الانتماء للوطن لا يتنافى مع الانتماء للإسلام
السؤال
هل الانتماء إلى الوطن يتنافى مع الانتماء إلى الإسلام؟ وما الحكم إذا حصل تعارض بينهما؟ كأن صارت البلد التي يحمل جنسيتها تعادي الإسلام وتحارب المسلمين.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد: فالانتماء مصدر «انتمى» ومعناه الانتساب إلى شيء، قال الأزهري: «انتمى فلان إلى فلان إذا ارتفع إليه في النسب» [تهذيب اللغة: 15/ 371، ط. دار إحياء التراث العربي]، والانتماء: هو حاجة الفرد لإقامة علاقات مع آخرين، والشعور بالانتماء لجماعة معينة كالأسرة والأصدقاء والوطن والمذهب وغير ذلك، فالإنسان يشعر بالحاجة إلى الانتماء التي قال عنها بعض الباحثين: إنها أحد الحاجات النفسية وهي أن يكون الفرد مخلصًا لأصدقائه، وأن يشارك في جماعة ودودة، وأن يفضل العمل مع الأصدقاء بدلا من العمل بمفرده، وهي إحدى الحاجات الظاهرة التي تتحقق في فعل صريح عندما تستثار في المواقف المختلفة [استكشافات في الشخصية الإنسانية لهنري موراي: ط. جامعة أكسفورد].
والانتماء تختلف روابطه باختلاف حاجة الفرد إليه، فهناك رابطة تجمع بعض الأفراد لعمل معين، ورابطة تجمع أفرادها للوطن الذي يعيشون فيه، ورابطة تجمع أفرادها للتعلم كالمدرسة، فكل هذه الروابط انتماءات للجماعة التي يعمل بها، تشبع الحاجات الاجتماعية لدى الأشخاص، وتشعره بقبول الآخرين له، فينتمي الشخص إلى أسرته، وإلى عائلته، وإلى منطقته، وإلى بلده، وإلى دينه، وإلى مذهبه، وهذا المعنى وهذا الشعور تقره شريعة الإسلام؛ لأن الشريعة تراعي دوافعه الفطرية، فالإنسان أصله واحد وهو آدم -عليه السلام- يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، وخلق الله الناس شعوبًا وقبائل؛ لتتعارف وتتعاون وتتواد فيما بينها، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، ويبين الإمام الطاهر بن عاشور في تفسيره علة جعل الله الناس شعوبًا وقبائل فقال: «وجعلت علة جعل الله إياه شعوبا وقبائل وحكمته من هذا الجعل أن يتعارف الناس، أي يعرف بعضهم بعضا، والتعارف يحصل طبقة بعد طبقة متدرجا إلى الأعلى، فالعائلة الواحدة متعارفون، والعشيرة متعارفون من عائلات؛ إذ لا يخلون عن انتساب ومصاهرة، وهكذا تتعارف العشائر مع البطون، والقبائل مع الشعوب؛ لأن كل درجة تأتلف من مجموع الدرجات التي دونها، فكان هذا التقسيم الذي ألهمهم الله إياه نظامًا محكمًا لربط أواصرهم دون مشقة ولا تعذر فإن تسهيل حصول العمل بين عدد واسع الانتشار يكون بتجزئة تحصيله بين العدد القليل، ثم ببث عمله بين طوائف من ذلك العدد القليل، ثم بينه وبين جماعات أكثر، وهكذا حتى يعم أمة أو يعم الناس كلهم وما انتشرت الحضارات المماثلة بين البشر إلا بهذا الناموس الحكيم». [التحرير والتنوير: 26/ 260، ط. الدار التونسية للنشر].
والانتماء إلى الأسرة أو العائلة أو القبيلة أو البلد يوجب عليك حسن معاملة الناس، وهذا نراه في أمر الله سبحانه عباده بالإحسان إلى ذوي القربى، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الوالدين وأن نحسن القول إلى الناس فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة: 83].
والانتماء إلى الوطن وحبه من الإسلام، حيث تجد في القرآن أن الله قرن بين مشقة قتل الأنفس والخروج من الوطن امتحانًا واختبارًا للمنافقين، فقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66]، فإقران الله قتل الأنفس والخروج من الديار، يدل على مشقة الخروج من الديار.
يقول أبو حيان في تفسيره: «وفي الآية دليل على صعوبة الخروج من الديار؛ إذ قرنه الله تعالى بقتل الأنفس» [تفسير البحر المحيط: 3/ 696، ط. دار الفكر]، وعاب الله على بني إسرائيل أنهم يقتلون بعضهم بعضًا، ويخرجون فريقًا منهم من ديارهم بعد أن أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ولا يُخرجوا من ديارهم أحدًا فقال: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} [البقرة: 85].
وكان رسول الله -صلى الله عيه وسلم- يحب وطنه وبلده، فقد روى الترمذي عن عبد الله بن عدي بن حمراء -رضي الله عنه- قال: ((رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقفا على الحزورة -موضع بمكة- فقال: والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت)). وروى الترمذي أيضًا عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمكة: ((ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك)) فهذان الحديثان يدلان على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحب بلده ويحن إليها، والصحابة -رضي الله عنهم- ابتلاهم الله بالبعد عن أوطانهم التي عاشوا وتربوا فيها فأمرهم الله بالهجرة، وهاجروا -رضي الله عنهم-، وتحملوا مشقة الخروج عن الوطن، فكافأهم الله عز وجل بالرضا عنهم وإدخالهم الجنات قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ} [التوبة: 100].
وروى البخاري في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وعَك أبو بكر وبلال -رضي الله عنهما-، قالت: فدخلت عليهما، قلت: يا أبت كيف تجدك، ويا بلال كيف تجدك، قالت: وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: كل امرئ مصبح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلعت عنه يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلـة * بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أرِدَنْ يومــا مياه مَجَنَّة * وهل يَبْدُوَنْ لي شامة وطَفيل.
«ومياه مَجَنَّة، وشامة، وطَفيل، مواضع بمكة يشتاق إلى رؤيتها»، ثم قال بلال: اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء، قالت عائشة: فجئت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته، فقال: ((اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم وصححها، وبارك لنا في مدها وصاعها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة))»، وعلى هذا دأب العلماء ينسبون أنفسهم إلى أوطانهم وبلادهم التي ولدوا فيها ونشأوا فيها فيقولون: فلان البصري، وفلان المكي، وفلان المدني، والبغدادي، والعراقي ونحو ذلك، وأجمع العلماء على ذلك.
والانتماء إلى الإسلام دينا لا يعارض الانتماء إلى الوطن، ولا يتصور أن يكون هناك تعارض، فالإسلام دائرته أوسع من الوطن، ومن البلد، ومن القرية، بل ومن المذهب التعبدي، يقول تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]، فآخى الله المؤمنين بعضهم ببعض فوق دائرة الوطن، فدائرة الإسلام أوسع وأشمل من دائرة الوطن، ولا يوجد تعارض بينهما، فلقد فرض الله التعاون بين المسلمين على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
وأمر الله بالاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق على أي أساس، وعدم التعصب لمذهب، أو بلد، أو جماعة، أو غير ذلك، فالمؤمنون إخوة نتعاون على البر والتقوى، ولا نتعاون على الإثم والعدوان: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، ويقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159].
وروى أبو داود عن جبير بن مطعم قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ليس منا مَن دعا إلى عَصَبيَّة، وليس منا من قاتل عصبيةً، وليس منا مَن مات على عصبية))، فالحديث دليل على النهي عن التعصب، فالتعصب فُرقة، والوحدة ألفة، وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن أبي نضرة في حجة الوداع عن أبي نضرة قال: حدثني من سمع خطبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وسط أيام التشريق فقال: ((أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى أبَلَّغتُ؟ قالوا: بَلَّغ رسول الله))، فالانتماءات المختلفة لا تعارض بينها، بل تتكامل وتتوافق بالتعاون وعدم التناحر وعدم التعصب.
وعليه وفي واقعة السؤال: فإن الأصل في الانتماء إلى الوطن أنه لا يتنافى مع الإسلام، بل يتكامل ويتوافق بالتعاون وعدم التعصب تحت أخوة المؤمنين بعضهم بعضًا، فإذا شعر إنسان بالتعارض أحيانًا، فعليه حينئذ سؤال أهل العلم؛ ليدلوه على المخرج. والله تعالى أعلم.