أمتنا أمة علم ومنهج من أول يوم، فلقد كتب الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص السنة الشريفة ودون كتاباته في صحيفة أسماها الصادقة، وكانت قريبة جدًا إلى قلبه، فقد قال تلميذه مجاهد: دخلت عليه فتناولت صحيفة تحت رأسه فتمنع عليّ فقلت تمنعني شيئا من كتبك؟ فقال: هذه الصحيفة الصادقة التي سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه فيها أحد، فإذا سلم لي كتاب الله، وهذه الصحيفة، والوهط: فما أبالي ما كانت عليها الدنيا، والوهط أو الوهطة حديقة كانت لعمرو بن العاص، وآلت من بعده لابنه عبد الله.
ومن الصحابة الكاتبين أبو هريرة، ورغم أنه لا يعرف الكتابة، فإنه كان يستكتب لنفسه، وقد حفظت لنا صحيفة من صحفه رواها عنه تلميذه التابعي همام بن منبه، ثم نسبت إليه فقيل عنها: صحيفة همام، وعرفت بذلك واشتهرت به، ولقد سمعها من شيخه أبي هريرة المتوفي سنة 59 هـ على أرجح الأقوال.
ومن الصحابة الكاتبين، أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له كتاب دفعه إلى أبي بكر بن عبد الرحمن القرشي أحد الفقهاء السبعة، ومن كتاب أبي رافع هذا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة، قال: «وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين». «اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، أنت ربي، وأنا عبدك، لا شريك لك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنوبي، فاغفر لي ذنوبي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، ولا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك، أستغفرك وأتوب إليك ثم يقرأ»
وكان أنس من الصحابة الكاتبين وقد قابله عتبان بن مالك، فكتب عنه أنس حديث زيارة النبي صلى الله عليه وسلم له، ونص الحديث عند مسلم: روى مسلم بسنده، إلى أنس بن مالك، عن محمود بن الربيع، عن عتبان بن مالك رضي الله عنهم أجمعين،
قال أنس: قدمت المدينة فلقيت عتبان، فقلت: حديث بلغني عنك: قال: أصابني في بصري بعض الشيء، فبعث إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي، وهو حديث طويل وفي آخره، قال أنس: فأعجبني هذا الحديث، فقلت لابني، اكتبه، فكتبه. وكان الناس إذا أكثروا على أنس طلبا للسماع، يلقي إليهم كتبًا، ويقول: هذه كتب سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرضها عليهم، وكان يقول لبنيه: يا بني، قيدوا العلم بالكتاب.
كما أن الصحابي الجليل سمرة بن جندب، رضى الله عنه، قد جمع أحاديث كثيرة، ورثها عنه ابنه سليمان ورواها عنه، وهي على ما يظن الرسالة التي بعثها سمرة إلى بنيه، ومن أحاديثها: «بسم الله الرحمن الرحيم من سمرة بن جندب إلى بنيه: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يأمرنا أن نصلي كل ليلة بعد المكتوبة، ما قل أو كثر ونجعله وترًا». وقد قال ابن سيرين عن هذه الصحيفة: في رسالة سمرة إلى بنيه علم كثير، وقد قال الأستاذ سيد صقر عن صحيفة سمرة هذه: وصلت هذه الرسالة كاملة إلى الحسن البصري المتوفى سنة 110 هـ. وكان يعتمد عليها في روايته، ويبيح نسخها لمن يشاء، ويستمع إلى من يرغب في قراءتها عليه.
وابن عباس رضي الله عنه كان أيضا من الصحابة الكاتبين، وكان عند كريب مولى ابن عباس كتب كثيرة من كتب ابن عباس، ولقد تعددت الراويات في أن كريبًا حمل من عند ابن عباس حمل بعير من الكتب، وكان علي ابنه (ابن عبد الله بن عباس) يبعث إلى كريب إذا أراد كتابا من كتب أبيه، فيبعث كريب إلى علي بما يريد، فينسخها ثم يردها إلى كريب مرة ثانية، ويقول الدكتور صبحي الصالح، عن كتب ابن عباس هذه، ويتعاقب الناس على الرواية عنها، والأخذ منها، حتى امتلأت كتب التفاسير والحديث بمسموعات ابن عباس ومروياته.
ومن الصحابة الذين كتبوا: جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، وكان له منسك في الحج، كما كانت له حلقة في المسجد النبوي، يلقي إلى تلاميذه من كتبه، وقد روى عنه منسكه في الحج أبو جعفر بن علي بن الحسين، وأخرجه مسلم في صحيحه. وإن أوسع الروايات في وصف حجة الوداع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت من رواية جابر بن عبد الله، وهي تصف تلك الحجة من أول ما عزم على الحج، وهو بالمدينة إلى أن انتهى من مناسكه صلى الله عليه وسلم، وهذه الرواية عند مسلم.
وكل ذلك غير تلك الصحف التي كان يكتبها الصحابة لأنفسهم ولغيرهم، ومنها ما جاء في صحيفة الخليفة الأول أبي بكر لأنس بن مالك، رضى الله عنهما، في الصدقة، ومنها ما رواه ابن سعد، وغيره، قال: لما مات محمد بن مسلمة الأنصاري، وجدنا في جراب سيفه كتابا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «وإن لربكم في أيام دهركم لنفحات، فتعرضوا لها» (أخرجه الطبراني في معجمه الكبير).
أرسل الله - سبحانه وتعالى - محمدًا نبيًّا ورسولاً للعالمين، وأوحى إليه القرآن الكريم الذي هو كلام الله تعالى، وفسَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقواله وأفعاله وتقريره لِمَا كان يحدث حوله في عصره، وتكوَّن من كل ذلك ما عُرِفَ بالسنة المشرفة، فالسنة هي مجموعة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته - ويعتقد المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره نبيًّا معصومٌ من الخطأ، وأن كل ما صدر منه من أقوال أو أفعال أو تقريرات حق يجب إتباعه.
ومن أجل ذلك اهتمَّ الصحابة بنقل القرآن الكريم اهتمامًا بالغًا، باعتباره المصدر الأول للتشريع، كما اهتموا بنقل سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، واهتمت الأمة بعدهم بذلك النقل حتى أنشأوا علومًا خاصة بتوثيق النص القرآني؛ كتابة، وقراءة، كعلم القراءات، ورسم المصحف، والتجويد، وأنشأوا علوما أخرى لتوثيق النص النبوي؛ كعلم الجرح والتعديل، وعلم الرجال، وأنشأوا ثالثة لفهم القرآن والسنة؛ كعلوم التفسير، والفقه، وأصوله، وأنشأوا علومًا خادمة كالنحو والصرف والعَروض.
وكان للصحابة رضي الله عنهم عناية شديدة في رواية الحديث ونقله. وكان نقل الحديث النبوي يعتمد على النقل الشفهي في أغلبه،ومن ثم وضع الصحابة بعض الضوابط لقبول الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم وإن لم تدون في عصرهم ومن تلك الضوابط:
1- الاحتياط في قبول الأخبار: كان أول من احتاط في قبول الأخبار أبا بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد روي عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال: «جاءت الجدة إلى أبي بكر، رضي الله عنه، تسأله ميراثها فقال لها أبو بكر ما لك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة، فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، » (أورده الإمام أحمد في مسنده) ، فكانت رؤية أبي بكر رضي الله عنه، هي التثبت في الأخبار والتحري، لا سدّ باب الرواية مطلقًا.
2- التوقف في خبر الواحد والتثبت من نقله: وبذلك الضابط تمسك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعن أبي سعيد الخدري قـال: «كنت جالسًا في مجلس الأنصار، فأتانا أبو موسى فزعًا أو مذعورًا. قلنا: ما شأنك؟ قال: إن عمر أرسل إلي أن آتيه، فأتيت بابه فسلمت ثلاثًا فلم يرد علي، فرجعتُ. فقال: ما منعك أن أتينا؟ فقلت: إني أتيتك فَسَلَّمْتُ على بابك ثلاثًا، فلم يردوا علي، فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا استأذن أحدكم ثلاثًا، فلم يُؤذن له فليرجع، فقال عمر: أقم عليه البينة وإلا أوجعتُك. فقال أُبَيُّ بن كعب: لا يقوم معه إلا أصغر القوم. قال أبو سعيد: قلت: أنا أصغر القوم. قال: فاذهب به» (صحيح مسلم).
فرأى عمر رضي الله عنه، أن يتأكد عنده خبر أبي موسى بقول صحابي آخر، فهذا دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد، وفي ذلك حث على تكثير طرق الحديث لكي يترقى من درجة الظن إلى درجة العلم؛ إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوَهَم وذلك نادر على ثقتين.
3- اللقيا والسماع: فرحل جابر بن عبد الله الأنصاري مسيرة شهر إلى عبد الله بن أُنَيْس في حديث واحد (البخاري).
4-عرض الأحاديث على القرآن الكريم: ومن ذلك أن بعض الصحابة رضي الله عنهم، قد رد بعض الأحاديث؛ لأنها في نظرهم تخالف كتاب الله تعالى، من ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الميت يُعَذَّب ببكاء أهله عليه"، وفهم رضي الله عنه، أنه عام وأن التعذيب بسبب بكاء الأهل على الميت، فأنكرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ذلك الفهم، واحتجت بقوله تعالى ﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الأنعام :164].
5- عرض السنة على السنة: وذلك فيما ظاهره التعارض بين الأحاديث، من ذلك ما ورد في اختلاف الصحابة رضي الله عنهم، فيما يوجب الغسل، فذكروا ما ورد عن عائشة رضي الله عنها، حيث قالت: "إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم. (أدرجه الإمام أحمد في مسنده) وكان قد احتج بعضهم بما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنما الماء من الماء» (صحيح مسلم)
6- عرض السنة على القياس: ومن ذلك ما روي عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الوضوء مما مست النار ولو من ثَوْرِ أَقِطٍ»، قال: فقال ابن عباس: يا أبا هريرة أنتوضأ من الدهن؟ أنتوضأ من الحميم؟ (أورده الترمذي في سننه). فتلك الضوابط التي سبق إيرادها إنما تشير إلى مدى اهتمام الصحابة رضي الله عنهم برواية الحديث والعناية به وصيانته.
لقد حَثَّ الإسلام على العلم، واهتمَّ النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم المسلمين الكتابة، فأَذِنَ لأسرى غزوة بدر أن يَفْدُوا أنفسهم بتعليم عشرة من صبيان الأنصار القراءة والكتابة، وكان بعض المسلمين يتعلمون القراءة والكتابة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكثر عدد الكاتبين حتى بلغ عدد كُتَّاب الوحي زُهَاءَ أربعين كاتبًا، فضلاً عن كُتَّاب الصدقات والرسائل والعهود.
وأما رواية الحديث فلم تكن هي الصفة الغالبة على صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، بل التزمت طائفة من أكابر الصحابة المقربين من رسول الله صلى الله عليه وسلم الإقلالَ من الرواية عنه صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر الصديق، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة بن الجراح، والعباس بن عبد المطلب، بل كان بعضهم يكاد لا يروي شيئاً كسعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيْل أحد العشرة المبشرين بالجنة.
ووجهة نظر هؤلاء المقلين كراهية التحريف، أو الزيادة في الرواية، أو النقصان منها، أو خشيتهم من وقوع الخطأ في الحديث حتى لا ينالهم قوله صلى الله عليه وسلم : «من كذب عَلي متعمِّدًا فليتبوأ مقعده من النار» (أورده الإمام أحمد في مسنده)،
ويتبين أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرون ولم يكونوا رضوان الله عليهم على درجة واحدة من العلم بالسنة والرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كانوا متفاوتين؛ لأن منهم المتفرغ الملازم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يخدمه في معظم أوقاته كأنس وأبي هريرة رضي الله عنهما، ومنهم من له مَاشِيَتُه في البادية أو تجارته في الأسواق
وقد أُلِّفَ في الصحابة رضوان الله عليهم كتب كثيرة تناولت أحوالهم وعلمهم، وحصر ابن الأثير في كتابه «أُسْد الغابة» وهو من أوسع ما ألف في الصحابة، نحو سبعة آلاف وخمسمائة وأربعة وخمسين صحابيًّا، ويُذكر أن الرواة من الصحابة الذين بلغتنا مروياتُهم ألف وثمانمائة صحابي على وجه التقريب، سبعة منهم لكل واحد أكثر من ألف حديث، وأحد عشر صحابيًا لكل منهم أكثر من مائتي حديث، وواحد وعشرون صحابيًا لكل واحد منهم أكثر من مائة حديث، وأما أصحاب العشرات فكثيرون يقربون من المائة، وأما من له عشرة أحاديث أو أقل من ذلك فهم فوق المائة، وهناك نحو ثلاثمائة صحابي روى كل واحد منهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديثًا واحدًا.
فتصور إنسان يعيش حياته كلها لنقل حديث واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو متقن له لا محالة ويمثل علامة في حياته، وكذلك الذي يروي الحديثين والثلاثة إلى العشرة وهم أغلب الصحابة. وجمع الأمام أحمد بن حنبل مسانيد الصحابة وهو أكمل مسند، وصلنا من رواية ابنه عبد الله، وتبلغ مسانيده فوق التسعمائة من الصحابة وأحاديثه ثمانية وعشرون ألف حديث.
ومع هذه الكثرة الكاثرة من الصحابة ومروياتهم إلا أنه قد أكثرت طائفة منهم رواية الحديث واشتهروا بذلك:
كان للتابعين دور بارز في تدوين السنة لا يقل أهمية عن دور الصحابة رضي الله عنهم، فقد تلقى التابعون الرواية على أيدي الصحابة الأجلاء، وحملوا عنهم الكثير من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفهموا عنهم متى تُكره كتابة الحديث، ومتى تُباح، فقد تأسوا بالصحابة رضي الله عنهم، فمن الطبيعي أن تتفق آراء التابعين وآراء الصحابة حول تدوين وكتابة الحديث، ولذلك فقد ظهرت بعض تلك الأحاديث المدونة والصحف الجامعة للحديث الشريف التي اعتنى بكتابتها أكابر التابعين.
ومن أشهر ما كتب في القرن الأول الصحيفة الصحيحة لهمام بن مُنَبِّه الصنعاني (المتوفى سنة 131هـ)، تلك الصحيفة التي رواها عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد وصلتنا هذه الصحيفة كاملة كما رواها ودونها، وقد طبعت عدة طبعات، منها طبعة بتحقيق الدكتور رفعت فوزي طبعة مكتبة الخانجي (1406 هـ)، ويزيد من توثيق هذه الصحيفة أن الإمام أحمد قد نقلها بتمامها في مسنده، كما نقل الإمام البخاري عددًا كثيرًا من أحاديثها في صحيحه، وتضم صحيفة همام مائة وثمانية وثلاثين حديثًا، ولهذه الصحيفة أهمية تاريخية؛ لأنها حجة قاطعة على أن الحديث النبوي قد دون في عصر مبكر، وتصحح القول بأن الحديث لم يدون إلا في أوائل القرن الهجري الثاني، وذلك أن همامًا لقي أبا هريرة قبل وفاته، وقد توفي أبو هريرة رضي الله عنه سنة 59 هـ، فمعنى ذلك أن الوثيقة دونت في منتصف القرن الأول الهجري.
وهذا سعيد بن جبير الأسدي (المتوفى سنة 95هـ) كان يكتب عن ابن عباس حتى تمتلئ صحفه، وكانت للحسن بن أبي الحسن البصري كُتُبٌ يتعاهدها، فقد قال إن لنا كُتُبًا كنا نتعاهدها. وممن كتب في هذه الفترة التابعي الجليل عامر بن شراحيل الشعبي (المتوفي سنة 103 هـ)، فقد روي عنه أنه قال: "هذا باب من الطلاق جسيم، إذا اعتدت المرأة وورثت..." ثم ساق فيه أحاديث.
ويبرز من جيل التابعين عدد آخر من العلماء الذين اهتموا بالحديث واحتفظوا بأجزاء وصحف كانوا يروونها؛ منهم محمد بن مسلم بن تدرس الأسدي (المتوفى سنة 126هـ) والذي كتب بعض أحاديث الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري، وقد وصلت إلينا من آثاره أحاديث أبي الزبير عن غير جابر، جمعها أبو الشيخ عبد الله بن جعفر بن حيان الأصبهاني (المتوفى سنة 369 هـ) وقد طبع بتحقيق بدر بن عبد الله البدر طبعة مكتبة الرشد بالرياض (1417 هـ)، وأيوب بن أبي تميمة السختياني (المتوفى سنة 131هـ) وقد وصل إلينا بعض حديثه جمعه إسماعيل بن إسحاق القاضي البصري (المتوفى سنة 282 هـ) وهو مخطوط في المكتبة الظاهرية مجموع 4/2 ويقع في خمس عشرة ورقة، وغير هؤلاء كثير.
وهكذا شاعت الكتابة بين مختلف الطبقات في ذلك العصر، حتى أن الأمراء قد ظهرت عنايتهم بالكتابة، فهذا الخليفة الخامس الراشد عمر بن عبد العزيز (المتوفي سنة 101 هـ) يروي عنه أبو قلابة قال: "خرج علينا عمر بن عبد العزيز لصلاة الظهر ومعه قِرْطَاس، ثم خرج علينا لصلاة العصر وهو معه، فقلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا الكتاب؟ قال: حديث، حدثني به عَوْن بن عبد الله فأعجبني، فكتبته".
ولم يعد أحد ينكر كتابة الحديث في أواخر القرن الأول الهجري وأوائل القرن الثاني، وعليه فقد نشطت الحركة العلمية وازداد التدوين والقراءة على العلماء، ولكن ذلك كان بشكل فردي، ومع كثرة الكتابة في ذلك العصر إلا أنه قد ظهرت أمور أقلقت العلماء واستنفرت همتهم للحفاظ على الحديث الشريف، فمن تلك الأمور المستجدة:
وتلك الأمور دفعت العلماء إلى خدمة السنة وكتابتها، حتى إن أولياء الأمر اتجهوا إلى تدوين السنة، فحمل الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز الأموي لواء ذلك الاتجاه، فكتب إلى عامله على المدينة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم (المتوفي سنة 117هـ) قال: "اكتب إليَّ بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني خشيت دروس العلم وذهابه"، وأمره في موطن آخر بجَمْع رواية عَمْرَة بنت عبد الرحمن الأنصارية (المتوفية سنة 98هـ) وكانت خالة أبي بكر بن حزم، وقد نشأت في حجر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وقد شارك العلماء في تلك الخدمة مشاركة فعالة، فقام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (المتوفي سنة 124هـ) بجمع السنن بأمر من عمر بن عبد العزيز، وقد وصلت تلك الصحف التي جمعها ابن شهاب لعمر بن عبد العزيز. قال ابن شهاب: أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن، فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترًا. ولكن لم يكتب لعمر بن عبد العزيز رؤية ثمار دعوته تلك كاملة فقد توفي قبل إتمام ذلك الأمر.
عد علماء الحديث أمر عمر بن عبد العزيز بتدوين السنة أول تدوين للحديث ورددوا في كتبهم عبارة "وأما ابتداء تدوين الحديث فإنه وقع على رأس المائة في خلافة عمر بن عبد العزيز"، ويفهم من هذا أن التدوين المعتمد من أولياء الأمور كان في عهد عمر بن عبد العزيز، أما تقييده وحفظه في الصحف والأجزاء فقد مارسه الصحابة ومَنْ بعدهم من كبار التابعين، وقد مَهَّدَتْ محاولة ابن شهاب الزهري لجمع الحديث بأمر من الخليفة عمر بن عبد العزيز الطريق لمن بعده من العلماء فظهرت مصنفات منها:
ثم جاءت طائفة أخرى من العلماء ألفوا وصنفوا من أشهرهم :
ويمكن القول بأن منهج التدوين في عصر التابعين كان يقوم على جمع الأحاديث النبوية التي تدور حول موضوع واحد، فكان لكل باب من أبواب السنة مؤلف خاص به، وقد بدأ ذلك على يد ابن شهاب الزهري (المتوفى سنة 124هـ) ثم تطور التدوين في القرن الثاني إلى مرحلة أخرى، وهي جمع أحاديث الأبواب وضم بعضها إلى بعض، ومزج الأحاديث بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، واشتهر من بين هذه المؤلفات الموطأ، ومصنفا ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، وقد حملت المصنفات عناوين مثل: مصنف، وسنن، وموطأ، وجامع، وجمعت مادتها الأولى عن الأجزاء والصحف التي دونت قبل مرحلة التصنيف، وكان الغرض من جمع السنة بهذه الطريقة في القرن الثاني هو خدمة التشريع وتسهيل استنباط الأحكام .
والبر عندك ذمة وفريضة ** لا منة ممنونة وجباء
جاءت فوحدت الزكاة سبيله ** حتى إلتقى الكرماء والبخلاء
انصفت أهل الفقر من أهل الغنى ** فالكل في حق الحياة سواء
الاشتراكيون أنت أمامهم ** لولا دعاوي القوم والغلواء
أما الانتقال من حال إلى حال فيتمثل في التوبة والرجوع إلى الحق وعدم اليأس من الوقوع في فعل الذنب لأن الاستمرار فيه أشد من الوقوع فيه، وقضية التوبة هذه هي أساس الرقابة الذاتية للإنسان على نفسه على حد قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في خطبته : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، وتزينوا للعرض الأكبر ، يوم تعرضون لا يخفي منكم خافية (مصنف ابن أبي شيبة) وهو مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله (أورده الترمذي في سننه).
عدوان أثيم آخر في سلسلة المذابح الإسرائيلية التي يصر عليها الكيان الإسرائيلي خلال ستين سنة منذ دير ياسين إلى قانا، عدوان يشغلنا في جزئياته عن القضية الأساسية ويغبش عليها وهي احتلال الأرض. دخل الناس في بحث أطراف النزاع وتوزيع التهم هنا وهناك إلى حد الخروج عن اللياقة والاتهام بالعمالة إلى آخر القائمة الجاهزة ولم يتحدث أحد عن أصل المشكلة وهي أن إسرائيل كدولة معترف بها عالمياً موصوفة في كل قرارات الأمم المتحدة بأنها دولة تحتل الضفة الغربية والقطاع، وأنها ما زالت محتلة الجولان من سوريا، وأنه ما زالت تحتل مزارع شبعا من لبنان، وأنها احتلت جنوب لبنان ومن قبل سينا ونعرف أنها لم تخرج إلا بهزيمة في إثر هزيمة عسكرية، وأنها تمسكت بطابا سنين عددا حتى حررها الله بالقانون الدولي، وتمسكت بشبعا حررها الله. كل هذه الحقائق لا ينكرها أحد حتى إسرائيل ولم يتكلم عنها أحد باعتبار الأمر الواقع، وإذا كان الباطل الإسرائيلي لا يمل من التعتيم الإعلامي وإبقاء الحال على ما هو عليه، فإنه يجب علينا ألا نمل من تكرار المطالبة بحقنا فإنه لا يضيع حق وراء مطالب.
1- سعينا إلى السلام حتى يسعى العالم كله إلى السلام امتثالاً لقوله تعالى: وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ [الأنفال :61]، ورأينا العدوان والتضييق والمذابح والتخيير الإسرائيلي بين الموت والموت حتى ضج الشعب الفلسطيني ورأيناه يفعل ما لم يفعله أحد في العالمين فيما نعلم، رأينا شبابه بكل طوائفهم فيهم المسلم وغير المسلم، والشاب والشابة يفجرون أنفسهم في المحتل وعندما ظهرت هذه العمليات لم يدفع هؤلاء الشباب أحد من علماء الدين، إنما الواقع المرير هو الذي دفعهم وبدلاً من دراسة هذه الحالة وبيان أسبابها، وجدنا العالم أو كثيراً منه يلقي بعبء هذا على الإسلام وعلماء الدين ويسألون هل هذا من الإسلام؟ والإجابة وهل أمر الإسلام أو أحد من علمائه الشباب إلى ذلك أو أنها ظاهرة نشأت من أرض الواقع، فعلينا أن نعرف سببها من تلك الأرض، ولما لا يوجه السؤال إلى إسرائيل ونقول لها ما الذي دفع الناس عندك إلى التضحية بأرواحهم؟ وكيف تعاملين الشعب المسكين حتى يصل إلى درجة الإحباط ويقدم على هذه العمليات.
وعندما خرج علماء الدين مثل الشيخ ابن عثيمين يحرم هذه العمليات، لم يلتفت أحد من هؤلاء الشباب إليه، وعندما خرج من يؤيد هذه العمليات لم يزد عددها ولم ينقص، وعندما خرج من يقول: فيها قولان، لم يسمع أحد من أهل فلسطين إليه بل ارتبطت تلك العمليات بأرض الواقع المرير وال—العجيب الذي لم نر في التاريخ مثله.
2- إن حالة غزة لابد أن ترجع بنا إلى أصل القضية، فلا ننشغل فقط بالإعانات ولا البيانات ولا التألم والشجب والاستنكار وأصل القضية هو احتلال إسرائيل للأراضي بعد 1967 وبناء المستوطنات واحتلال القدس والتغبيش عليها بكل الوسائل ورفض عودة اللاجئين الفلسطينيين وحفريات المسجد الأقصى المراد هدمه لأسطورة غير محققة وهو نوع من استغلال الدين أي دين في ألاعيب السياسة.
3- سألني سائل هل يجوز مع نزول هذه المصيبة أن نقنت في الصلوات الخمس، فقلت له عند الحنفية والشافعية والحنابلة يسن القنوت للنازلة حيث أصابنا شيء من الخوف أو القحط أو الوباء وكلها محققة ومجتمعة في حالة غزة، إلا أن الحنفية يرون القنوت في الصلوات الجهرية فقط المغرب والعشاء والفجر، والشافعية تراه في كل الصلوات الجهرية والسرية ويجهر الإمام بدعائه في هذا القنوت والمنفرد يقنت سراً ومدة هذا القنوت لا يزيد عن شهر من حين بدء النازلة ثم يتركه فقد قنت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً ثم تركه.
4- ثم سألني كيف ندعو الله وبما ندعوه؟ قلت له أدع الله أن يوقظ هذه الأمة وأن يجمع شملها وأن يوحد كلمتها وأن يوفقها للعمل بأوامره والانتهاء عن نواهيه وأن يشرح صدورها لما يحب ويرضى وأن يقيمها بعد عثرتها وأن يمكن لها في الأرض وأن يعينها على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن ينصرنا على أعدائنا وعلى أنفسنا وان يقيم الحق بنا وأن يهدينا سواء السبيل. أمين.
5- عسى إن حدث المحذور وقامت انتفاضة أخرى من جراء الضغط الإسرائيلي المتعنت المستمر أن نسمع الضجيج المعتاد لسؤال علماء الدين، وليتعقل زعماء إسرائيل وليعلموا أن ليس في مقدور احد أن يترك مقدساته ولا أرضه ولا حقوقه ولا أن يسكت على العدوان المستمر، وإن كنا نريد سلاما فإننا نريده عادلاً ودائماً حتى نلتفت إلى عمارة الأرض بدلاً من الانشغال بالرغبات المحمومة للكيان الصهيوني.
6- وأخيرا أناشد العالم العربي والإسلامي بالتضامن مع الشعب الفلسطيني في المحنة التي يعيشها من جراء هذا العدوان الوحشي الذي شنه جيش الاحتلال الإسرائيلي، وأدعو الشرعية الدولية وجميع القوى المحبة للسلام في العالم بالتدخل الفوري لوقف هذا العدوان الظالم على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، فإن ما يرتكبه جيش الاحتلال الإسرائيلي هو جريمة إنسانية تتطلب تكاتف العالمين العربي والإسلامي لاتخاذ موقف موحد ضد ما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي من حماقات في حق المدنيين العزل، كما يجب على الأمم المتحدة والقوى الدولية التدخل الفوري لوقف حرب الإبادة الشاملة التي تشنها الآلة العسكرية الإسرائيلية وفك الحصار عن قطاع غزة وتوفير الحرية الكاملة للشعب الفلسطيني حتى يتسنى للجميع العيش في سلام وأمان.
دعت الأديان خاصة الإسلام إلى العفاف وهو أمر يحدث اختلافاً بين المتدينين وغير المتدينين، ومن شدة الاتفاق عليها بين أهل الأديان لم يكن أبداً عبر العصور وحتى في عصرنا الحاضر محلاً للاجتهاد بل كان محلا للاتفاق سواء أقام الشخص به في نفسه أم لم يقم، فإن الجميع يعلمون أن العفاف بكل جوانبه مأمور به على لسان الأنبياء.
1- فترى القرآن قد أمر بغض البصر عن العورات والمحرمات، قال تعالى: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور :30]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة فمن تركها من خوف الله أثابه جل وعز إيمانا يجد حلاوته في قلبه (أورده الحاكم في المستدرك).
وقال بعض الظرفاء:
إلهي ليس للعشاق ذنب ** لأنك أنت تبلوا العاشقين
فتخلق كل ذي وجه جميل ** به تسبي قلوب الناظرين
وتأمرنا بغض الطرف عنهم ** كأنك ما خلقت لنا عيونا
فكيف نغض يا مولانا طرفا ** إذا كان الجمال نراه دينا
وقال آخر :
خلقت الجمال لنا فتنة ** وقلت لنا:يا عباد اتقون
وأنت جميل تحب الجمال ** فكيف عبادك لا يعشقون
فرد عليهم الشيخ التقي الأمين السوداني فقال:
خلقت الجمال لنا نعمة ** وقلت لنا يا عبادِ اتقون
وإن الجمال تُقىً والتُّقى ** جمال ولكن لمن يفقهون
فذوق الجمال يصفي النفوس ** ويحبو العيونَ سمو العيون
وإن التقى هاهنا في القلوب ** وما زال أهل التقى يعشقون
ومن خامر الطهر أخلاقه ** تأبّى الصغار وعاف المجون
وربي جميل يحب الجمال ** جمال التقى يا جميل العيون
وهذا الجدل يظهر كثيراً من النماذج المعرفية بين المتقين وغيرهم.
2- وأمر بحفظ الفرج كما تقدم، ومن هنا جاء مفهوم العورات التي أمر صلى الله عليه وسلم بسترها كما جاء في حديث بهز بن حكيم قال: حدثني أبي عن جدي قال: قلت: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر، قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قال: قلت: يا رسول الله فإذا كان القوم بعضهم في بعض، قال: إن استطعت أن لا يرى أحد عورتك فافعل، قلت: فإذا كان أحدنا خاليا، فقال: فالله أحق أن يستحيا من الناس. (أورده النسائي في سننه الكبرى)
3- ومن العفاف أنه أمر بعدم الخلوة بين الرجل والمرأة الأجنبية إلا بطريقة آمنة والمقصود بالخلوة هنا المكان الخاص وليس المكان العام، ومعيار الخصوصية والعمومية هو وجوب الاستئذان من أجل النظر من عدمه، فالمكان الذي يجب علينا أن نستأذن للنظر إلى داخله ولا يجوز أن ندخله إلا بعد الاستئذان فهو مكان خاص، والمكان الذي لا يحتاج إلى استئذان كالطريق ووسائل النقل العامة والمساجد والمحلات العامة فهو مكان عام، ولا يسمى انفراد الرجل بالمرأة أو المرأة بالرجل فيه خلوة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ » (الترمذي في سننه).
4- والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالعفاف في الكلام فنبه معاذاً فقال « وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ » (الترمذي في سننه). وربنا يقول في سورة النساء: لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ [النساء :148]، ولكنه بعدها حث على العفو فقال: إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًا قَدِيرًا [النساء :149]
5- ونهى صلى الله عليه وسلم من باب العفاف عن التسول والرشوة والسرقة كما نهى من باب العفاف عن السب واللعن والفحش والبذاءة، فقال: « مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ، وَإِنَّ نَبِىَّ اللَّهِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ » (البخاري)، وقال: « لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الرَّاشِى وَالْمُرْتَشِى» (أورده أبو داوود في سننه)، وقال: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وَايْمُ اللَّهِ ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَها (مسند الإمام أحمد)، وقال:« لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِطَعَّانٍ وَلاَ بِلَعَّانٍ وَلاَ بِالْفَاحِشِ الْبَذِىءِ » (مسند الإمام أحمد).
6- وعلمنا صلى الله عليه وسلم البعد عن الشبه، فعَنْ عَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَتَتْهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ فَلَمَّا رَجَعَتِ انْطَلَقَ مَعَهَا ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ فَدَعَاهُمَا فَقَالَ « إِنَّمَا هِىَ صَفِيَّةُ » . قَالاَ: سُبْحَانَ اللَّهِ . قَالَ: « إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ » (البخاري)، كما أنه علمنا وأمرنا بالبعد عن مواطن الفتن فقال «وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ » (البخاري).
7- هذا كله العفاف في الظاهر والسلوك أما العفاف في الباطن والمفاهيم فله حديث آخر قد يكون أهم وأعمق من عفاف الظاهر الذي هو في غاية الأهمية في نفسه وأرى أن فُقْدنا للعفاف الظاهر والباطن يسبب كثيراً من اختلاف المعايير والرؤى ويحدث الفجوات بل إنني لا إبلاغ إذا قلت أن عدم العفاف يسد باب استجابة الدعاء من ناحية ويوقع الضغينة بين الناس من ناحية أخرى وبالجملة يغبش على القلب الذي هو مهبط الرحمات الربانية من أن يرى الحق حقاً والباطل باطلاً، فاللهم نسألك العفاف والتقى.
والعفاف الظاهر يؤدي إلى العفاف الباطن وكذلك فإن فقد العفاف الظاهر يؤدي إلى فقد العفاف الباطن، والعفاف الباطن نعني به مجموعة الأخلاق التي يصبح بها الإنسان إنساناً: