حكم أخذ الضرائب على المحرمات
السؤال
ما حكم أخذ الضرائب على التجارات المحرمة كالخمور ونحوها ثم الاستفادة منها في النفقات العامة للدولة؟
الجواب
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد فالضرائب: مقدار محدد من المال تفرضه الدولة في أموال المواطنين، دون أن يُقابل ذلك نفعٌ مخصوص، فتُفْرَض على المِلْك والعَمَل والدخْل نظير خدمات والتزامات تقوم بها الدولة لصالح المجموع، وهي تختلف باختلاف القوانين والأحوال.
أو هي -كما يقول أهل الاقتصاد-: "اقتطاع مالي جبري تقوم به الدولة على حسب مقدرة المكلف؛ مساهمة من الأغنياء في الأعباء العامة للدولة، بغض النظر عن المنافع العامة الخاصة التي تعود عليه، ويُستفاد من حصيلة الضريبة في تغطية النفقات العامة، وتحقيق أهداف الدولة السياسية والمالية والاقتصادية". اهـ بتصرف [يُنظر: موسوعة الاقتصاد الإسلامي، د. محمد عبد المنعم الجمال 2 /673، ط. دار الكتاب المصري بالقاهرة، ودار الكتاب اللبناني ببيروت].
ويجوز لولي الأمر أن يقرر فرض ضرائب عادلة في تقديرها وجبايتها على القادرين؛ وذلك لتغطية النفقات العامة والحاجات اللازمة للأمة، ومعلوم أن ميزانيات الدول الإسلامية الآن لا تقوم فقط على الزكاة، بل لها موارد متعددة منها الضرائب والرسوم وغيرها.
وهناك ما يسمَّى بالموازنات العامة للدول، وهي عبارة عن الإيرادات العامة والنفقات العامة، فإذا كانت النفقات العامة للدولة أكبر من الإيرادات العامة كان هناك عجز في ميزانية الدولة، ويتعين عليها تعويضُه للقيام بأعبائها بعدة سبل، ومنها فرض الضرائب، إلا أنه ينبغي أن يُراعَى في فرض الضرائب عدمُ زيادة أعباء محدودي الدخل وزيادة فقرهم، وأن تُحصَّل الضرائبُ أصالة من الفئات التي لا يُجهدها ذلك كطبقة المستثمرين، ورجال الأعمال الذين يجب عليهم القيام بواجبهم تجاه الدولة.
والمقرر في الشريعة أن في مال المسلم حقًّا سوى الزكاة؛ دلَّ على ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. وجهة الدلالة في الآية -كما يقول الإمام الفخر الرازي في [تفسيره مفاتيح الغيب 5 /216، ط. دار إحياء التراث العربي- بيروت]: "أن الله تعالى عطف إيتاء الزكاة في قوله: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} على الإيتاء في قوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ...}، ومن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يتغايرا، فثبت أن المراد به غير الزكاة، ثم إنه لا يخلو إما أن يكون من التطوعات أو من الواجبات، ولا جائز أن يكون من التطوعات؛ لأنه تعالى قال في آخر الآية: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}، فوقف التقوى عليه، ولو كان ذلك ندبًا لما وقف التقوى عليه، فثبت أن هذا الإيتاء، وإن كان غير الزكاة إلا أنه من الواجبات" اهـ.
وقال الإمام القرطبي في [تفسيره الجامع لأحكام القرآن 2/242، ط. دار الكتب المصرية- القاهرة]: "ذِكْرُ الزكاة مع الصلاة في قوله تعالى: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} فيه دليل على أنَّ الْمراد بقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} ليس الزكاة الْمفروضة؛ لأنَّ ذلك يكون تكرارًا، والله أعلم... ثم قال: واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها. قال مالك رحمه الله: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم. وهذا إجماع أيضًا". اهـ بتصرف.
والقواعد الفقهية المقررة تؤيد هذا وتعضضه، ومنها فيما يتعلق بهذا الشأن: ما جاء في [الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفى ص74، 75، ط. دار الكتب العلمية- بيروت]: "يُتَحَمَّلُ الضرر الخاص لأجل دفع الضرر العام، وأن الضرر الأشد يُزال بالأخف". اهـ.
وهذا لا يُفهم منه إباحة الضرائب فحسب، بل يُحتم فَرْضها وأخْذها، تحقيقًا لمصالح الأمة والدولة، ودرءًا للمفاسد والأضرار والأخطار الناتجة عن عدم فرضها.
وقد أقرَّ جماعةٌ من فقهاء المذاهب الْمُتَّبَعة الضرائبَ، لكنهم لم يطلقوا عليها هذا الاسم، فنجد أن بعض الحنفية قد سمَّاها (النوائب) جمع نائبة، وهي اسم لما ينوب الفرد من جهة السلطان بحق أو بباطل، وفيما يلي ذكر طرف من أقوالهم:
جاء في حاشية ابن عابدين [رد المحتار على الدر المختار 4 /282] في بيان معنى النوائب، وأن منها: "ما يكون بحقٍّ كأجرة الحراس، وَكَرْيِ النهر المشترك، والمال الموظف لتجهيز الجيش، وفداء الأسرى إذا لم يكن في بيت المال شيء، وغيرهما مما هو بحق، فالكفالة به جائزة بالاتفاق؛ لأنها واجبة على كل مسلمٍ مُوسِر بإيجاب طاعة ولي الأمر فيما فيه مصلحة المسلمين، ولم يلزم بيت المال أو لزمه ولا شيء فيه. وإن أريد بها ما ليس بحقٍّ كالجبايات الموظفة على الناس في زماننا ببلاد فارس على الخيَّاط والصَّبَّاغ وغيرهم للسلطان في كل يوم أو شهر، فإنها ظلم".
وقد نقل أيضًا عن أبي جعفر البلخي قولَه: "ما يَضْرِبُه السلطانُ على الرعية مصلحةً لهم يصير دَيْنًا واجبًا وحقًّا مُستحقًّا كالخراج، وقال مشايخنا: وكل ما يضربه الإمام عليهم لمصلحة لهم فالجواب هكذا، حتى أجرة الحراسين لحفظ الطريق، واللصوص، أي: ما يُحتاج من نفقات لحفظ الطريق وأمنه وحراسته، ونصب الدروب، وأبواب السكك، وهذا يُعْرَف، ولا يُعَرَّف خوف الفتنة، ثم قال: فعلى هذا ما يؤخذ في خوارزم من العامة لإصلاح مسناة الجيحون، أو الربض ونحوه من مصالح العامة، دَيْنٌ واجبٌ لا يجوز الامتناع عنه وليس بظلم، ولكن يعلم هذا الجواب للعمل به وكف اللسان عن السلطان وسعاته فيه لا للتشهير؛ حتى لا يتجاسروا في الزيادة على القدر المستحق"اهـ [حاشية ابن عابدين 2 /57].
وقال الإمام أبو حامد الغزالي من أئمة الشافعية في [المستصفى ص177، ط. دار الكتب العلمية]: "إذا خلت الأيدي من الأموال، ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، ولو تفرق العسكر واشتغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام، أو خيف ثوران الفتنة من أهل العَرامة أي: أهل الفساد في بلاد الإسلام، فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند].
وتَكلَّم الشيخ تقي الدين بن تيمية في [مجموع الفتاوى 30 /337 وما بعدها، ط. مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالسعودية] عن بعض ما يأخذه السلطان بما يفيد إقراره لذلك، باعتباره من الجهاد بالمال الواجب على الأغنياء، وسماها بـ(الكلف السلطانية) أي: التكليفات المالية التي يلزم بها السلطان رعيته أو طائفة منهم.
وفي [المحلى لابن حزم الظاهري 4 /281، ط. دار الفكر- بيروت]: "وفَرْضٌ على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويُجْبِرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم" اهـ.
وبما تقدم يتبين مشروعية فرض ولي الأمر للضرائب على الناس لصرفها في المصالح العامة.
أما بخصوص أخذ الضرائب على المحرمات كالخمور ونحوها فجائز أيضًا لِما يلي:
أولًا: أن هناك فارقًا بين ثمن المحرم والضريبة عليه؛ فثمن الخمر مثلًا هو المال الذي يُدفَع عِوَضًا مقابل شراء هذه السلعة المحرمة، والخمر حرام بإجماع المسلمين، وثمنها في دار الإسلام حرام بإجماعهم أيضًا، فلا يجوز شراؤها ولا بيعها ولا أخذ ثمنها بين المسلمين.
وهذا بخلاف الضرائب، وقد مرَّ تعريفها، وهي هنا قدر محدد من الدخل يُستقطع من هذه التجارات والسلع وليست ثمنًا لها؛ فلا علاقة لها بكون هذه السلعة حلالًا أو حرامًا، وحينئذٍ لا تكون الضريبة على الخمر أو نحوها من الحرمات ثمنًا لأي منها، وعليه لا يكون أخذها والاستفادة منها حرامًا.
ثانيًا: أن هذا الأمر له نظير في الفقه يُقاس عليه، وهو الجزية؛ فقد فرضت على غير المسلمين وفي أموالهم أثمان الخمور وفوائد الربا، ومع ذلك لم يمتنع أحد من الخلفاء والولاة عن قبول هذه الأموال وإدخالها في بيت مال المسلمين والانتفاع بها.
والقول بأن هذا في حق غير المسلمين فقط أما المسلمون فلا، جوابه: أنه يجوز أخذ الضرائب من المسلمين على نحو هذا أيضًا؛ وذلك لأن عدم تحصيل الضرائب منهم على هذه التجارات كغيرها من التجارات المباحة فيه تشجيع لهم على ذلك، فيَجْمَعُون بهذا بين التجارة في المحرم وبين التمتع بالمكاسب كاملة، وهذا قد يؤدي إلى تنمية تجاراتهم. أما أخذ الضرائب منهم على ذلك ففيه تضييق عليهم إن كان هناك واقع لا يمكن رفعه دفعة واحدة.
ولهذا نظير في أقوال العلماء والفقهاء؛ فقد رأى بعضهم أن من استوفى عوضًا عن محرم من شخص برضاه ثم تاب فلا يلزمه رد هذا العوض إلى هذا الشخص حتى لا يُعان صاحب المعصية بحصول غرضه ورجوع ماله إليه.
وممن أشار لهذا الإمام ابن القيم في [زاد المعاد في هدي خير العباد 5 /690، 691، ط. مؤسسة الرسالة]؛ حيث قال وهو يتكلم عن كسب الزانية إذا قبضته، ثم تابت هل يجب عليها رد ما قبضته إلى أربابه، أم يطيب لها، أم تتصدق به؟ ما يلي: "هذا ينبني على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهي أن من قبض ما ليس له قبضه شرعًا، ثم أراد التخلص منه، فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضا صاحبه، ولا استوفى عوضه رده عليه. فإن تعذر رده عليه قضى به دينًا يعلمه عليه، فإن تعذر ذلك رده إلى ورثته، فإن تعذر ذلك تصدق به عنه، فإن اختار صاحب الحق ثوابه يوم القيامة كان له. وإن أبى إلا أن يأخذ من حسنات القابض استوفى منه نظير ماله، وكان ثواب الصدقة للمتصدق بها، كما ثبت عن الصحابة -رضي الله عنهم-. وإن كان المقبوض برضا الدافع وقد استوفى عوضه المحرم، كمن عاوض على خمر أو خنزير، أو على زنى أو فاحشة، فهذا لا يجب رد العوض على الدافع؛ لأنه أخرجه باختياره، واستوفى عوضه المحرم، فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوض، فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان، وتيسير أصحاب المعاصي عليه. وماذا يريد الزاني وفاعل الفاحشة إذا علم أنه ينال غرضه ويسترد ماله، فهذا مما تصان الشريعة عن الإتيان به، ولا يسوغ القول به، وهو يتضمن الجمع بين الظلم والفاحشة والغدر. ومن أقبح القبيح أن يستوفي عوضه من المزني بها، ثم يرجع فيما أعطاها قهرًا، وقبح هذا مستقر في فطر جميع العقلاء، فلا تأتي به شريعة" اهـ.
وإن كنا نهيب بأولياء الأمور والقائمين على مصالح البلاد والعباد أن يتخذوا إجراءات واقعية للحد من بيع هذه المحرمات والقضاء عليها في بلاد المسلمين، أو أن يسمحوا بذلك حصرًا في غير المسلمين حتى تستقر الأمور ويرتفع الحرج.
ثم إنه بانتقال هذا المال من ذمة من يُتاجر في المحرمات إلى خزانة الدولة يتطهر المال ويجوز الانتفاع به في المصالح العامة، وقد ذكر بعض الفقهاء أن الحرام لا يتعدى ذمتين، فبانتقال المال من ذمة صاحبه إلى خزانة الدولة حل وجازت الاستفادة منه.
جاء في [حاشية العلامة ابن عابدين الحنفي رد المحتار على الدر المختار 2 /292، ط. دار الفكر]: "وفي حاشية الحموي عن الذخيرة: سُئِل الفقيه أبو جعفر عمن اكتسب ماله من أمراء السلطان وجمع المال من أخذ الغرامات المحرمات وغير ذلك، هل يحل لمن عرف ذلك أن يأكل من طعامه؟ قال: أحب إلي أن لا يأكل منه ويسعه حكمًا أن يأكله إن كان ذلك الطعام لم يكن في يد المطعم غصبًا أو رشوة" اهـ. أي إن لم يكن عين الغصب أو الرشوة؛ لأنه لم يملكه فهو نفس الحرام فلا يحل له ولا لغيره. وذكر في البزازية هنا أن من لا يحل له أخذ الصدقة فالأفضل له أن لا يأخذ جائزة السلطان، ثم قال: وكان العلامة بخوارزم لا يأكل من طعامهم ويأخذ جوائزهم، فقيل له فيه، فقال: تقديم الطعام يكون إباحة والمباح له يتلفه على ملك المبيح فيكون آكلا طعام الظالم، والجائزة تمليك فيتصرف في ملك نفسه. اهـ. قلت: ولعله مبني على القول بأن الحرام لا يتعدى إلى ذمتين" اهـ.
وقال العلامة ابن مفلح الحنبلي في [الفروع 4/390، ط. مؤسسة الرسالة]: "وروى جماعة من حديث الثوري عن سلمة بن كهيل عن ذر بن عبد الله عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رجلًا سأله فقال: لي جار يأكل الربا ولا يزال يدعوني، فقال: "مَهْنَؤُهُ لك، وإثمه عليه". وروى جماعة أيضًا من حديث معمر عن أبي إسحاق عن الزبير بن الخريت عن سلمان -رضي الله عنه- قال: "إذا كان لك صديق عامل فدعاك إلى طعام فاقبله، فإن مَهْنَأَهُ لك وإثمه عليه". وسُئِل الحسن عن طعام الصيارفة فقال: "قد أخبركم الله عن اليهود والنصارى أنهم يأكلون الربا وأحل لكم طعامهم". وقال أحدهم لإبراهيم النخعي: عريف لنا يصيب من الظلم فيدعوني فلا أجيبه، فقال إبراهيم: للشيطان غرض بهذا ليوقع عداوة" اهـ بتصرف.
ومما سبق يُعلم الجواب عن السؤال، والله تعالى أعلم.