواه مسلم، وفيه دليل على أن الرضاع من أسباب التحريم، وأنه بمنزلة النسب في ثبوت الحرمة؛ لأن ثبوت الحرمة بالنسب لحقيقة البعضية أو شبهة البعضية، وفي الرضاع شبهة البعضية بما يحصل باللبن الذي هو جزء الآدمية في إنبات اللحم وإنشاز العظم، وإليه أشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم» أخرجه ابن عبد البر في التمهيد من حديث عبد الله بن مسعود، وفيه دليل على أن الحرمة بالرضاع كما تثبت من جانب الأمهات تثبت من جانب الآباء، وهو الزوج الذي نزل لبنها بوطئه، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شبهه بالنسب في التحريم، والحرمة بالنسب تثبت من الجانبين فكذلك بالرضاع، لحديث عمرة عن عائشة -رضي الله عنهما- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيتي، فسمعت صوت رجل يستأذن على حفصة -رضي الله عنها- فقلت: هذا رجل يستأذن في بيتك يا رسول الله، فقال: صلوات الله عليه: «ما أراه إلا فلانًا -عمًّا لحفصة من الرضاع-»، فقلت: لو كان فلان عمي من الرضاع حيًّا أكان يدخل علي؟ فقال: «نعم، الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة» رواه البخاري، وفي حديث آخر عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله، إن أفلح بن أبي قعيس يدخل علي وأنا في ثياب فضل، فقال صلى الله عليه وسلم: «ليلج عليكِ أفلح، فإنه عمك من الرضاعة»، فقلت: إنما أرضعتني المرأة لا الرجل، فقال صلوات الله عليه: «ليلج عليك فإنه عمك» رواه مسلم، والعم من الرضاعة لا يكون إلا باعتبار لبن الفحل، والمعنى فيه أن سبب هذا اللبن فعل الواطئ، فالحرمة التي تنبني عليه تثبت من الجانبين كالولادة" اهـ.
قال العلامة القرافي في "الفروق" [3 /121، ط. عالم الكتب]: "وشُرِعَ الرضاعُ سببًا للتحريم؛ بسبب أن جزء المرضعة وهو اللبن، صار جزء الرضيع باغتذائه به، وصيرورته من أعضائه، فأشبه ذلك منيها ولحمتها في النسب؛ لأنهما جزء الجنين" اهـ.
وقال المحقق ابن حجر الهيتمي في "تحفة المحتاج" [8 /284، ط. دار إحياء التراث العربي]: "وسبب التحريم بالرضاع: أن اللبن جزء المرضعة، وقد صار من أجزاء الرضيع فأشبه منيها في النسب، ولقصوره عنه لم يثبت له من أحكامه سوى المحرمية، دون نحو إرث وعتق وسقوط قود ورد شهادة" اهـ.
وعليه فالمنظور إليه شرعًا خصوص الإرضاع، دون اشتراط سبب مخصوص، سواء كان السبب ولادة أم دواءً أم جهازًا أم هرمونًا، ما دام الإنبات والإنشاز قد حصلا، وعلى هذا الجمهور مع اختلاف في كونها تسع سنين أو أقل، فلا يشترطون لثبوت التحريم بلبن المرأة أن يتقدم حمل، فيحرم لبن البكر التي لم توطأ ولم تحبل قط؛ لعموم قوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ [النساء: 23]، ولأنه لبن امرأة فتعلق به التحريم، قال ابن عابدين في "رد المحتار" [2 /408، ط. إحياء التراث]: "ولبن بكر بنت تسع سنين فأكثر محرّم، وإلا فلا" اهـ.
وقال ابن رشد في "المقدمات": "تقع الحرمة بلبن البكر والعجوز التي لا تلد، وإن كان من غير وطء إن كان لبنًا، لا ماء أصفر" اهـ [بواسطة: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، 2 /502، ط. دار الفكر].
ويقول الشيخ تقي الدين الحصني الشافعي في "كفاية الأخيار" [2 /85، ط. مصطفى الحلبي]: "الشرط الثالث: كونها محتملة للولادة فلو ظهر لصغيرة دون تسع سنين لبن لم يحرم، وإن كانت بنت تسع سنين حرم، وإن لم يحكم بالبلوغ؛ لأن احتمال البلوغ قائم، والرضاع كالنسب فيكفي فيه الاحتمال، ولا فرق في المرضعة بين كونها متزوجة أم لا، ولا بين كونها بكرا أم لا، وقيل: لا يحرم لبن البكر، والصحيح أنه يحرم، ونص عليه الشافعي" اهـ.
فإذا تزوجت هذه البنت بعد الرضاع، فزوجها يصير زوج أم الرضيع، لا أباه؛ لأنه لم يتسبب في اللبن فلا يصير لبن فحل، وبالتالي فهو ليس أبًا للرضيع.
وأما حكم تناول الأدوية أو غيرها لإدرار اللبن، فهو على أصل الإباحة، ما لم يحصل به ضرر راجح فيحرم حينئذ؛ للقاعدة الفقهية المقررة: أن الضرر يزال، وأصلها: ما رواه ابن ماجه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «لا ضرر ولا ضرار».
وبناءً عليه: فإن المحرمية بالرضاعة تثبت بمطلق اللبن النازل من المرأة، ولو كان سبب النزول دواء أو نحوه ولم يكن بسبب ولادة، والله سبحانه وتعالى أعلم.